الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد...
يقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196], هذا فرض من الله -تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين, أن يتموا الحج والعمرة له -جل وعلا- قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}, والإتمام هو: أن يستمر من نوَى وأحرم بحج وعمرة, أن يستمر في هذا العمل حتى ينهيه سواء كان فرضًا أو نفلًا, فليس المتنفل بالحج أو بالعمرة أمير نفسه, يحل له ويحق له أن يوقف أعمال الحج ويعود, بل يجب أن يستمر في حجه وعمرته إلى أن يؤديها, ما دام أنه قد أحرم بحج أو بعمرة, فيجب أن يستمر, بل ولو فسد حجه أو عمرته بجماع مثلًا, فإنه يجب أن يستمر في هذا الحج الفاسد, وإن كان قد فسد, ثم يعيد هذا الحج من قابل.
قال -جل وعلا-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} مخلصين عملكم لله -تبارك وتعالى-, {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم بسبب قهري, منعكم من أن تتموا الحج, وهذا مناسب لقوله {وَأَتِمُّوا} فوجب الإتمام منعت بسبب, قال -جل وعلا-: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فقبل أن تحل وأنت محصر, لابد أن تذبح هدياً, {فَمَا اسْتَيْسَرَ} ما تيسر لك من الهدي, والهدي شاة أو سُبُع في بقرة أو سُبُع في بدنة, قال -جل وعلا-: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} لا يحل لك أن تحلق رأسك أيها الحاج أو المعتمر المحصَر, وتتحلل إلا إذا بلغ الهدي محله, ومحل الهدي مكة أو منى, فهذا المحل الذي يذبح فيه الهدي, كما قال النبي: «ذبحت ها هنا ومنى كلها منحر وشعاب مكة كلها منحر» فمحل الهدي في منى أو في مكة, أي أن من أحصر خارج مكة فإنه يرسل هديه ليذبح فيها, ثم إذا علم أنه وصل وذبح, عند ذلك يحل له بعد ذلك أن يحلق رأسه, ويتحلل ويعود بعد ذلك أدراجه, ولكن عليه أن يقضي هذه العمرة أو هذا الحج الذي أحصر عنه.
ثم قال -جل وعلا-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} هذا حكم من كان مريضًا وأراد أن يستحل شيئًا من محظورات الإحرام, فيلبس مثلًا ملابس تُدّفئه, واللبس المخيط هذا مُحَرَّم, أو به أذى من رأسه واضطر إلى يحلق شعره, وهو في أثناء الإحرام, قال -جل وعلا-: {فَفِدْيَةٌ} فدية عن لهذا الأمر الذي ارتكبه من محظورات الإحرام, من صيام أو صدقة أو نسك, هنا خيره الله -تبارك وتعالى- في الفدية بين أن يصوم ثلاثة أيام, أو أن يتصدق بعدل ذلك, أو أن ينسك شاة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «لكعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- وقد رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن طال عليه الإحرام, وقد تناثر القمل في شعره حتى أنه كان يسقط على وجهة, فقال له النبي: أرى أن هوامك قد آذتك فقال له: نعم يا رسول الله. فقال له النبي: احلق رأسك وانسك شاة». وانسك شاة فدية عن ارتكابك لهذا المحظور من محظورات الإحرام, فمن ارتكب هذا المحظور من محظورات الإحرام فقال -تبارك وتعالى-: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ثم قال -جل وعلا-: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} واستطعتم ليس هناك عدو يمنعكم, وأمنت حتى تؤدي الحج {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} من تمتع بالعمرة إلى الحج التمتع هنا هو الأخذ بهذه الرخصة, وهي أن يوقع العمرة والحج في سفرة واحدة, وكان هذا تشريعًا من الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة؛ رحمة بهم وأما قبل ذلك قبل الإسلام, كان هذا من أفجر الفجور, من أفجر الفجور أن يجمع شخصُ الحاج بين الحج والعمرة, بل يحج مفردًا بالحج ويعتمر عمرة مفردة في وقت آخر غير أوقات الحج, ثم شرع الله -تبارك وتعالى- للمسلمين على لسان رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- في هذا القرآن بأن يجمعوا في سفرتهم الواحدة بين الحج والعمرة, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حجَّ حجته الوحيدة وهي حجة الوداع, وأتى مكة قال لهم : «من لم يسق منكم الهدي فليحل وليجعلها عمرة. فقالوا: أي الحل يا رسول الله؟ قال: الحل كله». الحل كله أي يرجع كل ما كان عليه حرامًا قبل الإحرام حلالًا له, قال: الحل كله وقيل له بعد ذلك: "يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟" فقال: "بل لأبد الأبد" وشبك رسول الله بين أصابعه وقال "دخلت العمرة في الحج هكذا" وشبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- إن العمرة قد دخلت في الحج وأنه للمسلم أن يجمع بين العمرة والحج وهنا قال الله -تبارك وتعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} اعتمر ثم حل من عمرته وتمتع إلى الحج قال -جل وعلا-: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فليقدم هديًا ما تيسر له من الهدي, يقدمه لله -تبارك وتعالى-, فيُذبح في مكة, هذا الهدي قيل أنه هدي شكران لا هدي جبران, فإن بعض أهل العلم ظنه أن هذا الهدي إنما هو من باب جبر النقص الواقع, وذلك أنه كتمتع أخذ فصل بين الإحرامين, إحرام العمرة وإحرام الحج, وفيه هذه الفترة بين الحج والعمرة قد تمتع فيها, فما كان حراما عليه في الإحرام أصبح حلالًا له, فرأوا أن هذا نقص في النسك وفي العبادة, فظنوا أن تشريع الهدي إنما هو جبر لهذا النقص الواقع, لكن قال كثير من أهل العلم إن هذا الهدي إنما هو هدي شكران لله -تبارك وتعالى- وليس جبران نقص, وذلك شكران لله أن الله -تبارك وتعالى- أباح للمسلم أن يجمع بين الحج والعمرة في سفرة واحدة, فهما نسكان عبادتان كان يمكن أن يفرض الله -تبارك وتعالى- أن يسافر سفرة للحج وحده, ثم يعود بلده, ويسافر سفرة ثانية للعمرة وحدها, ولكن أبيح له أن يجمع بين النسكين في سفرة واحدة, فأصبحت هذه نعمة من الله -تبارك وتعالى- وتيسيرا, ففيها هذا الهدي إنما هو شكران ذبح هدية شكران لله -تبارك وتعالى-, ولا شك أن من كذلك جمع بين الحج والعمرة بإحرام واحد وهو الذي يسمى بالقارن, قرن بينهما لكن بإحرام واحد, كما كان نسك النبي -صلوات الله وسلامه عليه-, فإن النبي أحرم من "ذي الحليفة" بحج وعمرة, وساق الهدي -صلوات الله وسلامه عليه وسلم- ولم يحل حتى ذبح هديه, ولذلك لما أتى مكة وقال لأصحابه الذين لم يسوقوا الهدي قال: حلوا. قالوا له: يا رسول الله أنت لم تحل. أنت تأمرنا بالحل وأنت لم تحل فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني قد قلدت هديي, ولبدت رأسي, فلا يحل لي أن أحل حتى يبلغ الهدي محله قال: أنا سقت الهدي, وقلدت هديي أي لباس القلادة, سقت الهدي, لا يحل لي وأنا قد سقت الهدي أن أحل من عمرتي إلا بعد أن يبلغ الهدي محله, ومحل الهدي أن يذبح في اليوم العاشر وفي أيام التشريق, وهذا ما وصل محله بعد في منى, والنبي قال هذا في مكة -صلوات الله وسلامه عليه- وقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» مثل الذي أمرتكم به فقال: لو استقبلتم من أمري ما استدبرت وهو أن الله -تبارك وتعالى- سيبيح لنا عمرة ثم تحلل منها ثم حج على هذا النحو, وفيها من التيسير أمر عظيم قال: لو استقبلتم من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة, ولكنه لأنه ساق الهدي بقي على إحرامه -صلى الله عليه وسلم- قارنًا بين الحج والعمرة؛ حتى تم حجته وعمرته جميعًا -صلوات الله وسلامه عليه-.
فقول الله -تبارك وتعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يدخل فيه من فصل بينهما بالحل, وكذلك من قرن بين الحج والعمرة في إحرام واحد, ثم قال -جل وعلا-: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي هديا, ما عنده هدي, أو ما عنده المال الذي يشتري به, فالصيام قال -جل وعلا-: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ}, عليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج, قالوا: في الحج إما أن يكون هذا يبدأ بالسابع مثلا, ممكن يصوم السابع والثامن والتاسع, اليوم العاشر لا يحل له أن يصومه, وممكن يصوم بعد ذلك أيضا الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر و هي أيام التشريق لمن لم يسق الهدي, فله أن يصوم ثلاثة أيام إما عرفة وقبله بيومين, وإما أيام التشريق, {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}, سبعة أيام كذلك إذا رجعتم, وقد قال كثير من أهل العلم أنه إذا لو كان في أثناء الطريق وشرع في صيام هذه السبعة أيام, فلا بأس عليه إذا رجعتم ثم قال -جل وعلا-: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} مجموع الثلاثة أيام التي صامها في الحج والسبعة أيام التي يصومها إذا عاد, من حجته هذه عشرة أيام كاملة, وهذا من المقطوع به, لأن الثلاثة والسبعة هي عشرة لكن بيان هذا تأكيد أن هذه الثلاثة هنا في وقت الحج, وهذه السبعة عندما يعود من حجه قال -جل وعلا-: {ذَلِكَ} الهدي عند الجمع بين العمرة والحج {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}, هذا لمن لم يكن من أهل المسجد الحرام ساكنًا فيه, وكان أهله خارج المسجد الحرام, قيل أقله مسافة قصر, يكون خارج المسجد الحرام بمسافة قصر, فبعيدًا عنه ساكنًا خارج مكة, وليس من أهل مكة, هذا هو الذي عليه الهدي, أو بديل الهدي, وهو الصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
ثم قال -جل وعلا-:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} خافوه وراقبوه في كل أعمالكم, ومنه أعمال الحج يجب أن يراقب الرب -تبارك وتعالى- فيه {وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}, وهذا هو وعيد منه -سبحانه وتعالى- أنه عند المخالفة والخداع وتعمد الفسق والخروج عن هذه الأحكام, فإن الله -تبارك وتعالى- يعاقبه على ذلك عقوبة شديدة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} هذا من صفاته -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197] {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} معلومات كان عند الجميع, العرب كلها تعلم أشهر الحج, وهي أنها في شوال وذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة, هذه هي الأشهر التي يحق ويصح للإنسان أن يفرض فيها الحج, أن ينوي فيها الحج, وفهِم أهل العلم من هذا أنه لا ينبغي أو لا يجوز أن يعقد الإنسان الإحرام بالحج قبل شوال, فمن فرضه مثلًا في رمضان أو في أول السنة أو قبل ذلك بشهور وقال: "لبيك اللهم بحج" من هذا الوقت, وظل محرمًا حتى يأتي وقت الحج, فهذا قالوا: أنه مخالف عند الجمهور وأهل العلم على أن هذه مخالفة وأن الحج لا ينعقد إلا إذا دخل أشهر الحج؛ لأن الله قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ........} [البقرة:197] وبعض أهل العلم قال أنه ينعقد, أنه ينعقد إذا عقده ينعقد, ويصبح عليه ويجب عليه أن يتمه ولا يخرج كذلك منه, وقالوا في {من فرض فيهن الحج} من باب أن مفهوم هذا أنه يجوز له أن يفرضه في غير ذلك, لكن الصحيح أن قول الله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أنه هذا هو وقته وأن من فعل هذا فكأنه دخل في عبادة قبل دخول وقتها, لم يدخل وقتها بعد؛ فتكون بالبطلان, كمن دخل الصلاة قبل دخول وقتها, فلو دخل الإنسان صلاة الظهر قبل الزوال بطلت صلاة الظهر, ومن دخل المغرب قبل غروب الشمس, لاشك أنه بطل وقتها فقول الله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} إذن هو لا يقع إلا في هذه الأشهر المعلومات؛ فإذن من فرضه في رمضان, أو فرضه في شعبان, أو في رجب, وقال لبيك اللهم بحج, وبقي محرمًا, كما يفعله كثير من الناس, يحرمون قبل الحج بشهور طويلة, بل يحرمون من أول العام, من باب أنه يظل محرمًا كل هذه المدة لا شك أنه هنا لا ينعقد حجه؛ لأنه دخل في عبادة قبل أن يدخل وقتها.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فرض فيهن الحج على نفسه؛ بأن قال لبيك اللهم بحج, وأصبح الحج فريضة عليه ولازم له, ولابد أن يستمر فيه حتى يتمه إلا إذا أحصر, قال -جل وعلا-: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} هذا الأسلوب الخبري يراد به الإنشاء, أسلوب خبري {فلا رَفَثَ} كأنه نفي لوجود الرفث, ولوجود الفسوق, ولوجود الجدال, والرفث هنا هو الجماع ومقدماته من قُبْلةٍ ولمسة أي صورة من صور مقدمات الجماع, والجماع كذلك, فهذا من محظورات الإحرام {وَلا فُسُوقَ} الفسوق أصل الفسق هو الخروج, الخروج عن أحكام الإحرام بالدخول في محظوراته, أو الفسوق الخروج عن أعمال الدين كلها, كسب المسلم وشتمه فهذا هو فسوق, والخروج عن أحكام الإحرام, كلبس المخيط واستخدام العطر مثلًا, أو قطع شجرٍ, أو صيدُ الصيد, صيد البر, هذا فسوق, هذا فسوق بمعنى خروج عن أحكام الإحرام إلى محظورات الإحرام, فمن ارتكب محظورات الإحرام عامدًا, هذا فسق خرج عن أحكام الحج, وكذلك من عصى الله -تبارك وتعالى- بمعصية فهذا فسوق, {وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}, الجدال: أولًا مأخوذ الجدال من جدل الحبل وهو طرف وضع طرف منه على طرف آخر, وكأن المتجادلين والمتناقشين في أمر كل يدلي بأمر والثاني يدلي بأمر وهذا يدلي بأمر, فنهى الله -تبارك وتعالى- عن المجادلة, في الحج سواء كان في معانيه وفي مناسكه وفي أحكامه, لا ينبغي الجدال في هذا, أو الجدال مطلقًا في أي أمر من الأمور, فنهى الله -تبارك وتعالى-, هذا النفي لاشك أنه يراد به النهي وليس يراد به نفي الوقوع, فإن هذا قد يقع, وإنما هذا أسلوب أبلغ من النهي, ما قال الله فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج وإنما قال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فهذا أبلغ من النهي.
ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} أي اعلموا أيها المؤمنون, أنكم أي خير تفعلوه في أثناء الحج فهذا يعلمه الله -تبارك وتعالى-, هذا تحريضٌ وتحضيضٌ من الرب -تبارك وتعالى- أن يسارعَ الإنسانُ إلى فعل الخير بعد أن نهى الله -تبارك وتعالى- عن الفسوق وعن الجدال وعن كل أنواع الشر والخروج عن معنى الحج, وذلك أن الحاجَ قد أحرمَ ودخل في عبادةٍ عظيمةٍ لله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يتأدب, يجب أن يلتزم بآدابها, فمن آدابها أنه لا رفث لا كلام لا نكاح ولا مقدمات النكاح ولا كلام بحضرة النساء ولا بغير حضرة النساء عن هذا الأمر, ولا فسوق خروج عن معنى الحج وخروج عن طاعة الله, ولا جدال في الحج, أدب كذلك بمعنى ترك المماراة وترك الجدال والانصراف إلى العبادة, ثم توجيه إلى فعل الخير, {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} أيَّ خيرٍ ما, ولو كان قليلًا {يعلمه الله} وبالتالي إذا كان الله يعلمه فإنه يحاسبكم عليه -سبحانه وتعالى- هذا تحضيض على فعل الخير, ثم قال -جل وعلا-: {وَتَزَوَّدُوا} والزاد هو أخذ الطعام والماء وما يحتاجه الحاج في سفره, هذا أمر منه -سبحانه وتعالى- بأن يحمل الإنسان مئونته, ويتزود لهذا الأمر كالنقود التي يشتري بها الطعام الذي يستخدمه ما يحتاجه يأخذه لزادك.
هذا؛ لأن كثيرًا من الناس كانوا يأتون الحج يقولون نحن متوكلون, ولا يحملون زادًا معهم, فأتوا إلى الحج افتقروا واحتاجوا فمدوا أيديهم وسألوا وهذا غير مناسب, وأيضًا فيه ليس هذا من التوكل, بل التوكل أن يأخذ الإنسان بالأسباب, وهذا سفرٌ, فينبغي أن يؤخذ فيه بالأسباب بأن يحمل الزاد يحمل الماء, أو يحمل النقود التي يشتري بها, ثم لما كان الأمر على الزاد بين الله -تبارك وتعالى- بأن زاد التقوى هو خير زاد يحمله الإنسان في رحلته, ذكر الله بالرحلة العظمي, وهي السفر إليه -سبحانه وتعالى- السفر إلى الآخرة, وأن خير ما يحمله الإنسان في رحلته إلى الآخرة يوم القيامة التقوى قال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}, خير ما تزوَّد به العبد ويحمله في حياته إلى الدار الآخرة التقوى و هي مخافة الله -تبارك وتعالى-, أن يكون ممن يتقي الله -تبارك وتعالى- ويخافه ثم في التقوى قال -جل وعلا-: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} {واتقون} خافوني يا أولي الألباب, يا أصحاب العقول الراجحة, وهذا منه -سبحانه وتعالى- تذكير بأنه أهل لأن يخاف -سبحانه وتعالى-, وذلك أنه يؤاخذ بالذنب ويعاقب به, ويطلع على أعمال عباده -سبحانه وتعالى-, ومؤاخذته شديدة, وعقوبته أليمة -سبحانه وتعالى-, بل لا يعذب أحدٌ كما يعذب الله -تبارك وتعالى- ولا يوثق أحدٌ عدوه كما يوثق الله أعدائه -سبحانه وتعالى- {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25-26] فالله أهل لأن يتقى, وذلك لأنه شديد العقاب {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ } [الحجر:49-50] فقال: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}.
ثم قال -جل وعلا-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198]
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرج, الجناح هو الحرج والإثم {أن تبتغوا فضلا من ربكم} أي بالتجارة أو بالكراء أو كسب المال وأنتم في أثناء إحرامكم بالحج والعمرة, فهذا إذنٌ منه وسماحٌ منه وإباحةٌ منه -سبحانه وتعالى- لعباده الذين أحرموا بالحج والعمرة أنهم إذا كان لهم عملٌ لكسب المال فإن هذا لا جناح فيه ولا إثم فيه, ولا ينافي هذا إخلاص العمل لله -سبحانه وتعالى- ثم قال -جل وعلا-: {........فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] الإفاضة من عرفات هي الرجوع بعد الوقوف فيها, وعرفات هو الجبل, وعرفة هو اليوم وعرفة, ويوم عرفة, هو أفضل يوم في العام, والوقوف بعرفة هو أعلى وأشرف مناسك الحج كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الحج عرفة »
فهذا أشرف أعمال الحج وأعظم أركانه, {إِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} والإفاضة من عرفات بينها النبيُّ بفعله -صلوات الله وسلامه عليه- وهو أنه وقف بعد الزوال, بعد أن زالت الشمس صلى النبيّ الظهر جمعًا وقصرًا, ثم وقف يدعو الله -تبارك وتعالى- في عرفة, حتى غربت الشمس, وبعد أن غربت الشمس دفع -صلى الله عليه وسلم- من عرفات.
نقف عند هذا, ولهذا مزيد بيان في حلقة آتية أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم, وصلى الله على عبده ورسوله محمدٍ, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته