الخميس 17 شوّال 1445 . 25 أبريل 2024

الحلقة (6) - سورة الفاتحة

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

سورة الفاتحة هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُعطيهُ النبي –صلوات الله وسلامه عليه- قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]، وقد جاء في حديث أُبي بن كعب –رضي الله تعالى عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال له يومًا: "لأعلمنك أعظم سورة من القرآن قبل أن تخرج من المسجد" يقول كعب فلما أراد النبي أن يخرج قلتُ له: يا رسول الله قلتَ لأعلمنك أعظم سورة من القرآن قبل أن تخرج من المسجد فقال له: "الحمد لله رب العالمين وفاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"، وقد جعل النبي – صلى الله عليه وسلم- قراءتها فرضا في كل ركعة من ركعات الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا صَلاة لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"، من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصلاته خداج، فصلاته خداج، فصلاته خداج، أي ناقصة.

الفاتحة هي مقدمة القرآن، وقد حوت موضوع القرآن كله مجملًا، فأجملت موضوعات القرآن، وسميت بالمثاني لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ المرة بعد المرة، والقرآن العظيم لما اشتملت عليه من المعاني من صفات الرّب –تبارك وتعالى- ومن توحيده، ومن الدعاء العظيم الشامل لكل خير وهى هداية الصراط المستقيم الذي هو طريق الرَّب الموصل إليه والى جنته –سبحانه وتعالى-.

الفاتحة سبع آيات {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} آية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} آية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} آية سبع آيات.

 بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ كنا قد شرحناها في حلقة سابقة وخلاصة ذلك أنها كما يقول أهل اللغة "بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ" خبر لمبتدأ محذوف تقدير هذا المبدأ ابتدائي أو تبركي بـ"بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ"، واسم الله –تبارك وتعالى- مبارك، أسماء الله –تبارك وتعالى- كلها حسنى، وهنا نستفتح ونبدأ ونتبرك في كل عملٍ ذي بال والقرآن هو أعظم الأعمال وأشرفها وأعلاها؛ لأنه قراءة لكلام الله –تبارك وتعالى- المنزل، وفضل كلام الله –تبارك وتعالى- على سائر الكلام كفضل الله –تبارك وتعالى على خلقه، نقرأ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ثلاثة أسماء من أسماء الرّب -تبارك وتعالى- الله هو الاسم الأعظم علم على ذات الرّب مشتق معناه الإله، والإله هو المألوه أي المعبود، والله –تبارك وتعالى- تألهه كل الخلائق وتصمد إليه، وذلك أنه الإله الحق الذي لا إله إِلَّا هو يعني المعبود بحق، وكل ما أطلق عليه لفظ الإله غيره فباطل، لأنه لا يستحق الألوهية إِلَّا هوَ، وذلك أن الإله لا يمكن أن يكون إلهًا إِلَّا إذا كان خالقًا بارئًا متصرفًا في عبده  منعما عليه، وكل ما سوى الله –تبارك وتعالى- لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا أن يملكه لعبده ، فلذلك كل ما يعبد من دون الله فباطل.

"الْرَّحمَنِ" و"الْرَّحَيم" اسمان لله –تبارك وتعالى- مشتقان من معنى الرحمة و"الْرَّحمَنِ" صفة مبالغة، و"الْرَّحَيمِ" صفة مبالغة.

"الْرَّحمَنِ" صفة مبالغة أكبر من الْرَّحَيمِ ولذلك قالوا في معنى "الْرَّحمَنِ" إن الْرَّحمَنِ الذي شملت رحمته كل شيء من يعبده ومن لا يعبده، فحتى رحمه الله –تبارك وتعالى- بالكفار رحمته بكل المخلوقات، فلا قيام لمخلوق إِلَّا بإقامته –سبحانه وتعالى-، يقرب المعنى قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق مائة رحمة" أو "إن لله مائة رحمة أنزل رحمةً واحدة يتراحم بها الخلق فمنها ما ترفع به الفرس رجلها عن ابنها" والفرس عجماء وحيوان ولكن فيها رحمة لمولودها وهذه الرحمة مما خلقه الله –تبارك وتعالى- في قلوب الحيوانات، فما خلقه الله من الرحمة في قلوب أمهات الحيوان، وأمهات الطير على صغارها وفراخها، كل هذا من رحمة الله الواحدة التي وزعها بين خلقه فوسعتهم، وادخر الله –تبارك وتعالى- تسعًا وتسعين رحمة ليوم القيامة، فالشقي من لا ينال هذه الرحمة، فالله هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء.

وهو الْرَّحَيمِ رحمةً خاصة بعباده المؤمنين وأهل الإيمان، هذه الرحمة التي بها يرحمهم في الدنيا بهدايتهم وتوفيقهم وتحبيب الإيمان إليهم، وأن يرزقهم الصبر والتحمل، وأن يلهمهم ذكره وعبادته، ثم أن يرحمهم بعد ذلك الرحمة الكبرى بمستقر رحمته الجنة.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، الْحَمْدُ بالأَلِف واللام التي هي للاستغراق،  ومعنى الاستغراق يعني شمول كل أنواع هذا الاسم "الْحَمْدُ" كله لله.

 والحمد أصله في اللغة الثناء على المحمود أو ذكر فضائله، فمن صنع لك معروفًا فشكرته على ذلك وأثنيت عليه وذكرت جميله فقد حمدته على هذا الأمر، ومن كان متصفًا بصفة ما من الصفات الفاضلة كالشجاعة والكرم والجود، فحمدت وذكرت هذه الصفة مادحًا له بها،  فقد حمدته على ذلك،

الله –تبارك وتعالى- له الحمد وذلك لأنه المتصف بكل صفات الكمال والجلال، فلا أعظم منه ولا أجل منه فهو الرّب الإله الذي خلق كل شيء، فكل ما سواه فهو خلقه، ثم كل ما سواه فتَحت قهره وأمره ومشيئته –سبحانه وتعالى-، عرف الله -تبارك وتعالى- عباده بنفسه فقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فهو المتوكل بكل شيء، والمتوكل بالأمر الذي له تصريف هذا الأمر وله كل شئونه بيده –سبحانه وتعالى-، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، فالذي خلق السموات والأرض وخلق الظلمات والنور لا يعدله أحد ولا يشبهه أحد.

فالله له الحمد لصفاته وأسمائه وذاته، والحمد شامل لله -تبارك وتعالى- في كل مكان وفي كل زمان،  فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد في السموات والأرض، وكل الخلائق وجودها إنما شاهد بحمده –سبحانه وتعالى-؛ فالله يحمد لذاته وأسمائه وصفاته، وكذلك يحمد الله -تبارك وتعالى- لأفعاله وإنعامه وأفضاله فما من نعمةٍ في مخلوق إِلَّا من الله -تبارك وتعالى- أي نعمة بدءًا  بالوجود ونهاية بالتصريف والرزق وكل أنواع مقومات الوجود والحياة كلها لله -تبارك وتعالى-، فالله يُحمد لإنعامه وأفضاله.

 ولا شك أنه لا ليس هناك مخلوق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- يسع عقله صفة الرّب -تبارك وتعالى- أو يحيط علمًا بالله بل الملائكة وهم أشرف وأعلى المخلوقات لا تحيط علمًا بخالقها وربها –سبحانه وتعالى- قال -جل وعلا- عنهم: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:110] لا يحيطون علمًا بالله، بل بعض مخلوقات الله لا يحيط أحدًا علمًا بها إِلَّا الله –سبحانه وتعالى- كعرش الله فإنه مخلوق من مخلوقاته ولكن لا يقدر قدرهُ إِلَّا الله، يعني لا يعلم سعته وعظمته وزنته وبناءه إِلَّا الذي خلقه –سبحانه وتعالى-، فكيف بالمستوِي على هذا العرش –سبحانه وتعالى- لا يحيط أحد علمًا به.

 إذن كل أنواع المحامد لله -تبارك وتعالى- الحمد كله مستغرقًا، كل أنواع المحامد ثابتة لله -تبارك وتعالى-، ولا يستطيع العباد أن يثنوا على ربهم وخالقهم كما أثنى هو على نفسه –سبحانه وتعالى- كما قال –صلى الله عليه وسلم-: «سبحانك لا أُحصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» أي لا يمكن للعباد أن يصفوا الله -تبارك وتعالى- ويثنوا عليه ويحمدوه كما الله –سبحانه وتعالى-، وكما أثنى الله -تبارك وتعالى- على نفسه فإنه لا يعلم الله على الحقيقة إِلَّا الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ ........}[الفاتحة:2].

 ثم وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه فقال: {........ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] الرّب في لغة العرب هو المالك، فتقول العرب: أنا رب هذه الدار يعني مالكها .. صاحبها، والرّب يأتي بمعنى السيد المطاع، ربهُم أي سيدهُم، رب قريش سيدها الذي ترجعُ في أمورها إليه، كما قال صفوان ابن أمية لمّا سمع قائلًا في غزوة حنين يقول: "اليوم بطل سحر محمد"، وذلك لما كانت الغلبة في أول غزوة حنين لهوازن فقال صفوان لهذا القائل: "اسكت .. لأن يَرُبَنِي رجل من قريش خير من أن يَرُبَنِي رجل من هوازن" ومعنى يربني يسودني ويسوسني ويكون ربًّا لي، ومنه قوله تعالى {........ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ........}[يوسف:50] "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ" أي  ارجع إلى سيدك المتولي يعني أمرِك وهو الملك "فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ" من كلام يوسف للرسول الذي جاءه من قبل الملك ليخرجه من السجن فقال له: "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ"، والرب في لغة العرب يأتي أيضًا بمعنى المربي، وكل هذه المعاني ثابتة لله -تبارك وتعالى- فهو المالك، وهو السيد الذي إليه أمر الخلائق كلها، وهو الذي يربي خلقه –سبحانه وتعالى- بنعمته وأفضاله وتنشئته.

{........ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] يعني مالك العالمين، العالمين جمع عالَم، والعالَم هو قطاع من الخلق يجمعه صفات مشتركة كما نقول: عالَم الإنس وعالَم الجن، الجن عالَم والملائكة عالَم من هذه العوالم، والسموات عالم والأرض عالم، وتقسم الأرض كذلك فنقول: عالم البحار وعالم الأسماك، فكل مجموعة أو قطاع من الخلق يشترك في صفات واحدة العالم، الله -تبارك وتعالى- رب كل هذه العوالم ربها الله، بمعنى أنه مالكها، ومُلك الله -تبارك وتعالى- لهذه العوالم ملك حقيقي وليس ملكًا عاريا، ومعنى أنه ملك حقيقي يعني ملك على الحقيقة، ملك الله حقيقي لأنه خالقها وهو الذي أبرزها من العدم، ولا يستطيع أحدٌ أن يبرز شيئًا من العدم، فإن الخلق لله وحده –سبحانه وتعالى- لو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض على أن يوجدوا ذرة لا يوجدونها.

 ومن أقوال علماء المادة: "المادة لا تستحدث" ويقولون: "ولا تفنى"، هذا بالنسبة للمخلوق أما بالنسبة للخالق فإنه هو الذي يحدث المادة، بمعنى أنه يوجدها بغير أن تكون موجودة، لا يحولها من شيء إلى شيء، بل يوجدها من العدم –سبحانه وتعالى-، وإذا شاء أن يعدمها أعدمها –سبحانه وتعالى- بمعنى جعلها إلى لا شيء، فالله هو خالق كل شيء، خلقه خلقًا بمعنى الإيجاد من العدم وقدره على الصورة التي هو عليها قال تعالى  {........ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم:9] الإنسان، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6-8]، فالله هو الخالق البارئ ومعنى "البارئ" بمعنى أنه الذي برأ الناس بمعنى أنه أوجدها من العدم، وهو فاطر السموات والأرض، ثم هو المتصرف فيها –سبحانه وتعالى-، ثم المآل إليه، فلذلك ملكه للعوالم هذه كلها ملك حقيقي، أما غيره فإذا ملك شيئًا من الموجودات فملك عارٍ، ملك عارٍ يعني يأخذه وهو من خلق الله -تبارك وتعالى- وقد يتملكه و يصاحبه ثم يتخلى عنه في النهاية {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40].

فبيتك الذي أنت فيه لم تخلقه وكذلك هو عاري -ملك عاري- ثم ينتقل بعد ذلك إلى غيرك وهكذا، وطعامك وشرابك ولباسك وسيارتك كل ما يملكه المخلوق فإنما هو استعارة   ملكه الله -تبارك وتعالى- إيّاها، وكذلك يقبضها وقتما يشاء –سبحانه وتعالى-، أما الله فإنه هو الملك على الحقيقة، فهو رَبِّ الْعَالَمِينَ لأنه مالكهم، ثم هو –سبحانه وتعالى- سيدهم، سيدهم شاء المخلوق أم أبَى فإن الله -تبارك وتعالى- سيد هذا الكون –سبحانه وتعالى- له السيادة فيه، له الأمر والنهي لا مردَّ لأمره –سبحانه وتعالى- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40] ، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر:50]، فالله -تبارك وتعالى- أمرهُ في كل المخلوقات نافذ أمره الكوني القدري، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83] فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل مشيئة للمخلوق فهي تابعة لمشيئته –سبحانه وتعالى-، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:42-43] فلا ضحك ولا بكاء إِلَّا بأمره الكوني القدري –سبحانه وتعالى- {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى }[النجم:42-54] المؤتفكة قرى لوط {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى}[النجم:54-56] فالله له المنتهى في كل أمر والأمر أمره –سبحانه وتعالى- {........ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ........}[الأعراف:54] قال –جل وعلا-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا "لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ" }[الأعراف:54] أي فاعلموا يعني اعلموا أن الخلق لله والأمر لله، فكما أنه خلق فهو الذي يأمر –سبحانه وتعالى-، فكل شيء بأمره الكوني القدري فلا يعصي عاصٍ ولا يكفر كافر ولا يفسق فاسق إِلَّا كذلك بأمره الكوني القدري بمشيئته –سبحانه وتعالى-، لا يخرج شيء عن أمره .. أمره في الخلق والتكوين والقضاء والقدر كل شيء .. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر:49-50].

 فالله "رَبِّ الْعَالَمِينَ" بمعنى أنه مالكهم وبمعنى أنه المتصرف فيهم –سبحانه وتعالى- وهو سيدهم –جل وعلا- وكذلك هو مربيهم، هو مربيهم التربية التنشئة من طور إلى طور، فإن الإنسان يعني يوجد من لا شيء ثم يكون في أول أمره نطفة فعلقة فمضغة فعظاما،  ينشئ الله -تبارك وتعالى- عظامه، ينشئه بعد ذلك خلقًا آخر ثم يربيه –سبحانه وتعالى- بنعمته بعد أن يخرجه إلى هذه الحياة شيئًا فشيئًا إلى أن يبلغ أشده، ثم بعد ذلك يذهب في سُلم السقوط شيئًا فشيئًا إلى أن يدركه الموت، فالله -تبارك وتعالى- هو مربي عباده –سبحانه وتعالى- بنعمته، فالله رَبِّ الْعَالَمِينَ على الحقيقة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] صفتان مشتقان من الرحمة للرب -جل وعلا-.

{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4] مَالِكِ وقرئ وكان النبي يقرأ أحيانًا مَلِك قراءتان، الله مَالِك يوم الدين لا شك أن الله -تبارك وتعالى- هو مَالِك المُلك كله في الدنيا والآخرة، ولكن خُص هنا بأنه مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وذلك أن كل المخلوقات تشهدُ بذلك، وذلك أن الغطاء الذي يكون على عين الكافر ينقشع في هذا اليوم ويرى أن المُلك كُله لله على الحقيقة فيظهر هذا، {........ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22] ينكشف الغطاء الذي كان في الدنيا على وجه الكافر؛ فيرى الأمور كما هي والحقائق كما هي، قال -تبارك وتعالى-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (51) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر:14-16] فقول الله -تبارك وتعالى-: "يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ" كل الخلق كل البشر يكونون على أرض مستوية ليس فيها علمٌ لأحد فيبرزون في ساعةٍ واحدة، لا يخفى على الله منهم شيء، بل كلهم تحت نظره وسمعه –سبحانه وتعالى- و"لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ" يعني أنهم لا يستطيعون أن يخفوا عن الله -تبارك وتعالى- مما  كانوا يكنونه في صدورهم بل {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:9-10]، ثم يقال لهم {........ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ ........}[غافر:16] فـلا يرد أحد لأنهم يشاهدون أن الملك كله لله، ثم يقول الله -تبارك وتعالى-: {........ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر:16-17]، قد جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- إذا جمع الأولين والآخرين عند ذلك يقول بصوت يسمعه من قرب كمن بعد: أنا الملك أين ملوك الأرض، أنا الملك فالله هو الملك –سبحانه وتعالى- فالله مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بمعنى أنه الملك في هذا اليوم الذي يفصل بين عباده فله الحكم لأن الملك إنما هو تملك ومصاحبة وحكم، فإذا قيل ملك فالملك يشمل معنيين أنه يملك ما عنده ثم يحكم فيما عنده، فالله -تبارك وتعالى- هو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لا ملك لأحد في هذا اليوم إِلَّا له وذلك أن العباد يأتون الله -تبارك وتعالى- كما خلقهم، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ........}[الأنعام:94]، ويقول النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «يُحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلا» {........ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، فكل أحد محشور وليس معه شيء بل كما خلقه الله كما ولدته أمه يأتي إلى المحشر على هذا النحو، فالله -تبارك وتعالى- هو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الملك الذي يحكم بين عباده في هذا اليوم لا حكم لأحد إِلَّا هُوَ {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:25-26].

نقف عند هذا اليوم استغفر الله لي ولكم من كل ذنب وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.