الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الزخرف:66] {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67] {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الزخرف:68] {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}[الزخرف:69] {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف:71] {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72] {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}[الزخرف:73]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن يوم القيامة؛ وأنه يأتي الناس بغتة، قال {هَلْ يَنظُرُونَ}، يعني ينتظر هؤلاء المُكذِّبون، وكان السياق قبل هذا في الذين كفروا بعيسى ابن مريم -عليه السلام-؛ وأن الله -تبارك وتعالى- قد ضربَه مثلًا وجعله مثلًا لبني إسرائيل ليُحتذى، وأن الكفار جادلوا فيه النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وقالوا نحن نعبد الملائكة وديننا أفضل من دين النصارى، لأن النصارى يعبدون بشرًا ونحن نعبد الملائكة، فقال -جل وعلا- {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}[الزخرف:57] {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف:58]، ثم قال -جل وعلا- {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}[الزخرف:59]، فهو عبد وليس هو ابن الله كما زعَم فيه مَن زعَم، ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ}[الزخرف:60] {وَإِنَّهُ}، أي عيسى -عليه السلام-، {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}، وفي القراءة الثانية لعَلَم الساعة، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا}، لا تشكُّنَّ في الساعة، {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، هذي دعوة عيسى إلى قومه، {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الزخرف:62].
ثم قال -جل وعلا- {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ}، وهي الدلائل الواضحات على صدقه؛ من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ومن صناعته من الطين كهيئة الطير؛ فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، أيَّده الله -تبارك وتعالى- بهذه المعجزات الباهرة، {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ}، قال لقومه؛ لبني إسرائيل، {........ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الزخرف:63] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي}، فهو عبد الله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- ربه وهو رب مَن أُرسِل إليهم، {........ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[الزخرف:64]، قال –جل وعلا- {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ}، جماعات بني إسرائيل والذين آمنوا منهم بعيسى -عليه السلام- اختلفوا في ما بينهم؛ في حقيقة المسيح -عليه السلام-، وفي الطريق إلى الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {........ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[الزخرف:65]، توعُّد من الله -عز وجل- لهم بهذا اليوم الأليم؛ يوم القيامة.
ثم قال -جل وعلا- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الزخرف:66]، ماذا ينتظر المُكذِّبين والمختلفين في حقيقة الدين؟ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الزخرف:66]، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن الساعة قد جعل الله -تبارك وتعالى- عِلمها إليه؛ ولم يُطلِع أحدًا من خلْقِه كلهم عليها، وأنها لا تأتي الناس إلا بغتة، قال {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، وهم لا يشعرون أي بمجيئها وبقُرب مجيئها فيستعدون لذلك، كما قال -جل وعلا- {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[الأنبياء:40]، ثم وصف الله -تبارك وتعالى- أحوال الناس فقال {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، الأخلاء؛ الأحباب الذين كان يُحِب بعضهم بعضًا في هذه الدنيا، لكن على الكفر وعلى مفارقة الدين يتعادون هناك، ولو كانت هذه الخُلَّة هي بين الأتباع والمتبوعين وبين مَن عُبِدوا من دون الله ومَن عبدوهم خلاص؛ تتقطَّع الأسباب بينهم، ويلعن بعضهم بعضًا، ويكفر بعضهم بعضًا في الموقف يوم القيامة ثم وهم في النار جميعًا -عياذًا بالله-، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، فإن الله -تبارك وتعالى- يُبقي أُخوَّتهم، ومودتهم ومحبتهم باقية إلى يوم القيامة، أما في جنة الله -تبارك وتعالى- فإن الله لا يجعل في قلب مؤمن غِلًا قط لمؤمن، بل {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، يبقى أهل الجنة في غاية الأخوَّة والمحبة بعضهم لبعض، كما قال -تبارك وتعالى- {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]، حتى ما بقي من بعض الإحن والغِل الذي كان بين بعضهم في الدنيا بين بعض المؤمنين؛ كأن قاتل بعضهم بعضًا، أو سب بعضهم بعضًا، أو شتم، هذه الخصومات التي كانت بينهم في الدنيا فإن الله -تبارك وتعالى- يُزيلها نهائيًا؛ ويبقوا أحباب في جنة الله -تبارك وتعالى-، بعكس الكفار الذين يلعن بعضهم بعضًا؛ ويسب بعضهم بعضًا في النار، {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}[ص:64]، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67].
ثم نادى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين، يُناديهم ويُبيِّن لهم ما هم فيه من النعيم؛ والرفاهية الحبرة، والسرور، فيقول -جل وعلا- {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الزخرف:68]، هذا خلاص؛ هذا يوم الراحة التامة، لا خوف عليكم اليوم في ما تستقبلون من الزمان؛ فإنه لا خروج من الجنة، ولا موت، ولا سئامة، ولا غم، ولا هم، ولا كرب؛ خلاص انتهى، ثم في ما خلَّفتموه في ما ورائكم خلاص؛ إن الله -تبارك وتعالى- قد أمَّنهم على كل ما تركوه خلف ظهورهم، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الزخرف:68]، على ما مضى، مَن هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}[الزخرف:69]، هذه البشرى إنما ينالها الذين آمنوا بآيات الله، قال {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا ........}[الزخرف:69]، آيات الله -تبارك وتعالى- يعني دلائل عظمته وقدرته -سبحانه وتعالى- وإخباره، سواءً هذه الآيات المتلوة وهي نازلة منه، كل جملة من القرآن إنما هي آية؛ دليل على أنها من الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن الله أنزل هذا الكتاب مُعجِز؛ لا يستطيع أحد من العرب أن يصوغ مثله، وكذلك آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلْق، ثم آياته كذلك في التصريف؛ فإن تصريف هذا الكون كله بآيات الله -تبارك وتعالى-، انظر كيف أنجى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين؛ كيف أهلك الكافرين، كل هذا من آياته -جل وعلا-؛ آيات الله -تبارك وتعالى- في التصريف، {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}[الزخرف:69]، مُنقادين، الإسلام هنا بمعنى الإزعان والانقياد، وهذه الآية جمعت طرفي الدين؛ إيمان القلب وعمل الجوارح، ولا نجاة إلا بهذا؛ إلا بإيمان القلب وعمل الجوارح، الذين آمنوا بآياتنا؛ صدَّقوا بها، وعملوا بمقتضى هذا التصديق في قلوبهم وكذلك جوارحهم، وكانوا مسلمين لله مُنقادين مُزعنين لله -سبحانه وتعالى-؛ أي مُطيعين لأمره، مسلمين له -سبحانه وتعالى-.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70]، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}، هذا أمر من الله -تبارك وتعالى-، أمر تكريم؛ تكريم منه -سبحانه وتعالى- بإعلانه -جل وعلا- لعباده المؤمنين أن يدخلوا الجنة، الجنة؛ بستان الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، الجنة سُميَت جنة لأن الجنة هي البستان الذي تشابكت أغصانه؛ حتى أن مَن دخلها فإنه يُستَر، جنَنَ بمعنى ستَرَ، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}، هذا البستان العظيم؛ بستان الرب -سبحانه وتعالى- الذي عرضه عرض السماوات والأرض، {........ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70]، أنتم؛ ذكَرَ هنا الضمير الظاهر ليؤكِّد الضمير المستتر، ادخلوا أنتم وأزواجكم تُحبَرون وذلك أن الرجل هو الأساس والمرأة تابعة له، أزواجكم؛ تابع له، فكل رجل مات على الإيمان فإن زوجاته يدخلن معه الجنة كذلك، هذا رحمة من الله -تبارك وتعالى- وعناية بعباده الؤمنين، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70]، بكل أنواع الحبور؛ اللي هو السرور، تُسَرون وتُكرَمون؛ فالحبور هو السرور، يعني أنكم نُسَرون بكل ما يُدخِل السرور من البساتين الممتدة؛ والأنهار الجارية، والمناظر البديعة، والروائح الذكية، فالجنة كلها يُشَم ريحها على بُعد مسيرة كذا وكذا، قالوا مسيرة أربعين سنة تُشَم ريح الجنة، أدخلهم الجنة؛ عرَّفها لهم، فكلها عرْف وكلها طِيب، الطِيب ينبع من كل جنباتها، من أرضها؛ فأرضها مسك أظفر، وطعامها وشرابها كما قال -جل وعلا- في شراب أهل الجنة {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:26]، فالشراب يفوح طِيبًا، نساؤها يفُحن طِيبًا كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ولو أن امرأة من أهل الجنة نظرت إلى أهل الأرض لأضائت ما بين السماء والأرض؛ ولملأته طِيبًا»، تملأ ما بين السماء والأرض طِيبًا من عرْفِها ونشرها ورائحتها الطيبة، فالجنة كلها طيبة، تُحبَرون بكل أنواع الحبور؛ هذا كل أنواع الحبور والسرور، فهذا إكرام وإباحة من الله -تبارك وتعالى- لهم في الجنة على هذا النحو.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70]، ومن الحبور والسرور كذلك أنه لا تكليف فيها، لا تكليف فيها بمعالجة أي شيء؛ لا يُعالِج أهل الجنة شيئًا قط، يُعالِجون طعامهم، أو شرابهم، أو لباسهم، لا يُعالِجون شيئًا من هذه الأعمال كما يُعالِجونه في الدنيا، فإن الدنيا لا عيش فيها إلا بأن يُعالِج الإنسان كل أموره، لابد أن يُعالِج مسكنه؛ فيبني مسكنه، ويتعب في بنائه، ويصنع أثاثه، ويشتري هذا، ويكسب، ويكِد، ويعمل، ولا يطعم إلا بعد جُهد، ولابد من سعي، كل هذه الأمور سعي أما الجنة فلا سعي فيها، لا سعي في الجنة لبلوغ شيء قط، بل كل ما يشتهونه ويطلبونه ويدَّعونه يأتيهم في التو واللحظة؛ يأتيهم في التو واللحظة دون أي مُعالجة، لو أراد أن يطعم ينظر إلى الطير تسير في جو السماء ليطعم منها؛ فتخِر بين يديه ليأكل منها ما يشتهي، ثمر الجنة دانٍ {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، مُذلَّلة بالخاطرة؛ بمجرد ما تخطُر في باله يميل الغُصن عليه ليأكل منه ما يشتهي، ثم يرتد الغُصن بعد ذلك بثماره إلى مكانه، ولا تُقطَف ثمرة إلا أن يكون مكانها ثمرة ثانية، فهذه الجنة دار السرور بكل معاني السرور ولا حُزن فيها؛ ولا هم، ولا غم، ولا مفارقة، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70].
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف:71]، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ}، بالبناء لِما لم يُسمى فاعله وأخبر الله -تبارك وتعالى- أن الذي يطوف عليهم وِلدان مُخلَّدون، كما قال -جل وعلا- {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18]، أباريق مُترَعة بالخمر، وأكواب ليملأوها، وكأس من معين؛ كأس خمر، من معين؛ من أصل الخمر، الخمر؛ خمر الجنة التي {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}[الصافات:47]، لا تغتال العقل وتُذهِبه، ولا أهل الجنة يُنزِفونها بمعنى أنهم بمعنى أنهم إذا أكثروا من الشراب يُخرِجون ما في بطونهم، وكذلك لا تنزف ولا تنتهي، {........ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}[الصافات:47]، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ}، صِحاف جمع صحفة، والصحفة هي الصينية التي يُقدَّم فيها الشراب والطعام، {مِنْ ذَهَبٍ}، لكن هذه من ذهب، وذهب الجنة غير ذهب الدنيا كذلك، {وَأَكْوَابٍ}، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذه الأكواب من الذهب ومن الفضة، وهذه الفضة فضة شفافة كما قال -تبارك وتعالى- {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}[الإنسان:16]، {وَفِيهَا}، في هذه الجنة، {مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ}، كل ما تشتهيه النفس من طعام؛ من شراب، من متعة، من حبور، من سرور، من تخيُّل، مما يدَّعي أن متعة على هذه الصورة تكون، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، {مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ}، العين تلتذ بكل منظر بديع وجميل في الجنة، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا}[الإنسان:20]، فتلذ الأعين بكل ما في الجنة من أشجار؛ وثمارها، وأنهارها، وهِضابها، ووديانها، فكلها لذة للبصر، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ}، ثم {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وأنتم؛ خطاب الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين المُكرَمين منه -سبحانه وتعالى-، فيها؛ في هذه الجنة، خالدون؛ وقال فيها وليس أنتم خالدون ممكن في مكان أخر، بل فيها؛ في هذه الجنة التي هي بهذه المواصفات، خالدون؛ باقون، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا البقاء أو هذا الخلود اللي هو المُكث الطويل خلود لا انقطاع له؛ ليس له وقت ينتهي فيه، ليس لها وقت ولا بعد ملايين الملايين من السنين تنتهي فيه، بل عطاء دائم من الله -تبارك وتعالى- أبدًا.
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72]، قال -جل وعلا- {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ}، تلك بالإشارة للبعيد، تنويهًا لأمر الجنة وتعظيمًا لها، {الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}، أُورِثتموها؛ الوراثة أكمل أنواع نقل المُلك، والإنسان يقع في مُلكِه المال بصور متعددة؛ بالهبة، بالعطية، بالصدقة، بالبيع، بالميراث، في الدنيا أكمل شيء الميراث، وذلك أن الميراث يقع في مُلك الشخص حتى بغير رِضاه؛ بدون أن يقول أعطيتك وقبلت، فالهبة والهدية والبيع لابد فيها من إجابة وقبول؛ يعني لابد فيها من بِعتُك ويقول قبلت، إجابة وقبول؛ بأي صور من صور الإجابة والقبول، وكذلك الهدية، وكذلك الهبة، لكن الميراث لا؛ الميراث يقع في مُلك الشخص بدون أن يكون قبل، فإذا مات الميت فإن تركته تنتقل إلى ورثته سواءً شاؤوا أم أبوا، قالوا قبلنا الميراث أو لم يقبلوا فهو قد وقع في مُلكِهم، وقع في مُلكِهم خلاص؛ وقوع ثابت ومستقر، ولو بدون رضاهم فهو قد وقع الميراث في مُلكِهم، الله -تبارك وتعالى- جعل تملُّك أهل الإيمان للجنة تملُّك وراثة؛ كأنهم ورثوها، أمر خلاص؛ أصبح مُلكًا لازمًا، ليس معنى ورثوها أنهم أخذوها عن غيرهم؛ يعني أنه كان يسكنها غيرهم، وأن الله -تبارك وتعالى- أزال هؤلاء الغير ثم أعطى الجنة لأهل الإيمان... لا، وإنما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-؛ ملَّكهم الله -تبارك وتعالى- مِلك وراثة، وقعت في مُلكِهم واستقرت استقرار شُبِّه باستقرار المال عندما يرثه مَن يرثه.
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72]، قال بعض أهل العِلم كذلك في أُورِثتموها وذلك أن ما من أحد إلا والله -تبارك وتعالى- يجعل له مكان في الجنة ومكان في النار، فالكافر إذا ذهب إلى النار -عياذًا بالله- فإن مكانه في الجنة يُعطاه المؤمن؛ يورَّثه المؤمن، فيأخذ مكان الذي كان لو آمن هذا الكافر لأخذه، فينتقل مُلكَه إلى أهل الإيمان وهذا حق ولكن الصحيح أن الله -تبارك وتعالى- يُعطي أهل الجنة الجنة مُلكًا ثابتًا مستقرًا، قال -جل وعلا- {........ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72]، يعني بسبب علمكم فإن الله –تبارك وتعالى- ورَّثكم الجنة، وبسبب ليست بثمن؛ يعني ليس العمل ثمنًا للجنة، فإن الجنة لا ثمن لها؛ لا يمكن أن بثمن عمل، مهما عمل الإنسان فإن عمله لا يمكن أن يكون ثمن للجنة؛ الجنة أكبر وأغلى وأعظم من هذا، انظر مثلًا مَن قال قل هو الله أحد عشر مرات؛ هذه تأخذ دقائق قليلة جدًا، فعمل قليل جدًا؛ لا يتكلَّف نُطق اللسان مع إيمان القلب، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- يبني له بيت في الجنة، الجنة موضع السوط فيها اللي هو أقل من القدم؛ يعني عِدة سنتيمترات صغيرة، يقول النبي «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، فلو وزِنَت الدنيا كلها هذه بما فيها بقطعة صغيرة في الجنة فهذا الشيء في الجنة يكون أكمل منها، كل الدنيا بكنوزها؛ وبساتينها، وأرضها، ونعيمها ونسائها، كل ما فيها، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ........}[آل عمران:14]، فالدنيا بكل متاعها لا تساوي نصيف على رأس امرأة في الجنة، قال النبي «ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها»، فإذن لا يمكن يتصور الإنسان لو أن الإنسان قيل له إذا اشتغلت وعملت لمدة ثلاث دقائق تأخذ هذه الدنيا وما فيها؛ لكان هذا أجر أعظم كثيرًا من هذا العمل، فكيف إذا هو يأخذ على العمل القليل الذي يمكن أن يؤديه في دقائق معدودة أجر أكبر من الدنيا وما فيها، يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، ثوابها، ويقول النبي -صل الله عليه وسلم- «لأن أقول في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الُلك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة»، أقول هذه مائة مرة وهذه قد تستغرق نحو عشر دقائق، «خير عندي مما طلعت عليه الشمس»، يعني أحب إلي لأنها كسْب، ما طلعت عليه شمس كل هذه الدنيا كلها لا تساوي في الأجر الذي يقول "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" مائة مرة، وقِس على هذا كل عمل الآخرة.
عمل الآخرة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:46]، الباقيات الصالحات هي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، سبحان الله نخلة في الجنة، نخلة في الجنة أعظم من كل الأرض وما فيها من نخيل ومن أعناب، فهذا الذي يقول "سبحان الله" فتأخذ منه لحظات معدودة يُعطيه الله -تبارك وتعالى- هذا الأجر، ثم هذا الأجر الأخروي في الجنة أجر ماكثين فيه أبدًا، يعني إذا أخذ قصرًا في الجنة فإنه يحيى فيه حياة لا تنقطع، قصر لا هموم فيه ولا غموم؛ وحياة لا تنقطع، كيف تكون الجنة ثمن للعمل؟ عمل الإنسان كله لو يحسب الإنسان عمله كله في الطاعة من صلاته؛ ومن صيامه، وزكاته، وحجه، فإنه لا يمكن أن يعدِل أجره نعمة من النِعَم التي أنعمها الله -تبارك وتعالى- عليه في الدنيا، فنعمة واحدة في الدنيا لا شك أنها في الثمن هي أعظم من كل عمل الإنسان، فكيف والله -تبارك وتعالى- يُعطيه هذا الثواب العظيم في الآخرة، إذن إنما الأعمال سبب، جعل الله -تبارك وتعالى- الأعمال سبب لدخول الجنة وليس ثمن، ثمن يساوي أن هذا قام بهذا العمل فثُمِّنَت له الجنة كثمن... لا، الجنة أكبر ثمن، ما هي ثمن وإنما هي كرامة من الله -تبارك وتعالى- وفضل وإنعام من الله، وكان هذا الفضل عظيم على هذا النحو لأن الله عظيم، فالعظيم يُعطي الجائزة والفوز العظيم من عنده -سبحانه وتعالى-، قام عباده بهذه الأعمال الصغيرة القليلة لكنه أعطاهم هذا الثواب العظيم فضلًا منه -سبحانه وتعالى- وإحسانًا، {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72]، بسبب عملكم هذا وصلتم هذه الجنة.
{لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ ........}[الزخرف:73]، لكم في الجنة فاكهة؛ ما يُتفكَّه به، هي ثمار؛ هذه الثمار ثمار الأشجار مختلفة الأنواع، {........ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}[الزخرف:73]، منها تأكلون؛ تأكلون بعضها، وذلك أنهم لا يمكن أن يأكلوها، ثمار الجنة لا تنفد، كل ثمرة تُقطَف منها وتؤكل تعود ثمرة مكانها في التو واللحظة، وثمار الجنة دائمة {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة:33]، أو كما قال -جل وعلا- {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ}[الواقعة:32] {لا مَقْطُوعَةٍ ........}[الواقعة:33]، تُقطَع فلا تنتهي الثمرة، تؤكل الثمرة ثم يُنتظَر إلى الفصل الذي تُثمِر فيه كما هو الحال في الدنيا، تُثمِر بعض الأشجار شتاءً أو تُثمِر صيفًا، ثم تُقطَف هذه الثمرة وتذهب ويُنتظَر بعد ذلك حتى يأتي حَوْل أخر حتى تُثمِر؛ ليست الجنة هكذا، وإنما {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، أُكلها؛ ثمارها، ثمار الجنة دائمة؛ ما تنقطع، وظلها كذلك دائم، ليس ظل وفيء تنسخه الشمس؛ تأتي الشمس فتُميل الظل هنا، ثم إذا جائت ارتفع الظل وجائت الشمس... لا، بل ظلها ظل دائم، {........ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا}[الإنسان:13]، فليست فيها شمس وليست فيها الزمهرير وهو الريح الباردة، وإنما هي هوائها عليل؛ نسيم عليل، ظل دائم؛ لا ينتهي ولا يتحوَّل، {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}[الزخرف:73]، منها؛ بعضًا منها تأكلون، وما يأكله أهل الجنة لا يُفني شيء ولا يُنقِص شيء من الجنة، ولذلك يقول أهل الجنة {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}[ص:54]، ليس له حد ينتهي فيه وينفد، هذه الصفة المشرقة الوضَّائة؛ صفحة إكرام الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين.
ثم أعقب الله -تبارك وتعالى- بالصفحة السوداء للمجرمين، ماذا ينتظر الأخرون من العذاب والنكال؟ فقال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[الزخرف:74] {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[الزخرف:75] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}[الزخرف:76] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77] {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[الزخرف:78]، وهذا -إن شاء الله- نأتي إليه في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.