الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم : {حم}[غافر:1], {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر:2], {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3], {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}[غافر:4], {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر:5], {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}[غافر:6].
هذه الآيات هي بداية سورة المؤمن، سورة غافر، وهي مِن القرآن المكي, بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذين الحرفين : {حم}[غافر:1], الحاء والميم، والقول في هذه الحروف المُقَطَّعَة قد مضى قبل ذلك، وخلاصة هذا الأمر أنها إما أدوات تنبيه، وإما أنها تذكير مِن الله -تبارك وتعالى- بالحروف التي يتكون منها، وتكلم الله -تبارك وتعالى- بالقرآن بها الحروف العربية، وفيه تذكير بالتحدي الدائم للعباد بأنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، قول الله -تبارك وتعالى- للمكذبين : {........فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23], بيان أنه لو اجتمعت, {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88], {حم}[غافر:1].
ثم ذَكَّرَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذا القرآن مِن عنده -جل َّوعَلا-؛ فقال : {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر:2], وهذا التذكير الدائم بأنَّ هذا القرآن مِن عند الله -تبارك وتعالى- قد جاء في أكثر مِن أربعمائة موضع في كتاب الله -تبارك وتعالى-, كله يُذَكِّرُ الله -تبارك وتعالى- عباده أنَّ هذا القرآن منه، وهذا لإقامة الحجة، وللتذكير الدائم بأنَّ هذا القرآن مِن عند الله -تبارك وتعالى-؛ لِيَذَّكَرَ مَن يقرأ هذا القرآن، ومَن يستمعه مِن مؤمن وكافر أنَّ هذه رسالة الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ هذا القرآن حجة الله -تبارك وتعالى- على عباده, أقيمت به الحجة على العالمين؛ فهو النذير للعالمين، وهذا كلام الله -تبارك وتعالى- والتذكير أنَّ هذا كلام الله، هذا كلام الله، هذا كلام الله؛ فالمؤمن يزداد إيمان، كلما ذُكِّرَ بهذا ازداد إيمان بأنَّ هذا كلام الله-تبارك وتعالى-, ثم إذا علم أنَّ هذا كلام الله -تبارك وتعالى- التزم الأمر، التزم أمر الله -تبارك وتعالى- فعل ما يأمره الله -تبارك وتعالى- به، وانتهى عن ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، الكافر يزداد كفرًا على كفره, {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}, {........قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:44], يُذَكِّرُ الله -تبارك وتعالى- العباد أنَّ هذا القرآن منه؛ فيقول : {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر:2], {تَنزِيلُ الْكِتَابِ}, تَنَزُّل هذا الكتاب على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-, سمى الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن كتابًا؛ وذلك أنه مكتوب في السماء أنزله الله -تبارك وتعالى- مُنَجَّمًا على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-, كُتِبَ في الأرض, شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يُجْمَع بين دفتين مصحفًا واحدًا، وأنْ ينتشر بأيدي العالمين كلهم؛ لتكون رسالة الله -تبارك وتعالى- القائمة، وحُجَّةُ الله على العالمين؛ فهو الكتاب، الكتاب الحقيقي, الكتاب الذي لا ينبغي أنْ يسمى كتاب بمعنى الكتاب إلا هذا الكتاب العظيم, المنزل مِن الله -تبارك وتعالى- رب العالمين, {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ........}[غافر:2], {اللَّهِ}, اسم الجلالة عَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى- تتبعه كل أسماء الله -تبارك وتعالى-, يُبْدَأ وصف الله -تبارك وتعالى- بالله؛ لأنَّ هذا عَلَمٌ على ذاته -جلَّ وعَلا-, ثم بعد ذلك جميع الأوصاف الله، الرحمن، الرحيم، الغفور، الودود، السميع، العليم, {مِنَ اللَّهِ}, خالق السموات والأرض, رب العالمين, -سبحانه وتعالى-, {الْعَزِيزِ}, الغالب الذي لا يغلبه شيء، ولا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-؛ فالله لا غالب له -سبحانه وتعالى-, لا يغلبه شيء، ولا يتأبى عليه شيء-سبحانه وتعالى-؛ فقد قهر كل عباده، خَلَقَ السموات والأرض، وضع كل شيءٍ في مكانه -سبحانه وتعالى-, ولا يوجد غالب له مِن خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}, بكل شئون خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-؛ فلا يخفي عليه مثقال ذرة مما خَلَقَ في السموات ولا في الأرض, لا غيب عنده -سبحانه وتعالى- بل هو : {الْعَلِيمِ}, العلم المحيط الكامل في كل الأوقات والأزمان بما مضى وما يأتي، وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون؛ فهو : {الْعَلِيمِ}, بكل شيء -سبحانه وتعالى-, والذي لا يخفي عليه شيء مِن شئون خَلقِهِ -جلَّ وعَلا-, في كل الأوقات والأزمان مهما تقلب المخلوق وتصرف؛ فالله -تبارك وتعالى- مع تصرفه، وأعظم تصرف في المخلوقات, في الإنس هو تصرف القلب، وذلك أنَّ القلب مِن التقلب يتقلب دائمًا، وتَرِدُ عليه أفكاره؛ فهو كثير التقلب، والإنسان إذا نظر إلى أحوال قلبه ووساوسه، وأراد أنْ يكتب مثل هذا، مثل الخواطر التي تأتي عليه في يوم واحد؛ فإنها قد تبلغ مجلدًا، أو تزيد، والله -تبارك وتعالى- مع قلب كل إنسان، مع قلب كل حي في كل تقلبه, {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ........}[ق:16], وسوسة النَّفْس هذه الدائمة، والإنسان توسوس له نَفْسُهُ في كل أوقاتها, في كل الأوقات حتى في منامه؛ فإنَّ قلبه يظل مشغول بما مشغول به، بحديث النَّفْس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «الرؤيا ثلاثة مِن هذه إما مِن الله، وإما مِن الشيطان، وإما حديث نَفْس يَجْتَرُّهُ الإنسان», فقلب الإنسان ووساوسه لا تفتأ عنه، والله -تبارك وتعالى- عند قلب كل أحد, {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16], فهو العليم بكل شئون خَلْقِهِ, الذي لا يخفي عليه صغيرٌ ولا كبيرٌ -سبحانه وتعالى-, وكون هذا الكتاب تنزيل مِن الله الذي هذه صفته -سبحانه وتعالى-, هذه صفاته, {الْعَزِيزِ}, الغالب الذي لا يغلبه أحد, {الْعَلِيمِ}, بكل الشئون؛ إذن لا شك أنَّ هذا الكتاب يكون مشتملًا على كل خير ونفع, على الحكمة كلها؛ فلا تكون أخباره إلا صدق، وأحكامه إلا عدل، وأمره إلا أمر، ونهيه إلا نهي يترتب عليه ما بعده؛ وذلك أنه مِن الله, {الْعَزِيزِ}, الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- بيانًا لصفاته، قال : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3], الله مُنَزِّلُ الكتاب -سبحانه وتعالى-, {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}, هو : {غَافِرِ الذَّنْبِ}, قال : {غَافِرِ الذَّنْبِ}, وهذا مِن رحمته -سبحانه وتعالى-, {الذَّنْبِ}, كل الذنوب, أخبر -سبحانه وتعالى- أنه يغفر الذنوب جميعًا بالتوبة والرجوع إليه -سبحانه وتعالى-, {الذَّنْبِ}, المعاصي, كل معصية ذنب {غَافِرِ الذَّنْبِ}, كله, {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53], {وَقَابِلِ التَّوْبِ}, يقبل توبة التائب, {التَّوْبِ}, الرجوع, أي رجوع كل عبد إليه بعد المعصية، وبعد الكفر، وبعد الشِّرك إذا ثاب وتاب ورجع إلى الله -تبارك وتعالى- وأناب إليه؛ فإنَّ الله يقبله ويقيل عثرته، ويمحو سيئاته -سبحانه وتعالى-, {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ........}[غافر:3], وفي مقابل هذا : {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}, شديد العقاب للكافر، المعاند, لِمَن مات على الكفر؛ فلا عقوبة أشد مِن عقوبة الله -تبارك وتعالى-, عقوبته بالنار والخلود فيها للكافر, {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74], عقوبة شديدة، وقد جمع الله -تبارك وتعالى- في النار ألوان مِن العذاب والتهاويل الشديدة التي تكفي كل واحدة منها للموت لو كان يموت المُعَذَّب لكنه لا يموت, {........وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:17], {ذِي الطَّوْلِ}, صاحب الطَّوْلِ، الطَّوْل في كل شيء، الطَّوْل في الغِنَى الذي لا يحده شيء؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- غناه لا يحد عطاءه وغناه شيء، كما جاء في الحديث القدسي الإلهي : «يا عبادي, لو أنَّ أولكم وإنسكم وجنكم وقفوا في صعيد واحد, وسألني كل مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك مِن ملكي شيء إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِلَ البحر فلينظر بما يرجع», فعطاؤه لا حد له، وكذلك إكرامه وإنعامه -سبحانه وتعالى- لأوليائه لا حد له، وكذلك عقوبته شديدةٌ جدًا -سبحانه وتعالى-؛ فهو يعاقب ليعذب ويُوْثِق أعداؤه بالقيود, {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26], وجمع الله -تبارك وتعالى- بين هذه الصفات صفات الرحمة، وصفات الغضب التي يتصف بها -سبحانه وتعالى- لِيُذَكِّر عباده بهذا وهذا، وأنَّ هذه صفات الرحمة لعباد الله المؤمنين, المطيعين، والعذاب والشدة والعقوبة لهؤلاء المجرمين العاصين، وهذا كثير ما يأتي في القرآن يجمع الله -تبارك وتعالى- بين صفة الرحمة، وصفة العذاب، كقول الله -تبارك وتعالى- : {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49], {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50], فيجمع الله -تبارك وتعالى- بين هذا وهذا؛ لِيُبَيِّن أنَّ صفاته على هذا النحو -سبحانه وتعالى- فهو : {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}, وهو الذي يعذب {الْعَذَابُ الأَلِيمُ}, -سبحانه وتعالى-, {........إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف:167], {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ}, في سرعة عقوبته بعد الذنب, {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}, -سبحانه وتعالى-, وهنا قال -سبحانه وتعالى- : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ.........}[غافر:3], هذا في باب الرحمة, {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}, في باب العقوبة, {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, لا إله حقًا, {إِلَّا هُوَ}, فهو الإله الحق، وكل مَن ادُّعِيَت له الألوهية مِن غيره؛ فباطل الإله الذي يستحق عبادة هو وحده -سبحانه وتعالى-, الله -سبحانه وتعالى-؛ وذلك أنه متصف بهذه الصفات؛ فهو العزيز العليم, {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ........}[غافر:3], وكل الأشياء هو ربها ومالكها -سبحانه وتعالى- هو المتصرف فيها -جلَّ وعَلا-؛ وبالتالي هو الذي يستحق وحده العبادة، وأما مَن دون الله -تبارك وتعالى- ممن عُبِدَ؛ فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرا فضلًا عن أنْ يملكونه لغيرهم, كل ما عُبِدَ مِن دون الله؛ فهو لا يستحق أنْ يُعْبَدَ، لا يستحق العبادة، وإنما الذي يستحق العبادة والعبادة له حق وحده هو الله -سبحانه وتعالى-؛ فكل مَن ادُّعِيَت له الألوهية غير الله؛ فهذه دعوة باطلة، ولا شك أنه ليس بإله؛ فلا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, {........لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3], {إِلَيْهِ}, لا إلى غيره, {الْمَصِيرُ}, مصير العباد, رجوع العباد في نهاية المطاف، ونهاية الأمر كلهم إليه -سبحانه وتعالى-, حساب العباد كلهم إلى ربهم -سبحانه وتعالى-, فإيابهم إلى الله، وحسابهم إلى الله -تبارك وتعالى- فالمصير؛ مصير العباد إليه -سبحانه وتعالى- هو الذي يحكم فيهم, {........أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[الزمر:46], لما كان الأمر على هذا النحو نزول القرآن مِن الله، وهذه صفاته -سبحانه وتعالى- لا يبقى بعد ذلك جدال لمجادل، ولا مكابرة لمكابر، ولا تنطع لمتنطع، ولا تأخر لمتأخر، ماذا تنتظر؟ ماذا تنتظر بعد ذلك أيها الإنسان؟ وأنت نخاطب بهذا الكتاب مِن الله, {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}, {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3], ماذا تنتظر؟ ما لك إلا الإذعان، إلا الإيمان بربك -سبحانه وتعالى- وإلهك الذي هذا هو صفته، والإذعان لأمره -سبحانه وتعالى-, والفرار إليه، والبعد عن معصيته, ليس لك إلا هذا, لكن الكافر ليس كذلك، قال -جلَّ وعَلا- : {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}[غافر:4], {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ........}[غافر:4], جدال رد, يرد هذه الآيات، ويكابر فيها، ويقول لا بعث، ولا نشور، لم تنزل مِن عند الله، القرآن سحر، كهانة إلى آخر ما قاله الكفار في رسالة الرب -تبارك وتعالى-, وفي صفات الرب -تبارك وتعالى-, وفي ما يظنونه في أنفسهم، وأنهم لن يعذبوا، لن يبعثوا، لن يوقفوا بين يدي الله -تبارك وتعالى-, هذه أقوال الكفر المتعددة، المتنوعة، وكلها ظلمات؛ فهؤلاء الذين يجادلون في آيات الله هم الكفار، كفار بمعنى أنهم علموا الحق وجحدوه, {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا........}[غافر:4], {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}, الذين غَطَّوا أدلة التوحيد هذه, عرفوا الحق ولكنهم لم يريدوه، ما أرادوا الحق فكفروه، كفروه بمعنى أنهم ردوه وغطوا ما عندهم مِن أنواع الإيمان، وكذبوا الرسل، وافتروا ما افتروا, {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا........}[غافر:4], قال -جلَّ وعَلا- : {........فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ[غافر:4], {لا يَغْرُرْكَ}, خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكل مَن يُوَجَّه إليه القرآن, {تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ}, {تَقَلُّبُهُمْ}, تنقلهم, انقلب مِن مزرعته إلى بيته؛ فالكافر يتنقل مِن نعيم أنعم الله -تبارك وتعالى- به عليه، وأعطاه مِن متعة هنا إلى متعة هنا في التجارات والزراعات والصناعات واللهو هنا، واللهو هنا، والمراكب الفاخرة، والزوجات والبيوت العامرة؛ فهو يتقلب في نعم الله -تبارك وتعالى-, {فِي الْبِلادِ}, في الأراضي, في أرض الله -تبارك وتعالى-؛ فهؤلاء الذين يتقلبون هذا الله -تبارك وتعالى- قال : إنَّ هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله كفار، وتقلبهم {فِي الْبِلادِ}, لا يغررك هذا، لا يغررك هذا؛ لأنَّ هذا اختبارٌ لهم، وابتلاءٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وإعطاء لهم هذه الدنيا إعماءً لأبصارهم، وفتنة لهم عن أنْ يصلوا للحق أراد الله -تبارك وتعالى- بهم السوء مع ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- مِن هذا المال، وهذا العطاء, {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44], {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45], {........فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ[غافر:4].
ثم ذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- مَن كانوا على هذه الشاكلة مِن الكفر، وجادلوا في آيات الله، ودفعوا حجة الرسل، ولم يؤمنوا بها، قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ........}[غافر:5], فماذا كانت النتيجة؟ {........فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر:5], {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}, قبل هؤلاء المكذبين بهذا القرآن المنزل على محمدٍ -صلوات الله والسلام عليه-, {قَوْمُ نُوحٍ}, وقد عاش فيهم نبيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- وكذبوه، ورفضوا الحق بكل معاني الرفض، وأخبر الله -تبارك وتعالى- عن ظلمة قلوبهم وقساوتها، وأنهم لم يزعنوا للحق الذي جاء به نوح مع ما بذل لهم مِن النصح، وبذل لهم مِن إيضاح الحجة والآيات, {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}[نوح:5], {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}[نوح:6], {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح:7], {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا}[نوح:8], {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}[نوح:9], {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10], {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11], {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}[نوح:12], {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}[نوح:13], {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح:14], {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}[نوح:15], {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}[نوح:16], {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}[نوح:17], {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}[نوح:18], {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا}[نوح:19], {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}[نوح:20], {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}[نوح:21], {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا}[نوح:22], {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23], {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا}[نوح:24], فقوم نوح كَذَّبُوا رسولهم، وأصروا واستكبروا استكبارا، وكان الكبير يوصي الصغير لا تؤمن بهذا الرجل, إياك أنْ تؤمن بالله؛ فلا ينشأ جيل إلا والجيل الذي بعده أسوأ مِن الجيل السابق؛ لأنه يُرَبَّى على الكفر، ويُحَذَّر مِن نوح -عليه السلام-، قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ........}[غافر:5], {الأَحْزَابُ}, جماعات الكفر، أُمَم الكفر مِن بعد قوم نوح عاد كَذَّبَتْ رسولها، هود -عليه السلام-، ثمود كَذَّبَتْ رسولها صالح، قوم فرعون كَذَّبُوا كذلك رسولهم موسى -عليه السلام- كل هذه الأمُمَ مِن أُمَم الكفر كانت مُمَكَّنَة، قوية، قائمة، ولكنهم كذبوا رسلهم, {وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ}, أي كذبوا كذلك رسلهم, {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}, الهم العزم أكيد كل أمة عزمت على أنْ يأخذوا رسولهم بمعنى أنْ يقتلوه ويهلكوه؛ فقد قال قوم نوح له : {........لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116], وكذلك قالت عاد لهود -عليه السلام- : {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ........}[هود:54], وهددوه كذلك، وثمود تمالؤا على رسولهم، وأرادوا أنْ يقتلوه, {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[النمل:48], {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ........}[النمل:49], البيات هو القتل ليلًا, {........ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[النمل:49], قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50], {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51], {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}, الأخذ هنا بمعنى الأخذ بالهلاك, {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}, جادلوا جدالًا بالباطل كلما تأتيهم حجة مِن الحجج, مِن الله -تبارك وتعالى- على لسان الرسول ردوها، وجابوا حجة بالباطل لا بل أنت ساحر، بل أنت كاهن، بل أنت مجنون، بل أنت، بل أنت، ائتنا بهذه الآية، بهذه الآية, رد لآيات الله -تبارك وتعالى-, {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ}, قاصدين, {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}, الدحض بمعنى الإزلال والإزالة, أي ليزيلوا ويبعدوا الحق عن الناس، ويبقى الباطل الذي يقدمونه للناس، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذْتُهُمْ}, كلمة واحدة بهذه الجملة السريعة، الصارخة، الماحقة، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذْتُهُمْ}, مباشرة, أي أنهم فعلوا هذا مِن الباطل، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذْتُهُمْ}, هكذا سريعًا, {........فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر:5], أخذتهم أخذهم الله -تبارك وتعالى- بالهلاك؛ ففي لمحة عين تحولت أرض قوم نوح إلى لُجَّةٍ عارمةٍ، وركب نوح في السفينة, {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود:40], في لمح البصر انفجرت الأرض بالمياه، وانفجرت السماء بالمياه، وعلت المياه سريعًا سريعًا حتى بلغت كل مكان، وهذا نوح ينادي ابنه, الله يقول : {........وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود:42], {قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ........}[هود:43], لا يوجد مانع اليوم يمنع الإنسان مِن الهلاك مِن أمر الله إلا مَن رحم فقط، وهم أصحاب السفينة فقط, {........إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}[هود:43], وانتهى الأمر, {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود:44], وهكذا الشأن في كل هذه الأُمَم أخذهم الله -تبارك وتعالى- مِن حيث لا يحتسبون في لمح البصر، هؤلاء قوم عاد ظلوا في تمكنهم وعتوهم وجبروتهم وكفرهم وعنادهم، وقالوا لرسولهم : {........فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأعراف:70], وفي لمح البصر جاءهم العذاب يرونه أمام أعينهم, الله يقول : {فَلَمَّا رَأَوْهُ}, رأوا العذاب, {مُسْتَقْبِلَ أَوْهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}, ظنوا أنَّ هذا العذاب الآتي، وهي ريح جاءت شديدة، { قَالُوا}, ظنوا أنَّ هذه الريح تأتي بالمطر بعدها, {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}, قال -جلَّ وعَلا- {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ}, هذا العذاب الذي استعجلتم به, {........رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24], {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ........}[الأحقاف:25], وكذلك ثمود الذين أخذهم الله -تبارك وتعالى- في لمح البصر بصعقة مِن مَلَك, قال : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[هود:67], {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا........}[هود:68], فهذه الأُمَم التي كَذَّبَتْ رسلها، وجادلت بالباطل, {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذْتُهُمْ}, أخذهم الله -تبارك وتعالى- بصنوف العذاب هذه التي ذكرها الله -تبارك وتعالى-, {........فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[العنكبوت:40], {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}, سؤال يراد به التقرير, {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}, والجواب كان عقابًا شديدًا عندما يُنْظَر في هذا العقاب الإغراق, {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25], والصيحة، وهذه الريح العقيم التي تأخذهم، وهذا الغرق، الإغراق في البحر لقوم فرعون لا شك أنه قد كان عقوبة شديدة, كل منهم قد عاقبه الله -تبارك وتعالى- عقوبة شديدة, {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}[غافر:6], {وَكَذَلِكَ}, كهذا الأمر الذي يذكره الله -تبارك وتعالى- وهي عقوبة الكافرين بهذه العقوبات السريعة والماحقة والشديدة, {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}, أصبحت كلمة ربك حقًا, {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}, فأخذهم الله -تبارك وتعالى- هذا الأخذ الشديد والأليم في الدنيا بهذه أنواع هذا العذاب؛ ثم إنهم أصحاب النار في الآخرة أصحابها مُلَّاُكَها، ملازموها؛ فإنهم يلازمون النار ملازمة صاحب الملك لملكه، أو ملازمة الصاحب لصاحبه, أصحاب النار هم أصحابها الذين لا يفارقونها أبدًا, بل هم مصاحبون لها صحبة أبدية -عياذاً بالله-, {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}[غافر:6], نار الآخرة -عياذاً بالله تبارك وتعالى- مِن أحوالهم.
نقف هنا، وأُصَلِّي وأُّسَلِّم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.