الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (602) - سورة الزخرف 15-28

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15] {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}[الزخرف:16] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[الزخرف:17] {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}[الزخرف:18] {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف:19] {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الزخرف:20] {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}[الزخرف:21] {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:22] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن سخافة عقول مشركي العرب وعقائدهم المتناقضة، فمع إيمانهم بأن الله -تبارك وتعالى- خالق السماوات والأرض {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:9]، إلا أنهم مع هذا كانوا يُنكِرون أشد الإنكار أن يبعثهم الله -تبارك وتعالى- وأن يُحييهم مرة ثانية، ذكَّرهم الله -تبارك وتعالى- بإنعامه وإفضاله وقدرته -سبحانه وتعالى-، فقال -جل وعلا- الله العزيز العليم {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الزخرف:10] {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}[الزخرف:11]، فالرب هو الذي خلَقَ هذا الخلْق، وصرَّف هذا التصريف، وأنزَل ماء المطر من السماء؛ وأحيى به الأرب الميتة، أرض ميتة؛ بلدة تكون ميتة، ما فيها أي حياة، فإذا به يُنزِل الله -تبارك وتعالى- المطر فيُحيي هذه الأرض بهذه الزروع الثمار من كل الأشكال والألوان، القادر على هذا هو القادر على أن يُعيدكم وأن يخلقكم؛ هذا من جنس هذا، {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}[الزخرف:12] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}[الزخرف:13] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}[الزخرف:14]، كان يجب أن تعرفوا نِعَم الرب -تبارك وتعالى- وأنه الخالق الذي خلَقَ لكم هذا حتى تتذكروا نعمته -سبحانه وتعالى-، وتعلموا أنكم بالضرورة لابد منقلبون إليه -سبحانه وتعالى-؛ وراجعون إليه في نهاية المطاف، أما أن يخلقكم ويترككم وتموتون بعد ذلك في هذه الحياة ولا بعث ولا نشور؛ يعني لا يكون الرب إلهًا حكيمًا -سبحانه وتعالى- إذا خلَق خلْقَه سدىً وعبثًا -جل وعلا-.

ثم بيَّن الله بعد ذلك صور سخافة عقولهم، قال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15]، جعلوا بمعنى اعتقدوا، له؛ لله -تبارك وتعالى-، من عباده؛ ملائكته وهم عباده، جزء؛ لأنهم قالوا بنات الله، والإبن هو جزء من الوالد فكأنهم اعتقدوا أن هذا جزء من الله -تبارك وتعالى- إذن صفاتهم صفاته، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، والله هو الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم يلِد، ولم يولَد، وكان من سخافة عقولهم أن قالوا أن الله تزوَّج من الجِن وولِدَ له الملائكة، تعالى الله -تبارك وتعالى- عما يقولون، كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:158]، جعلوا بينه؛ بين الله، وبين الجِنة نسبًا؛ اللي هو بالزواج، وأنه ولِدَ له الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15]، كفور؛ شديد الكفر، فهذا من كفره وعِناده أن ينسب إلى الله -تبارك وتعالى- هذا النقص ولا حُجَّة ولا دليل عنده إلا الظن؛ وسب الرب -تبارك وتعالى-، وشتمه على هذا النحو بالظن والتخمين، وإنشاء عقيدة يعتقدها؛ ويقوم بها، ويُحارِب من أجلها، وهي كلها قائمة على ظن، وتخمين، وكذب، وافتراء، ما عنده بهذا أي نوع من بصيص نور ولا كتاب ولا برهان ولا بيِّنة؛ هكذا، {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ}، لربه؛ لنِعَم ربه -سبحانه وتعالى-، جاحد، مبين؛ بيِّن، واضح في كفره.

ثم ناقشهم الله -تبارك وتعالى- في هذا الاعتقاد السخيف الباطل، قال -جل علا- {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}[الزخرف:16]، الله -تبارك وتعالى- الخلْق كله له، فهل إذا كان الله يخلُق الخلْق يجعل لنفسه البنات ويُعطيكم أنتم البنين الذكور؟ ثم بيَّن أن لا شك أن الذكور أكمل من الإناث، وكيف يخص الله -تبارك وتعالى- نفسه بالناقص ويخصكم أنتم بالكامل؟ {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}[الزخرف:16]، اختاركم بالبنين؛ بالذكور، والحال أن هذه القِسمة السيئة هم لا يرضونها لأنفسهم، قال -جل وعلا- {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[الزخرف:17]، إذا بُشِّر أحدهم؛ قيل له ولِدَ لك أنثى بنت، ولدت زوجتك الآن أو جاريتك أنثى، الله يقول {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، ظل طيلة نهاره وجهه مسود من الكرب والغم والحزن أن جائته أنثى، وهو كظيم يعني كاظم لغيظه، كظم الغيظ هو كبته، يكبت هذا ويعمل هذا في نفسه، يعني يغلي من داخله ولا يُظهِر هذا، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، من هذه البُشرى، كيف وأنت لا ترضى لنفسك الأنثى على هذا النحو تنسبها لله -تبارك وتعالى-؟ لله الذي له الاختيار -سبحانه وتعالى- وله الخلْق كله، تجعل أن الله يختار لنفسه ما لا ترضاه أنت لنفسك، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ........}[الزخرف:17]، والذي ضرب للرحمن مثلًا هو أن الملائكة بنات، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}.

قال -جل وعلا- {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}[الزخرف:18]، يعني الحال أن الأنثى تُنشَّأ في الحِلية؛ تُحلَّى بالأساور، والخواتم، والعقود، والزينة، والحِلية إنما هي من النقص، يعني الحِلية لتُحلِّيها للنقص الذي فيها تقوم تُكمَّل بهذه الحِلية، {........ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}[الزخرف:18]، يعني إذا خاصم فلا يُبين، تغلُب عليه عبرَته وعاطفته فلا يُبين، يعني هذا النقص في الأنثى موجود يجعلها الله -تبارك وتعالى- له ويجعلها لملائكته ويرزقكم أنتم بالذكور، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}[الزخرف:18]، ثم قال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}[الزخرف:19]، وجعلوا؛ جعل هنا بمعنى اعتقدوا، {الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ}، الذين خلقهم الله -تبارك وتعالى- وأقامهم في عبادته، أقامهم في أعمال مُعيَّنة ووكَّلهم بها، وأقامهم جميعهم يعبدون الله -تبارك وتعالى- {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206]، -سبحانه وتعال-، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فالله اختارهم -سبحانه وتعالى-؛ واصطفاهم، ونقَّاهم، وجعلهم قائمين في عبادته -سبحانه وتعالى-، لا نوازع لهم ولا هوى لهم يأخذهم عن طاعة ربهم -سبحانه وتعالى-، فهم مؤتمرون بأمره -سبحانه وتعالى-، قال الله -تبارك وتعالى- عنهم {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[الصافات:164] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}[الصافات:165] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}[الصافات:166]، وما منَّا من الملائكة إلا له مقام معلوم عند ربه -سبحانه وتعالى-، اللي في السماء الأولى؛ في السماء الأولى، اللي في الثانية؛ في الثانية، عند سِدرة المُنتهى مقام جبريل لا يتعداه، ولذلك لمَّا وصل جبريل بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- ليلة المعراج إلى سِدرة المُنتهى قال له "تقدَّم؛ هذا مكان لا ينبغي إلا لك"، ووقف عند مقامه الذي أُمِرَ بالوقوف عنده؛ عند سِدرة المأوى، {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[الصافات:164] {وَإِنَّا لَنَحْنُ ........}[الصافات:165]، أي الملائكة الصافون عند ربهم، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- لأصحابه «ألا تصفُّون كما تصُفُّ الملائكة عند ربها، قالوا كيف يصُفُّون؟ قال يُسوون الصفوف ويُتِمون الصف الأول فالأول»، فيسوون صفوفهم ويُتِمون الصف الأول فالأول بين يدي ربهم -سبحانه وتعالى-، فالملائكة عباد الله -تبارك وتعالى-؛ أقامهم الله -تبارك وتعالى- في عبادته، وهم عباده وليسوا بناته كما يدَّعي هؤلاء الكذَّابون المجرمون، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26]، الملائكة عباد، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28] {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، فهؤلاء ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، أما هؤلاء المشركون فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن -أخبر الله بأنهم عباده- إناثًا؛ أن الله خلَقهم حال كونهم إناثًا.

قال -جل وعلا- {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، سؤال هنا للتبكيت والتقريع وتسخيف هذه العقول؛ وبيان بعدها عن العقل وعن الفهم، وأنها عقول أُناس مفترون كذَّابون، {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، هل شهدوا خلْق الملائكة واطَّلعوا هل هم إناث أم ذكور؟ {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}، قال -جل وعلا- {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}، ستُكتَب شهادتهم؛ قولهم هذا، وقولهم إنما هو بناء على الظن والتخمين والباطل؛ وليس له أي شيء من الحقيقة، ولا عندهم أي برهان ودليل عليه، لكن ما أدلوا به من هذا المعتقد الباطل سيُكتَب؛ يكتبها عليهم الملائكة، {وَيُسْأَلُونَ}، يوم القيامة يسألون عن فعلهم القبيح هذا؛ واعتقادهم هذا، البالغ ما بلغ في الوقاحة والإثم والكذب على الله -تبارك وتعالى-، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89] {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- عنهم {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الزخرف:20]، أيضًا من وقاحتهم وكفرهم وعِنادهم أنهم احتجوا في عبادتهم للملائكة وقولهم فيهم ما قالوا؛ إنما احتجوا بالقَدَر، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، يعني لو شاء الله ألا نعبد هؤلاء الملائكة ونتقرَّب إليهم ليُقرِّبونا إلى الله -تبارك وتعالى- ما عبدناهم، فإن هذا الواقع الذي وقع منا إنما وقع بمشيئة الرحمن، بمشيئته؛ بإرادته، قال -جل وعلا- {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، بهذا الذي قالوه في أن الله -تبارك وتعالى- قد شاء هذا عليهم، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، يعني أن هذا من الخرص والكذب، وإلا فإن الله -تبارك وتعالى- أبان لهم الحق وبيَّنه لهم، وهم اختاروا هذا الباطل والكذب والافتراء على الله -تبارك وتعالى-، {........ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}[الزخرف:20]، الخرص هو الظن والتخمين، ومنه خرص ثمار النخلة، خرصها يعني تقدير ما عليها من الثمرة كم يساوي في الكيل أو في الوزن، هذا يُسمَّى الخرص وذلك أنه بالظن، ممكن أن يصْدُق هذا فيقال أن على هذه النخلة من الثَمَر مائة وِثق، خمسين، عشرة، ثم لا يكون هذا هو الوزن حقيقة أو الكيل حقيقة؛ فهذا خرص، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، يعني يقولون قولًا بالظن وليس مبنيًا على العلم واليقين.

قال -جل وعلا- {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}[الزخرف:21]، أم آتيناهم كتابًا من قبله؛ من قبل أن ينزل عليهم هذا الكتاب القرآن، كتاب يُبيِّن لهم هذه العقائد الباطلة التي هم عليها؛ بأن الملائكة إناث، وأنهم على هذا النحو، وأن هذه الطريقة التي يعبدوا الله -تبارك وتعالى- عليها، {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}[الزخرف:21]، مستمسكون بهذا الكتاب وسائرون في عقائدهم بما في هذا الكتاب المُنزَل عليهم من الله؛ والحال أنه لا يوجد هذا، قال -جل وعلا- {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:22]، بل؛ إضراب لِما سبق، {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، إحنا وجدنا آبائنا على أمة يعني على طريقة ودين ومنهج في عبادتهم؛ في أقوالهم هذه التي قالوها، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، وإنا على ما سار عليه هؤلاء الآباء مهتدون يعني بهديهم، وسائرون في الطريق الذي هدونا إليه وأرشدونا إليه، فالحال أنهم عميان يسيرون وراء عميان، وأنهم سائرون على درب آبائهم دون أن أن يسألوا أنفسهم هل هؤلاء الآباء كانوا مهتدين أم غير مهتدين، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:22]، وهذه هي عِلَّة كل أمة ضالة.

قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف:23]، وكذلك؛ يعني كهذا الحال الذي عليه كفار قريش، كفار مكة، كفار العرب، على هذا الحال الذي هم عليه في اتِّباعهم للآباء بدون تبصُّر وبكل هذا العمه، يقول الله {مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ}، وهذا كله لتأكيد هذا الأمر، وأنه ما خرج عن هذا ولا شذ عنه أحد، كل قرية أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها نذير، ما أرسلنا من قبلك؛ في كل الذين قبل النبي من الرُسُل والأنبياء، في قرية من نذير؛ يدعوها إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}، قابل مترفوها هذا النذير، ومترفوها هم الأغنياء المترفين بصنوف النِعَم التي أنعمها الله -تبارك وتعالى- عليهم، قالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، وجدنا آبائنا على أمة وطريقة؛ يعبدون هذه الأصنام، يسيرون على هذا النحو، يُحلون هذا، يُحرِّمون هذا، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، وإنَّا؛ تأكيد، يؤكِّدون أمرهم، على آثارهم؛ على آثار الآباء، مُقتدون؛ نقتدي بهم، نقتدي بهم في أفعالهم وأقوالهم واعتقاداتهم، فنحن نسير على ما كان عليه آباؤنا.

{قَالَ}، أي كل رسول لهم، {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}، يعني أتتبعوني إذا جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبائكم؛ بطريق هُدى، وأهدى هنا هي على وزن التفضيل لكن الحال أنه لا نسبة في التفضيل بين هذا وهذا؛ يعني أن هذا مُهتدي وهذا أهدى... لا، بل هو أهدى لا شك أنه من كل وجه وأن هذا طريق ضال، طريق آبائهم طريق ضلالة، وطريق الله -تبارك وتعالى- طريق هُدى، لكن لعله تنزُّل من هؤلاء؛ تنزُّل من الرُسُل لأقوامهم، {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}، يعني أتتبعوني وتتركوا ما عليه الآباء إذا وجدتم أن هذا هو طريق الهداية الحقيقي؛ وأن طريق آبائكم ليس طريق الهداية، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ}، أي قال النبي والرسول المُرسَل إلى هؤلاء، {........ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف:24]، فيكون الرد أننا لن نقبل رسالتكم مهما كانت، لو جئتم بأهدى أو غير ذلك فلن نقبله، إنَّا؛ كل أمة تقول لرسولها {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، وأُرسِلتم بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله والمُرسِل لهم هو الله -سبحانه وتعالى-، كافرون؛ جاحدون له، لن نقبله، فأصبح الأمر عندهم أن سيسيرون على طريق آبائهم ولو كان ما كان، وأنهم لن يتبعوا طريق الرُسُل مهما كان ولو كان هو الهداية؛ وعلموا أنه الهداية، لكنهم لن يتخلوا عن ما وجدوا عليه آبائهم، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.

قال -جل وعلا- لمَّا كان هذا موقفهم من دعوة الرُسُل، وأنهم مصرون على الباطل أيًا كان هذا الباطل؛ وباقون عليه، وأنهم لن يقبلوا دعوة الله -تبارك وتعالى- وهم جاحدون بها، قال -جل وعلا- {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ}، فانتقمنا منهم بالعقوبة الماحقة، أنزل الله -تبارك وتعالى- فيهم عقوبته التي محتهم وأزالتهم عن ظهر هذه الأرض، كما فعل بقوم نوح؛ وبعاد، وبثمود، وبقرى لوط، وبكل هذه القرى التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- لمَّا قفلوا على أنفسهم باب الهداية، وأخبروا رُسُلهم بأنهم لن يبرحوا الطريق التي كان عليها الآباء والأجداد، قال -جل وعلا- {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الزخرف:25]، انظر كيف كانت عاقبة المُكذِّبين، كيف كانت؟ كانت شديدة؛ مؤلمة، عاقبة المُكذِّبين؛ هؤلاء قوم نوح أغرقهم الله -تبارك وتعالى- جميعًا، {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25]، وقوم عاد يقول الله -عز وجل- فيهم {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}[الحاقة:6] {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}[الحاقة:8]، فهذي صورته، {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}[الحاقة:9] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}[الحاقة:10]، أخذ الجميع أخذةً رابية، انظر في مصارع هؤلاء الغابرين؛ مصارع هؤلاء المُكذِّبين، {........ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الزخرف:25].

ثم بعد ذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- شأن إبراهيم؛ هذا النبي الكريم، والإمام العظيم، والذي ينتسب إليه كل الموجودين، اليهود يُمجِّدونه وينسبون أنفسهم إليه، وأن هذا أباهم؛ وأنهم على طريقته، والنصارى كذلك يُمجِّدونه ويُعظِّمونه، ويروا أنهم على طريقته ومِلَّته، ومشركوا العرب كذلك يُمجِّدونه ويُعظِّمونه ويروا أنه أباهم القديم، فهم من نسل إسماعيل ابن إبراهيم وأنهم على طريقته ومِلَّته، وكلٌ مع قيامهم جميعًا بالشِرك والكفر وأنهم ليسوا على طريقة إبراهيم إلا أنهم كلهم كانوا يحتجون به؛ ويقولون نحن الذين على مِلَّته، قال -جل وعلا- في شأن إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}[الزخرف:26]، هذي حقيقة إبراهيم الذي يتزرَّع ويفتخر بالنسبة إليه كل هذه الأمم الموجودة في عصر التنزيل؛ من اليهود، ومن النصارى، ومن المشركين، والحال أنهم جميعًا هؤلاء الأمم الثلاث مخالفون لِما كان عليه أبوهم إبراهيم –عليه السلام-، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}، اذكر، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ}، وأبوه هو آزر كما جاء في الآيات الأخرى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ........}[الأنعام:74]، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ........}[الزخرف:26]، قال لقومه، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، إنني؛ اللي هو إبرهيم، براء؛ البراء اللي هو البعيد المُتبرئ من كل ما يعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، من الذي تعبدونه، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ........}[الزخرف:27]، فإنهم أحيانًا كانوا يعبدون مع الله -تبارك وتعالى- هذه الآلهة، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ........}[الزخرف:27]، إما على الاستثناء المتصل أو على الاستثناء المنقطع في مَن لم يكن منهم مؤمنًا بالله -تبارك وتعالى-، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ........}[الزخرف:27]، لكن الذي فطرني ربي -سبحانه وتعالى-، فطرني؛ أنشأني أول مرة، خلَقَني أول مرة؛ فهو الخالق لي، فإنه؛ أي الرب -سبحانه وتعالى-، سيهدين؛ إلى طريقه -سبحانه وتعالى-، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}[الزخرف:27]، إلى طريقه، ومنهجه، وجنته، ورضوانه -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:28]، جعلها يعني هذه الكلمة؛ كلمة التوحيد، أنه مؤمن بالله وحده -سبحانه وتعالى-، تارك لكل طرق الشِرك التي عليها القوم، وجعلها؛ جعل كلمة التوحيد، {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}، عقبه من نسل إسحاق، إسحاق كان نبي؛ ورِثَ الدين عن أبيه، وكذلك يعقوب كان نبي؛ ورِثَ الدين عن إسحاق، وكلٌ وصى بهذا الدين الواحد؛ فإبراهيم وصى، وإسحاق وصى، ويعقوب وصى، كما قال الله -تبارك وتعالى- لليهود {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:133]، فهذي وصية كلٌ منهم إلى أبنائه من بعده، وكذلك فعل إبراهيم مع إسماعيل؛ قام موحِّدًا لله -تبارك وتعالى-، قال {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:128]، فإبراهيم ورَّث بنيه من الفرعين دعوة التوحيد، فالعرب كانوا على التوحيد بعد إسماعيل -عليه السلام-، إسماعيل دعى إلى توحيد الله -تبارك وتعالى- وكان بنوه على هذه الكلمة، وكذلك بنوا إسرائيل من إسحاق -عليه السلام- كانوا على هذا الدين، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ........}[الزخرف:28]، أولاده، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، يعني لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة؛ ويلتزمونها، ويسيرون عليها، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- أنهم منهم مَن آمن ومنهم مَن كفر، منهم مَن سار على هذه ومنهم مَن ضل عنها، كما قال إبراهيم لَّما قال له الله -تبارك وتعالى- {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، يعني على طول أئمة، {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، وقال -تبارك وتعالى- {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، قال -جل وعلا- {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد:25] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد:26]، فمنهم؛ من ذُريَّة نوح وإبراهيم، {مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.

فإبراهيم -عليه السلام- جعل هذه الكلمة في عقبه لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة؛ ويتمسكون بها، وتمسَّك بها مَن شاء الله -تبارك وتعالى- له الهداية والتوفيق فبقي على التوحيد، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:28]، فبقي في أمة العرب توحيد الله -تبارك وتعالى- إلى أن جاء هذا العربي عمرو ابن لُحي الخُزاعي؛ فبدَّل دين العرب، ويقول النبي «أول مَن بدَّل دين العرب عمرو ابن لُحي الخُزاعي؛ ولقد رأيته يجر قُصبَه في النار»، فتبدَّل الدين من هنا وإلا فإن أجيال من العرب ذُريَّة إسماعيل ابن إبراهيم ساروا على التوحيد، وكذلك سار بنوا إسرائيل على التوحيد ما ساروا، فهذا يوسف -عليه السلام- يدعوا إلى التوحيد حتى في السجن، ودعى المصريين إلى التوحيد؛ وأباه، وإخوانه، ثم جاء موسى داعيًا إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، ثم وقع بعد ذلك ما وقع من الشِرك في بني إسرائيل والكفر، ثم جاء عيسى داعيًا إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، وبقي من ذُريِّته ومن أتباعه مَن بقي على التوحيد، ثم وقع فيهم الشِرك بعد ذلك والتثليث، فالله -تبارك وتعالى- أخبر عن إبراهيم وقال {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:28].

ثم قال -جل وعلا- في العرب {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ}[الزخرف:29] {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}[الزخرف:30]، هذا شأن العرب، وسنعود إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.