الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كشِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[الزمر:23-26]: يمدح الله -تبارك وتعالى- كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فيقول -جل وعلا-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ........}[الزمر:23] الله -سبحانه وتعالى- الذي لا إله غيره -سبحانه وتعالى- رب السماوات والأرض رب العالمين الله نزل أحسن الحديث نزل بالتفعيل تنزيل, وذلك أنه قد نزل على النبي -صلوات الله وسلامه عليه- نزولًا متتابعًا في عشرين سنة من عمره الرسالي -صلوات الله وسلامه عليه-, وقبل ذلك بثلاث سنوات أخرى عندما نبأه الله -تبارك وتعالى- بقوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1], أحسن الحديث لا حديث أحسن من كلام الله -تبارك وتعالى- فإنه كلام الله -تبارك وتعالى- أحسنه معنا ومبنا, ففي معانيه قد حمل أشرف المعاني وأعظمها وأعلاها, فهو وصف لله -تبارك تعالى- وصفاته وأعماله -سبحانه وتعالى- وسنته في خلقه -جل وعلا- وبيان عظمته في مخلوقاته -جل وعلا- وهو بيان لتشريعه وصراطه المستقيم -سبحانه وتعالى- وهو كشفه لأنواع الزيف والباطل مما ارتكبه الناس, ودعوة إلى الخلق الكريم والطريق المستقيم, ثم هو في أحسن عبارة وأسلسها بأفضل لغة وأنقاها, هذا اللسان العربي, ثم بهذا الإعجاز في البيان والحلاوة في اللسان فهو أحسن الحديث معنى ومبنى وشرفًا أنه كلام الله -تبارك وتعالى- كتابًا مكتوب متشابهًا لا كله من جنس واحد, فمن سمع قطعة منه ثم سمع بعد ذلك قطعة لم يكن قد سمعها آية أخرى سورة أخرى من هذا الكلام أن منشأ هذا هو متكلم واحد وهو الرب -سبحانه وتعالى- فليس فيه تفاوت في أن هذا من متوسط القول وهذا من أعلاه وهذا كما هو الشأن في كلام البشر فإن كلام البشر مهما كانوا فصحاء بلغاء إلا أنه قد يتنافر هذا عن هذا أما هو في قمة البلاغة {........ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1] فهو يشبه بعضه بعضا في معانيه وفي مبانيه وفي حلاوته, فهو كتاب كل آياته تشبه بعضها بعضًا لا اختلاف فيه كتابا متشابهًا مثاني يثنى المعنى الواحد يثنى بمرات كثيرة فمن ضمن فمن هذه التثنية إظهار الله -تبارك وتعالى- أن هذا الكلام كلامه فقد جاء هذا في أكثر في مئات المرات من كتاب الله -تبارك وتعالى- يذكر الله عباده بأن هذا الكلام منه -سبحانه وتعالى- إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1], {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:1-2], وهذا كثير في القرآن في مئات المواضع يثني الله -تبارك وتعالى- هذا المعنى ويذكر الله -تبارك وتعالى- عباده بأن هذا الكلام كلامه, وأنه منه -سبحانه وتعالى- وفي هذا من الحكم العظيمة ما فيه, وهو تذكير العباد دائما أن احذروا هذا كلام الله -تبارك وتعالى- هذه رسالة الله -تبارك وتعالى- إليهم, وكذلك تأكيد أن هذا المعنى منه -سبحانه وتعالى- لبيان أن ما يؤمر الله به أو ينهى عنه -سبحانه وتعالى- إنما هو أمر عظيم ولابد أن تأخذوه على مأخذ الجد والحزم لأن هذا كلام الله -تبارك وتعالى- لا ينبغي التهاون فيه, ثم ما فيه من الوعيد الشديد على تركه ومن الفضل العظيم على فعله, وبيان أنه من الله -تبارك وتعالى- لبيان أن هذا لابد أن يكون وأن الله -تبارك وتعالى- لا يسقط قوله -سبحانه وتعالى- ولا تتبدل أقواله ولا يمكن أن يقول شيئًا, ثم يرجع عنه -سبحانه وتعالى- فانتبهوا لهذا, كذلك ثنيت ذكر الجنة وذكر النار وذكر الملائكة ذكر خطيئة آدم كمن ثنيت بعض القصص ثناه الله -تبارك وتعالى- المرة تلو المرة لما في هذا من العبرة والعظة في هذا الموطن وفي هذا وفي الموطن الآخر وهكذا, مثاني يثنى يثنى المعنى وكذلك يثنى في القراءة فإنه مثاني يثنى في القراءة تقرأ هذه السورة ثم يؤمر بأن تقرأ نفسها سورة الفتحة مقدمة الكتاب تقرأ في الصلاة في الركعة الأولى, ثم في الركعة الثانية, ثم في كل الركعات لتتم الركعات الصلاة.
ثم قال -جل وعلا-: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ: لما فيه من الزواجر والقوارع فإن الله -تبارك وتعالى- أنزل فيه الوعيد الشديد والتهديد العظيم لكل من تنكر الطريق, فالمؤمن الذي يخاف ربه -تبارك وتعالى- يقشعر منه جلده وقشعريرة الجلد هو انكماشه عند ما يحصل للإنسان عندما الخوف وأن يقف شعره وأن يتداخل جلده عند شعوره بالخوف تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم, خوفًا وتعظيمً للأوامر العظيمة التي فيه, وللزواجر العظيمة التي فيه ولأن هذا من الله -تبارك وتعالى- عندما تذكر العبد أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى- أنه كلام مباشر هو يخاطبك به, فإن المؤمن يقشعر جلده منه خوفًا وتعظيمًا لأمر الله -تبارك وتعالى-, ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ: بعد هذا الخوف عند مادة الرجاء عندما يرى ما عند الله -تبارك وتعالى- من الفضل والإحسان والعطاء فإن جلد المؤمن يلين يلين بالطاعة ويلين بالاستجابة إلى أمر الله -تبارك وتعالى- ويلين للبشرى التي يحملها هذا الكتاب من الله -تبارك وتعالى- لعباد الله المؤمنين, ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ: ذلك الخوف من الرب -تبارك وتعالى- ثم بعد ذلك الاستبشار بما عند الرب -تبارك وتعالى- هذا من الهدى تفاعل المؤمن مع هذا الكتاب إيمانه به خوفه من زواجره أخذه البشرى التي يبشر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين فيها استجابته لأمر الله وطاعته ذلك هدى الله هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده , يهدي به بهذا الهدى ويهدي به بهذا القرآن المنزل من السماء من عند الله -تبارك وتعالى- من يشاء من عباده, الله -سبحانه وتعالى- يقذف بهداه هذا في قلب عبده المؤمن فيهديه من يحبه الله -تبارك وتعالى-, ومن يشاؤه الأمر كله بإرادة الرب -تبارك وتعالى- فإنه يهديه إلى الهدى إلى هدى الله -تبارك وتعالى- ويجعل هذا القرآن هو مادة هداي وذلك أن الله -تبارك وتعالى- وصف هذا القرآن بأنه هدى للمتقين قال ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين فيجعل الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب هداية لأهل التقوى ومن يخافون الله -تبارك وتعالى- قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا: فهو هدى لأهل الإيمان وبصائر لهم مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ: من يضلل الله من يضلله الله -سبحانه وتعالى- فما له من هاد ليس له من هاد يهديه إذا أراد الله -تبارك وتعالى- إضلاله فإنه لا أحد يستطيع أن يهديه دون الله -تبارك وتعالى- ولا شك أن من يريد الله -تبارك وتعالى- هدايته يجعل له الأسباب الموصلة إلى هذا, ومن يريد الله -تبارك وتعالى- إضلاله يرتكب من الأعمال ما يسد الله -تبارك وتعالى- عليه باب الهداية.
ثم جاءت مقارنة جديدة يقارنها الله -تبارك وتعالى- بين أهل الإيمان وأهل الكفران فقال: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .........}[الزمر:24] ولم يذكر الطرف الآخر وهذه من أعظم صور العذاب والنكال في يوم القيامة أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة صورة المعذب في النار وهو يتقي بوجهه سوء العذاب والحال أن الإنسان إذا كان يقابله خطر في هذه الدنيا فإنه يصرف هذا الخطر عن وجهه لأن الوجه هو أشرف شيء فيقدم يديه لتدفع عنه ما يأتيه على الوجه ويحمي وجهه من هذا أما هذا وجهه هو الذي يباشر به العذاب ويمنع به العذاب عن نفسه يحاول منع العذاب عن بقية جسده بوجهه أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ: وهذا الذي يتقي بوجهه سوء العذاب هو الذي يلقى في النار, ولكنه يبقى مكبل اليدين والقدمين مسلسلًا فتأتيه النار فلا يكون يباشر يستطيع أن يدفع شيئًا من النار عن نفسه إلا بوجهه -عياذا بالله- فيبقى الوجه وهو أحس ما في الجسم أكثر الجسم إحساسًا, وأكثر الجسم شرفًا والإنسان يكون أكثر حرصًا على حماية وجهه من بقية جسده لكن الوجه الذي هو أشرف ما فيه هو الذي يباشر به العذاب -عياذا بالله- وسوء لعذاب العذاب السيئ كالنار النار أسوأ عذاب والحميم الذي يلقى عليه أسوأ شيء {........ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}[الحج:19], {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}[الحج:20] فهو يباشر هذا العذاب بوجهه -عياذا بالله-, أي حاله كحال غيره كحال المؤمن الذي يكون في غير هذا الحال تمامًا, {........ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}[الزمر:24]: وقيل بالبناء لما يسمى فاعله, والذي يقول لهم هو ملائكة العذاب يبكتونهم, أو الرب -تبارك وتعالى- وقيل للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله -تبارك وتعالى- وضع الأمور في غير محلها بدل من أن يصدقوا الصدق كذبوه, فقابلوا الصدق بالتكذيب وقالوا هو كذب جاءهم النبي بالصدق من الله -تبارك وتعالى- بالخبر الصادق, وعلموا أن هذا خبر صادق بدل أن يصدقوه كذبوه, والحال أن هذا موضوعه أن تصدق الصدق, فكذبوا بالصدق وردوه وبدلا من أن يكون أمر الله -تبارك وتعالى- محله الاستجابة والطاعة لكنهم وضعوا الشيء في غير محله وضعوا في محل أمر الله في محل طاعة الله -تبارك وتعالى- العصيان فقد قلبوا الأمور كلها فهذا ظلم؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير محله وبدلا من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ظلموا وضعوا الأمر في محله وضعوا عبادتهم التي أشرف الأعمال وضعوها في من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا من الآلهة المزعومة, أو آلهة ليست هي آلهة, وإنما هي عباد الله -تبارك وتعالى- كالملائكة وغيرهم, ممن عبدوهم من دون الله وقيل للظالمين ذوقوا: قاسوا ليس ذوقا باللسان فقط, وإنما الإنسان يذوق بكل أحاسيسه ذوقوا يعني هذا العذاب المهين على هذا النحو بأن تلقى في النار مقيدًا مسلسلًا {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ ........}[الفرقان:13]: حال كونهم مقرنين دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا, {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14], وقيل للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وكفرهم بالله -تبارك وتعالى- وصدهم عن سبيل الله ذوقوا ما كنتم تكسبون, أي هذا الذي أنتم فيه هو جزاء الذي كسبانك ما كنتم تكسبون أي ما كنتم تكسبونه أي من هذا العمل الخبيث من الظلم والشرك, فهذا هو جزاؤه.
ثم قال -جل وعلا-: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}[الزمر:25]: من قبل قريش, وقبل العرب كذبوا رسل الله -تبارك وتعالى-, فأتاهم عذاب الله من حيث لا يشعرون, أن العذاب يأتي من هذا الباب فآتاهم الله -تبارك وتعالى- به, وهؤلاء الذين من قبلهم كثيرون هذه عاد هذه ثمود فإنهم كذبوا وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون صيح فيهم هذه الصيحة في الوقت الذي كانوا يظنون أنهم يمكرون برسولهم وأنهم سيزيلونه من الرفض {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:77], قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ: أرادوا قتل رسولهم كذلك بعدما قتلوا الناقة قال -جل وعلا- {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51] وكذلك عاد وكذلك قوم فرعون والمؤتفكات وكل هذه القرى الظالمة التي كذبت رسلها انظر كيف كان الأمر لا يشعرون أن العذاب ويتصورون أن العذاب يأتيهم من هذا الباب, {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: ذوق ليس باللسان بكل أحاسيسهم الخزي, وذلك أن الذي يهزم على هذا النحو ويداس على هذا النحو ويهلكه الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو أخزاه الله -تبارك وتعالى- الخزي وهو الشعور بالندامة والعار, وأنه قد فعل ما استحق عليه هذا العذاب.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[الزمر:26]: عذاب الآخرة أكبر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا فإن ما ينتظر قوم فرعون من النار أكبر من الغرق, فالغرق موت وانتهى ولكن النار {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25], وكذلك كل من أخذه الله -تبارك وتعالى- بآخذة من هذه فإن ما سيصل إليه من العذاب هو أكبر من الصورة التي أهلك بها وأخزي بها في هذه الدنيا, لو كانوا العلم الحقيقي لعلموا أن ما عند الله -تبارك وتعالى- من العذاب أكبر من هذا وأن الخزي في الدنيا ينتظر هؤلاء المكذبين, ثم قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر:27-28]: ضرب الأمثال هو صياغتها وتصويرها بأن يجعل الأمر البعيد يضرب له مثل الشيء القديم المتناول كالأمر المعنوي يضرب له لبالأمر الحسي والأمر البعيد في التصور يضرب له أمر من المثال القريب الواضح ليكون هذا موضحًا لهذا البعيد, من كل الأمثال حتى يتصوروا المعاني التي تقال لهم تصورا كما يتصور المحسوس فضرب الله -تبارك وتعالى- مثل للشرك ومثلًا الكافر والأمثال التي ضربها الله -تبارك وتعالى- التفصي والخروج عن طاعته -سبحانه وتعالى- فقال -جل وعلا-: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41]: فضرب مثل لمن يعتصم بغيره كالعنكبوت التي تحتمي ببيتها هو عند الخطر لا يستطيع أن يحميها فإنها بيت واهن وكذلك من هذه الأمثال قال -تبارك وتعالى-: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ........ }[الكهف:32-33]: ضرب الله -تبارك وتعالى- مثل لسرعة زوال هذه الحياة بأنها كمطرة تخرج الربيع, ثم تأتي الشمس فتضربي عني هذا الزهر النامي والروض النضير, ثم يجف وتروه الرياح أمثال ما ترك الله -تبارك وتعالى- من الحقائق التي يخبر الله -تبارك وتعالى- بها عباده إلا وضرب لها الله -تبارك وتعالى- الأمثال لتوضيحها وإبانتها وإظهارها, تذكر استحضار هذه المعاني وظهورها في الذهن والفهم قرآنا عربيا حال كون هذه الأمثال المضروبة بهذا القرآن المقروء عربي بهذه اللغة الفصيحة لغة العرب غير ذي عوج أن هذا القرآن نازل لا عوج فيه ما في أي خلل فيه لا خلل في معانيه ولا خلل في ألفاظه ومبانيه, لعلهم يتقون: لعلهم يخافون ويحذرون فانظر هنا المثل الذي يقوله الله -تبارك وتعالى- {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .........}[الزمر:24]: أي انظروا هذا فهذا هل هناك أبلغ وأقوى في الأثر والتحذير من هذا الأمر يخوف الله -تبارك وتعالى- عباده انظروا فإن يوم القيامة يلقى الشخص في النار مكبلًا, ولا يجد إلا وجهه يتقي به سوء العذاب فضرب هذه الأمثال وإيضاح الأمر بهذه الصورة قال -جل وعلا-: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَك لعلهم يخافون ربهم -سبحانه وتعالى- فيجعلون بينهم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى- وقاية, ولا يكون هذا إلا بطاعته ومخافته -سبحانه وتعالى- وتعظيم أمره.
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- هنا المثل لهذا في موضوع هذا السياق وهو الشرك والتوحيد المشرك والموحد حال المشرك وحال الموحد قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:29]: ضرب الله مثلا لكم أيها المخاطبين للعباد رجلا فيه شركاء متشاكسون رجل لكنه عبد ولكنه مملوك لمجموعة من الشركاء المتشاكسين, والمتشاكسون أي متعاندون متخاصمون مختلفون فيما بينهم على خراج وعمل هذا العبد فهم شركاء في يشترك في ثلاث أو أربعة مجموعة ولكن يتنازعون من سيمكث عند هذا وكم سيمكث عند هذا وكم سيعطي هذا وكم سيعطي هذا, لا شك أن هذا العبد الذي تتنازعه هذه هؤلاء السادة الذين على أو هؤلاء الأرباب الذين يملكونه سيكون حاله بحال ردية فإن هذا قد يخاصمه وهذا قد يعاديه, وهذا قد هذاحال عبد ولكن له أكثر من سيد وهؤلاء السادة متخاصمون فيما بينهم, و رجل آخر لكنه هذا مسلم له ولا يخدم إلا هذا السيد فقط وهو متوفر عليه لا سيد له غيره قال -جل وعلا-: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا: هل يستوي حال هذا العبد الذي له أكثر من سيد وكلهم متخاصم وهو في بلبلة يرضي هذا أن أرضى هذا أسخط هذا وأن أسخط هذا قد يرضي هذا فماذا يصنع هذا فيبقي في حال سيئة جدا, وحال رجل آخر لكنه عند سيد واحد وهو راضي عنه وهو يعرف عمله فيه ويؤديه فلا شك أن هذا العبد الذي يملكه سيد واحد ولا تتنازعه إرادات مختلفة أحسن حالا لا مقارنة بين حال وهذا فهذا حال المشرك, المشرك يعبد أربابا متفرقين وبالتالي إن أرضى هذا أغضب هذا, وإن أغضب أرضى هذا, وبالتالي تتنازعه هذه الإرادات فلا فيكون حاله من العسر بمكان, وأما الموحد فإنه يعبد إلها واحدا وهو متوفر له فهذا إلهه وهذا ربه وهو مولاه فأي حال أفضل من هذا؟ فالحال أن من يعبد ربه يعبد الرب الواحد الذي لا إله إلا هو هو مستقيمة وميسرة لأنه لا إله لا إلا الله -تبارك وتعالى- فهو يعبده, وأما المشرك فإنه ضائع وإنه ضائع مشتت بين هذه الآلهة المتفرقة, كل المحامد له -سبحانه وتعالى- لأنه هو الذي يستحق الحمد وحده والحمد كله لأنه لا فضل ولا خير إلا منه -جل وعلا- الحمد لله.
ثم قال -جل وعلا-: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ: أكثر هؤلاء المخاطبين لا يعلمون هذا ولذلك وقعوا فيما وقع فيه من الشرك والكفر ورد الحق الذي جاءهم من الله -تبارك وتعالى-, ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:30], {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}[الزمر:31] إخبار بعد هذا البيان وبعد هذه المقارنات الأمر انتهى كلكم ستموتون إنك أي يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه وسلم- ميت وإنهم ميتون لا أحد ما أحد باقي هنا يعني في هذه الأرض, ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون العبرة بعد ذلك يوم القيامة عندما يكون هناك الفصل فصل القضاء وتحصل الخصومة بين الرسل الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى-, وبين أقوامهم ثم تكون حكومة الرب -تبارك وتعالى- حكم الرب على هذا النحو {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ }[الزمر:32-34].
نقف هنا, ونكل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.