الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (595) - سورة الشورى 21-23

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}[الشورى:20], {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى:21], {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ}[الشورى:22], {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[الشورى:23].

قول الله -تبارك وتعالى- : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ........}[الشورى:20], هذه سُنَّة الله -تبارك وتعالى- وإفضاله وإنعامه -سبحانه وتعالى- على عبده المؤمن الذي يريد الدار الآخرة، ويريد وجه الله -تبارك وتعالى-, {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ........}[الشورى:20], العمل للآخرة سمي حرثًا لأنه يشبه الحرث، الزراعة؛ فمن يبذر يحصد؛ فمن كان يعمل للآخرة يبذر لها الآن ليحصد في الآخرة, {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ........}[الشورى:20], ثوابًا، عدًا، وأما الجزاء؛ فهذا إفضالُ وإنعامٌ مِن الله -تبارك وتعالى- ليس مكافئًا للعمل, أما كل مَن عمل حسنة؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يكتبها له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة, مَن تصدق بدينار فكأنما تصدق بعشر عند الحد الأدنى، أو يضاعف الله -تبارك وتعالى- له إلى سبعمائة ضعف؛ ثم إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى-, وأما الجزاء؛ فهو ليس مكافئًا للعمل إنما هو إفضال وإنعام مِن الله -تبارك وتعالى-, هذه الزيادة في العد والحساب, كذلك : {نَزِدْ لَهُ}, في أنْ يوفقه الله -تبارك وتعالى- إلى أمثال ذلك مِن فعل الخير, {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا}, زراعته وعمله فقط مِن أجل الدنيا، ولا هم له في الآخرة, {نُؤتِهِ مِنْهَا}, بعضها؛ فيأخذ منها، ولا يأخذ منها إلا ما قدره الله -تبارك وتعالى-, كما قال -تبارك وتعالى- : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18], هنا يقول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية : {........وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}[الشورى:20], ليس له في الآخرة عند الله -تبارك وتعالى-, {مِنْ نَصِيبٍ}, مِن الجنة الرحمة والرضوان الذي أعده الله -تبارك وتعالى- لمن يريد الآخرة، أما مَن كان همه الدنيا وقف ونيته وعمله عند الدنيا فقط؛ فهذا لا نصيب له في الآخرة، وهذا ليس له في الآخرة إلا النار، كما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18], {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19], أي مزادٌ فيه, {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء:20], هذه هي قاعدة الحساب عند الله -تبارك وتعالى- بالنسبة لمن يريد الله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، ومَن يريد هذه الدنيا فقط, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ........}[الشورى:21], هذه, {أَمْ}, إضراب على هذا سؤال، همزة الاستفهام، والإضراب هذا السؤال هنا يراد له الإنكار والتقريع, {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ........}[الشورى:21], والحال أنه ليس هناك شريك مع الله -تبارك وتعالى- يشرع، يُحِلّ ويحرم, يأمر وينهى كل هذا الحكم إنما هو لله -تبارك وتعالى- تشريع الدين، الشِّرْعة كلها لله -تبارك وتعالى-, {........إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1], {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ........}[الشورى:13], فالله هو الذي يشرع لعباده ما يريد, {........إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1],  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1], فالله هو الذي له الحكم -سبحانه وتعالى- وهو الذي يشرع لعباده ما يشاء, الدين يدخل فيه كل ما يدان به، كل الأفعال الدين صبغة عامة, {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة:138], مِن الحلال، ومِن الحرام في كل شئون الحياة مِن اللباس والطعام والشراب والسلوك والعمل، ومعاملات الناس بعضهم ببعض، وكذلك مِن الدين, مِن القربات التي شرع الله -تبارك وتعالى- أنْ يُتَقَرَّبَ بها إليه مِن صلاة وصيام وزكاة وحج وذبح، وغير ذلك؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يقبل مِن أحد أنْ يعبده إلا بما شرع -سبحانه وتعالى- أو يتقرب إليه إلا بما شرعه -جلَّ وعَلا-؛ ولذلك قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ», مردود عليه، وقال : «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رَدّ», كل علم ليس عليه أمرنا أمر الله -تبارك وتعالى-, وأمر رسوله -صلوات الله والسلام عليه-؛ فهو رد, الله يرده عليه, لا يقبله الله -تبارك وتعالى- منه؛ فالله يقول لهؤلاء المشركين أنتم الآن الذين شرعتم لأنفسكم، ونسبتم هذا التشريع إما لأنفسكم، وإما لآلهتكم الباطلة، وإما لآبائكم هؤلاء شركاء مع الله، هؤلاء الذين يشرعون جعلتموهم شركاء مع الله -تبارك وتعالى- في أنْ يُشَرِّعُ لعباده غير ما يشاءوه، وغير ما يريده -سبحانه وتعالى-, {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ........ }[الشورى:21], يصير؟ هل هذا يستقيم أمر هكذا؟ أنْ يأتي منادد ومعارض لله -تبارك وتعالى-, وكذلك يشرع لعباد الله -تبارك وتعالى-, {مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}, يكون هذا مفتئت على الله -تبارك وتعالى-, طاغوت, وضع نَفْسَهُ في غير موضعها ليس لأحد لأنْ يَشْرَعُ لعباد الله -تبارك وتعالى- دون شرعة الله -جلَّ وعَلا-؛ فالله هو الذي يشرع ما يشاء، ويحكم ما يريد -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- في مقابل هذه الجريمة الكبرى، والتعدي على أمر الله -تبارك وتعالى- قال : {........وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى:21], {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ}, لولا أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد حقت منه كلمة أنْ يجعل يوم القيامة للفصل بين عباده، ويؤخر الحساب بينهم إلى هذا اليوم, {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}, في هذه الدنيا, لولا أنَّ الله قد سبق  قوله -سبحانه وتعالى- بأنه قد جعل يوم القيامة يومًا للفصل؛ فهذا يوم الدين، يوم الجزاء لكان قد أتاهم جزاؤهم بالإهلاك وبالعذاب في هذه الدنيا على هذه الجريمة الجريمة الكبرى، وهو أنْ ينسبوا التشريع لغير الله -تبارك وتعالى- أو يفتئت مَن يفتئت؛ فيشرع لعباد الله -تبارك وتعالى- ولخلق الله -عز وجل- ما لم يأذن به الله, {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى:21], {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ}, هؤلاء الظالمون، هذا مِن أعظم الظلم هو التعدي على أمر الله -تبارك وتعالى-, وحق الله -تبارك وتعالى- في التشريع لعباده، وأنْ يحكم ما يريد؛ فيأتي هذا؛ فيضع نَفْسَهُ في محل الرب -تبارك وتعالى-؛ فهذا ظالم، {........وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الشورى:21], تهديد, هذا وعيد مِن الله -تبارك وتعالى- وعذابهم الأليم في الآخرة, عذاب النار.

ثم وصف الله -تبارك وتعالى- حالتهم يوم القيامة، قال : {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ........}[الشورى:22], {تَرَى}, حيث ترى يوم القيامة, {الظَّالِمِينَ}, هؤلاء الظالمون الذين شَرَّعُوا ما لم يأذن به الله، واتبعهم مَن اتبعهم مِن الدهماء والغوغاء في تشريع غير الله -تبارك وتعالى-, {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا}, {مُشْفِقِينَ}, خائفين أشد الخوف، أنهم يأتي يوم القيامة وقد بلغ بهم الخوف للإشفاق، وهوم نهاية الخوف نهاية بلوغه عند آخر حده في النَّفْسِ, {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا}, مما كسبوه، وهو افتائتهم على الله -تبارك وتعالى-, وتشريعهم ما لم يأذن به الله -جلَّ وعَلا-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}, هذا إشفاقهم وخوفهم مِن أنْ يلقوا في النار, {وَاقِعٌ بِهِمْ}, لا بد سيقع بهم هذا الذي العذاب الذي ينتظرهم, هذا واقع بهم, أما في المقابل، قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}, أما الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى-, وهذا يدخل في إيمانهم بالله، إيمانهم بكل الغيب، إذعانهم لله، طاعتهم لله, أنَّ بعد الإيمان كذلك العمل بمقتضى هذا الإيمان, {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}, {الصَّالِحَاتِ}, الأعمال الصالحة، والعمل الصالح هو المثاب عليه, كل عمل أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- به هذا هو العمل الصالح، وسمي صالح؛ لأنه صلاح للنفس، صلاح للمجتمع، صلاح للعبد أنه يصلح حاله يوم القيامة؛ فهؤلاء الذين عملوا الصالحات مِن الصلاة والصيام والزكاة والحج هذه منارات الإسلام، ومِن شُعَبِ الإيمان التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها البِرّ بالوالدين، صِدْق الحديث، صلة الأرحام هذه كلها داخلة في معنى {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}, {رَوْضَاتِ}, جمع روضة، والروضة هي البستان الذي امتلأ بكل أنواع الورود والزهور, {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}, {الْجَنَّاتِ}, جمع جنة، والجنة بستان، والبستان الذي التفت أشجاره، وتشابكت أغصانه؛ فمن دخلها يُسْتَتَر، يُجَنّ, {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}, {لَهُمْ}, في هذه الجنة, {مَا يَشَاءُونَ}, كل ما يريدونه حاضر، موجود, {عِنْدَ رَبِّهِمْ}، وقوله : {عِنْدَ رَبِّهِمْ}, هذا يلزم منه أنه كريم جدًا؛ لأنَّ الله هو الذي فعله، وذلك أنه مضمون؛ لأنه عند ربهم -سبحانه وتعالى-, كذلك هذا نهاية القرب مِن الله -تبارك وتعالى- أنهم قريبين مِن الله -تبارك وتعالى-, وهم عند الله -تبارك وتعالى-, {........لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ}[الشورى:22], {ذَلِكَ}, وهو أنْ يكون أهل الإيمان في روضات الجنات، وهم عند ربهم -سبحانه وتعالى- ولهم ما يشاءون, {هُوَ الْفَضْلُ}, الإحسان والمَنّ مِن الله -تبارك وتعالى-, {الكَبِيرُ}, العظيم جدًا، هذا عظيمٌ جدًا؛ لأنَّ هذه الجنة ثمرةٌ يانعة، وزوجةٌ حسناء، نهرٌ مطرد، وأرضٌ كثبان المسك الأذفر، وبهجة وسرور لا يفنى شباب أهلها، ولا تبلى ثيابهم, لا يبولون، ولا يتغوطون كل ما فيها سِلْم ليس فيها خصومة بين اثنين، ولا شتيمة لا لغو في فعلهم ولا تأثيم, هذا أمر فوق الوصف, ثم خلود لا انقطاع له؛ فالذين عند ربهم على هذا النحو في رياض الجنان هؤلاء هذا {هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ}, هذا هو الفضل والإحسان من الله -تبارك وتعالى-, {الكَبِيرُ}, على عباده المؤمنين, نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعلنا وإخواننا المؤمنين منهم، قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ........}[الشورى:23], {ذَلِكَ}, هذا رياض الجنان، ولأهل الإيمان فيها ما يشاءون، فضل الله الكبير, هذا فضل الله الكبير, {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ........}[الشورى:23], الله هو الذي يبشرهم، البشارة الإخبار بما يسر؛ فهذا الخبر السار هو الذي يزفه الله -تبارك وتعالى- إلى عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وحسبك ببشرى الله -تبارك وتعالى- هو الذي يقولها، وهو الذي يزفها, وهو الذي يخبر بها -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين, {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ........}[الشورى:23], الله بِنَفْسِه هو يُبَشِّرُ به عِبَادَهُ الذين عبدوه، العبادة معناها الذُّلّ والخضوع لله -تبارك وتعالى-؛ فهؤلاء الذين ذَلُّوا لله -تبارك وتعالى-, وعبدوا الله, {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}, آمنوا بالله -تبارك وتعالى- الإيمان التصديق، وتصديق وعمل بمقتضى هذا التصديق عمل القلب، وعمل الجوارح, {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}, فهذه بشرى الله -تبارك وتعالى-, ثم النبي الذي جاء بهذه البشرى، نزلت عليه هذه البشرى، وهو يقدم للناس هذا القرآن، وفيه هذه البشرى العظيمة، وفيه هذه الدلالة الكبرى على الفوز المبين، والفضل الكبير، والإنقاذ مِن أعظم الشرور النار وغضب الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة, هذا عمل عظيم مَن جاء لينشلك مِن هذا الواقع الأليم، ويدلك على الطريق الصحيح، قال -جلَّ وعَلا- قل لهم بعد هذا : {........قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[الشورى:23], {قُلْ}, لهم أي للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}, بالرغم مِن عِظَمِ ما أتيتكم به, ومما يترتب عليه مع هذا الفضل العظيم، والفوز المبين, لا يدلنا النبي على عمل نأخذ منه بضعة دنانير، أو على كسب صغير، أو على حياة طيبة مرفهة في هذه الدنيا لا هذا يدلنا دلالة على الفوز المبين في الدنيا والآخرة على الفوز العظيم, على جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه, على ملكوت الرب, ندخل في ملكوت الرب -سبحانه وتعالى- في الآخرة؛ فهذه الدلالة تستحق أنْ يدفع  فيها العبد ما يدفع لهذا الذي هداه إلى هذا الصراط المستقيم, لكن النبي -صلوات الله والسلام عليه- جاء بهذه الدعوة للعالم مجانًا لا يطلب عليها أجرًا -صلى الله عليه وسلم-, {قُلْ}, لهم, {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}, ما أريد أجر على هذه الدلالة، وعلى هذا البيان، وعلى هذا الإرشاد، وعلى هذا التعليم لطريق الله المستقيم, {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}, على هذه الدلالة على الخير، وهذه البشرى العظيمة، وهذا البيان لطريق الرب -تبارك وتعالى-, {أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, فُسِّرَ هذا, فسره ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، وهو ترجمان القرآن بإلا أنْ تَوَدُّونِي في قرابتي، قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- : لم يكن مِن قريش مِن بطن إلا ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم صلة، بهم رحم؛ فإنَّ رحم النبي مع كل قريش، وكان يقول لهم : أنا أتيتكم بعز الدنيا، وعز الآخرة، وبهذه البشرى العظيمة ما أحد مِن الخَلْق أتى بنفع ينفع به العباد، وينفع به أهله مثل ما أتيتكم به، أنا لا أريد منكم أجرًا على هذا، ولكن فقط أنْ تَوَدُّونِي في قرابتي تكفوا شركم عني، ويكون لكم نوع من المودة فيه قرابتي أنا قريب منكم، أنا ابنكم، أنا منكم؛ فَتَوَدُّونِي في هذه القرابة حتى أُبَلِّغ رسالة الله -تبارك وتعالى-؛ فكأنها مناشدة للذين عادوا النبي -صلى الله عليه وسلم-, جعلوا ما أتى به مِن الخير والفضل والعز والتمكين هذا القرآن, {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}[الزخرف:44], هذا الذي أتى به, أتى بهم بعز الدنيا، وعز الآخرة, لكنهم قابلوا هذا بالعداوة، وكأن النبي أصبح أعدى أعدائهم، ويتمنون إزاحته وقتله بكل سبيل، ويتآمرون عليه ويسبونه ويشتمونه؛ فقد قابلوه في مقابل هذا بكل صنوف الصَّلَف والكبر والعداوة له، والحال أنه كان ينبغي أنْ لو بُذِلَت له الأموال، وبُذِلَت له النفوس في سبيل ما جاء به لكان هذا قليلًا في حقه -صلى الله عليه وسلم-, ولكن أتى بهذا كله مجانًا، ورفضوا هذا، ووضعوا محل الطاعة والاتباع والتقديس وضعوا محل هذا العداوة, {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, أنْ تَوَدُّونِي لقرابتي منكم؛  لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هو مِن قريش، وقريب منهم, المعنى الثاني : {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, فسره بعض أهل العمل بحديث زيد بن أرقم -رضي الله تعالى عنه-، قال : قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا في غدير يسمى خمء، وهذا عند عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن حجة الوداع نزل النبي عند غدير، الغدير هو ما يتركه السيل، يغادره السيل في مكان يكون منخفض يتركه هذا الغدير، ماء؛ فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ فحمد الله -تبارك وتعالى- وأثنى عليه، قال : قام رسول الله خطيبًا في الناس؛ فحمد الله -تبارك وتعالى- وأثنى عليه، وذكر ووعظ، وقال : أيها الناس إني بشر، إنه يوشك أنْ يأتيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجيب، ومعنى برسول الله؛ مَلَك الموت؛ فأجيب أي أجيب رسول ربي, أي أنه يرتحل عن الدنيا كما قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:30], هذا تذكير بقرب وفاته -صلوات الله وسلامه عليه- ثم قال : وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله، يقول زيد : فذكر به ووعظ, قال : وفيه الهدى؛ فتمسكوا به هذا أول، وعترتي, أهل بيتي، وأوصيكم أوصيكم الله في أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض؛ فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنْ تتمسك الأمة بكتاب الله الذي حفظه الله -تبارك وتعالى- عن التغيير والتبديل، وأنْ يتمسكوا به؛ ثم أنْ يتمسكوا كذلك، وأنْ يوالوا أهل بيته -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال له مَن عنده؛ عند زيد بن أرقم، قالوا يا زيد : ومَن أهل بيته؟ النساء مِن أهل بيته؟ قال : نعم نساءوه مِن أهل بيته، وأهل بيته الذين حرم عليهم الصدقة، وهم أهل العباس، وأهل علي، وأهل جعفر، وأهل عقيل، قالوا : كل هؤلاء حُرِّمَ عليهم الصدقة، قال : نعم؛ فهؤلاء أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه العباس بن عبد المطلب وأولاده، وكذلك علي بن أبى طالب -رضي الله تعالى عنه-، وجعفر وعقيل؛ فإنهم أهل بيته؛ فذكر النبي بهذا؛ ففسرت هذه الآية : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, إلا أنْ تَوَدُّونِي في قرابتي؛ فتحفظوا جق آل بيتي، وحال، وقرابتي هذه فقط، وهو المستثنى مِن الأجر الذي يؤتى للنبي -صلى الله عليه وسلم-, وهذا ليس أجرًا للنبي -صلوات الله والسلام عليه- وإنما هو مِن حقوق الله -تبارك وتعالى- على العباد أنْ يراعوا آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فينزلوهم المنزلة التي أنزلهم الله -تبارك وتعالى-, ويكرموهم لأجل النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وهكذا كان أصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ فإنَّ أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- كان يقول : والله لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أنْ أصل مِن قرابتي؛ فكان وصوله لقرابة النبي أحب إليه مِن قرابته, وكذلك يُقْسِم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنَّ إسلام العباس, فرح بإسلام العباس بن عبد المطلب، يقول : أشد مِن فرحي بإسلام الخطاب, لو أسلم, أبوه الخطاب مات على الكفر؛ فيقول : إسلام العباس عندي أفضل مِن إسلام الخطاب؛ وذلك لأنه أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك جعل لما وضع أول ديوان كتب في الإسلام، وفي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-؛ فإنه أول ما وضع الديوان، والديوان هو بلغتنا الآن السجل المدني وضعها آل رسول الله أولًا؛ فأول شيء في الديوان سُجِّلَ في الديوان هم آل بيت النبي -صلوات الله وسلامه عليه- فقول الرب -تبارك وتعالى- : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, أنْ تودوني في قرابتي هذا المعنى الثاني؛ فالمعنى الأول يكون خطاب جعله بعض أهل العلم خطاب للكفار ودوني لأجل قرابتي فقط، وأنا أتيتكم بعز الدنيا، وعز الآخرة؛ فإنْ لم تؤمنوا؛ فعلى الأقل راعوا الرحم الذي بيني وبينكم، وعلى المعنى الثاني يكون خطاب للمؤمنين, { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}, لا تدفعوا أجر لي على هدايتكم وإرشادكم لهذا الطريق المستقيم الذي فيه عز الدنيا والآخرة، ولكن لا أطلب منكم فقط إلا أنْ تَوَدُّونِي في قرابتي, {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[الشورى:23], {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً}, الاقتراف الفعل يأخذها بأي صورة كأنه الاقتراف غالبًا ما يأتي الاقتراف على الذنب، اقترف ذنبًا، وهنا جاء الاقتراف للحسنة؛ لِيُبَيِّن أنه إذا أخذ الحسنة بأي صورة, أي عمل حسن مما فعله، ولو بأي صورة مِن صور الفعل، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}, {نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا}, حسنًا عنده -سبحانه وتعالى- مِن العد, الله -تبارك وتعالى- يحاسبه على أكمل ما يؤتى به هذه الحسنة مِن الصور، كما قال -تبارك وتعالى- : {........وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97], فيجزيه الله -تبارك وتعالى- بتمام الإحسان في هذا الأمر الذي توجه إليه، وكذلك يزيده -سبحانه وتعالى- مِن فضله وإحسانه بأنْ يعطيه الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة, {........وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[الشورى:23], ختم الله هذه الآية بما فيها مِن هذه العطايا العظيمة، والوصايا العظيمة بأنه {غَفُورٌ}, ومعنى {غَفُورٌ}, مسامح, المغفرة الستر  أنه مسامح يغفر ويستر.