الأربعاء 03 جمادى الآخرة 1446 . 4 ديسمبر 2024

الحلقة (56) - سورة البقرة 193-195

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين، أما بعد...

أيها الأخوة الكرام, يقول الله -تبارك وتعالى-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:194-195], هذه الآيات من أحكام القتال, يبيّن الله -تبارك وتعالى- فيها أن من اعتدى من المشركين في الشهر الحرام, فإنه للمسلمين أن يقاتلوه في الشهر الحرام, أما الأشهر الحرام فهي أربعة أشهر حرّم الله -تبارك وتعالى- فيها القتال, وهي ثلاثة أشهر متوالية ذو القعدة, وذو الحجة, والمحرم, وشهر رجب الشهر السابع في عداد السنة, هذه الأشهر حرّم الله -تبارك وتعالى- فيها على المسلمين أن يبدؤوا القتال فيها, كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [التوبة:36], كان العرب يعظمون هذه الأشهر في الجاهلية قبل الإسلام, ويعظمون الحرب فيها, وكان هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- على العرب أن هداهم إلى التزام هذا الأمر, وكان هذا تابعًا لتعظيمهم للبيت وللحج, فإن هذه الأشهر الثلاثة ذو القعدة, ذو الحجة, المحرم هي أشهر لابد منها للحج , شهر قبل ذي الحجة وهو ذو القعدة, وشهر بعد ذي الحجة هذا الشهر يأتي في من يريد الحج, ثم الشهر الآخر حتى يصل إلى مكانه, فكانت تأمن الجزيرة في هذه الأشهر الثلاثة أشهر الحج, وتأمن كذلك في شهر رجب, وكان هذا من شهور العمرة, يجعلونه شهر عمرة لزيارة البيت, والعرب الذين كانوا قد اتخذوا الغزو والنهب مسلكًا للكسب, ويرونه أنه من أشرف مكاسبهم, من أشرف المكاسب عندهم الكسب عن طريق  غزو الآخرين, وأخذ ما بأيديهم, لكنهم كانوا إذا جاءت الأشهر الحرم كلٌ وضع سيفه في غمده, وركز رمحه وبدأ الناس يسافرون ويخرجون, في الجزيرة في كل مكان الكل آمن, والعرب كلها تعظم هذه الأشهر تعظيمًا كبيرًا, ولا ينتهكون حرمتها بأن يقتل  بعضهم بعضًا أو يحصل فيها سلب, وكان هذا كبيرًا عندهم,  كان من اعتدى بالقتل في هذه الأشهر  يعد هذا من الأمور العظيمة ينبذ, يقاطع, يكون له شأنٌ عظيمٌ, ويون أن هذا من الآثام الكبرى التي يمكن أن تقع.

لما جاء الإسلام أقر هذه الأشهر أقر حرمة هذه الأشهر, ولكن الله -تبارك وتعالى- بيّن للمسلمين أن المشركين إذا انتهكوا حرمة الشهر الحرام, فليقاتلهم  المسلمون, كذلك في الشهر الحرام قال -جل وعلا-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ....} [البقرة:194-195] الحرمات قصاص من انتهك حرمة فكذلك يجب أن تقتصوا منه وتعاقبوه لانتهاك هذه الحرمة, وهذا من باب  المعاملة  بالمثل, فكما أباح الله -تبارك وتعالى- للمسلمين أن يقاتلوا المشركين في المسجد الحرام إذا قاتلوهم فيه, فكذلك هنا أباح لهم -سبحانه وتعالى- أن يقاتلوا المشركين في الشهر الحرام, إذا انتهكوا حرمته فقد قال -تبارك وتعالى-: {.....وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191].

 {فَإِنِ انتَهَوْا} أي  عن القتال في المسجد الحرام {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, ثم قال -جل وعلا-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يفتن مسلم عن دينه في الأرض, فإن قيامهم بفتنة المؤمن المستضعف وتعذيبه حتى يرجع عن دينه, هذا أمر عظيم جدًا فقال الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} حتى لا يُفْتن مسلمٌ  عن دينه في الأرض كلها.

  {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ويكون خضوع الجميع لله {فَإِنِ انتَهَوْا} عن فتنة المسلمين وقتالهم {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} لا تعتدوا ولا تقاتلوا إلا أهل الظلم منهم وأهل العدوان.

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} والقصاص أن يؤخذ من هذا المعتدي بقدر جنايته, {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ  فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} خافوا الله -تبارك وتعالى- وراقبوه وذلك أن من يعتدي عليه ويباح له رد العدوان إن لم يتق الله -تبارك وتعالى- ربما جاوز الحد وانتقم لنفسه, هنا أمره بتقوى الله ومخافته -سبحانه وتعالى- في كل وقت {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} اعلموا ليكن هذا في قلوبكم والعلم هو العلم الذي يستحضر ويدفع إلى العمل, أن الله -سبحانه وتعالى- مع المتقين, أي بنصره وتأييده وتوفيقه, فإذا اتقيتم الله -تبارك وتعالى- كان الله معكم, وبالتالي أبطل  كيد أعدائكم ونصركم عليهم, أما إذا كانوا مفهوم هذا أنهم كانوا من أهل الخيانة, أهل العدوان, أهل التجاوز, فإن الله -تبارك وتعالى- يتخلى عنهم.

ثم قال –جل وعلا-: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] أنفقوا في سبيل الله, المقصود بالإنفاق في سبيل الله أن يُصْرف ويُدْفع المال في سبيل إعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- في الأرض بالجهاد, هذا يستوي فيه  إعداد العدة, شراء السلاح, شراء الخيل, شراء الركاب, تزويد المجاهدين بالمال, ضمان أهلهم وأولادهم وقت الجهاد, كل هذا داخل في النفقة في سبيل الله {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والجهاد روحه المال, لا يقوم جهاد إلا بالمال, فالجهاد بالنفس وبالمال, المال هو روح الجهاد؛ لأنه بغير المال لا يقوم مجاهد لا يوفر له سلاحه, عتاده, مركوبه, لا يستطيع أن يواصل الجهاد, فقال الله -تبارك وتعالى-  {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.

{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة, ألقى بيديه إلى التهلكة, إما أنه بترك الأسباب التي تدفع الهلاك عن نفسه, وإما بركوب الأسباب الخطرة التي توصله إلى الهلاك, فهذا كل قد ألقى بنفسه  إلى التهلكة, فإذا ترك المسلمون الجهاد وقعدوا عنه وتركوا الإنفاق في سبيل الله؛ فإنهم تركوا الأسباب التي تؤدي في النهاية إلى أن يهلكوا, وهي أن يضعفوا يطمعوا فيهم عدوهم, يركبهم هذا العدو وإذا ركبهم عدوهم هلكوا, فالهلاك في ترك الإنفاق في سبيل الله وترك الجهاد, والآية عامة فإنه ممكن أن يلقى بنفسه إلى الهلاك على هذا النحو, أو يلقي بنفسه إلى الهلاك إذا ركب وفعل ما يؤدي به إلى الهلاك, كمركب الخطر, عملٍ خطر, نام على حافة خطرةٍ, لا يأمن عند النوم أن يغفو وينقلب, فيذهب, كل من ركب مركبًا خطرًا ممكن أن يفضي به إلى الهلاك, هذا ألقى بنفسه إلى التهلكة على هذا النحو, لا يدخل في هذا الأمر من يُقَاتل العدو وإن غلب على ظنه أن يهلك فإن هذا ليس من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة, لما رأي أبو أيوب الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- وكان في الجيش في عهد عثمان الذين حاصروا القسطنطينية, ثم خرج رجل من صف المسلمين ودخل في صف الروم, وهذا الخروج في الحرب القديمة حرب مواجهة وحرب تقوم على القوة البدنية وعلى السلاح الذي بيد الإنسان وليس سلاحا مقذوفا, السلاح المقذوف يكون  بالسهام وبالمنجنيق ولكن عامة الحرب بالسلاح الذي يكون بيد المقاتل السيف والرمح, واختراق صف العدو هو أن يخرج بفرسه, أو راجلًا, ويدخل يحارب في صف العدو, ثم بعد ذلك ممكن إذا كان بقوة خارقة يستطيع أن يخترق هذا الصف ثم يعود إلى  صف المسلمين, وإذا كان رجلًا  ضعيفا فإنه ينشق في سيوف القوم وفي رماحهم؛ لأن واحدًا إذا دخل في ألف أو ألفين فإنه ينتهي, إذا أحاطوا به من كل جانب قتلوه, فهذا الذي خرج من جيش المسلمين ودخل في صف العدو لا شك أنه مقتولٌ, فقال الناس لما قالوا -سبحان الله-: ألقي بنفسه إلى التهلكة؛ وذلك بأنه هجم لوحده دون هجوم عام جيش يقابل جيش, وإنما هذا خرج وحده فقال: يا أيها الناس أنكم تقرؤون هذه الآية وتفسرونها عل غير وجهها, ثم قال: هذه الآية نزلت فينا معشر الأنصار, أننا بعد أن فتحت مكة وعز الإسلام وكثر تابعوه, قلنا في أنفسنا لو جلسنا في أرضنا وأصلحنا بساتيننا ودورنا فإن الله قد وفينا ما علينا, وذلك أن الأنصار قد بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على النصرة وهذه في بيعة العقبة الثانية أنه كانت  فحوى هذه البيعة أنه أن آتاهم النبي سالمًا وصلهم في المدينة قاموا معه ونصروه من الكل, من الأحمر والأبيض من كل الناس وأنهم يحمونه كذلك كما يحموا أنفسهم وذراريهم, أتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- سالمًا مع الصديق -رضي الله تعالى عنه-, وقام الأنصار بسيوفهم حول النبي -صلى الله عليه وسلم-, حاربوا معه في بدر, حاربوا معه في أحد, حاربوا معه في الخندق, حاربوا معه حروبه, حتى دخل النبي مكة منتصرا, وكان من الأنصار في جيش النبي الذي هو عشرة آلاف معظمهم من الأنصار, لما فتحت مكة, وضعت الحرب دخل العرب كلهم في الجزيرة في دين أفواجا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] عزَّ الإسلام, أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يهدد ليس ملوك العرب فقط بل كسرى وقيصر أيضا, يرسل لكسرى فيقول له: أسلم تسلم, ويرسل لقيصر يقوله: أسلم تسلم, فيهدده بالحرب وأنه سيأتيه والجزيرة كلها آمنت, معنى حديث أبو أيوب أنه لما انتصر الإسلام لما فتحت مكة وانتصر الإسلام وعز وكثر تابعوه, قلنا وفينا عهدنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عهدنا مع الله قد أوفيناه, الآن نجلس في دورنا في بساتيننا نصلح  بساتينهم؛ لأنهم تركوا أرضهم, تركوا عمارة بيوتهم, تركوا هذه الدنيا, وانشغلوا هذه المدة كلها بالحرب, فإن النبي لم يمكث في المدينة شهرين متتابعين منذ أن آتاها -صلوات الله وسلامه عليه وسلم- ما مكث شهرين متصلة, وإنما  كان كله خارج في جيش أو في سرية أو في غزو أو في عمرة -صلى الله عليه وسلم- حتى عمرته عمرة حرب خرج في الحديبية وحصر, وبيعة الرضوان كانت  في هذه السفرة, وهي سفرة كانت للعمرة ولكن قريش صدته وقالوا: والله لا يدخلها علينا محمدٌ عنوة أبدًا. ما يدخلها بالقوة وصدوه, فالشاهد أن الأنصار انشغلوا طيلة هذه المدة كلها ثماني سنوات من هجرة النبي إلى فتح مكة,  كلها في الجهاد فقالوا نجلس ولما قالوا هذه المقالة أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا القول: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] فقعودكم عن الغزو وكف يدكم عن الإنفاق في سبيل الله, وترك هذا الأمر بعد ذلك, وقول فيتولى أمر الجهاد غيرنا هذا إلقاء باليد إلى الهلاك أولا أن هذا سيؤدي إلى ضعف الإسلام, ضعف المسلمين, ثم ركوب العدو هذه واحد ,كذلك هو هلاك؛ لأنه ترك الجهاد وهذا أمر مفروض فرضه الله -تبارك وتعالى-, فترك الفريضة بعد السعي فيها هو كذلك يؤدي إلى الهلاك في الآخرة وذلك  بالذنوب والمعاصي.

{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المحسنين} وأحسنوا الإحسان هو الأداء العمل على أحسن وجوهه, ومن الإحسان الاستمرار فيما عاهدتم الله -تبارك وتعالى- عليه حتى تموتوا على ذلك, وكذلك من الإحسان القيام بالجهاد, لأن الجهاد هو أعظم فرائض الدين, فهو ذروة سنام الإسلام.

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إذن الدخول في صف العدو وإن غلب على ظن الإنسان أنه يقتل, بل لو حتى أيقن أنه يقتل, فهذا ليس إلقاءً باليد إلى التهلكة, بل هذا ممن يشرى نفسه لله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] يبيع نفسه لله -سبحانه وتعالى- فدخوله في صف العدو, كسر لقلبه, تشتيت لجمعه, إثارة للرعب فيه, وقد كان الزبير بن العوام -رضي الله تعالى- عنه يفعل هذا ويعود, وليس مرة واحدة في الغزوة الواحدة أحيانا خمس مرات, فقد فعل بجيش الروم خمس مرات يخترق صفهم, ثم يعود خمس صفوف متوالية كأنه مقذوف,  كأنه قذيفة تدخل في صف العدو, يحارب من أمامه من على يمينه, من على يساره, من خلفه ثم يخترق الصف ثم بعد أن يخترقه كله يعود مرة ثانية  بفرسه إلى صف المسلمين و هذا نادر, في الرجال أن يكون الرجل بهذه القوة وبهذه الشجاعة وبهذه المراس والمران في الحرب, على كل حال إذا غلب على ظن المقاتل أنه يقتل, ودخل في صف العدو يحاربه, فلا شك أنه لا ينبغي حمل الآية على هذا المعنى, وإنما معنى الآية يتحقق إما بالقعود عن أمر يفضي إلى الهلاك, كمن  كان مريضا, وتأكد لديه أنه إن قام بهذا السبب دفع عن نفسه المرض المفضي إلى الهلاك, كمن قطع منه مثلا عرق لو أنه أهمله وتركه ينزف؛ فإنه يموت, فهذا ألقى بنفسه إلى التهلكة, أو ركب مركبًا معلوما أنه من سار في الخط أو سار في هذا الأمر أفضى بنفسه إلى الهلاك, فهذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة ويعتبر كقاتل النفس, كما جاء أحد الصحابة قال له ابنه: لقد أكلت البارحة حتى بشمت, فقال له: لو مت لما صليت عليك ومعنى أكلت حتى بشمت أكل أكلًا كثيرًا حتى أصابه البشم, والبشم هو عفونة تكون في البطن من كثرة الطعام فقال له لو مت بهذه الحالة لما صليت عليك من باب أنه يكون قد تسبب في قتل نفسه بعمد, فكل من ركب سببًا من الأسباب التي يمكن أن تفضي إلى الهلاك, وهو مريدٌ لهذا, ممكن يكون هذا يدخل في باب  قاتل النفس.

{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ........ } [البقرة: 195] {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} على كل حال عرفنا سبب نزول الآية, وإنْ كان هذا النص عامًا, لا يجوز للمسلم أن يلقي نفسه إلى التهلكة بالمعنى الذي ذكرناه, {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.

بعد هذا شرع الله -تبارك وتعالى- في بيان فريضة الحج على عباده فقال -سبحانه وتعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] قول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أمر منه -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له -سبحانه وتعالى-, وفُهِمَ من مَعْنَى قول الله {وَأَتِمُّوا} أنَّهُ يجب على من دخل في الحج والعمرة أن يستمر فيهما حتى يُنْهيهما, ولذلك قال أهلُ العلم: بأنَّهُ يجب إتمام الحج والعمرة, سواء كان حجَّ فريضةٍ أو عمرةَ فريضة أو حج نافلة يجب إتمامه, بل حتى لو فسد الحج بارتكاب محظور عظيم من محظورات الإحرام كالجماع مثلا, فإنه به يفسد الحج وهو كذلك يجب أن يستمر فيه, يتمه وإن كان قد فسد ثم بعد ذلك عليه أن يعيد هذا الحج مرة أخرى.

  {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أما الحج فهو الحج في اللغة هو القصد المتكرر لمكانٍ بقصد تعظيم هذا المكان, والحج شرعًا: هو قصد مكة والمشاعر الحرام بقصد عبادة الله -تبارك وتعالى-, أداءُ مناسكٍ معينةٍ في أوقاتٍ معينةٍ, فهي فريضةٌ وركنٌ من أركان الإسلام, الركن الخامس من أركان الإسلام, وهو في مكانٍ محدودٍ وهو في المسجد الحرام والمشاعر المحرمة, بقصد أداء عبادة مخصوصة بهيئات مخصوصة في أوقات مخصوصة, والعمرة هي الزيارة, والمقصود زيارة بيت الله -تبارك وتعالى- وأداء كذلك أعمال مخصوصة, هذه الأعمال تسمى أعمال العمرة منها: الإحرام من الميقات وطواف, وسعي, وحلق أو تقصير.

يُفْهم من قول الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أن كليهما نسك, وأن كليهما فرض, فالحج فرض والعمرة فرض, وقد بينت السنة أن الحج فرضٌ مرةً واحدةً في العمر, كما جاء في حديث سراقة بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبي لما قال: «أيها الناس  إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا وكان هذا بعد أن فرغ النبي من السعي ووقف على المروة وقال: أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقال سراقة: يا رسول الله أفي كل عام يا رسول الله ؟ فسكت النبي ثم أعاد مرة ثانية وثالثة أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال النبي: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ذروني ما تركتكم إنما اهلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» فالحج المفروض مرة واحدة في العمر على المسلم الذي بلغ مبلغ التكليف أن يحج مرة واحدة في العمر وذلك من ملك الزاد والراحلة وهي نفقات الحج, والعمرة كذلك هي فرض مرة واحدة في العمر, وأما تكرير الحج فلا حدَّ له, فلو حج إنسانٌ كل عامٍ في عمره؛ فإن هذا فضلٌ عظيمٌ, فنافلة الحج نافلة مفتوحة وفي فضلها  في فضل المتابعة في الحج والعمرة أحاديث كثيرة, ويكفي أن النبي يقول: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»

وقول الله تبارك وتعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} يُفْهم منه إخلاص العمل وأن يكون هذا لله -تبارك وتعالى- ولا يكون له مقصد آخر إلا أن يؤدي هذا العمل لله -سبحانه وتعالى-؛ فيخلص في عمله لله -جل وعلا-, وسيأتي أنه يجوز أن يَحُج, ويعمل عملًا من أعمال الدنيا, يكتسب منه, كأن يكري نفسه في خدمة, كأن يبيع ويشتري, فهذا قد أباحه الله -تبارك وتعالى-, كما سيأتي في قوله الله -تبارك وتعالى-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} وأنتم في أثناء الحج فضلًا من ربكم بالتجارة أو بالعمل أو بالكراء يكري نفسه أو يكري دابته, ويدخل  فيها سيارته لا بأس بهذا, مع نيته أنه يحج لله أو يعتمر لله, ثم قال -جل وعلا-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أحصرتم مُنِعْتُم الحصر هو المنع  إن منعتم عن إتمام الحج والعمرة, ويكون هذا الحصر إما بعدو يمنع الإنسان من الإتمام أو بمرض يقعده ويمنعه أن يتم حجه أو عمرته, هذه من صور الحصر, وقد حُصِر النبي -صلى الله عليه وسلم- مُنع لما في السنة السادسة ذهب هو وألف وأربعمائة من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة معتمرين, ولما وصلوا إلى الحديبية, قامت قريش وجمعت قواها وقالت: والله لا يدخلها محمد علينا عنوة أبدا,  بالقوة لا يدخلها وأتم أمورًا عظيمة ومفاوضات طويلة وانتهت بعد ذلك بتوقيع صلح الذي عرف بصلح الحديبية, وكان منه أن قريش قالت: ترجعون  هذه السنة لا نسمح لكم بدخول مكة, ثم تعودون من العام القادم في مثل هذا الوقت ونسمح لكم بدخول مكة, لمدة ثلاثة أيام تتمون فيها عمرتكم وترجعون, فالحصر هو المنع.

وسيأتي لهذا الأمر مزيد تفصيل -إن شاء الله- في الحلقات الآتية,