الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (59) - سورة البقرة 204-210

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد...

فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد أيها الأخوة الكرام

يقول الله -تبارك وتعالى-:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }[البقرة:204-207] بعد أن انتهت هذه السورة الكريمة سورة البقرة من بيان أحكام الحج، وقال -تبارك وتعالى- في ختام هذا البيان: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ........}[البقرة:203]  وأن بعد أيام من منى الكل قد غفر ذنبه، من اتقى الله -تبارك وتعالى- فمن تعجل في يومين من أيام منى ومن تأخر إلى اليوم الثالث فكله فلا إثم عليه، ثم اشترط الله -تبارك وتعالى- لذلك شرط التقوى، كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » وأمر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك بتقواه فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لما ختمت آيات الحج عند ذلك بين الله -تبارك وتعالى- صورتين من صور الناس، الصورة العليا في الشر والإفساد أعلى صور الإفساد في البشر وأعلى صور الخير في البشر، هذا النموذج الخالص في الشر والإفساد، والنموذج الخالص في الخير والبر .

 فقال -جل وعلا-: -:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من الناس أي بعضهم -:{ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} يعجبك قوله لأنه يقول كلام الحق إن كان يشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأنه يحب الله ويحب رسوله ويحب دينه ويقول بالحق وبالخير، ولكنه كلام باللسان فقط ومع هذا هو يشهد الله على ما قلبه بمعنى أنه يقول الله شهيد على ما في قلبي وإني أقول الحق، وأن هذا الذي أقوله بلساني إنما هو ما اعتقده بقلبي قال -جل وعلا-:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}أي هذا القائل بلغ الغاية في النفاق بل قلبه مليء بالحقد على الإسلام وعلى أهله، فهو ألد الخصام. الألد اللدد هي شدة الخصومة وهو أعلى أنواع اللدد وهي اللجاجة والجرأة والجلد في خصومة من يخاصم، فهو أشد الخصماء خصومة ولددًا ، وعداءً وتوغلًا في خصومته وهذا الذي يكره الرسول على هذا النحو ويكره الإسلام على هذا النحو، ويخاصم هذه الخصومة لا شك أن قلبه أسود مليء بالكفر والحقد ومع هذا فإن لسانه وظاهره كما يقال يقطر عسلًا يعجبك قوله في الحياة الدنيا.

 ثم قال -جل وعلا-:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة:205]وإذا تولى أي خرج من عندك وأصبح وحده بعيدًا، سعى في الأرض السعي هو المشي السريع، الجري بمعنى أنه سارع في الإفساد سعى في الأرض ليفسد فيها، وكلمة ليفسد فيها كلمة عامة فإن الإفساد في الأرض يعني كل المعاصي وكل المعاصي إفساد في الأرض فالشرك ومقالاته كلها أنواع الشرك وعبادة غير الله -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك العدوان بقتل النفس بأكل الحرام، بالزنا، بشرب الخمر، كل هذا إفساد في الأرض.

{وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} كذلك هو من الإفساد خص كأنه بذكر الخاص بعد العام الهلاك الحرث، الحرث الزراعة والعدوان على الزراعة من أعظم الإفساد لأنه قد يقتل مثلًا إنسان توقعوا منه الشر، وقد يزني قد يسرق أما أن يتعرض للزرع الذي لا ضرر منه ولا فساد منه وكذلك النسل الذرية سواء كان هذا النسل نسل حيوان نافع أو نسل إنسان، فهذا يدل على أنه متأصل في الفساد ولا يحب شيئا من الخير والصلاح لا من البشر ولا أن يرى زرعًا قائمًا ولا نسلًا قائمًا وهذه غاية الإفساد، فهذا قد جمع النفاق كله وجمع الفساد كله فهذا أعظم نموذج للكفر والإفساد، الكافر الظاهر مخلد في النار ومفسد –لكن- أشر منه الكافر في الباطن أي هو المنافق لأنه كافر ثم ادعاؤه الإسلام إفساد كذلك، وذلك أنه يفعل هذا ليأمن له المسلمون يخالطهم يتزوج منهم يطلع على عوراتهم، فهو أشد إفساد من الكافر الظاهر ولذلك كانت عقوبة المنافق أكبر من عقوبة الكافر الأصلي، فالكفار المنافقون تحت الكفار في النار{........ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء:140] فبدأ بهم وقال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ ........}[النساء:145] والدرك الأسفل المنزل السفلى كلها  والنار دركات كلما تعمق الدرجة فيها كانت عذابها أشد فهذا أعظم أنواع البشر إفسادًا.

 قال جل وعلا-:{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} أي نوع من الإفساد اللي هو ضد الصلاح حتى لو بإزالة زرعة نافعة أو بقتل طير أو حشرة نافعة كنحلة، هذا لا يحبه الله -تبارك وتعالى- كل أنواع الإفساد لا يحبها الله -تبارك وتعالى- فكيف بما هو أكبر من هذا من إهلاك الحرث والنسل من التعدي على حرمات الله -تبارك وتعالى- من القتل من الكفر، فالله لا يحب الفساد كله -سبحانه وتعالى-، وبالتالي هو لا يحب المفسدين -جل وعلا-.

قال -جل وعلا- عنه كذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ........}[البقرة:206] إذا قيل لهذا المنافق المفسد اتق الله خاف الله -تبارك وتعالى- اجعل بينك وبين عقوبة الله -تبارك وتعالى- وقاية فإنه يزداد قال -جل وعلا-:{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} أي ينتفخ وينتفش ويشعر بالعزة، العزة أي الغلبة وبالإثم الذي هو فيه أي أنه يفتخر به ويتباهى به بعد ذلك، وأنه فعل هذا لأنه هو الحق ورد قول من ذكره بالله -تبارك وتعالى- وقال اتق الله قال جل وعلا-:{ ........فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة:206] حسبه تكفيه عقوبة عند الله -تبارك وتعالى- جهنم النار التي أعدها الله -تبارك وتعالى- للمنافقين والكفار ولبئس المهاد قال -تبارك وتعالى-: { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أصل المهاد هو المهد هو ما يوطئه الإنسان لنفسه من فراش ونحوه، فتسوية الأرض ووضع فراش ونحوه هذا مهد، وذلك نسمي ما نصنعه للطفل الصغير من نسميه مهد أنه مكان ممهد مرتب ليستقر عليه الطفل . النار سماها الله -تبارك وتعالى- مهادًا وذلك لأنها فراش من نار ولا شك أن هذا الفراش الممهد ليس مكان مهيئ للراحة بل هو شر مهد وهو أن يكون الإنسان فراشه النار عياذًا بالله، والنار كذلك فأهل النار فراشهم نار، وغطاؤهم نار، وجدران سجنهم نار، كما قال -تبارك وتعالى-:{........ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29] فبئس مهدًا مكانًا ممهدًا له أن يكون هو النار عياذًا بالله، فحسبه جهنم ولبئس المهاد استهزاء به كذلك وذلك أنه كان يستهزئ بأهل الإسلام ويذكر أنه مؤمن وأنه يشهد الله على ما في قلبه مقالته، فإن الله -تبارك وتعالى- يستهزئ به، ولبئس المهاد ولبئس مهادًا مهدنا له وهيئنا له ليكون مرجعه إليه، هذه صورة نقدر نقول صورة كاملة في الإفساد والكفر والعناد، صورة أخرى اللي هو صورة النموذج الكامل للإيمان قال -جل وعلا -:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }ومن الناس بعض الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله شرى بمعنى باع واشترى بمعنى أخذ، يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله أي يبيع نفسه لا يريد بذلك إلا وجه الله -تبارك وتعالى- يبيع نفسه لله -تبارك وتعالي- ابتغاء ما عند الله -جل وعلا- هذا الذي يقدم نفسه في الجهاد يضع أمواله في سبيل الله يحقق قول الله -تبارك وتعالى-:{.. إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }[الأنعام:162-163]قال كثير من السلف المفسرين إن هذه الآية نزلت في مثل صهيب بن سنان الرومي -رضي الله تعالى عنه- وذلك أنه عندما أراد أن يهاجر كان مقيمًا في مكة من الأوائل الذين آمنوا بالنبي -صلوات الله وسلامه عليه- لما أراد الهجرة قال له المشركون يا صهيب أتيتنا فقيرًا لا مال لك، أي اغتنيت عندنا تريد أن تخرج بمالك، والله لا ندعوك تخرج به أبدا فقال لهم: أرأيتم لو أعطيتكم مالي أتتركونني؟ قالوا: نعم. فأعطاهم ماله كله. ثم يعني هاجر دون ماله وقابله عمر بن الخطاب -رضي الله تبارك عنه- ومجموعة من المسلمين عند الحرة وهو قادم في المدينة، وقال له النبي: يا صهيب ربح البيع ربح البيع يا صهيب فهذا شرى نفسه أي باع نفسه لله -تبارك وتعالى-، فقال تنازل عن ماله كله ليهاجر إلى الله ورسوله فهذا النموذج الكامل الإيمان، وهو الذي يجود بنفسه كلها لله -تبارك وتعالى- يجود بماله لله .

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ..}[البقرة:207] لا يريد إلا إن يرضى الله -تبارك وتعالى- عنه{ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغامدية التي جاءت فاعترفت بالزنا وقالت: يا رسول الله طهرني. حتى أن النبي ردها عدة مرات فقال لها: أشاح النبي بوجهه أول ما جاءت قالت له: أصبت حدًا فأقم علي الحد فأشاح النبي عنها، فقالت له: أتريد أن تردني كما رددت ماعزًا؟ فقالت له: إنني حبلى من الزنا. فقال لها النبي: اذهبي حتى تضعي، فذهبت فوضعت، ثم جاءت فقالت: قد وضعته يا رسول الله أقم علي الحد، فقال لها النبي: اذهبي حتى تفطميه فذهبت حتى فطمته، ثم أتت به وفي يده كسرة من الخبز يأكلها، عند ذلك دفع النبي الطفل إلى من يتولاه، ثم أمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فرجمت، ثم وهي ترجم قال خالد بن الوليد كلمة فقال له النبي: مه يا خالد وهل رأيت أفضل من أن جادت بنفسها لله ؟ قال له: هل رأيت أفضل يعني من أفضل من عمل هذه المرأة قد جادت بنفسها لله، فإنها قدمت نفسها لتقتل على هذا النحو طهرة لها عند الله -تبارك وتعالى-، فجادت بنفسها لله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله.

 قال -جل وعلا -:{ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} رءوف بالعباد فإنه -سبحانه وتعالى- من رأفته وإحسانه أمرهم بما يستطيعون، وما يمكن أن يكلفوه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها -سبحانه وتعالى- ولا فالله -تبارك وتعالى- فهو واهب الأموال والأنفس وإنما يأمرنا -سبحانه وتعالى- بما هو في طوق والاستطاعة والمكنة والله رءوف بالعباد شديد الرحمة بهم -سبحانه وتعالى-

 هذان نموذجان انظر النموذج الأول نموذج الإجرام والكذب واللدد في الخصومة والسعي الإفساد في الأرض وإهلاك ما لا يأتيه منهم مضرة، فهو يعادي حتى ما لا يأتي منه مضرة له كالنسل والزرع فهي صورة للمفسد الكاذب الكافر، والصورة الثانية للمؤمن التقي الورع الخائف من الله -تبارك وتعالى- الذي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله -جل وعلا- .

بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- هذين النموذجين دعا عباده المؤمنين إلى أن يدخلوا في شرائع الإسلام كلها، قال -جل وعلا-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[البقرة:208-209] هذا نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى عباده المؤمنين يصفهم أو يسميهم باسم الإيمان ويناديهم بهذا الاسم حضًا لهم وتحريضا لهم على ما يأمرهم به -سبحانه وتعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } قالوا في السلم شرع الإسلام وسمي السلم لأن الدخول في شرائع الإسلام يعني السلامة من كل آفة والسلامة من عذاب الله -تبارك وتعالى-، والسلم كذلك هو الأمن أي أن يأمن الإنسان لا خوف عليه ولا هو يحزن إذا كان دخل في شرائع الإسلام جميعًا، أي نفذ ما أمره الله -تبارك وتعالى- به وانتهى عما نهاه الله -تبارك وتعالى- عنه كما قال -جل وعلا:- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}[الأنعام:82] فالأمن والأمان إنما يكون لمن دخل في شرائع الإسلام جميعًا، وليس هناك معصية عليه يرتهن بها، لأن المعصية ترهن العبد ويبقى تحت الوعيد أما إذا كان بغير معصية، أو جاء المعصية وفر منها إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذا يكون في الأمن والسلامة، أما الذي له معصية تلزمه فإنها ترهنه ويبقى تحت تهديد وتحت الوعيد، فمن هذا جعلت شرائع الإسلام الدخول في شرائع الإسلام هي السلام لأنها أمن من عقوبة الله -تبارك وتعالى- سواء كانت العقوبة دنيوية أو عقوبة أخروية وذلك لأن الله -تبارك وتعالى- قد يعجل العقوبة في الدنيا للفرد العاصي وللجماعة العاصية، وقد يؤخرها في الآخرة -سبحانه وتعالى- .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}كافة في كل شرائع الإسلام جميعًا كلها {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}لا تتبعوا خطوات وخطوات جمع خطوة، والخطوة هي نقلة للقدم، وخطوات الشيطان أي كأنك تسير خلفه، والشيطان اسم جنس ورأسه إبليس الذي أبى السجود لآدم، وأخذ بعد ذلك على نفسه العهد والميثاق أمام الله أن يعمل في إضلال بني آدم وأن يأخذ منهم من يستطيعه إلا من شاء الله -تبارك وتعالى- من عباده المخلصين ويأخذهم إلى النار، فهو عدو مبين بين العداوة وقال لله -تبارك وتعالى-: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62] وقال {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:16-17]فهذا الشيطان الله قال فيه: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} إبليس وذريته جنس الشيطان، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال له فاذهب فإن جهنم جزاءكم جزاءً موفورًا {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا }[الإسراء:64-65]فهذا الشيطان من اتبعه وسار خلفه في خطواته هذا لا شك أنه يريده الجحيم، لماذا؟ لأنه عدو فكما كأن الإنسان يسير خلف عدوه والذي يسير خلف عدوه الذي يتربص به الشر ويريد به الشر معروف إلى ما سيصحبه، والشيطان يصحب من يتبعه إلى النار قال -جل وعلا-: إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ يا أيها الذين آمنوا عَدُوٌّ مُبِينٌ عدو مبين، عدو بين العداوة ظاهر العداوة وهو لا يخفي هذا بل أعلن هذا أمام أبيكم، أمام الرب -تبارك وتعالى- وهو مستمر في هذه العداوة.

 قال جل وعلا-:{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:209] هذا تهديد ووعيد منه -سبحانه وتعالى- لأهل الإيمان أن خذوا شرائع الإسلام كلها ادخلوا في السلم كافة واحذروا أن تسيروا خلف الشيطان {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:209] إن زللتم زل بمعنى زلق، وترك الطريق وتنحى عنه ووقع في الاثم { مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} من بعد ما آتاكم من الله -تبارك وتعالى- البينات هي الأدلة الواضحة التي تبين طريق الرب -تبارك وتعالى- تحذركم مما حذركم منه، وتبين لكم ما يأمركم به الله -تبارك وتعالى- أي إن أخذتم عاندين طريق الشر وتحولتم إلى معصية الرب -تبارك وتعالى- سواء بترك الطاعة أو بفعل المعصية {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ..}[البقرة:209] وعرفتموها { أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} هذا إخبار منه -سبحانه وتعالى- بأن اعلموا أيها المؤمنون أن الله عزيز غالب لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى- فلا أحد يغلب الله -تبارك وتعالى- حكيم يضع الأمر كله أمر في نصابه، وجمع الله -تبارك وتعالى- بين العزة وبني الحكمة ليبين أن عزته وغلبته -سبحانه وتعالى- وبطشه وعقوبته إنما تقع حيث ينبغي أن تقع لأنه حكيم -سبحانه وتعالى- ينزلها فيمن يستحق، فهو حكيم، فهو ليس غالبًا فقط بل هو غالب وحكيم -سبحانه وتعالى- غالب للكل وحكيم يضع كل أمر -سبحانه وتعالى- في نصابه فجمع بين العزة والحكمة ليبين أن بطشه وعقوبته إنما هي نازل حسب عدله وبحسب حكمته وفيمن يستحقها من عباده .

بعد هذا الوعيد كذلك وعيد قال -جل وعلا-:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[البقرة:210]هل ينظرون أي ينتظرون أي هل ينتظر من يخالف طريق الرب -تبارك وتعالى-، ويتخذ ويسير خلف شيطانه وعدوه إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور، هذا ما سيكون يوم القيامة أي ماذا ينتظر من يتجرأ على معصية الرب -تبارك وتعالى-؟ هل ينتظر إلا يوم القيامة حيث يأتيهم الله مجيء الرب -تبارك وتعالى- كما قال -تبارك وتعالى-: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}[الفجر:22] يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، هذا يكون يوم القيامة وهذا مجيء الرب -تبارك وتعالى- لاشك أنه حق وهو مجيء يليق بذاته -سبحانه وتعالى- لا يُسأل عن كيفيته لأن هذه الكيفية كيفية اتصاف الله –تبارك وتعالى- بصفات غير معلومة لأن ذات الله -تبارك تعالى- غير معلومة لنا، فنؤمن بما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عن نفسه بلا كيف، فإذا أخبرنا الله -تبارك وتعالى- أنه استوى على عرشه، نؤمن بأنه استوى على عرشه، لكن كيف؟ لا تعرف الكيفية، أو بأنه يسمع ويبصر، نؤمن بسمعه وبصره لكن بلا كيف ونؤمن كذلك بأنه يتكلم -سبحانه وتعالى- كما قال -جل وعلا-:{ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10]

فنداء الله لموسى وكلامه له كيف لا يعرف الكيفية وإنما نعلم أنه ناداه -سبحانه وتعالى- وأنه كلمه كل صفات الله -تبارك وتعالى- نؤمن بها كما اخبر الله جل وعلا بلا كيف .

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ...}[البقرة:210] ظلل جمع ظلة والظلة هي ما يظلك، أي أنها كبقات من الغمام والملائكة يأتون وذلك لفصل الخطاب والملائكة قد سبق أنهم عالم من خلق الله -تبارك وتعالى- خلقهم الله من نور ولهم قدرات وقوى أكبر مما تتصوره عقولنا، وهم كرام لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فيأتي الملائكة كذلك ليحيطوا بالناس في يوم القيام وقضي الأمر انتهي الأمر {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} قضي الأمر انتهت المجال ولا مجال بعد ذلك لأن يصحح الإنسان خطأ أن يتوب من ذنب أن يستأنف عملًا جديدًا، فمن مات على الكفر فلا مجال له ليصحح هذا ولا أن يعود، وكذلك من مات على معصية لم يتب منها خلاص أصبح مرتهنًا بها وهي الآن كل الأمور الآن بين يدي الله -تبارك وتعالى- لفصل القضاء وقضي الأمر والى الله ترجع الأمور.

سجدت الكتب مات الإنسان بعث أصبح الحكم لله -تبارك وتعالى- والقضاء في كل ما فعله الإنسان أصبح بين يدي الله -تبارك وتعالى- هو الذي يحكم بين عباده -جل وعلا-:

نكتفي الآن بهذا ونعود إلى التفصيل في حلقة قادمة.