الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }[ص:34-44]: يذكر الله -تبارك وتعالى- نعمته على عبده ورسوله الملك سليمان ابن داوود -عليه السلام- فأولًا: هو نعمة سليمان نعمة من النعم التي أنعمها الله -تبارك وتعالى- بها على داوود فقال وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ ابنه وجعله الله -تبارك وتعالى- ملكًا, وأتاه الحكم بعده نعم العبد ثناء من الله -تبارك وتعالى- عليه إنه أواب رجاع إلى الله -تبارك وتعالى- وذكر الله -تبارك وتعالى- أمرين من أموره فقال: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}[ص:31] الخيل الجيدة فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب أحببت حب الخير هذه الخيل المجاهدة في سبيل الله أحببتها وشغلت بها عن ذكر ربي عن الصلاة حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ الشمس {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}[ص:33] قتلًا لها ضربًا بأعناقها وضربا بسوقها, ثم قال -جل وعلا-: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ هذه أمر آخر {........ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}[ص:34] حلف وقال لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله, ولم يستثني لم يقل إن شاء الله فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة شطر إنسان أناب رجع إلى الله -تبارك وتعالى- من خطيئتي هذه قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]: سأل الله -تبارك وتعالى- المغفرة وطلبه أن يعطيه ملكًا لا ينبغي أن يكون هذا الملك مثيله لأحد من بعده قال -جل وعلا-: قال وهو في دعائه إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ قال -جل وعلا-: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36], وهذا كان من الله -تبارك وتعالى- بديلاً لما تركه لله من ترك شيئا لله عوضه الله خيرًا منها فلما ترك الخيل لله -سبحانه وتعالى- لأنها أشغلته عن الصلاة, فإن الله -تبارك وتعالى- أبدله عن الخيل هذه الريح التي تجري بأمره يأمرها حيث يشاء فتسير في الجهة التي يريد قال -جل وعلا-: حَيْثُ أَصَابَ حيث أراد الإصابة وجه وجهه نحو أمر, فإن الريح تسير في الجهة التي يريدها {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37]: سخر الله -تبارك وتعالى- الشياطين من الجن والشيطان المتمرد كل بناء ماهر في شأن البناء من الجن وغواص ممن يغوص في البحار يستخرج له اللآلئ ويبني, وهذه من الأعمال الشاقة بل أشق الأعمال في الأرض البناء والغوص{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38]: آخرين من الشياطين مقرنين في الأصفاد يقرن أما اليدين لكل منهما, وأما مجموعة منهم فيقرنهم في السلاسل يسلسلهم ويحبسهم حيث يشاء في الأصفاد في القيود, هذا عطاءنا هذا الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- بتسخير الريح وبتسخير الشياطين يفعل فهيا ما يشاء وكذلك في الريح يأمرها بأمره هذا عطاؤنا فامنن على من تشاء أعزل عن الخدمة من هؤلاء الشياطين أو امسك في الخدمة بغير حساب بغير أن يحاسبه الله -تبارك وتعالى- فيهم فأطلق الله -تبارك وتعالى- يده في الشياطين يسخرها كما يشاء ويحبس منهم من يحبس ويطلق منهم من يطلق {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39].
قال -جل وعلا-: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[ص:40] ومع هذا الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- فإنه لم يستنفذ أجره عند الله -تبارك وتعالى- في الدنيا بل إن له في الآخرة عند الله لزلفى قربى من الله -تبارك وتعالى- وحسن مآب, مآب حسن مرجع طيب وهو إلى الجنة أي أنه إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه ,فهذا ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من إنعامه وإفضاله على عبده سليمان الملك هؤلاء كانوا ملوك داوود وسليمان كانوا ملوك, وقد خير نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- ببين أن يكون ملكًا رسولًا أو عبدًا رسولا أو نبيًا ملكًا, أو عبدًا ملكا فاختار النبي أن يكون عبدا ملكا, والفرق بين الاثنين إن الملك يتصرف يتصرف بما يشاءه بالعدل, وبشرع لكنه باختياره, وأما العبد فإنه لا يتصرف إلا بإذن مولاه واختار النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون عبدا لله -تبارك وتعالى- يصرف في كل أمر يأتيه أمره أمر الله -تبارك وتعالى- المنصوص عليه من السماء فيتصرف حيث يأمر سيده ومولاه الرب -سبحانه وتعالى-, وهذا أكمل لا شك الكمال أن يكون عبدًا رسولاً أكمل من أن يكون ملكًا رسولًا عبدًا نبيًا؛ هؤلاء أنبياء وملوك وهناك نبي عبد والنبي -صلى الله عليه وسلم- اختار العبودية على الملك -صلوات الله وسلامه عليه- , ذكر فضل الله -تبارك وتعالى- وإنعامه على عبد آخر من عباده ونبي من أنبياءه ,وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص:41] اذكر في هذا الكتاب المبارك هذه الطائفة العظيمة من هؤلاء الأنبياء وهذه صفاتهم وهذه أعمالهم الطيبة التي يحتذى بها ويقتدي بها, قال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ النبي من أنبياء بني إسرائيل إِذْ نَادَى رَبَّهُ ناداه أي أنه رفع صوته لربه يناجي ربه ويطلب منه -سبحانه وتعالى- أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ اشتكى إلى الله -تبارك وتعالى- إن الشيطان قد مسه بنصب تعب وعذاب, وذلك أنه ابتلي في بدنه ابتلاء طويلاً فصبر على هذا البلاء أمر عظيم جدًا والشيطان بدأ ينسج الأقاويل عند قومه لتحذير من أيوب -عليه السلام-, وهو أنه ذهب إلى قومه, وكان قومه يقولون أيوب طالت مدة مرضه حتى أنه لو لم يفعل شيئا يستحق عليه هذا لما عاقبه الله -تبارك وتعالى- مثل هذه العقوبة ونفر الناس منه وزهد فيه الجميع حتى أنهم القوه بعد ذلك على خارج البلدة تقذرا منه, وكانت تأتي امرأته تخدمه بين الحين والآخر, ثم أحيانًا كانت تتركه أيامًا بعدما طال البلاء به فدعا الله -تبارك وتعالى- بعد أن اشتد عليه البلاء وزاد, وبقي سنين طويلة وعافه الناس وزهد فيه الكل حتى أن امرأته قصرت نوعا ما في خدمته وهو على هذه الحال فدعا ربه قائلا: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ لم ينسب ما هو فيه إلى الرب -تبارك وتعالى- وإنما نسب هذا إلى الشيطان المخزن الذي بني يقول للناس ما يقول , أتاه عند ذلك رحمة ربه -سبحانه وتعالى- واستجابته فقيل له {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42]: أي اضرب برجلك إلى الأرض ركضة في الأرض ينفجر تنفجر منها عين ماء هذا مغتسل بارد اغسل جسمك بهذا الماء البارد, واشرب من هذا الينبوع الخارج من الأرض, فإذا شرب منه برأ ما في جوفه من هذا المرض والحرارة, وإذا اغتسل منه برأ جسده من هذا الذي كان فيه من التقرحات والبلاء الذي كان في بدنه.
قال -جل وعلا-: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ص:43] قيل بأن امرأته لما جاءت بعد ذلك وشاهدت هذا الإنسان بهذا الجلد الجميل بهذه الصفة فقالت له: يا عبد الله أما رأيت هذا العبد المبتلى أيوب الذي كان في هذا المكان؟ فقال أنا هو فالشاهد أنه لم يعرف بعد ذلك بعد أن أخرج الله -تبارك وتعالى- له هذا الماء الذي اغتسل فيه ثم إن الله -تبارك وتعالى- قد أطال عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يجمع يركض خلف هذا الجراد ويجمعه ويضعه فناداه ربه ألم أكن يا أيوب لم أكن أغنيتك عن هذا؟ فقال: نعم ربي, ولكن لا غنى عن بركتك فكان هذا عطاء من الله -تبارك وتعالى- رجعت له هيئته وسلامة بدنه, وأعطاه الله -تبارك وتعالى- هذه البركة من الذهب, ثم عادت امرأته لتسأل عنه وهو في هذه الحال فقال -جل وعلا-: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي أن الله -تبارك وتعالى- زوجه كذلك قال -جل وعلا-: {........ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ص:43] رحمة من عند الله -تبارك وتعالى- بأن أخرجه الله -تبارك وتعالى- من هذا البلاء, وكذلك تذكير لأولي الألباب بأن الله -تبارك وتعالى- يبتلي, وأنه يستجيب دعاء عبده -سبحانه وتعالى- فحصل له الحسنين حصل له فضيلة الصبر على البلاء وحصل له بعد ذلك الخروج من هذا البلاء وشكر الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال له الله {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ ........}[ص:44] وذلك انه حلف في أثناء مرضه أنه أن شفاه الله -تبارك وتعالى- أن يضرب امرأته مائة صوت نتيجة ما كانت قد أهملت بعض الشيء في خدمته فقال له الله -تبارك وتعالى- خذ بيدك ضغث الضغث هو مجموعة من الأعواد, وخلط من هذه الأعواد فاضرب به مائة عود اضرب به زوجة ضربة واحدة فيكون هذا تحلة للقسم تحليل لقسمه فيكون كأنها ضربها مائة سوط, وأفتاه الله -تبارك وتعالى- فقال له وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ أي الزوجة, ولا تحنث وذلك إن هذه الزوجة كانت امرأة أيضًا خدومة صابرة قامت معه وهذا الوقت الطويل وإن كانت قد قصرت شيئا في القيام بحقه فإنما لهذا طول الطويل فيما ابتليت به ولا تحنث الحنث هو الوقوع في الإثم باليمين لا تحنث بيمينك فتمتنع عن الوفاء, فيكون هذا وفاء فيكون هذا وفاء باليمين, ومن لم من حلف على شيء ولم يؤده فإنه يحنث بهذا, وخروجهم من هذا اليمين كفارة لحنثه في اليمين فالله -تبارك وتعالى- لم يجعل له كفارة, وإنما جعل هذا في مقابل وفاءه باليمين وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ قال -جل وعلا-: {......... إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:44] إنا وجدناه صابرًا على ابتلاه الله -تبارك وتعالى- بهذا البلاء ثم أظهر الله -تبارك وتعالى- في الوجود وفي الحياة صبره وقيامه بأمر الله -تبارك وتعالى- إنا وجدناه صابرا نعم العبد ثناء من الله -تبارك وتعالى- عليه أنه عبد صابر ابتلاه الله -تبارك وتعالى-, وصبر على البلاء أنه أواب رجاع إلى الله -تبارك وتعالى- مستغفر لربه -جل وعلا-, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- عبادا له آخرين من الذين يذكرون ليكونون منارة ومثل لأهل الإيمان, قال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}[ص:45], {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}[ص:46], واذكر عبادنا كذلك إبراهيم واسحق ويعقوب إبراهيم أبو الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه- ومن ابنه اسحق الذي ولد له من زوجته سارة ويعقوب ابن اسحق, فهؤلاء الأب اللي هو الجد الأكبر إبراهيم وابنه اسحق ويعقوب الحفيد هؤلاء الثلاثة قال -جل وعلا-: أُوْلِي الأَيْدِي القوة أهل أيد أهل قوة, قوة في الدين, وقوة في الإيمان والقوة محمودة المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير فالله أثنى عليهم أهل قوة والأبصار وأهل بصيرة فمدحهم الله -تبارك وتعالى- بقوة قوة البدن قوة الدين قوة الإيمان قوة الشكيمة في دين الله -تبارك وتعالى- وكذلك البصر البصيرة لأنه القوة وحدها دون البصيرة لا قد يقع الإنسان في الخطأ, وكذلك البصيرة دون قوة فجمع الله -تبارك وتعالى- لهم بين الأمرين وهما هذا الكمال, قوة في الدين وبصيرة في الحق أولى الأيدي والإبصار.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}[ص:46] إن الله -سبحانه وتعالى- أخلصناهم أي الله -تبارك وتعالى- هذه هدية توفيق من الله -تبارك وتعالى- عطية من الله -تبارك وتعالى- أخلصهم الله -تبارك وتعالى- بهذا أعطاهم هذه الأمر الخالص العظيم أخلصناهم بخالصة عظيمة خصيصة خصهم الله -تبارك وتعالى- بها, وأعطاهم إياها ذكرى الدار ذكرى الأخرى الدار, الدار الحقيقي هي دار الآخرة أنهم كانوا على ذكر دائم بالآخرة, بالقيام بين يدي الله -تبارك وتعالى- بالحساب عنده بما أعده الله -تبارك وتعالى- لأوليائه وما أعده لأعدائه فكانوا دائما على ذكر من الآخرة والذكر من الآخرة هو حقيقة الإيمان هو الإيمان كما في الحديث يا رسول اله نكون عندك تحدثنا عن الجنة والنار فكأن وإياها رأي العين, ثم إذا خرجنا من عندك وعافستنا الأولاد, والضيعات نسينا كثيرا فقال النبي لو تكونون في أهلكم على الحال التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة ولكن يا حنظلة ساعة وساعة, فالأمر فالعبد الذي هو في ذكرى الآخرة على ذكر الآخرة بذكر دائم خلاص لا يكون بينه وبين لا يكاد يكون بينه وبني الغير حجاب لصافحتكم الملائكة يكون هذا عبد قد وصل إلى هذا الحد فهؤلاء قد خصهم الله -تبارك وتعالى-, وأعطاهم هذه الخصيصة العظيمة وهي ذكرى الدار أنهم دائما ذاكرون للآخرة بين يدي الله -تبارك وتعالى- إنا أخلصناهم خصلة عظيمة طيبة ذكرى الدار, {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ}[ص:47] وإنهم إبراهيم واسحق ويعقوب عندنا عند الرب -تبارك وتعالى- لمن المصطفين الذين اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- اختارهم من بين عباده الأخيار أهل الخير أهل الخير فهم عند الله هذا منزلتهم ومكانتهم عند اله -تبارك وتعالى- كذلك طائفة أخرى من العباد الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم قال -جل وعلا-: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ}[ص:48]: اذكر هؤلاء إسماعيل, وقد ذكره الله -تبارك وتعالى- في موضع آخر بأنه غلام حليم {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[مريم:55], وذكر الله -تبارك وتعالى- في صدقه للوعد أنه وعد أباه بأنه يصبر للقتل وجاء وصبر لذلك, وخرج مع أبيه, ولا يصبر على هذا المقام مثل هذا فلهم فضائل عظيمة عند الله إسماعيل واليسع النبي وذا الكفل كذلك, ولم يقص الله -تبارك وتعالى- علينا في كتابنا أخبار اليسع وذا الكفل ولكن قص سبحانه وتعالى ذكر أسماءهم هنا وأخبر أنهم كلهم ممن الأخيار وهم من أنبياء بني إسرائيل من أولاد إبراهيم -عليه السلام-, فقال -جل وعلا- اذكر هؤلاء هؤلاء الأنبياء الطيبون, واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار, ثم قال -جل وعلا-: بعد أن ذكر هذه الطائفة العظيمة داوود ثم سليمان ثم أيوب ثم إبراهيم واسحق ويعقوب, ثم إسماعيل واليسع وذا الكفل هذه الطائف الطيبة العظيمة من عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين منهم من جمع الله -تبارك وتعالى- له بين النبوة والملك ومنهم من جعله الله -تبارك وتعالى- جمع لهم بين الرسالة والعبودية كلهم عبيد لله -تبارك وتعالى- وكل قد أقامه الله -تبارك وتعالى-, وفضله وميزه بميزة من المميزات فهذا صابر نعم عبد يصبر على هذا البلاء الطويل أيوب -عليه السلام-, وهؤلاء أهل قوة وأهل بصيرة في الدين وهذا يبتليه الله -تبارك وتعالى- فيختبر هذا الاختبار, ثم يعود ويتوب إلى الله -تبارك وتعالى-, ويرجع إليه وصى بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الأنبياء بهذه الصفات الطيبة الحميدة وذكرهم في هذا الكتاب ليكونوا مثلا لعباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين, وكذلك ليأخذ المؤمنون من سيرتهم سيرة, ثم كذلك ليعلموا سنة الله -تبارك وتعالى- في معاملة أولياءه, وأنه يرحمهم فضله وإحسانه عليهم يوجههم -سبحانه وتعالى- إذا غفلوا ذكرهم إذا نسوا رجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- وتابوا إليه -سبحانه وتعالى- إذا دعوه -سبحانه وتعالى- استجاب لهم فهذه كذلك سنة الله -تبارك وتعالى- في معاملة أوليائه هؤلاء من أولياء الله -تبارك وتعالى- انظروا كيف يعامل الله -تبارك وتعالى- أولياءه من هؤلاء الرسل والأنبياء.
ثم قال -جل وعلا- بعد هذا تعقيبًا على {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}[ص:49]: هذا ذكر هذا الذي ذكر لكم من أخبار هؤلاء الأنبياء ومنا انعم الله -تبارك وتعالى- عليهم في هذه الدنيا ذكر للجميع يذكروا كيف إحسان الله -تبارك وتعالى- وإنعامه وأفضاله ومعاملته لأهل طاعته لهؤلاء الصفوة من خلقه, اذكروا أيضًا إن للمتقين الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى- وقاية وحماية حموا أنفسهم من عقوبة الله -تبارك وتعالى-, وهذا لا يكون إلا بطاعته -جل وعلا- بفعل ما يأمرهم به خوفًا منه -سبحانه وتعالى- والانتهاء عما ينهاهم عنه خوفا منه -سبحانه وتعالى-, هذا ذكر, وأن للمتقين الخائفين من لله -تبارك وتعالى- التوابين الراجعين إليه لحسن مآب مرجع حسن المآب المرجع مرجع حسن وأنهم يرجعون إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه ثم فصل الله هذا المآب الحسن الرجوع رجعوهم الطيب إلى الله قال {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ}[ص:50] يرجعون إلى هذا أحسن مرجع وهو جنات عدن جنات بساتين عدن إقامة هي الجنات مقيمة لا ترحل وأهلها مقيمون لا يرحلون ولا يسافرون, لا يسافرون عنها أي سفر انتقال جزئي من مكان إلى مكان إلى خروج عنها, وكذلك لا يموتون فهم ماكثون فيها مكثا لا ينقطع جنات عدن أبواب الجنة مفتحة لهم, وليست مغلقة وإنما يأتوها فيدخلونها مفتحة لهم الأبواب أبواب الجنة, متكئين فيها لا شغل عندهم إلا الالتذاذ وإلا ما هو في شهواتهم فمتكئين فيها ليس ورائهم عمل يركضون عليه وإنما متكئين كأن بقاءهم في الجنة بقاء المتكئ الذي قد عنده أرائكه وسريره وأصدقاؤه وخلانه, فهم في متكئ دائم أنهم جالسون جلوساً دائماً للالتذاذ ولقضاء أوطارهم وشهواتهم ورغباتهم وليس ورائهم أي شئ يشغلهم عن ذلك ولا أي عمل يصرفهم عن سرورهم وحبورهم ولذاتهم {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}[ص:51] يدعون فيها مجرد دعوة فتأتيهم بفاكهة كثيرة أنواع متنوعة وشراب كذلك متنوع كثير شرابهم وقد وصف الله -تبارك وتعالى- شرابهم أنها خمر من كأس معين, {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}[الصافات:46], {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}[الصافات:47], فهؤلاء جالسون ليس لهم يشغلهم إلا متعتهم {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}[ص:51], {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}[ص:52]: عند كل منهم زوجاته قاصرات الطرف على الزوج يالمرأة التي لا هم لها, ولا شغل لها ولا نظر لها إلا إلى زوجها فقط فهي ليست امرأة متبذلة خارجة تنظر إلى هذا وذاك وتنظر إلى زوجها وإلى آخر وإلى لا ولها خروج هنا وخروج هنا, وإنما هي مقصورة على الزوج لا خروج لا من بيتها وخيمتها وقصرها كما قال -جل وعلا-: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72], وقال فيهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:74] فلم يطمثهن إنس قبل هؤلاء الأزواج ولا جان بل هن فقط كل لزوجه, ولا تخرج عن هذا الزوج لا خروج فعلي بجسدها ولا بروحها ونفسها, ولا بنظرها فإن نظرها إنما هو مقصور على زوجها فقط {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}[ص:52] نقول فلان ترب فلان بمعنى أنه من سنه أنه من سن واحد فليست فيها الكبيرة العجوز ولا الصغيرة إنما كلهن في عمر واحد عمر الفتيات, كما قال -جل وعلا- الفتاة عندما يتكعب ثديها قال كما قال -جل وعلا-: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}[النبأ:33]: إشارة إلى هذا النعيم ليوم الحساب هذا الذي توعدونه, والذي يعدهم بذلك هو ربهم -سبحانه وتعالى- جنات عدن مفتحة لهم الأبواب يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم في قصورهم وخيامهم قاصرات الطرف أتراب هذا المشار إليه هذا المذكور {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:53], {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}[ص:54] إن هذا الذي هم فيه لرزقنا رزقنا من الله -تبارك وتعالى- أضافوه إليهم لأن الله -تبارك وتعالى- وهبهم إياه وأعطاهم إياه عطية من عنده -سبحانه وتعالى- ما له من نفاد لا ينفد قط, فلا تقطف ثمرة من ثمار الجنة إلا وتعود ثمرة مكانها لو انتظر تفرغ الشجرة, ثم بعد ذلك حتى يأتي موسم جديد من مواسم أزهارها وإثمارها فتثمر من جديد لا وإنما ثمار الجنة إنما أكلها دائم وظلها, فالظل لا يتحول والأكل لا تنتهي ولا يمكن تنقص كلما أخذ منها قطف عاد مكانه في التو واللحظة ولو زرع الزارع البذرة لسبقت العين نماؤها واستواؤها {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}[ص:54] لا شيء في الجنة ينقص قط ما ينفد أبدا رزقهم فيقولون هذا الذي نحن فيه إن هذا لرزقنا عطاؤنا العطاء الذي أعطاهم الله -تبارك وتعالى- ما له من نفاد هذا نعيم أهل الجنة ثم يذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك ما أعده لأهل النار.
نقف هنا ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.