لحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:30], {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت:31], {نُزُلًا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت:32], {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33], {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34], {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35], {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِن الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36].
يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}, {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}, هذا إيمانهم، وهذا قول صادق منهم، قالوه بألسنتهم، واعتقدوه بقلوبهم، وعملوا بمقتضى هذا الإيمان الذي آمنوا به بجوارحهم؛ فاستقاموا على أمر الله, {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}, أي ساروا في الصراط المستقيم صراط الله -تبارك وتعالى- وهذا الصراط كل أوامره مستقيمة، قيمة، وهو موصل إلى الله -تبارك وتعالى-, وهذه الجملة تشمل كل الدين؛ لأنَّ الدين اعتقاد وعمل؛ فالاعتقاد الإيمان ثم العمل كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به هذا داخل في الصراط المستقيم داخل في الاستقامة, في أمر الله؛ ثم البعد عما نهي الله -تبارك وتعالى- عنه كذلك, {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ.........}[فصلت:30], عند الموت، تنزل عليهم الملائكة عند الموت, {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا}, هذه البشرى، وهو الوقت الذي يلقى فيه، ويشاهد فيه المؤمن الملائكة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنَّ العبد المؤمن إذا كان في إقبال مِن الآخرة، وإدبار مِن الدنيا جاءه ملك الموت؛ فجلس عند رأسه، وأتته ملائكه بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم حنوط مِن الجنة، ومعهم كفن مِن الجنة؛ فجسلوا منهم مد بصره؛ فيراهم يراهم وهذه بشرى؛ فهذه بشرى المؤمن أنْ يرى ملائكة الرحمة أمامه؛ فيقول مَلَك الموت لروحه أخرجي أيتها الروح الطيبة كانت تسكن في الجسد الطيب فتخرج روحه تفيض مِن بدنه كما تفيض القطرة، يقول النبي كما تفيض القطرة مِن في السقاء أي أن خروجها كما يخرج الماء مِن فم القربة بكل سهولة ويسر خروج الروح المؤمن مِن جسده، يقول النبي ؛ فلا يدعونها في يده لا تدع ملائكة الرحمة روح المؤمن في يد مَلَك الموت طرفة عين؛ فيأخذوها؛ فيحنطوها بذاك الحنوط الذي معهم، ويكفنونها بذلك الكفن؛ ثم يصعدون بها إلى السماء الأولى؛ فتفتح بهم الأولى، الثانية إلى السماء التي فيها الله -سبحانه وتعالى- فكلما مروا بها على ملأ مِن الملائكة شموا كأطيب ريح مسك وجد على ظهر الأرض؛ فتقول الملائكة روح مِن هذا الطيب؛ فيقولون : روح فلان ابن فلان بأطيب أسماءه التي يسمى بها في الدنيا؛ ثم يقول الله -تبارك وتعالى- أنْ ردوا روح عبدي إليه؛ فإنى منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى؛ فترد روحه إلى بدنه في قبره؛ فيأتيه ملكان؛ فيسألانه مَن ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول ربي الله، وديني الإسلام، وأقول في هذا الرجل أي النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- هو عبد الله ورسوله آتانا بالهدى مِن ربنا؛ فآمنا وصدقنا؛ فينادي منادٍ مِن قِبَلِ الله -تبارك وتعالى- فيقول الله -تبارك وتعالى- إنْ صدق عبدا؛ فافرشوا له فراشًا مِن الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة؛ فيشار إليه، وهو في قبره إلى مقعده في الجنة هذا مكانك يوم يبعثك الله، ويقال له : نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب أهلها إليها؛ فعند ذلك يقول : ربي أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومآلي؛ فهذه بشرى الله -تبارك وتعالى- بنزول الملائكة على العبد المؤمن يبشرونه, {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا}, فيما أنتم مقدمون عليه, {وَلا تَحْزَنُوا}, فيما تخلفونه خلفكم مِن أهلكم وأولادكم لا خوف للمستقبل، ولا حزن على الماضي, {........وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:30], يبشرونهم, {........بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:30], كان يعدهم الله -تبارك وتعالى- إياها هنا على ألسنة رسله، وفي ما أنزل في كتابه -سبحانه وتعالى-, {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}, أبشروا سيجزيكم الله -تبارك وتعالى- وعده الذي وعدكم به بدخول الجنة, {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ........}[فصلت:31], كلام الملائكة للمؤمنين, {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ........}[فصلت:31], قد كانوا أولياء للمؤمنين في الدنيا بالإلهام، بالتثبيت، بالدعاء والمحبة؛ فإنَّ الملائكة هم أولياء أهل الإيمان، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنه مَن جلس في المسجد بعد الصلاة يذكر الله -تبارك وتعالى- فإنَّ الملائكة تصلي عليه ما لم يحدث، أو يخرج، تقول : اللهم اغفر له، اللهم ارحمه, كذلك تحفه الملائكة إنَّ لله ملائكة سَيَّارِينَ يبلغوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمتي السلام يسمعوا السلام؛ فيبلغوه للنبى -صلوات الله والسلام عليه-, «ما مِن قوم يجلسون في بيت مِن بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونهه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده», «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع», ما يؤدي العبد المؤمن طاعة مِن الطاعات إلا كان الملائكة يستغفرون له، ويسترحمون له، يدخلون عليهم في بيوتهم، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «لا تدخل الملائكة بيت فيه كلب ولا صورة ولا جرس», مفهوم هذا أنَّ البيوت، بيوت أهل الإيمان التي فيها الطاعة، وفيها الرحمة بعيدة عن هذه المعاصي تدخلها الملائكة تثبيتهم في مواطن الشدة، والجهاد، كما قال -تبارك وتعالى- للمقاتل عن المقاتلين والمجاهدين في بدر كيف ثبتهم : {إذ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال:12], فالملائكة؛ ملائكة الله -تبارك وتعالى- مخالطون في هذه الحياة خلطة النصرة والتأييد والإلهام والتثبيت والدعاء لأهل الإيمان؛ فقد كانوا أولياؤهم, {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ........}[فصلت:31], هم أولياؤهم لأنه بمجرد ما ينفخ في الصور النفخة الثانية، ويقوم الناس مِن قبورهم يتلقى أهل الإيمان ملائكة الله -تباركم وتعالى-؛ فيبشرونهم بالجنة، ويقودونهم إلى منازل الآخرة منزلًا، منزلًا حتى إذا كانوا بالجنة استقبلوهم بالبِشْرِ والترحاب والسلام, {........يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بَابٍ}[الرعد:23], {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24], فيسلمون عليهم، والملائكة يدخلون عليهم مِن كل باب مِن أبواب الجنة, {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24], {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إذا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:73], فهذا مقولة خزنة الجنة حيث يرحبون بأهل الجنة, يقولون لهم : {........سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:73], فالملائكة تبشر أهل الإيمان عند الموت، وتقول لهم : {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا........}[فصلت:31], كنا أولياؤكم, {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}, كذلك نحن أولياؤكم محبوكم, ناصروكم، مرحبون بكم، المسلمون عليكم, {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ}, لكم فيها في هذه الآخرة، وهي جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه, {مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ}, ما تتمنوه وتشتهونه وتحبونه, تحبه النفس, {........وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت:31], {تَدَّعُونَ}, تطلبون ليس تطلبون مما تعرفون، بل مما تقترحون، ومما لا تعرفون، ومما تتخيلون وتتصورون كله يأتي؛ فأي دعوة تَدَّعُونَهَا، لو كان الأمر هكذا، لو كان الله -تبارك وتعالى- يأتينا بكذا يأتيهم في التو والحال, {........وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت:31], {نُزُلًا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت:32], {نُزُلًا}, الجنة النزل هو الضيافة ما يقدم للضيف عند نزوله؛ فهذه ضيافة الله -تبارك وتعالى-, وهي ضيافةٌ باقية أخبر الله -تبارك وتعالى- أنَّ جنته وضيافة منه -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين باقية بقاءً لا ينقطع، ولا ينتهي؛ فهم في جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، وفي نزله الدائم, الباقي, عطاء غير مجذوذ, {نُزُلًا مِن غَفُورٍ}, مسامح -سبحانه وتعالى- قد ستر عيوبكم، وعفي عن ذنوبكم, {رَحِيمٍ}, بكم -سبحانه وتعالى-؛ فكل الذي نالهم هذا مِن إخراجهم مِن الظلمات إلى النور، تثبيتهم على الطاعة، قيادة مسيرتهم إلى الله -تبارك وتعالى- وتأييدهم في هذا الطريق بملائكته, كل هذا مِن رحمته -سبحانه وتعالى-, ثم إدخالهم بعد ذلك جنته ورضوانه -جلَّ وعَلا-, {نُزُلًا مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ}[فصلت:32], الذي رحم بهم -سبحانه وتعالى- على هذا النحو العظيم.
ثم قال -جلَّ وعَلا- وكأن لِمَا أعطى الله -تبارك وتعالى- وأحسن هذا الإحسان لعباده المؤمنين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33], سؤال يراد به التقرير، ويراد به أنَّ هؤلاء المؤمنين الذين استحقوا هذه الكرامة العظيمة عند الله -تبارك وتعالى- وجاءتهم البشرى هكذا قبل أنْ يخرجوا مِن هذه الدنيا، ويقدموا على الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، وكُرِّمُوا هذا التكريم، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ........}[فصلت:33], والجواب لا أحد أحسن قولًا مِن هذا؛ فأحسن قول ممكن يقال هو الذي {دَعَا إلى اللَّهِ}, فالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أحسن القول، وذلك أنه دعا إلى مَن دعا؟ دعا إلى ربه -سبحانه وتعالى- ودعوة الرسل والأنبياء وأتباعهم كلها في أساسها دعوة إلى الله -تبارك وتعالى- كما قال الله إلى رسوله، وقال : {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ........}[النحل:125], فلا أحسن قولًا مِن هذا، لا قول يعدل هذا القول، الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ الدعوة إلى الله هي الحق، الله خالق السموات والأرض، رب العالمين، المنعم، المتفضل، الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ فالدعوة إليه، الكلام بالدعوة إليه أفضل الكلام، لا كلام خيرًا مِن أنْ يكون دعوة إلى الله -تبارك وتعالى-, {وَعَمِلَ صَالِحًا}, فهو داعٍ إلى الله, ثم عامل بالأعمال الصالحة, أي أنه موافق لما يدعوا إليه, {........وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33], {........وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33], شهد أن لا إله إلا الله, وأنَّ محمدًا رسول الله، وإعلان هذا أنْ يقول للناس : {إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}, ليكون هذا إعلان لهم، ودعوة لهم أنْ يسلكوا سبيلهم, مِمَن يدخل في هذا المؤذن، المؤذنون؛ لأنَّ المؤذن هو يُطَبِّق هذا عندما يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله؛ فهذا يُعْلِنُ إيمانه, ثم عندما يقول : حي على الصلاة، وحي على الفلاح دعا إلى الله -تبارك وتعالى-, والدعوة إلى الصلاة هي الدعوة إلى أشرف الأعمال, أشرف عمل مِن أعمال الإنسان الصلاة, {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33], وقد جعل الله -تبارك وتعالى- مِن الخير والإحسان لكل داعٍ إليه أمر عظيم جدًا, «مَن دعا إلى خير كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه, لا ينقص ذلك مِن أجورهم شيء», فكل مَن دعا إلى خير، واستجيب له, كل استجابة لهذا الخير يجعل الله -تبارك وتعالى- للداعي أجر مثل أجر المستجيب دون أنْ ينقص مِن أجر المستجيب هذا الذي أجاب داعي الله شيء مِن عمله، ولكن يأخذ الداعي أجر مساوٍ لأجره, «مَن دعا إلى خير كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه, لا ينقص ذلك مِن أجورهم شيء», {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِن الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34], هذه وصية مِن الله -تبارك وتعالى- توجيه أمر مِن الله -تبارك وتعالى- ولعله لهؤلاء المؤمنين، الطيبين، الداعين إلى الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ........}[فصلت:34], في ميزان الله -تبارك وتعالى- أين الحسنة؟ أين السيئة؟ الحسنة هي الأمر الحسن مما أمر الله -تبارك وتعالى- به، وكذلك مِن تجنب ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه هذا حسنة باعتبار ترك السوء حسنة كذلك؛ فهذا الذي لا تستوي هذه الحسنة، ولا السيئة, السيئة فعلها سميت سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها مَن يفعلها تسوؤه في الدنيا، وفي الآخرة, الله رتب على مَن فعل هذه المعاصي أنْ يساء بها, {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ........}[فصلت:34], قال -جلَّ وعَلا- : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}, ادفع السيئة بالحسنة, خذ الحسنة وتمسك بها لتدفع بها السيئة هذا في كل الأمور، وفي باب المعاملة، معاملة الخَلْق؛ فليكن هذا؛ فالإحسان إلى الناس غير الإساءة إليهم, إذا أحسنت لإنسان بالسلام عليه, بطيب الخُلُق، بالصلة، بهدية، بأمر بمعروف، بنهي عن المنكر كل ما هو داخل في باب الإحسان، والإساءة إلى شخص سبه، شتمه، عيبه، العدوان عليه؛ فهذا، وهذا الله -تبارك وتعالى-, يخبر بأنَّ معاملة الخَلْق على هذا النحو لا يستوي أنْ تعاملهم بالحسنة، وأنْ تعاملهم بالسيئة، قال -جلَّ وعَلا- : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}, ادفع السيئة فيمن إذا نالتك سيئة مِن أحد؛ فادفعها بما هو أحسن منها تخلق أنت بالخُلُقِ الكريم الذي تدفع به هذه السيئة؛ فلا ترد سيئة بسيئة، وإنما رد السيئة بأحسن منها؛ فَمَن سابك، أو شاتمك، أو قاتلك، أو اعتدى عليك، أو اغتابك لا تقابل سيئته بسيئة، وإنما قابل سيئته بحسنة, {........ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34], أنْ يبلغ بك الأمر في دفع السيئة بالحسنة إلى هذا المبلغ أنْ تعامل مِن بينك وبينه عداوة, {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}, كأنك تعامل وليك الحميم، الولي؛ الناصر, المحب عامل هذا العدو الذي بادءك وناصبك العداوة أنْ تعامله كأنه ولي لك، محب لك, {حَمِيمٌ}, والحميم هو الصديق القوي في صداقته سمي حميم؛ لأنه يحموا لصديقه، ويغضب له، وينصره بكل سبيل، ولا شك أنَّ هذه منزلة عظيمة مِن المنازل، وأمر يحتاج إلى صبر عظيم، قال -تبارك وتعالى- : {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا........}[فصلت:35], هذه الوصية مِن الله -تبارك وتعالى- ويؤدي هذه الخصلة العظيمة مِن خصال الخير, {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}, لا بد أنْ يكون مِن أهل الصبر؛ فإنَّ مقابلة السيئة بالحسنة أولًا تحتاج إلى صبر عظيم حتى يصبر؛ لأنه سيصبر على الأذى الذي ناله مِن سب، أو شتم، أو غيبة، أو عدوان، أو غير ذلك فمن هذا الباب؛ فيصبر على هذا, {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا}, هذه الخصلة العظيمة, {........إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35], {حَظٍّ}, نصيب, {عَظِيمٍ}, حظ وهذا الحظ مِن الله -سبحانه وتعالى-, ومِن تيسيره وإفضاله -سبحانه وتعالى- أنْ يرزقه الله -تبارك وتعالى- الحِلْم على هذا النحو، ومقابلة سيئة الناس بالإحسان إليهم؛ فهل هو حظ عظيم مِن الله -تبارك وتعالى- عطاءً, أم حظ عظيم أنه مِن الله -تبارك وتعالى- تيسيرًا لهذا العبد، وكسبًا هذا وهذا, يشمل هذا وهذا؛ فإنَّ الحِلْم والأناة والتخلق بهذا الخُلُق ممكن أنْ يكون شيء يجبل الله -تبارك وتعالى- العبد عليه، وممكن أنْ يكون كذلك أمر يتخلق به؛ فالدليل على أنه ممكن أنْ يكون مجبل عليه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لزيد الخير الذي سماه النبي زيد الخير لما جاء إلى النبي في وفد -صلوات الله والسلام عليه- قال له : إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحِلْم والأناة؛ فقال : يا رسول الله, خصلتان تخلقت بهما أم جُبِلْت عليهما، قال : بل جبلت عليهما؛ فقال : الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله، ومعنى جُبِلْت أي خُلِقْتْ أنها عطاء مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ جَبَلَهُ، وأنْ خَلَقَهُ على هاتين الخصلتين مِن الأخلاق العالية الكريمة، وهي الأناة، الأناة هو التأني في الأمر، وعدم التسرع فيه، والحِلْم هو الصبر والإحسان وعدم الإسراع في مقابلة السيئة بالسيئة, هذا في باب الأخلاق الجِبِلِيَّة التي يعطيها الله -تبارك وتعالى- هبة ومنحة منه -سبحانه وتعالى- ويجبل بعض خلقها عليها أيضًا أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- مِن الأخلاق الكريمة مِن التخلق بما قال -صلوات الله والسلام عليه- «إنما العلم بالتعلم, وإنما الحِلْم بالتحلم», فالحِلْم بالتحلم بأنْ يحلم الإنسان، يصبر على الأذى مرة تلو المرة تلو المرة؛ فإذا به بعد ذلك يتعلم هذا الحِلْم، كما قيل للأحنف بن قيس أو غيره وكان مِن أحلم الناس، قيل له : كيف تعلمت الحلم؟ فقال: كنا عند فلان مِن الناس، وكان يحدثنا محتبيًا؛ فجاءه آتٍ, جاء مجموعة معهم رجل موثق قد أوثقوه، وقيل له هذا ابن أخيك قد قتل ابنك؛ فقال : والله ما فك حبوته، واستمر في حديثه للقوم الذي كان يحدث به القوم, ثم رفع بصره إلى هذا الموثق؛ فقال له : يا ابن أخي قطعت يدك، وأسأت إلى أرحامك؛ ثم قال : فكوه, أمر بأنْ تفك قيوده، وعفي عنه، وهو ابن أخيه، وقد قتل ابنه؛ ثم قال : أعطوا لأُمِّه وهي أم الولد، وهي زوجته مائة مِن الإبل؛ فإنها غريبة؛ فالدية دية الابن أعطاها لأمه؛ لأنها غريبة ليست مِن جماعته مِن القبيلة؛ فانظر هذا, انظر هذا الموقف شخص يأتيه مَن يخبره بأنَّ هذا ابن أخيه، وقد قتل ابنه، وانظر صبره، وحِلْمَهُ، وأنه لا يقطع حديثه عن جلسائه؛ ثم يقضي هذا القضاء، وهو جالس برباطة جأشه وبصبره وتحمله، ويفك هذه القضية على هذا الأمر؛ فالحِلْم بالتحلم, بالتحلم بتعلم الحِلْم، وقد يكون تعلم الحِلْم بكذلك بمصاحبة أهل الحِلْم؛ فإنَّ مصاحبة أهل الحِلْم يتعلم الإنسان منهم، وكذا تعلم الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فقد كانوا حلماء, كرماء تعلموا هذا مِن الوحي المنزل مِن فعل النبي -صلوات الله والسلام عليه- فكم أوذي النبي وهو أمام أبصارهم، وتحمل هذا الأذى، وقابل الإساءة -صلوات الله والسلام عليه- مرات ومرات بالإحسان، كما في الحديث؛ حديث أنس أنَّ أعرابيًا جاء؛ فجبذ النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان على النبي بُرْد نجراني خشن؛ فجبذه منه جذبة شديدة يقول أنس : أثرت في صفحته, جاء مِن خلفه، وجبذ النبي في صفحة عنقه، وقال : يا محمد, أعطني مِن مال الله الذي عندك، يقول : التفت إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم تبسم له، وأمر له بعطاء هذه واحدة مِن مواقف عديدة للنبي -صلوات الله عليه وسلم- تبين منزلته مِن الصبر والحلم -صلوات الله والسلام عليه- فهذا خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لنبيه، وخطاب للمؤمنين بأنْ يتصفوا بهذه الصفات الحسنة، وخاصة في مجال وهم يدعون إلى الله -تبارك وتعالى-, {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34], ثم قال -جلَّ وعَلا : {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا........}[فصلت:35], لا يلقى هذه الخصلة فيتخلق بها، ولا يلقى هذه الوصية, {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}, هذه الخطوة الأولى, {........ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35] فضل عظيم مِن الله -تبارك وتعالى- جبلة مِن الله أو تعلمًا وتحلما, نقف هنا.
أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.