الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (574) - سورة غافر 17-24

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومِن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى-:  {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}[غافر:13], {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[غافر:14],{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}[غافر:15], {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:16], {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر:17], {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18], {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19], {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:20].

بعد أنْ بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- المآل الذي سيؤول إليه أهل الكفر والعناد، وأنهم ينادون وهم في النار : {........لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}[غافر:10], ثم يعترفوا؛ فيقول : {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}[غافر:11] ثم يقال لهم : {ذَلِكُمْ}, ما أنتم فيه مِن البقاء والخلود في النار, {........بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}[غافر:12], وصف الله -تبارك وتعالى- نَفْسَهُ الله العلي, الكبير, {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}, المتلوة, {آيَاتِهِ}, المنظورة في الخَلْق, {آيَاتِهِ}, في تصريف هذا الخلق, {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا}, المطر, {........وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}[غافر:13], {فَادْعُوا اللَّهَ}, أمر مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين, {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}, حال كونكم مخلصين دينكم وخضوعكم لله -تبارك وتعالى-, {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}, أي لو كره الكافرون هذا منكم؛ فابقوا على إخلاص دينكم لله -تبارك وتعالى- فإنَّ الله, {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ}, صاحب العرش، العرش سقف كل هذه المخلوقات، كل هذه المخلوقات مِن السموات والأرض هي تحت العرش كحلقة في فلاة، والله -تبارك وتعالى- فوق ذلك المهيمن على كل خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}, {يُلْقِي الرُّوحَ}, هذا الوحي الذي هو حياة للقلوب, {مِنْ أَمْرِهِ}, مِن عنده -سبحانه وتعالى-, {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}, ممن اختراهم الله لإنذار الخَلْق مِن أنبياءه ورسله, {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ}, {لِيُنْذِرَ}, الخَلْق, {يَوْمَ التَّلاقِ}, يوم أنْ يلتقي كل الخَلْق بربهم -سبحانه وتعالى-, {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ}, ظاهرون على وجه صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر, {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}, لا من ذواتهم, {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}, ولا مِن أعمالهم، ولا مِن مكنونات صدورهم كلها ظاهرة أمام الرب -تبارك وتعالى- تُنْثَر, {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9], تُهْتَك, {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10], {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}, يقال للخَلْقِ كلهم، كما جاء في الحديث : «أنَّ الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة يأخذ السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والجبال على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخَلْق على إصبع؛ ثم يحركهن ويقول : أنا المَلِك أين ملوك الأرض», فالله -تبارك وتعالى- هو الملك، يقال لهم : {........لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:16], لا شك أنه قد ظهر، وظهر لكل عين، ولهؤلاء الجاحدين في الدنيا ظهر لهم أنَّ المُلْك الآن, {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}, -سبحانه وتعالى- الواحد في صفاته، وأفعاله -سبحانه وتعالى-  الذي لا يشاركه، ولا يشابهه أحد مِن خَلْقِهِ, {الْقَهَّارِ},  الذي قهر كل شيء؛ فكل شيء تحت قهره، وفي سلطانه -سبحانه وتعالى- سماواته وأرضه كل العالمين إنما هم في قبضته -جلَّ وعَلا- : {........لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:16], {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ........}[غافر:17], {الْيَوْمَ}, هذا يوم القيامة ينادي فيهم, {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}, تأخذ كل نفس جزائها، جزاء عملها خيرًا فخير، شرًا فشر, {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}, لا ظلم نفي لجنس الظلم، لا يوجد أي ظلم لا للمؤمن؛ فإنه لا يبخس مِن أجره  الذي وعده الله -تبارك وتعالى- به، ولا مثقال ذرة، وكذلك الكافر يأخذ جزاؤه وافيًا ولا يُحَمَّل، لا يظلم بأنْ يُحَمَّلَ عليه ذنب غيره، أو يحاسب بعمل لم يعمله، وإنما يحاسب بعمله, {........لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر:17], الله -تبارك وتعالى- سريع الحساب هنا سرعة الحساب في أنَّ هؤلاء الذين نسوا يوم الحساب جاءهم الأمر في غاية السرعة، في إثر ظلمهم وكفرهم, جاء حساب الرب -تبارك وتعالى-, جاءت محاسبة الله -تبارك وتعالى-, وكذلك يحاسب الله -تبارك وتعالى- العباد كلهم كما يحاسب نفسًا واحدة -سبحانه وتعالى-؛ فكل شيء موضوع، وكل شيء منثور أمام الجميع، وكل إنسان سيوقف أمام عمله، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يحاسب الجميع, لا أحد غيره -سبحانه وتعالى-, {........إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر:17].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ}, بعد أنْ بَيِّنَ الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء وهؤلاء، وصفته -سبحانه وتعالى-, وكيف يكون الأمر يوم القيامة, هنا أمر إثر أمر، ووعظ إثر وعظ، وتوجيه الخطاب إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-, {وَأَنذِرْهُمْ}, أي للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, {يَوْمَ الآزِفَةِ}, {أَنذِرْهُمْ}, خوفهم، الإنذار هو الإخبار بما يسوء، خَوِّفْهُم مِن هذا اليوم العظيم, {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ}, سمى الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة الآزِفَةِ؛ لأنه سرعة مجيئه، وفجائته للناس, {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}, مِن الكَمَد والغيظ، وشدة الرعب والإشفاق, {إِذِ الْقُلُوبُ}, يصعد قلب الإنسان إلى حنجرته؛ فكأنه هواء, {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}, الكظم هو إمساك الغضب، والغيظ أنْ ينفجر؛ فيكظم ويكتم الكافر غيظه وآلامه أنْ تنفجر، بل قد حَبَسَ ما فيه مِن الهم والغم والكَمَد, {كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ}, {مَا لِلظَّالِمِينَ}, الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك والتكذيب, {مِنْ حَمِيمٍ}, صديق, سمي الصديق، الصديق الصدوق الذي يحموا ويحتر لصديقه، وتأخذه الغيرة عليه ما هما موجودان, هذا غير موجود صديق, {حَمِيمٍ}, يأتيه الحُمُوّ لصديقه, صديق صدوق مخلص هذا لا يوجد للظالم صديق مَن يغضب له، من يحمو له، مَن يهتم بأمره كل هذا، أولًا كل أحد هو في شأنه وهمه وغمه غير عابئٍ بغيره، بل كما قال الله -تبارك وتعالى- : {........يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11], {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12], {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13], {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14], {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ}, أي حميم لا مِن البشر، ولا مِن غير البشر, {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}, وليس له شفيع, {يُطَاعُ}, أي تطاع شفاعته عند الله -تبارك وتعالى-, لا شافع للكافر، لا يقبل الله -تبارك وتعالى- الشفاعة في كافر؛ فملائكة الله -تبارك وتعالى- الذين عبدهم المشركون لا يشفعون لهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- : {........وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28] فمهما بَذَلَ الكافر يوم القيامة ليجد له شفيع يطيعه في شفاعته، ويعرض عليه الأمر ليشفع له عند الله -تبارك وتعالى- ليس هناك, {شَفِيعٍ يُطَاعُ}, مِمَن يتوسل له مِن هؤلاء, الكافر مهما توسل إلى غيره ليشفع له؛ فلا شفاعة عند الله يوم القيامة, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254], الكافر هو الذي ظلم؛ لأنه كفر بالله -تبارك وتعالى-, {........مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18], {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ}, الله -سبحانه وتعالى-, {خَائِنَةَ الأَعْيُنِ}, وهي مسارقة النظر, الإنسان إذا سارق النظر في ظن مِمَن ينظرون إليه، ومَن يحضرونه؛ فيسارق النظر إلى حرام؛ فهذه النظرة الخائنة التي يرسلها صاحبها إلى حرام، وهو يسارق بها مِن حوله حتى لا يطلعوا عليه، ولا ينظروا إليه الله يعلمها -سبحانه وتعالى-, {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ}, العين الخائنة التي تنظر إلى حرام، أو تفعل حرامًا، أو تأمر بحرام، أو تشير بحرام؛ فهذه يعلمها الله -تبارك وتعالى-, العين الخائنة هذه التي تظن أنه لم يطلع عليها أحد، أو التي تسارق النظر إلى حرام، ولا تريد أنْ يراها أحد هذه يعلمها الله -تبارك وتعالى-, والحال أنَّ هذه مِن العمل الخاطف الذي يفعله صاحبه، وهو يظن أن لا أحد يطلع عليه؛ فالله قد اطلع عليه -سبحانه وتعالى-, {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19], وما تخفيه الصدور مما جعله الإنسان في قلبه ولم يخرجه، وهذه أَسَرُّ السِّر، أعظم الأشياء سرًا وبعدًا عن الإظهار يعلمها الله -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}, {اللَّه}, -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو, {يَقْضِي بِالْحَقِّ}, بين عباده -سبحانه وتعالى-, قضاؤه بالحق بأمره -سبحانه وتعالى- وكذلك قضاؤه في حكمه -سبحانه وتعالى- بالحق، قضاؤه بأنْ يجازى المؤمن بجزائه، وأنْ يجازي الكافر بجزائه كله بالحق, لا يحيف الله -تبارك وتعالى- ولا يظلم, {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}, الذين يدعونهم مِن دون الله -تبارك وتعالى- مهما كانوا مِن ملائكة، مِن بعض الرسل الذين عُبِدُوا عيسى -عليه السلام-، كل الآلهة التي عُبِدَتْ مِن دون الله, {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}, هؤلاء ليس لهم فيحكم الله -تبارك وتعالى- شركة ولا نصيب، بل الحكم كله لله -تبارك وتعالى-, الحكم كله في الخَلْق إنما هو كله لله -تبارك وتعالى- فليس للملائكة حُكْم، وليس للرسل حُكْم، وليس لهم أمر في هذا، وكل ما يُعْبَد مِن دون الله -تبارك وتعالى- فلا حُكْمَ له, إنما الحُكْمُ لله وحده -سبحانه وتعالى-, وقد قال الله لرسوله : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:128], {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ........}[القصص:56], فالحكم كله لله العلي الكبير -سبحانه وتعالى-, لا حكم لأحدٍ مع الله -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}, كل مَن عُبِدَ مِن دون الله -تبارك وتعالى- لا قضاء له في شأن العباد, وإنما حساب العباد كلهم إلى الله, {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25], {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26], لا يحاسب الخَلْق جميعًا إلا خالقهم وبارءهم -سبحانه وتعالى- الله الحَكَم -سبحانه وتعالى-, ولم يوكل الله -تبارك وتعالى- حساب أحد إلى أحد حساب الجميع إليه -سبحانه وتعالى-, {........وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:20], ختم الله هذه الآية بأنه : {السَّمِيعُ}, لكل خلقه -سبحانه وتعالى- فما مِن صوت يخفى على الله -تبارك وتعالى-؛ فكل ما قاله وأَسَرَّهُ الخَلْق الله -تبارك وتعال- سميع به, {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7], فالله هو : {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}, البصير بكل خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, لا تخفى منهم خافية في كل الأوقات، وكل الأزمان الجميع تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وبصره؛ فالله مبصر -سبحانه وتعالى- أسمع به وأبصر -سبحانه وتعالى-, لا أسمع مِن الله، ولا أبصر منه -سبحانه وتعالى-, فلا يغيب شيء عن سمعه وبصره -سبحانه وتعالى-, {........إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:20], وبالتالي هو الذي يحاسب العباد, إذا حاسب العباد فإنما يحاسبهم وفق ما يعلمه -سبحانه وتعالى-, ما عَلِمَهُ منهم, وما رآه منهم -سبحانه وتعالى-, ثم إنه يجعل لهم كذلك شاهد مِن أنفسهم يشهد عليهم, {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29], ثم شاهد مِن نفس الإنسان, {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24], {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25], قال : {........وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس:65], الله -تبارك وتعالى- قد أحصى على كل موجود ومخلوق كل عمله، وكل عمل المخلوق إنما هو ببصر الله -تبارك وتعالى- وسمعه؛ فلذلك هو الذي يقضي بين عباده -سبحانه وتعالى-, {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:20].

ثم ذَكَّرَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المعاندين، المكذبين؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}[غافر:21], {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ}, تذكير مِن الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذبين أنْ يعلموا ما حَلَّ بأسلافهم الماضين, {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ........}[غافر:21], قد ساروا فيها، ورأوا هذا، رأوا مصارع السابقين مِن ديار ثمود, عاد وقرى لوط، وهؤلاء قوم فرعون, {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ........}[غافر:21], والعاقبة النهاية والمآل مأخوذة مِن العَقِب, ماذا آل إليه حال هؤلاء المكذبين الذين كانوا مِن قبلهم؟ {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}, {كَانُوا هُمْ}, هذه الأمم المكذبة كثمود وعاد، وقوم فرعون، وقوم نوح, {أَشَدَّ مِنْهُمْ}, مِن هؤلاء المخاطبين بهذا القرآن, العرب, {قُوَّةً}, قوة في البدن، وقوة في البناء، وقوة في المال، وقوة فيما آتاهم الله -تبارك وتعالى-, {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ}, تركوا آثار عظيمة في الأرض، تركوا أبنية, هذه ثمود تركوا بيوتهم ما زالت منحوتة في الصخر، موجودة، هؤلاء قوم فرعون تركوا آثارهم الباقية على مر الزمان, آثار عظيمة لا يقاس ما يبنيه العرب مِن خيامهم ودورهم الصغيرة بما بناه هؤلاء, {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}, أخذهم أخذ هلاك, أهلكهم الله -تبارك وتعالى-, {بِذُنُوبِهِمْ}, بسبب ذنوبهم، قوم نوح أغرقهم الله -تبارك وتعالى-, قوم فرعون أغرقهم الله -جلَّ وعَلا-, هؤلاء بالغرق، وهؤلاء بالبحر، عاد بالريح العقيم، ثمود بالصيحة، قُرَى لوط بأنْ أَفَكَهَا الله -تبارك وتعالى- على رؤوس أصحابها, {.......فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}[غافر:21], حامي, {وَاقٍ}, يقيهم عذاب الله -تبارك وتعالى-, { مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ}, مِن أحد يحميهم, لا آلهتهم التي عبدوها، ولا حصونهم، ولا قوتهم، ولا ما عندهم ما كان لهم أي حماية لهم مِن عذاب الله -تبارك وتعالى-, بل عندما جاءهم عذاب الله -تبارك وتعالى- لم يستطع أي شيء مما ظنوا أنه يقيهم ويحميهم أنْ يقف أمام عذاب الله -تبارك وتعالى-, {.......وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}[غافر:21], {ذَلِكَ}, أي هذا العذاب لهذه الأُمَم الكافرة, الجاحدة وهم السابقين, {بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا}, {ذَلِكَ}, الإشارة هنا  إلى ما أخذهم الله -تبارك وتعالى- به مِن العذاب, {.......فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}[غافر:21], أشار الله إلى أخذهم هذا بالعذاب، وأنهم لم تنفعهم وقاية وحماية لهم مِن عذاب الله, {بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا}, {بِأَنَّهُمْ}, بأنَّ هؤلاء القوم الظالمين الذين أهلكهم الله, {كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا}, البينات الدلالات، الواضحات مِن الله -تبارك وتعالى- سواءً كان هذا الطريق النَّيِّر الذي يدعوهم إليه، أو كان المعجزات البَيِّنَة الواضحة التي قامت لتصدق هؤلاء الرسل, كذلك هذه البراهين الساطعة التي كانت مع الرسل على ما يدعونهم إليه, {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا........}[غافر:22] ردوا هذا، وجحدوا هذا الأمر، وستروا أدلة التوحيد, عند ذلك, {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ}, أخذ هلاك, أخذهم الله -تبارك وتعالى- بمعنى أهلكهم, {........إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[غافر:22], {إِنَّهُ}, الله -سبحانه وتعالى-, {قَوِيٌّ}, أقوى مِن كل خلقه -سبحانه وتعالى-, لا مجال لقوة المخلوق أمام قوة الخالق -سبحانه وتعالى- هذا البشر مهازيل، ضعاف، فلا صمود لهم أمام عقوبة الرب -تبارك وتعالى-, {........إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[غافر:22], عقوبته شديدة, انظر كيف عاقب هؤلاء المكذبين، قوم نوح الذين أغرقهم، قوم عاد الذين استأصلهم، قوم ثمود الذين أبادهم الله -تبارك وتعالى- بصعقة مَلَك, إذا نظرت في عقوبة الله -تبارك وتعالى- للسابقين وجدت أنَّ الله -تبارك وتعالى- أخذهم بعقاب شديد إنَّ الله, {قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}, مِن صفاته -سبحانه وتعالى-.

بعد هذا بدأ فاصل مِن السورة طويل في بيان هذه المعاني متمثلة في قوم نوح، تمثل المعاني الكفر والعناد مع مجيء الآيات, واحد انظر هؤلاء قوم كفوا وعاندوا وجاءتهم الدلالات, الواضحات، وجاءتهم النُّذُر والتذكير مِن كل مكان، وفي هذه السورة يعرض الله -تبارك وتعالى- نذير مضاف إلى دعوة موسى -عليه السلام-، وهو المؤمن مِن آل فرعون, الذي يُذَكِّرُ قومه بتذكير طويل؛ ثم يكون في النهاية الجحود والكفران؛ ثم تأتي عقوبة الله -تبارك وتعالى-, وتأتي عقوبة الله للمكذبين، وإنجاء الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان؛ فهذا نموذج وبرهان لما قص الله -تبارك وتعالى- في مقدمة هذه السورة؛ سورة المؤمن، سورة غافر, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[غافر:23], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنه هو الذي أرسل موسى النبي؛ نبي بني إسرائيل -عليه السلام- مِن أولي العزم مِن الرسل, {بِآيَاتِنَا}, آيات الله -تبارك وتعالى- المعجزات التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يديه عصاه ويده السمراء التي يدخلها في جيبه؛ فتخرج بيضاء, ثم الآيات الأخرى التي أجراها الله -تبارك وتعالى- عقوبات لقوم فرعون على كفرهم, {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[غافر:23], {سُلْطَان}, سلطة، قوة، ظاهرة، بَيِّنَة، قاهرة كهذه الآيات، قال : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133], والرجز الذي نزل عليهم, هذه آيات لها سلطة واضحة، بينة؛ فإنه قد تسلطت عليهم الضفادع مثلاً آية مِن آيات الله -تبارك وتعالى- ويأتي الضفدع؛ فيدخل إلى كل مَخْدَع، وإلى كل مكان، وفي كل تخوم الأرض، وفي كل أماكنها, ينام الإنسان؛ فيجد الضفادع في فراشه يتكلم؛ فإذا بها تقفز إلى داخل فمه, أمور عظيمة جدًا مِن الآيات العظيمة التي لها سلطة، قاهرة تجبر كل ذي لُبّ، وذي عقل على أنْ يزعن لما تشير إليه هذه الآيات, لكن انظر بعد ذلك نتائج هذا مع الكفار, {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[غافر:23], سلطان, واضح، بَيِّن مِن حجته الحجة البيانية القاهرة، وكذلك الآيات الساطعة، الواضحة، البينة, {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[غافر:24], أرسل الله -تبارك وتعالى- موسى بهذه الآيات، وبهذه السلطان المبين إلى هؤلاء رؤوس الكفر, {فِرْعَوْنَ}, وهو رأس القَبْط ومَلِكُهُم, {وَهَامَانَ}, وزيره, {وَقَارُونَ}, الذي كان مِن قوم موسى، ولكنه كان مع فرعون ومواليًا له, وطاغيًا باغٍ على قومه بني إسرائيل, {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا}, أي جميعهم, {سَاحِرٌ كَذَّابٌ}, اتهموا موسى بأنه ساحر، وليس رسولًا مِن الله -تبارك وتعالى-, ونسبوا الآيات التي جاء بها إلى السِّحْر، وليس إلى أنها آيات الله -تبارك وتعالى-, {كَذَّابٌ}, فيما يقوله أنه رسول مِن عند الله -تبارك وتعالى-, والحال أنه رسول مِن عند الله -تبارك وتعالى- وقد قال لموسى : {........إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:104]، وقال له : {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ........}[الأعراف:105], لكنهم قالوا : {سَاحِرٌ كَذَّابٌ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ........}[غافر:25], قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}[غافر:25], {فَلَمَّا جَاءَهُمْ}, أي موسى, {بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا}, مِن عند الله -تبارك وتعالى-, {قَالُوا}, هذا ردهم, {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}[غافر:25].

 سنعود -إنْ شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.