الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (58) - سورة البقرة 198-203

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد...

يقول الله -تبارك وتعالى-:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة:198].

هذا تيسير من الله -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين الذين يُحْرمون بالحج أو العمرة, أنه لا جناح عليهم لا حرج ولا إثم عليهم في أن يبتغوا فضلا من الله -تبارك وتعالى- بالتجارة, أو العمل, أو أي كسبٍ يكسبون به المال, وهم في أثناء إحرامهم بالحج, ثم قال -جل وعلا-:{... فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة:198]. الإفاضة من عرفات الدفع منها, والاتجاه نحو المزدلفة, وعرفات هو المكان, وعرفة هو الزمان وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «الحج عرفة», فهو أعظم أركان الحج, وأعلى المشاعر فيه, وقد وقف فيه النبي -صلوات الله وسلامه عليه- في عرفة, أي في يوم عرفة بعد أن صلى الظهر والعصر في هذا اليوم جمعًا وقصرًا, ثم وقف يدعو الله -تبارك وتعالى- إلى أن غربت الشمس, فجمع بين النهار وبين جزء من الليل, ثم دفع من عرفة إلى مزدلفة -صلوات الله وسلامه عليه- وقد جاء في صفة حجته -صلى الله عليه وسلم- أنه بعد أن دفع كان قد ركب أسامة خلفه يقول أسامة: ثم إن النبي مال إلى الشام, فقضى حاجته وتوضأ وضوءًا خفيفًا, فقلت له: الصلاة يا رسول الله. فقال: "الصلاة أمامك". ركب وسار النبي حتى أتى مكان المشعر الحرام, الآن في المزدلفة فأناخ وأذن, فصلى المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا كذلك, ثم نام النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر, فقام فصلى صلاة الفجر ثم وقف يدعو الله -تبارك وتعالى- إلى أن أسفر الوقت جدًا, ولم تشرق الشمس ثم دفع من المشعر الحرام جمعا إلى منى لرمى جمرة العقبة, وقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لضعاف المسلمين وأهل الأعذار منهم أن يدفعوا من المشعر الحرام بعد منتصف الليل عند مغيب القمر, كما جاء في حديث أسماء -رضي الله تعالى عنها- وفي حديث ابن عباس قال: "كنت ممن أذن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وذهبت على ضعفة", وكذلك حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن سودة بنت زمعة زوجة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- استأذنته, وكانت امرأة ثقيلة أن تدفع عن زحمة الناس فأذن لها النبي, وتقول أمنا عائشة: "تمنيت أني كنت استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم-  كما استأذنه من استأذنه" فيقول الله -تبارك وتعالى-: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وقد بينا كيفية ذكر هذا, بينه النبي -صلى الله عليه وسلم-, وذلك بصلاة المغرب والعشاء فيه في المزدلفة, وصلاة الفجر بعد ذلك فيه, ثم ذِكْر الله -تبارك وتعالى- بعد صلاة الفجر حتى تقارب الشمس من الشروق, وخالف النبي في هذا سنة المشركين, في أن المشركين كانوا يقفون في المشعر الحرام حتى تشرق الشمس, وتشرق والإنسان في المزدلفة خلف جبل معروف اسمه ثبير, وكانت العرب تقول: "أشرِق ثبير كيما نغير", فخالفهم النبي ودفع قبل شروق الشمس -صلوات الله وسلامه عليه-.

ثم قال -جل وعلا-: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي اذكروا الله -تبارك وتعالى- كما هداكم لهذه المناسك ولهذه الأعمال العظيمة, التي بها تنالون مرضاتَه -سبحانه وتعالى- وتفوزون عنده بالأجر العظيم والثواب الجليل, فهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- بكم وإحسانِه وتفضلِه عليكم, فاذكروا هذه النعمة لله -تبارك وتعالى- اذكروه كما هداكم لهذا الأمر ووفقكم.

 {وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّين} من قبلِ بعثة هذا النبي وإنزال هذا الكتاب وبيان هذا التشريع, {كنتم من الضالين}, العرب الجاهلون المشركون كانوا يحجون ويقطعون المسافات البعيدة ويعملون أعمال الحج, غيروا فيها وبدلوا, ولا ثواب لهم ولا أجر لهم, لأنها تقع على الشرك بالله -تبارك وتعالى- مع شركهم بالله ومع كفرهم ومع إنكارهم للبعث, فقد كان الضلال يحوطهم من كل جانب, فأعمالهم حابطة لا أجر لهم فيها, مع ما يبذلونه من التعب والمشقة, إلا أنه لا أجر لهم في هذا, شركهم وكفرهم وأداء كذلك العبادة على غير وجوهه الصحيحة, فاذكروا الله -تبارك وتعالى- واشكروه أن هداكم ووفقكم إلى شرعه ودينه وتوحيده, وبهذا تنالون مرضاته وتنالون ثوابه -سبحانه وتعالى-,-:{... وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة:198].

 ثم قال -جل وعلا-: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ........}[البقرة:199], من حيث أفاض الناس من أول التشريع من أول ما شرع الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر على لسان إبراهيم, والإفاضة إنما تكون من عرفة, وأما قريش فإنها قد اختصت نفسها بمناسك خاصة بها, كانوا يسمون أنفسهم الحُمْس, ومن التشريعات الخاصة التي شرعوها ألا يقفوا بعرفة, وإن كل الناس غيرهم يقفون بعرفة إلا هم, يقولون نحن أهل بيت الله, وأهل حرمه, ولا يحق لنا أن نخرج خارج الحرم, وعرفة من خارج الحرم, فجعلوا هم بأنفسهم قريش حجه في داخل الحرم, فكان حجهم المزدلفة, فإذا أفاضوا ورجعوا إلى منى, يرجعون من مزدلفة ولا يرجعون من عرفة, وأن عرفة كانت لعموم الناس العرب إلا هم, هذا من جملة ما اختصوا به أنفسهم, وكذلك اختصوا أنفسهم بأنهم وحدهم الذين يحق له أن يطوفوا بالبيت بثيابهم, وأما غير القرشي فلا يحل له أن يطوف بالبيت بثيابه, فيجب أن يطوف إما عاريًا, وإما بثياب يستعيرها من قرشي, وإما بثيابه ولكن يجب عليه أن يبقيها بعد أن يطوف بها, فإنها عندهم تصبح هذه من أنجس النجاسات, فكان من يستحى منهم أن يطوف عاريًا, كان يطوف بثيابه, ثم يجمع هذه الثياب ويلقيها بعد الطواف, وكان في مكان له تلقى فيه وتسمي اللقي, وكان لا يقربها أحد لما يعتقدون أنها نجسة شديدة النجاسة, فهذه أمور اخترعها وابتدعها الحُمْس وهم قريش لنفسها.

 قال -تبارك وتعالى-:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.........}[البقرة:199] أي من عرفة, الجميع قرشي وغير قرشي, والنبي قرشي ولذلك لما حج النبي راح وقف بعرفة -صلوات الله وسلامه عليه وسلم- وقال وقفت ها هانا, وعرفة كلها موقف حتى استنكر هذا بعض المسلمين الذين كانوا يظنون أن هذا خطأ, قال: هذا يقول رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عرفة فقلت ما شأنه هنا وهذا من الحمس؟ فأنزل الله -تبارك وتعالى- {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.......}[البقرة:199] فلا فرق بين قرشي وغير قرشي في هذا, بل يجب على الجميع أن يقفوا في عرفة ويفيضوا من عرفة إلى مزدلفة ثم إلى منى.

{واستغفروا الله} أي: اطلبوا المغفرة من الله -تبارك وتعالى- لكم لذنوبكم, فهذا موطنٌ تغفر فه الذنوب؛ لأنه موطنُ طاعة, وكذلك استغفروا الله من التقصير, والتقصير في أداء الأمر على وجهه الصحيح, وكذلك استغفروا الله -تبارك وتعالى- في أنكم إن قمتم بهذا العمل فإن حاجتكم إلى إحسان الرب -تبارك وتعالى- وأن يكمِّل لكم ما أنقصتموه محتاجون, فالعبد دائمًا في موضع تقصير مهما بالغ وأدى العبادة, فإنه لا يعبد الله -تبارك وتعالى- كما ينبغي لله -عز وجل-, ولا يتقى الله كما يجب له -سبحانه وتعالى- من التقوى, واستغفروا الله لتقصيركم وتفريطكم, ولأن هذا موطنٌ يستجاب فيه الدعاء, وأعظم ما يطلبه العبد من الله -تبارك وتعالى- أن يغفر ذنبه, فهذا هو منتهى المطلوب؛ لأن من غفر ذنبه وتجاوز الله -تبارك وتعالى- عن خطيئته فمعنى ذلك أنه قبله -سبحانه وتعالى-, ولا مطالبة يطالبه الله -تبارك وتعالى- بها؛ ولذلك كان هذا أعظم ما مَنَّ الله به على عبده محمد -صلوات الله وسلامه عليه- أن قال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:1-2].

 ثم لما حثهم الله -تبارك وتعالى- على أن يستغفروه -جل وعلا-؛ فهو أهلٌ لأن يتقى ولأن يغفر, هو أهل التقوى وأهل المغفرة قال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفورٌ أي أنه كثير المغفرة -سبحانه وتعالى-, والمغفرة هي ستر هذه العيوب, وهذه الذنوب وتعفية عليها, رحيمٌ بعباده -سبحانه وتعالى- فإنه يقبل توبة التائب ورجوع الراجع إليه مع تقصيره ومع ذنبه إلا أن الله -تبارك وتعالى- يرحمه ويقبل توبته ويقيل عثرته -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا -:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة:200].

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} مناسك الحج أعمال الحج ما شرعها الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} أي اذكروا الله ذكرًا كثيرًا كذكركم آباءكم أو أشد من ذكركم لهم, وقد قيل أن السبب في هذا أن العرب من تعظيمها للآباء والأجداد كان هذا المقام يجتمعون فيه ويشيد كل منهم بآبائه ونسبه, وجههم الله -تبارك وتعالى- إلى أن يذكروا الله كذكرهم أي السابق لآبائهم وإشادتهم بهم, فإن الرب -تبارك وتعالى- هو ربهم خالقهم المتفضل عليهم المنعم عليهم -سبحانه وتعالى- ولا شك أن نسبتهم إليه أعظم من نسبتهم إلى الآباء, فيجب أن يكون تعظيمهم لله -تبارك وتعالى- أكثر مما كانوا يعظمون آباءهم, ويشيدون بذكرهم {أو أشد ذكرًا}, من ذلك قال -جل وعلا-: {........ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة:200], وهذا قد كان شأن العربي الجاهلي, كان يحج ولكنه بعد أن يبذل ما بذل في الحج من النفقة والمال والسفر والجهد كان لا يطلب من الله -تبارك وتعالى- إلا هذه الدنيا؛ لأنهم لم يكونوا يؤمنون بالآخرة, ما كانوا يؤمنون بالثواب الأخروي, بل بالبعث أصلًا كانوا ينكرون البعث إنكارًا, يحجون ولكن كان يأتي أحدهم بعد أن يتم الحج فيقول: يا رب قد أتيت من بلاد بعيدة وأنفقت نفقة كثيرة, وأديت المناسك, ووقفت بعرفة, وطفت وسعيت, ورميت الجمار, وفعلت وفعلت, فهب لي إبلًا وزوجةً جميلةً, وهب لي كذا, وهب لي كذا, ويطلب من الله -تبارك وتعالى-  أمور الدنيا, ولا يفكر أن يطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يغفر خطيئته, أن ينيله الجنة, أن ينجيه من عذاب الآخرة, لم تكن هذه بالبال ولا بالحسبان, بل كانوا ينكرون البعث إنكارا كاملًا, قال -جل وعلا-: {فَمِنَ النَّاسِ} أي ناسًا بعضهم {مَن يقول} بعد الحج {ربنا آتنا في الدنيا} بس, يطلب من الله -عز وجل- أن يؤتيه في هذه الدنيا {وماله في الآخرة من خلاق}, ليس له في الآخرة أيّ نصيب, ليس له في الآخرة أيّ نصيب؛ لأنه لم يؤمن بها, فإذن لا يفيده عمله الذي عمل من أعمال الخير, سواء كانت عبادة على هذا النحو, أو نفعًا للناس فإنه لا يستفيد بذلك كما جاء في حديث الصحيحين حديث أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-  عائشة  أنها قالت:« يا رسول الله عبد الله بن جدعان كان يطعم الحاج ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق -فهذا رجل كان له عمل عظيم أي في الحج من خدمة الناس ومن إطعامهم مجانا- هل ينفعه ذلك؟ فقال النبي: لا إنه لم يقل اليوم رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» أي أن عبد الله بن جدعان ومن على شاكلته أي من العرب كانوا يعملون هذه الأعمال, وإن كانت أعمال خير في نفسها, إلا أنهم لم يكونوا يريدون بها الآخرة, لم يكونوا يريدون بها وجه الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة أن ينجيهم الله من عذاب يوم القيامة, وأن يدخلهم الجنة, وإنما كان عملهم للدنيا فقط, {فمن الناس من يقول} أي بعد حجه وبعد نفقته: {ربنا آتنا في الدنيا} بس, فكل دعائه من أجل الدنيا قال -جل وعلا-: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وما له في الآخرة من خلاق من نصيب, {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}, أي من الناس ناس, هؤلاء هم أهل الإيمان وأهل التقوى, الذين عرفوا الحق, آمنوا بالآخرة {من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة} أعطنا في الدنيا حسنة, وحسنة الدنيا كل ما ينعم الله -تبارك وتعالى- به على عبده من الأمن والسلامة والعفو والمعافاة والمال والأولاد, كل ما هو من نعم الدنيا هذه حسنتها, {وفي الآخرة حسنة} حسنة الآخرة هي الجنة, وهذه هي أعظم حسناتها -رضوان الله تبارك وتعالى- والفوز بجنته -جل وعلا-.

 {وقنا عذاب النار} {وقنا} الوقاية الحماية أي احمنا يا رب –سبحانك- من عذاب النار, وهذا الدعاء أشمل وأجمع دعاء, فإنه جمع الخير كله في الدنيا والآخرة, {........ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة:201], جمع كل الخير يطلبه الإنسان في الدنيا والآخرة, وكذلك استعاذ بالله -تبارك وتعالى- من أعظم الشرور وهو عذاب النار, ولذلك شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته أن يقولوا هذا الدعاء في أشرف المواطن في الحج وهو بين الركنين في الطواف, الركنين اليمانيين: الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر, هذا المكان أُثِر عن النبي أنه كان يقول في هذا المكان: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 قال جل وعلا-: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة:202] أولئك أي هؤلاء أهل الهدى واللب والعقل, الذين هداهم الله -تبارك وتعالى- والذين يعملون هذه العبادة العظيمة ويطلبون من الله -تبارك وتعالى- حسنة الدنيا والآخرة, ويطلبون منه أن يقيهم من النار {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا........}[البقرة:202] لهم نصيبٌ أجرٌ وجزاءٌ من الذي كسبوا, لا يضيع الله -تبارك وتعالى- كسبهم {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}, الله سريع الحساب -سبحانه وتعالى-, سرعة الحساب هنا سرعة المجازاة, أي أنه سريع في مجازاة العبد -سبحانه وتعالى-, فإنه قد يدعو الإنسان الآن ويثيبه الله -تبارك وتعالى- في التو واللحظة, وهذا من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-, فليعلم العبد أنه قد يدعو في هذه الدنيا بحسنة الدنيا, ثم تأتيه إجابة الله -تبارك وتعالى- في التو واللحظة, فهو سريع الحساب, المحاسبة بالخير والشر؛ فإنه قد يفعل الشر فيسرع الله -تبارك وتعالى- في عقوبته, ويفعل الخير ويطلب الخير فكذلك يناله هذا بأمر سريع, لا يكاد  ينزل يديه حتى تكون الإجابة حصلت, كما كان الرسول والصحابة يرفعون أيديهم إلى السماء يطلبون الغيث, وليس في السماء قطعة غيم واحدة, ثم لا يكادون ينزلون أيديهم من الدعاء حتى ينهمر المطر عليهم من السماء, فالله -سبحانه وتعالى-  سريع الحساب -سبحانه وتعالى-.

كذلك من معاني أنه سريع الحساب -سبحانه وتعالى- أنه يحاسب هؤلاء العالمين يوم القيامة حساب نفس واحدة, فيخاطب ويحاسب كل إنسان في هذا الموقف كلهم في وقت واحد كنفس واحدة -سبحانه وتعالى-, وليس فردًا بعد فردٍ, فإنه لله لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ -سبحانه وتعالى-.

{أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} توجيه من الله -تبارك وتعالى- للعباد أن يعلموا أن الله -تبارك وتعالى- يثيبهم وينيلهم في التو واللحظة -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جل وعلا-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة:203].

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} هي أيام منى, اذكروا الله -تبارك وتعالى-, وذكر الله -جل وعلا- إنما يكون بالصلاة, أي في مواقيتها, كما كان النبي يصلى في منى, ويصلي كل صلاة في وقتها في المكان الذي نزل فيه وهو موضع مسجد, المسجد المسمى والمعروف الآن مسجد الخير, وكذلك رمي الجمار سن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته في هذا أن يرموا الجمار في هذه الأيام المعدودة, وهي ثلاثة أيام, يومان للمتعجل وثلاثة أيام للمتأخر, وهي الحادي عشر, والثاني عشر, والثالث عشر, فالمتعجل يرمي في الحادي عشر, والثاني عشر من ذي الحجة, والعيد يوم العاشر, والمتأخر الحادي والثاني وعشر والثالث عشر.

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} أي هذا قول الله في أيام معدودات, أنها تيسير للهدي, وأنه لا يحبسكم في هذا المكان أيام طويلة, وإنما هي أيام معدودات يومين أو ثلاث.

{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يومين} أي إنهاء الحج  والسفر, {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فلا إثم عليه, ليس للتعجل فقط, ولكن فلا إثم عليه مطلقا, أي قد غفر ذنبه غفر الله -تبارك وتعالى- سيئاته وقد تم حجه وغفر ذنبه, {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ومن تأخر إلى اليوم الثالث, كذلك فلا إثم عليه, قد قبل الله حجه وغفر ذنبه, هنا فلا إثم نفي للإثم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رجع من حجه كيوم ولدته أمه, فهذا المتعجل في يومين, قد أتم الحج, والمتأخر كذلك, هذه الزيادة هي خير, وقد تم حج الجميع, ثم قال الله -تبارك وتعالى-: {لِمَنِ اتَّقَى}؛ حتى يبين أنه ليس كل من أدى الحج فقد غفر ذنبه, وإنما اشترط الله -تبارك وتعالى- هذا لمن اتقى, وهنا هذه التقوى اسم جامع, بمعنى أنه خاف الله -تبارك وتعالى-, ومعنى أنه خاف الله وجعل وقاية بينه وبين الله, يدخل فيها أنه أولا: أخلص عمله لله, ثانيا: أداه على النحو المشروع, كما أمره الله -تبارك وتعالى-, ثالثا: لم يخرج عن هذا العمل بمحظور يفسد حجه, أو ينقض عمله هذا الأمر الثالث, فهذه ثلاثة شروط, لابد أنها تتحقق ليتحقق معنى التقوى, أولا: أن يكون قد فعل هذا الفعل لله -تبارك وتعالى- فأحرم ولبى لله, كما هو القول: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك), فإذا حقق معنى هذه التلبية, في أنه جاء؛ مطيعًا ملبيًا لله, يريد وجه الله -تبارك وتعالى- ومخلصًا نيته لله -تبارك وتعالى-, وليس له مقصدٌ آخر إلا هذا, فهذه واحدة, الأمر الثاني أن يكون قد أدى الحج على النحو الذي شرعه الله -تبارك وتعالى-, وبينه النبي -صلوات الله وسلامه عليه- هذا الأمر الثاني, الأمر الثالث: ألا يكون قد خرج عن أعمال الحج بعمل يفسده, فخرج عن محظورات الإحرام, عن أعمال الحج, لم يفسق فيه, فإنه كما قال الله تبارك وتعالى-:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}, والنبي قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه», فهذا الذي فلا إثم عليه لمن اتقى, فمن اتقى الله -تبارك وتعالى- وحج على هذا النحو, فهذا هو أي شرط من لا إثم عليه.

ثم قال -جل وعلا-:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} لما جاء ذكر الله, أمر الله -تبارك وتعالى- عباده أن يتقوه في كل الأوقات, وكل الأزمان {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}, هذا أعظم دافعٍ وحاملٍ على التقوى, اعلموا أيها العباد, أنكم إليهِ لا إلى غيرهِ -سبحانه وتعالى- تحشرون تجمعون, والذي يعلم من قرارةِ قلبهِ أنه محشورٌ إلى اللهٍ -تبارك وتعالى- وأن هناك يومًا سيأتي فيه, ويقف بين يدي اللهِ -تبارك وتعالى-, وأن الله المطلع على كل شيءٍ, الذي لا يخفى عليه خافية, وهو معه, وهو الذي سيحاسبه, وهو الذي سيتولى شأنَ حسابهِ منه, ستكون العقوبة منه -سبحانه وتعالى-, ستكون المثوبة منه كذلك, فهذا لا شك أنه يتقى الله -تبارك وتعالى- ويخاف الله -عز وجل-, وقد قال جل وعلا-:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] مقام ربه أي مقامه بين يدي ربه -سبحانه وتعالى, {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}, وقال {إليه تحشرون}, ولم يقل تحشرون إليه؛ ليبين أن حشر العباد إليه, لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-.

اسأل الله العظيم أن يرزقنا تقواه في كل وقت وحين, استغفر الله لي ولكم من كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.