الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (593) - سورة الشورى 11-14

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[الشورى:10], {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11], {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الشورى:12], {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13].

قول الله -تبارك وتعالى- : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ........}[الشورى:10], فالله -تبارك وتعالى- هو الذي له الحكم في كل شئون خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى- الحكم الكوني القَدَرِي، والحكم الشرعي الديني؛ فهو الذي يشرع لعباده المِلَّة والطريق والمنهج والصراط الذي يسيرون فيه، وقد شرع لعباده في كل أعمالهم كما أنزل كتابه القرآن تبيانًا لكل شيء؛ فالتشريع كله له -سبحانه وتعالى-, وبالتالي الحكم الشرعي كله له، وكذلك الحكم الكوني القَدَرِي؛ فإنه له -سبحانه وتعالى- فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن, {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ........}[الشورى:10], وهذا فيه دعوة إلى أنْ يكون رد الخلاف في كل أمر إلى الله -سبحانه وتعالى- وإلى رسوله؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكم بأمر الله -تبارك وتعالى-, كما قال -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59], {ذَلِكُمُ}, إشارة إلى الرب -سبحانه وتعالى-, {اللَّهُ رَبِّي}, هو الذي له الحكم -سبحانه وتعالى-, {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}, أمر الله لرسوله أنْ يكون توكله بمعنى تسليمه للأمر كله لله -تبارك وتعالى-, {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}, إليه أرجع في كل شأن مِن شئوني، وأرجع في كل خروج عن الطاعة؛ فالإنابة والرجوع إليه -سبحانه وتعالى-, {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا........}[الشورى:11], الله -سبحانه وتعالى-, {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, لأنه خلقها على غير مثال، وأنه هو الذي بدأ خلقها -سبحانه وتعالى- لم يخلقها أحد قبله، ولم تكون موجودة قبل أنْ يخلقها الله -تبارك وتعالى-, بل الله هو موجدها -سبحانه وتعالى-؛ فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، أولٌ بلا ابتداء, آخرٌ بلا انتهاء -سبحانه وتعالى-, وخَلَقَ الخَلْق جميعًا كان الله كما قال النبي : «كان الله ولا شيء معه وكتب في الذِّكر كل شيء», فهو فاطر السموات والأرض، والذي بدأ خلقها -سبحانه وتعالى-, {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا........}[الشورى:11], زوجات؛ فالأنثى مِن الرجل بدأها الله -تبارك وتعالى- بحواء التي خلقها مِن ضلع آدم؛ ثم جعل نسل الإنسان ذَكَر وأنثى مِن اجتماع الذَّكَر والأنثى, {وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا}, كذلك, {الأَنْعَامِ}, وهي بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم والماعز التي عليها حياة الناس في طعامهم وشرابهم، مِن ألبانها، وانتفاعهم بأصوافها وجلودها وأوبارها، وكون هذه الأنعام تتزاوج كذلك ذكر وأنثى ليتم النسل، وتكثر وتستسمر على هذا النحو, {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}, يخلقكم الله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر  في كون ذكر وأنثى, {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}, مِن كل هذه المخلوقات ,لا شيء يماثل الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ الله هو الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد, أما كل المخلوقات فلها أشباه مِن جنسها، أزواج, {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}[يس:36], فالله خَلَقَ كل شيء أزواج, كل شيء خَلَقَهُ الله له أشباه مِن جنسه, أما الرب -سبحانه وتعالى- فإنه الواحد الأحد الذي ليس له شبيهٌ، وليس له مثيلٌ، وليس له شريكٌ -سبحانه وتعالى- {........لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11], {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}, إثبات السمع والبصر لله علمًا أنَّ السمع والبصر قد يوصف به المخلوق, يوصف به المخلوقات, بل إنَّ المخلوقات الدنيا توصف بالسمع والبصر, ولكن ما يثبت لله -تبارك وتعالى- مِن السمع والبصر هو لائق بجلاله -سبحانه وتعالى-, وما هو ثابت مِن صفة السمع والبصر للمخلوق؛ فهو مناسب لحاله؛ فهذه الآية جمعت الإثبات والتنزيه, الإثبات في إثبات الصفات لله, {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}, والتنزيه تنزيه الله -تبارك وتعالى- أنْ يكون في أي صفة مِن صفاته مشابهًا لِخَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}, {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ........}[الشورى:12], {لَهُ}, لله -سبحانه وتعالى-, {مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, المقاليد المفاتيح, كل مفاتيح خزائن السموات والأرض هي بيده -سبحانه وتعالى-, مفاتيح الخَلْق، الرزق, كل ما يقدره الله -تبارك وتعالى- فخزائنه, {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}[الحجر:21], فالله -تبارك وتعالى- هو الذي لَهُ مفاتيح, {مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}, البسط التوسعة, بَسْط الرزق للعبد في ماله، في أولاده، في إطالة عمره, كل هذا ما يرزقه الإنسان إنما هو بيد الله -تبارك وتعالى-, {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ}, مِن العباد, {وَيَقْدِرُ}, يضيق, تضييق الرزق كذلك إنما على بعض عباد الله -تبارك وتعالى- إنما هو بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وكونه وقدره؛ فليس بحظ الإنسان وجدارته، وأنَّ هذا أمر يخلقه الإنسان ويوجده بِنَفْسِهِ، لا إنما هو إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فهو الذي يوسع على مَن يشاء، ويضيق على مَن يشاء -سبحانه وتعالى-, {........يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الشورى:12], {إِنَّهُ}, الله -سبحانه وتعالى-, {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}, منه هذا بسط الرزق وتضييقه؛ فهذا أيضًا أنَّ هذا بعلم الله -تبارك وتعالى- وبعلمه وبحكمته, يعلم إنَّ المؤمن هذا يصلح له أنْ يُبْسَطَ له؛ فيبسط ينفعه التضييق عليه؛ فيضيق يفعل هذا عقوبة لبعض الناس، وفتنة للآخرين, هذا أمر كله راجع إلى حكمته وعلمه -سبحانه وتعالى-, {........إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الشورى:12].

أيضًا مِن صفاته -جلَّ وعَلا- : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ........}[الشورى:13], الله له الخَلْق، وله الأمر -سبحانه وتعالى- ذكر الله -تبارك وتعالى- هنا الخلَقْ؛ فقال : {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ........}[الشورى:11], وقال : {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الشورى:12], هذا خَلْقُهُ -سبحانه وتعالى-, هذا في باب الخَلْق؛ فالله هو الخالق والمتصرف -سبحانه وتعالى-, ثم هو الحاكم, هو الذي له الحكم الشرعي الديني, {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا........}[الشورى:13], الشرعة هو الأمر الذي يشرعه الله -تبارك وتعالى- بافعل ولا تفعل الطريق الذي يسار فيه شرعة لأنه صراط يسار فيه صراط الله -تبارك وتعالى- فيه أوامره، وفيه نواهيه في حدوده؛ فهذه شرعة, {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ........}[الشورى:13], الدين هو الصبغة والمنهج والعمل؛ فدين الناس هو ما يصبغ حياتهم كلهم مِن اعتقاد، ومِن أعمال, {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ........}[الشورى:13], الذي تدينون به تلزمون به, {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}, وصى الله -تبارك وتعالى- والتوصية هي الأمر المحفوف بمبرراته وآثاره والحث عليه؛ فهذا وصية الله -تبارك وتعالى- الشِّرعة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على نوح ووصاه بها أنْ يأخذ بها, ويأخذ بها المؤمنون معه, {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ........}[الشورى:13], هذا الذي, {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}, فبدأ بأول الرسل؛ ثم بآخر الرسل محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ........}[الشورى:13], والذي أوحاه الله -تبارك وتعالى- للنبي هذا القرآن، والوحي الآخر الذي أوحاه للنبي غير القرآن مما أُمِرَ به النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأنْ يُبَيِّنَهُ لأمته, {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}, على الترتيب الزمني لهؤلاء الرسل إبراهيم -عليه السلام- أبو الأنبياء، وموسى بني إسرائيل، وعيسى آخر نبي مِن بني إسرائيل، وليس بينه وبين نبينا نبي, ستمائة سَنَة لم يكن فيها نبي بين عيسى وبين نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, وهؤلاء هم أولو العزم مِن الرسل؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -صلوات الله والسلام عليهم- أجمعين، وهؤلاء هم الذين ينتمي إليهم إنْ كان صدقًا، وإنْ كان كذبًا عامة الموجودين مِن أهل الدين السماوي في الأرض إلى إبراهيم وموسى وعيسى والنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ فالذي شرع لهم الدين هو الله -سبحانه وتعالى-, الله هو الذي شرع لهم الدين، وهو الذي بَيَّنَهُ لهم, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}, أَمْرٌ للجميع بإقامة الدين, وعدم التفرق فيه؛ لأنه مِن الرب الواحد -سبحانه وتعالى-, وبالتالي هو دين واحد؛ فالذي أوحاه الله -تبارك وتعالى- إلى نوح هو الذي أوحاه الله تبارك وتعالى- إلى سائر الأنبياء, إلى نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, وإلى إبراهيم، وإلى موسى وعيسى؛ فقد دعوا جميعًا إلى عبادة الرب الواحد -سبحانه وتعالى-, ودعوا إلى إيمان واحد لا يُخْرَجُ عنه، وكلهم دعوا إلى طاعة الله -تبارك وتعالى-, وإنْ افترقت الشرائع بحسب الزمان والمناسبة التي كان فيها كل رسول؛ فهذا رسول مُمَكَّن، وهذا رسول لم يُمَكَّن, نبينا مُكِّنَ -صلوات الله والسلام عليه-, وبالتالي كمل له كل التشريع الذي يتخذه مِن جهاد الكفار، ومِن بناء كل الأحكام, فيه رسول لم يُمَكَّن كنوح -عليه السلام-؛ فإنه لم يُمَكَّن، وإنما بقي في فئة مستضعفة مِن قومه، وإلى آخر وقت قال له قومه الكفار : {........لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116], فلذلك الدين واحد، وإنْ إختلفت الشرائع كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «نحن الأنبياء أولاد عَلَّات», أولاد عَلَّات؛ أولاد نساء مختلفات كلنا واحد؛ فالدين واحد، وشرعة الدين الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على كل الرسل دين واحد, {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ........}[الشورى:13], نَفْسُهُ, {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}, أنْ أقيموا أيها المخاطبون, {الدِّينَ}, دين الله -تبارك وتعالى-, أقيموه أي استقيموا عليه؛ فليكن دينك قائمًا كما أمر الله -تبارك وتعالى-, والإقامة إقامة الدين، أنْ تقيم الدين؛ أنْ تستقيم على النحو الذي أمرك به هذا الدين؛ لأنَّ هذا الدين قوي؛ فاستقم به، واستقم عليه, {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}, نهي مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ نتفرق في الدين؛ فيأخذ كل جانبًا منه، أو جزءً منه، ويذهب به، ويعادي الآخرين، ويكفر بما عند الآخرين مِن الحق, بل يجب أنْ يجتمع الجميع على الدين كله, كما قال -تبارك وتعالى- موصي للمسلمين : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا........}[البقرة:208], وذَمَّ الله تبارك وتعالى- المتفرقين، قال : {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53], {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ}, أمر هذا الدين, كلٌّ أخذ جانبًا منه، وانفصل عن الآخرين، وعادى الآخرين فيما أخذوا, {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}, بل اجتمعوا جميعًا عليه، ولا تتفرقوا في الدين هذه وصية الله -تبارك وتعالى- لكل الرسل، ولأتباع الرسل أنْ يسيروا على الشريعة الواحدة أنزلها الله -تبارك وتعالى- لهم, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}, كبر عليهم عظم عليهم، وشق عليهم هذا الأمر؛ فإنَّ المشركين كانوا إذا دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ينفرون مِن هذا كل النفرة، وكما قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزمر:45], مِن البداية منذ أنْ دعا نوح إلى عبادة الله وحده لا شريك له, والكفار الذين كانوا معه استنكفوا هذا الأمر استنكافًا، كما قال نوح في شكاته لربه : {وَقَالُوا}, أي قومه, {........لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23], لا تذروا هذه الآلهة, تمسكوا بها، وإياكم أنْ تطيعوا نوح فيما يدعوكم إليه مِن عبادة الله وحده لا شريك له، وكذلك كل قوم عاد ورسولهم فيما دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- وحده، هذا إبراهيم لما دعا قومه إلى الله -تبارك وتعالى- وحده استنكفوا هذا، هذا أبوه يقول له : {........أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46], علمًا أنَّ إبراهيم دعاه إلى الله -تبارك وتعالى-, قال : {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم:43], {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:44], {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم:45], فدعاه إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، وقال له : {........يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم:42], {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم:43], {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:44], {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم:45], {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46], ولما أظهر لقومه سفاهة عبادة الأصنام وضعفهم، وأنهم لا يستطيعون أنْ يدفعوا عن أنفسهم الضر؛ فحطم أصنامهم، وجاءوا ورأوا الأمر على هذا النحو, {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:59], {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}[الأنبياء:61], {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:62], {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:63], الله يقول : {فَرَجَعُوا إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64], {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:65], {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ}[الأنبياء:66], {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:67], {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68], فهذه صورة كذلك مِن تمسك الكفار بما هم عليه مِن الشِّرك والباطل، ورفضهم وكراهيتهم للحق, {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}, وهذا نفس الأمر لما دعا موسى فرعون إلى الله تبارك وتعالى-, {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون:47], وقالوا : {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}, {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[يونس:78], وهذا الذي أيضًا قابل به اليهود عيسى بن مريم -عليه السلام-؛ فكفروا به، وقاموا في وجهه، وحاولوا أنْ يقتلوه بكل سبيل, {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}, {كَبُرَ} الله يقول : {عَلَى الْمُشْرِكِينَ}, عظم عليهم أنْ يتركوا آلهتهم وعبادتهم الباطلة، ويعبدوا الإله, الواحد, الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ فإذن هذه دعوة الله -تبارك وتعالى- للتمسك بالحق، وأنَّ المشركين هم هذا الشرك أصبح داخل في قلوبهم، وهم يأنسون به، ويكرهون أنْ يذعنوا لأمر الله -تبارك وتعالى-, وأنْ يعبدوا الله وحده لا شريك له, بل كما قال الله : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزمر:45], {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13], {اللَّهُ}, -سبحانه وتعالى-, {يَجْتَبِي إِلَيْهِ}, الاجتباء هو الاختيار والاصطفاء، وأنْ يختصهم، وأنْ يصطفيهم، وأنْ يختارهم -سبحانه وتعالى-, وأنْ يحوزهم الله -تبارك وتعالى- دون الآخرين, {اللَّهُ يَجْتَبِي}, -سبحانه وتعالى-, {إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ}, فيهديه ويشرح صدره، ويخرجه مِن الظلمات إلى النور، وينقله الله -تبارك وتعالى- هذه النقلة مِن هذه الظلمات إلى نور الإيمان به وتوحيده -سبحانه وتعالى-, {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ}, مَن يشاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يجتبيه اجتباه, {وَيَهْدِي إِلَيْهِ}, -سبحانه وتعالى-, {مَنْ يُنِيبُ}, {وَيَهْدِي إِلَيْهِ}, هنا هداية إرشاد، وهداية توفيق يهدي إليه توفيقًا ومحبة وطاعة, {إِلَيْهِ}, إلى الله -سبحانه وتعالى-, {مَنْ يُنِيبُ}, يرجع ليخرج عن هذا الكفر، وعن الشِّرك، ويعود إلى الله -تبارك وتعالى- يهديه الله -تبارك وتعالى- ويصطفيه ويجتبيه؛ فهذا بيان نعمته وإحسانه -سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين، وأنه هو الذي اجتباهم واصطفاهم إليه -سبحانه وتعالى-, وهداهم إلى الطريق الصحيح.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:14], {وَمَا تَفَرَّقُوا}, هؤلاء الأتباع لهؤلاء الرسل الكرام الذين هم دينهم واحد؛ فإبراهيم أبو الأنبياء كلهم، واليهود يُنْسَبُونَ إليه نسبًا؛ فهو أبوهم, إسرائيل -عليه السلام- هو ابن اسحق بن إبراهيم؛ فجدهم إبراهيم، وعيسى -عليه السلام- هو مِن أنبياء بني إسرائيل؛ فهو ابن داوود، وداوود مِن نسل إسرائيل؛ فهم يُنْسَبُونَ إلى إبراهيم, موسى وهو رسول بني إسرائيل، وعيسى -عليه السلام- رسولٌ مِن بني إسرائيل يُنْسَبُونَ إلى إبراهيم نسبًا، ويُنْسَبُونَ إلى رسلهم الذين هم أيضًا رسل مِن الله -تبارك وتعالى- مِن نَفْسِ الأُمَّة المختارة، ويكن يخبر الله -تبارك وتعالى- بأنهم تفرقوا في الدين, {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ........}[الشورى:14], تفرق اليهود فيما بينهم، وافترقت النصارى كذلك فيما بينهم، وافترقت النصارى عن اليهود علمًا أنَّ الدين الذي جاء به عيسى -عليه السلام- هو نَفْس الدين الذي جاء به موسى, بل نَفْس الشريعة، بل شريعته في الأحكام، وإنما جاء بتغيير بعض الأحكام, وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}, لكن تفرقوا جاء اليهود، وكفروا بعيسى -عليه السلام-، وقالوا فيه المقالات العظيمة؛ فهؤلاء قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَفَرَّقُوا}, أي اليهود والنصارى، وفرقًا كثيرة فيما بينهم, {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}, بعد أنْ آتاهم العلم مِن الله -تبارك وتعالى-, وعِلْم مِن الوحى الإلهي إلى الرسل، وكذلك عِلْم مكتوب ومذكور في كتبهم، ويعلمونه لكن تفرقوا في حقيقة الدين، قال -جلَّ وعَلا- : {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}, حسد، البغي الحسد الذي دفعهم إلى التظالم، وإلى جحد ما عند الآخرين مِن الحق، وأنْ يأخذ كلٌّ منهم جانبًا منه، ويعادي الآخرين, {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:14], قال -جلَّ وعَلا-  : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}, كلمة سبقت مِن الله -تبارك وتعالى- وهي أنْ يؤخر العباد إلى يوم الميعاد ليحاسبهم -سبحانه وتعالى-, وأنه لا يحاسب كل من فعل ذنبًا يعطيه جزاءه مباشرة بفعل الذنب, {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}, لكان الله -تبارك وتعالى- قد أنزل قضاءه فيهم، وانتقم -سبحانه وتعالى- سريعًا مِن هؤلاء المعاندين المكذبين، المتفرقين نزلت نقمة الله -تبارك وتعالى- بهم, لكن شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يؤخر الفصل فيما اختلفوا فيه إلى يوم الفصل، ويوم القضاء, {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى}, {أَجَلٍ مُسَمًّى}, سماه الله -تبارك وتعالى-, معدود, معين, يعلمه الله -تبارك وتعالى-, {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}, أنزل الله تبارك وتعالى- الحكم والفصل بينهم عاجلًا في هذه الدنيا, ثم قال -جلَّ وعَلا- {........وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:14], {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ}, كتاب الله -تبارك وتعالى- التوراة والإنجيل, {مِنْ بَعْدِهِمْ}, مِن بعد هؤلاء المختلفين, {........لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:14], شك مِن الكتاب, مليء شك ملتبس بالريب، واتهامه بأنه على غير الحق نشأ فيهم  التكذيب نشأ فيهم بعد ذلك الكفر، والتكذيب الكلي ممالا أنزله الله -تبارك وتعالى- علمًا بأنهم أورثوا الكتاب، ورثوا كتاب الله -تبارك وتعالى-, ولكنهم لطول العهد به، والاختلاف فيه أصبحوا في شك مِن هذا الكتاب، وتفصوا عنه، وخرجوا عن الإيمان بكتابه المنزل الذي ورثوه، قال - جلَّ وعَلا- : {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ.......}[الشورى:15], {فَلِذَلِكَ}, مِن أجل هذا، مِن أجل أن الدين لله -تبارك وتعالى- وحده أدعوا {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}, أنَّ هؤلاء قد اختلفوا؛ {فَلِذَلِكَ}, كله مشار إليه هنا أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو منزل الدين، وأنه كان دين واحد أنزله الله -تبارك وتعالى- وأنه هو الذي شرع لك، هو الذي شرع للسابقين، وأنَّ الأتباع يختلفون فيه من أجل هذا؛ فأدع إلى دين الله -تبارك وتعالى- لأنك الآن على الحق المبين مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَاسْتَقِمْ}, على الشريعة كما أمرك الله -تبارك وتعالى-, {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[الشورى:15].

 نعود -إنْ شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية, أستغفر الله ليِ ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.