الأربعاء 03 جمادى الآخرة 1446 . 4 ديسمبر 2024

الحلقة (60) - سورة البقرة 211-213

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد...

أيها الأخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى-:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }[البقرة:210-211] .

قال -جل وعلا-:هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ هذه الآية جاءت في معرض الوعيد لأهل الإيمان أن يتركوا الحق بعدما علموه ويزلوا ويتركوا طريق الرب إلى طريق الشيطان، قال -جل وعلا- محذرا أهل الإيمان : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً........ }[البقرة:208] يعني في شرائع الإسلام جميعا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ تسيروا خلفه في طريقه إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ والذي يتخذ إمامه وقائده ويسير خلف عدوه معروف إلى أين سينتهي به المطاف {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ........}[البقرة:209] إن تركتم طريق الرب –جل وعلا- وزللتم تنحيتم عن هذا الطريق وزلت بكم أقدامكم مع معرفة وقصد من بعد ما جاءتكم البينات {........ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}[البقرة:209]غالب لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى- حكيم يضع يعني بطشه وعقوبته في مكانها -سبحانه وتعالى -.

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ  هل ينظرون؟ هل ينتظرون؟ إلا أن يأتيهم الله هذا يوم القيامة في ظلل من الغمام، بين الله -تبارك وتعالى- على هذه الصورة سيكون مجيء الرب -جل وعلا- والملائكة يأتون وقضي الأمر، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة أن هذه الآية من آيات الصفات نؤمن بها ونقرها دون تكييف، فنقول لا شك أن الله -تبارك وتعالى- يأتي العباد يوم القيامة لفصل القضاء بعد أن يجمع الله -تبارك وتعالى- الأولين والآخرين كما قال النبي: «يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» يجتمع الناس كلهم في أرض  ليس فيها علم لأحد يسمعهم الداعي إذا تكلم متكلم واحد فالكل يسمعه من أطراف الناس إلى أطرافهم وينفذهم البصر، كذلك الإنسان ينفذ بصره إلى آخر من ينظر ينظر إلى آخر المحشر يأتي الله -تبارك وتعالى- لفصل القضاء بين عباده -سبحانه وتعالى-.

 ويقول الله -جل وعلا-:وَقُضِيَ الأَمْرُ.قضي الأمر انتهى الأمر لا مجال، ومعنى قضي الأمر قفلت الصحف لا يستطع أحد بعد ذلك مات على الكفر أن يصحح ما كان أن يفتدي من كفره، من مات على معصية لم يتب منها أصبح مرتهنا بها، لا مجال له لأن يتوب ليس المجال مجال التوبة لتصحيح خطأ ليس مجال أن يستزيد الإنسان ما فاته أمر ما فاته يريد أن أمر نقصه يريد أن يكمله انتهى الأمر، فقد انتهى الأمر ولن يصبح الآن إلا الحكم الكل في انتظار منا يحكم الله –تعالى- فيه.

 -:وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ أمور العباد كلها راجعة إلى الله، فالله هو الذي يحاسب عباده حسابًا مباشرًا لا حاجب ولا ترجمان بين العبد وبين ربه -سبحانه وتعالى-، ولا يتولى حساب أحد،  لا يولي الله -عز وجل- أحدًا حساب أحد، بل الكل سيحاسبه الله -سبحانه وتعالى- كما جاء في الحديث:« ما منكم وإلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب أو ترجمان يحجبه دونه، فيسأل ألم يأتك رسولي فبلغك، وأتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك يقول النبي -صلوات الله وسلامه عليه- فلينظرن  العبد أي المحاسب أين أنا منه فلا يرى شيئا، ولينظرن أشأم منه فلا يرى شيئا، ولينظرن تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار». يقول النبي: «فاتقوا النار ولو بشق تمرة» فهذا حساب العباد إلى الله -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا-: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] مقام ربه يعني مقامه بين يدي ربه -سبحانه وتعالى- ليحاسبه فلن يحاسب العباد إلا الله-تبارك وتعالى- حسابًا مباشرًا .

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[البقرة:210-211] .كل أمور العباد راجعة إلى الله -تبارك وتعالى-.

 ذكرنا أن هذه الآية من آيات الصفات، نؤمن بها على النحو الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها بلا كيف، كشأن كل آيات الصفات الاستواء، الحب، البغض، الرضا، المقت، الكراهية، كل ما نسب إلى الرب -تبارك وتعالى- من الصفات نؤمن به على النحو الذي أخبر به الرب -تبارك وتعالى- نؤمن بمعناه دون كيفيته ،كيف يسمع الله؟ وكيف يبصر؟ وكيف يستوي على عرشه؟ وكيف يأتي يوم القيامة لفصل القضاء؟ وكيف كلم موسى؟ كل هذه الكيفيات لا نعلمها لأن ذات الله -تبارك وتعالى- غير معلومة لنا لكن نؤمن بأن الله -تبارك وتعالى- يتصف بهذه الصفات التي وصف بها نفسه على النحو الذي يليق به -سبحانه وتعالى-، فنؤمن بأنه استوى على العرش، وأنه كلم موسى، وأنه هو السميع- سبحانه وتعالى-، وأنه هو العليم، مع إيماننا بأنه ليس كمثله شئ -سبحانه وتعالى- كما قال -جل وعلا-:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ هذه الآية جاءت في معرض التهديد والوعيد لأهل الإيمان، وهي طبعًا وعيد للناس كلهم، إذا كان الله -تبارك وتعالى- يحاسب على الإيمان ويعظهم على هذا النحو ،يخوفهم من مقامهم بين يدي ربهم -سبحانه وتعالى- يوم القيامة.

 ثم من تتمة هذا الوعظ أن ذكر الله -تبارك وتعالى- ببني إسرائيل وأن ننظر في معاملة الرب -تبارك وتعالى- لهم كيف عاملهم الرب -جل وعلا- قال -جل وعلا -:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211].

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ آية من النعم العظيمة التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليهم كنجائهم من فرعون، شق البحر لهم ما كان من رفق الله -تبارك وتعالى- بهم يوم كانوا في التيه في تظليل الغمام عليهم، بتفجير الحجر ليكون أنهارًا تجري يستقون منها، المن والسلوى، نصرهم على عدوهم، أمور عظيمة من آيات الرب -تبارك وتعالى- ومن أيام الرب التي أعطاهم -جل وعلا- لكن انظر لما كفروا نعمة الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات كيف كانت عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، ففي كل مرة كانوا يعصون الله -تبارك وتعالى- ويخرجون عن أمره كانت تنزل بهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، ومن آخر ما نزل بهم من عقوبة أن شتت الله -تبارك وتعالى- شملهم، وفرقهم في الأرض كما قال -جل وعلا-:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ........}[الأعراف:168] قال جل وعلا-:{........ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأعراف:168] وقال أيضا {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف:167].

  فسرعة عقابه أنه ممكن أن يعاقب في الدنيا وقد عاقبهم الله -تبارك وتعالى- رغم أنهم يعني أمته المختارة، وأرسل فيهم الأنبياء والرسل، ولكن في كل ما كانوا يحيدون به عن أمر الله -تبارك وتعالى- كان الله يعاقبهم، فلما زاغوا أزاغ الله -تبارك وتعالى- قلوبهم، لما عتوا عن أمر الله -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا-:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166] فهذه معاملة الرب -سبحانه وتعالى- أن لم يقم بشكر نعمه -سبحانه وتعالى- من بدل نعمة الله -تبارك وتعالى- كفرًا فإن الله -تبارك وتعالى- يعاقبه -سبحانه وتعالى- أما إذا استقبل نعمة الله -تبارك وتعالى- بحقها وشكر الله -تبارك وتعالى- عليها فإن الله -تبارك وتعالى- يزيده كما قال موسى لقومه: وإذا تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد . هذا كلام موسى الذي أوحاه له الله -تبارك وتعالى- إليه ليبلغه إلى بني إسرائيل.

 فالله يقول: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سلهم كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ كم العددية يعني آيات كثيرة آتاهم الله -تبارك وتعالى- آية بينة على قدرته وعظمته وإنعامه وإحسانه -سبحانه وتعالى- وكذلك آيات في يعني الزجر والتهديد ليرتدعوا قال -جل وعلا-{........ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211] من يبدل نعمة الله الله يعطيه نعمة ولكنه يستقبل هذه النعمة بالجحود والنكران والكفر قال -جل وعلا-: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فإنه تأتيه العقوبة من الله -تبارك وتعالى- وهذا طبعا فيه رد على اليهود وفيه تحذير لأهل الإيمان ألا يغتروا كما اغتر اليهود من قبل، يقولوا نحن خير أمة أخرجت للناس، نحن أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، نحن الذين أكرمنا الله بإنزال القرآن بأن كتب عزنا، كتب ثناءنا، إلى آخر الدنيا نحن نحن فيغتروا بهذه النعم لا يقوموا بحق شكرها، يقعوا في المعاصي، يقعوا في الشرك، يقعوا في الكفر، فتأتيهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا –:وَمَنْ من: من صيغ العموم أيًا كان بنو إسرائيل، أو أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- { ........وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211].

 هذه آيات جاءت هنا في سياق هذه الأحكام تعظ المؤمنين موعظة بليغة، أي  سيروا على طريق الرب، خذوا شرائع الإسلام جميعًا، إياكم أن تتبعوا الشيطان، اعلموا أن هناك يوما يقف الكل بين يدي الله -عز وجل- ويحاسب الكل عليه، انظروا إلى بني إسرائيل هذا الأول يعني تحذير على مستوى الفرد، ثم التحذير على مستوى الجماعة، التحذير على مستوى الفرد {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[البقرة:210] هذا على مستوى على الأفراد ستحاسب أمام الله -تبارك وتعالى- وحدك. على مستوى الجماعة {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة:211].

 ثم انتقل بعد ذلك سياق هذه السورة العظيمة ليبين أن أعظم ما يجعل الناس يخرجون عن طاعة الرب، وعن طريق الرب ما هو الدنيا؟ الدنيا الغرارة هي أعظم شيء، وهنا يبين الله -تبارك وتعالى- حقيقة هذه الدنيا.

 قال -جل وعلا-:{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[البقرة:212]جاء هنا تهوين أمر الدنيا وبيان حقارتها وبيان أنها لا تساوي شيئا، قال -جل وعلا-:زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا زين بالبناء لما يسمى فاعله، والتزيين هو التجميل والتحسين، بمعنى أنها حببت إليهم وجملت في أعينهم، ولما جملت إليهم أصبحت هي كل همهم ومبلغ علمهم ومنتهى إراداتهم، هي الحياة الدنيا ولذلك سعوا فيها كذلك حسنوها بنوها جملوها ركنوا إليها أصبحت هي محط آمالهم ومنتهى أحلامهم زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا هذا التزيين أولًا قد نسب في القرآن إلى أنه من فعل الله -تبارك وتعالى- أن الله هو الذي زينها لهم اغواءا لهم -سبحانه وتعالى- وهذا بسبب كفرهم كما قال -تبارك وتعالى-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }[الكهف:6-7] فالله -تبارك وتعالى- جعل ما على الأرض زينة لها قال -جل وعلا-: لِنَبْلُوَهُمْ نختبرهم بهذا الأمر  أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من يركن لهذه الدنيا ويأخذها ويسير فيها ويترك طريق الآخرة، ومن يعلم أن هذه الزينة التي خلقها الله -تبارك وتعالى- وجمل بها هذه الحياة إنما يأخذ منها ما كتبه الله -تبارك وتعالى- وما أباحه الله -جل وعلا- كما قال -جل وعلا -:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ........}[الأعراف:32] وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الفعل تزيين هذه الحياة الحياة الدنيا في قلوب الكفار إنما هو بفعل الشيطان الذي سلطه الله -تبارك وتعالى- بكفرهم كما قال -جل وعلا -:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83] تؤزهم أزا تحركهم تحريكًا إلى المعاصي وقال -تبارك وتعالى-:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}وزين لهم الشيطان أعمالهم يعني جملها في قلوبهم، فأصبح من القبيح والمنكر أصبح يرونه حسنًا في أعينهم . زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.

 ثم قال -جل وعلا-:  وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوايعني أن من ضلالهم كذلك وكفرهم وذهابهم البعيد عن الحق أنهم يسخرون من الذين آمنوا، والسخرية هي الاستهزاء والنظر إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وأنهم أقل شأنًا وأحقر حالًا، فينظرون إلى أهل الإيمان على هذا النحو، يضحكون منهم ويستهزئون منهم، والحال أن أهل الإيمان هم الموفقون، هم الفائزون، هم السعداء، هم الذين يسيرون على الطريق الصحيح، الطريق إلى الله طريق الجنة، هم أهل الفوز فكان ينبغي أن يحسدوا، أن يغار منهم، أن يغبطوا،لا أن يستهزأ بهم،   كيف تستهزئ بالمفلح وأنت تفرح بحالك وأنت الخاسر، فهذا من الضلال المبين يعني من الضلال الذي أضل الله -تبارك وتعالى- به الكفار أنهم فرحون لما هم فيه من الخسار والخيبة والدمار والتعلق بهذه الدنيا الغرارة التي متاعها قليل ونهايتها يعني النار، وكذلك الضىىحك والاستهزاء بأهل الإيمان والحال أنهم أهل السعادة وأهل الاستقامة وأنهم في النهاية هم الفائزون، فهذا أعظم الضلال، أعظم الضلال أن يرى يعني الإنسان المكسب خسارة والخسارة مكسب .

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا قال -جل وعلا-: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وقف ثم قال -جل وعلا -: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هذا إذا وضع الحال على الصورة الصحيحة والذين اتقوا وهم من أهل الإيمان أهل التقوى مخافة الرب -تبارك وتعالى- فوقهم يوم القيامة، فوقهم في المكانة والمكان، فهؤلاء في الجنة و أؤلئك في النار، فهم فوقهم يوم القامة علوًا ورفعة في درجات الجنة، وهؤلاء سفولًا ونزولًا في دركات النار عياذًا بالله قال -جل وعلا-: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هذا فضل الله -عز وجل- ونعمته بأهل التقوى أنه يرزقهم في الجنة بغير حساب، بغير حساب بدون عد، الحساب العد لا يعد الله -تبارك وتعالى- عليهم حسناتهم بل يعطيهم بلا عد -سبحانه وتعالى- هذا عطاء كثير ليس معدودًا عليهم وليس محسوبًا عليهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

بعد هذا هنا بدأت الآيات تحذر أهل الإيمان من الفرقة في الدين، يجب أن نأخذ الدين كاملًا ثم أن نسير في الدين كما أنزله الله -تبارك وتعالى- ولا نميل يمينًا ولا يسارًا وحذر من التفرق فيه، وما كان من شأن الأمم التي تفرقت في الدين فقال -جل وعلا-:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213]

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً بمعنى أنهم كانوا أمة واحدة على الكفر ساروا جاء وقت أنهم أطبقوا على الكفر بالله -تبارك وتعالى- فبعث الله -تبارك وتعالى- النبيين مبشرين ومنذرين أنزل الله -تبارك وتعالى- النبيين يبشرون أهل الإيمان بالجنة، ويحذرون من كفر ومن خالف أمر الله -تبارك وتعالى- بالنار. البشارة هي الإخبار بما يسر، والنذارة هي التخويف مما يسوء.

 قال -جل وعلا-:وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ إنزال الله -تبارك وتعالى- مع هؤلاء الأنبياء الكتاب وهو جنس الكتب كتب النازلة من السماء بالحق، يعني كونها متضمنها للحق، وكذلك نزولها فنزول الكتب حق، وكذلك قد تضمنت هذه الكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- الحق من عند الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا-: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني ليكون الكتاب النازل من عند الله -تبارك وتعالى- حكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه، فبين لهم الحق التوحيد والشرك، الضلال والهدى، السعادة والشقوة، ما أحله الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة و ما حرمه على الحقيقة، الطريق إلى الله -تبارك وتعالى- كل ما يختلف فيه الناس من شئ يأتي الله -تبارك وتعالى-، فيبين للناس الحق فيه حتى يتبعه صراط  الرب -تبارك وتعالى- ويتركوا السبل التي ساروا فيها واختلفوا فيها، فهذا من من مقاصد نزول الدين أن يبين الله للناس الصراط المستقيم، وينتشلهم من الضلال الذي هم فيه.

 قال -جل وعلا-: وَأَنزَلَ مَعَهُمُ أي مع الأنبياء الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ثم قال -جل وعلا-:وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فلم يختلف في الكتاب المنزل للهداية إلا أهل الكتاب، فأهل الكتاب الذين نزل هذا الكتاب واحدا  للناس على الطريق المستقيم هم أنفسهم اختلفوا في الكتاب تفرقوا فيه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واختلفت النصارى على اثنتين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» فاختلف أهل الكتاب فيه، بل لم يختلف في الكتاب إلا أهله وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فاختلفوا بعد الهدى وبعد النور وبعد نزول البينات من الله -تبارك وتعالى- التي هذه البينات الآيات الواضحات التي لا تترك في الحق لبسة، بينت الحق طب لما اختلفوا قال -جل وعلا-:بَغْيًا بَيْنَهُمْ بغيًا بينهم بغيًا بين أهل الدين، أهل الكتاب بسبب الحسد، البغي هنا الحسد والعداوة وسبب أنه يحسد أخاه، فيقوم يخالفه من باب أن يخالفه ليُعرف هو ثم يحسد هذا، فيخالف هذا فيكون بسبب الحسد وأن يقول قولًا مخالف لمن ينافسه في الدين ويسانيه ويراه أنه يعني قرن له، فيقوم يتخذ ويقول مقالة في الدين تخالف المقال التي يقول بها الآخر، فيصبح هذا يأخذ هذا طريق ويأخذ هذا طريق.

 قال -جل وعلا-:فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ الله -تبارك وتعالى- هدى الذين آمنوا وهنا مفهوم أن المختلفين كفار الذين خرجوا ببدعتهم هذه إلى الكفر، فهدى الله الذين آمنوا وهو متمسكون بالكتاب الذي لا يخالفونه ولا يبغون على أحد ولا يحسدونه، وإنما يقولون الحق الذي يعلمون أنه الحق لهم عليهم حتى لو عاداهم أحد وخاصمهم وكان هذا المعادي لهم على حق فإنهم يتبعون هذا الحق، فالحق عنده هو الذي يتبع ولو قلاه من قلاه.

 فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ هداية تعريف وهداية توفيق هداهم الله -تبارك وتعالى- بأن عرفهم الحق وهداهم الله -تبارك وتعالى- بأن مسكهم وألزمهم هذا الحق بإذنه بمشيئته -سبحانه وتعالى-، فهذا الفضل منه -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-:وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني أن هذا الأمر هو له -سبحانه وتعالى- فإن الله يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، فضلال من ضل من أهل الكتاب السابقين إنما هو بسبب البغي وقد جاء الله -تبارك وتعالى- حذر هذه الأمة أن تسلك مسلك السابقين في هذا الأمر فقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ......... }[آل عمران:102-105] فهي تحذير من الرب -تبارك وتعالى- أن يحصل في هذا الأمة ما حصل في الأمم السابقة من بعد ما جاءهم، و أؤلئك لهم عذاب عظيم {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ }[آل عمران:106-108] فهنا أخبر -سبحانه وتعالى- هذه الآيات هي محذرة من الخلاف في الدين، محذرة أهل الدين أن يختلفوا فيه وأن المختلفين في الدين منهم من يكفر ومن يكفر يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فقول الله -تبارك وتعالى- هنا هذه الآية محذرة كان الناس أمة واجدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه للأسف بعد ذلك إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، دعوة إلى الاعتصام بكتاب الله -تبارك وتعالى- وعدم الخروج عليه وتحذير من أن تدفع الخصومة في الدين إلى الفرقة فيه، وأن من اعتصم بالله -تبارك وتعالى- هداه إلى الصراط المستقيم .

نكتفي اليوم بهذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب واصلي واسلم على عبد الله ورسوله محمد والحمد لله رب العالمين