الأحد 27 شوّال 1445 . 5 مايو 2024

الحلقة (61) - سورة البقرة 214-215

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين

وبعد أيها الإخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى-: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ َالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214], جاءت هذه الآية في مجال وعظ المؤمنين وتعريفهم بطريق الرب -سبحانه وتعالى-, قول الله -تبارك وتعالى-: {َمْ حَسِبْتُم"، الحسبان: هو الظن يعنى هل تظنون أن تدخلوا الجنة.

{وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم} أي  ولم يحصل لكم ما حصل للأمم السابقة فيأتيكم مثل ما أتاهم من الاختبارات، والابتلاءات التى يتبين بها صدق الصادق من كذب المدعي للإيمان أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، أي دون اختبارٍ وابتلاء ولمّا يحصل لكم ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم والذين خلوا من قبلنا من أهل الإيمان قال -جل وعلا-: عما جاءهم

 قال: {َسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ َالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} البأساء: الشدة، والضراء الضر، فقد ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- بأصناف من الابتلاءات، وزُلزلوا من الكفار والأعداء وقد قصّ الله -تبارك وتعالى- علينا فيما قصّ أحوال أهل الإيمان السابقين.

 فهذا نوح قد ابتُليَ والمؤمنون معه بلاءً شديد، وأصابهم الكرب العظيم من الكفار، ومعه من السخرية والاستهزاء والاحتقار ثم التهديد قالوا: { لئم لم تنتهِ يا نوح لتكوننا من المرجومين} [االشعراء116]، آخر الأمر وآخر المطاف وهددوه إما أن ينتهيَ عن دعوته وإلّا أن يرجموه وهكذا فُعل بكل الرسل من بعده، والأنبياء فقد قيل للوط {لئم لم تنتهِ يا لوط لتكوننا من المخرجين}، وقال قوم شعيب له {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أولا لتعودنا في ملتنا} [الأعراف88]، فهُدّدَ إما أن يعود إلى ملتهم في الكفر، وإما أن يخرج هو وأهل الإيمان معه.

 وهذا موسى -عليه السلام- وقومه بنو إسرائيل قد أوذوا وفُتنوا وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، حتى قال بنو إسرائيل: لموسى بعد أن جاءهم قالوا: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف 129]، انظر ما قال فرعون: لملئه عندما حرّضوه على بني إسرائيل وقالوا له: { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}  {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 127-129]

وهذا كذلك عيسى وحواريوه الذين آمنوا معه قد أوذوا وابتلوا بلاءً عظيمًا، فقد لوحق عيسى ابن مريم عليه السلام من قرية إلى قرية ومدينة إلى مدينة، والطلب في إثره، بنو إسرائيل الكفار منهم يعادونه عداءً شديدًا، والرومان يطلبونه بدفع وطلب من بني إسرائيل ليقتلوه

ثم هؤلاء الأنبياء قد كثر الذى نالهم من الأذى، وبلغهم القتل في سبيل الله فهذه سنة جارية في كل أهل الإيمان هي أنهم يبتلون لكن يجعل الله -تبارك وتعالى- العاقبة لهم، فهنا هذه الآية  إنما هي تذكير لأهل الإيمان أن طريقهم طويل، وطريقهم كما يقال مليء بالأشواك، وفيه كثير من الآلام والمشاق، والمتاعب فيه البأساء الشدة، شدة من الكفار، وفيه الضراء ضر، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] .>

فهذا ضر وشدة قد تأتيهم أفرادًا أو جماعات بسبب من الرب -جل وعلا-، وفيه أشياء أخرى تأتيهم بأسباب من الكفار، فالكفار يفتنونهم ويعذبونهم وهكذا قد وقع  لأتباع محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فمنذ أن دعا النبي  إلى الإسلام في مكة،  واتبعه من اتبعه من ضعاف المسلمين، ومن بعض أشرافهم لقوا الآلام، والمشقات، والعذاب، والإخراج، فأُخرج كثيرٌ منهم من مكة فروا بدينهم فيه، ومن بقي في مكة عُذب أو اضطهد واستهزئ به، ونال الأذى حتى شخص النبي -صلوات الله وسلامه عليه-  لاقى صنوفا من الأذى الشديد يسجد النبي -صلى الله وعليه وسلم- على الكعبة فيأتي الكفار، فيضحكون به ويقولون: من يأتي بسلا جذور من بني فلان فيضعوه  على ظهر محمد إذا سجد، ويأتون بسلا الجذور، ويجعلون النبي ساجد عند الكعبة فيضعون سلا الجذور على ظهره وهم يتضاحكون، ، حتى جاءت ابنته  فاطمة -عليه السلام- فرفعت هذا عنه، وأمور عظيمة جدًا من الابتلاءات وقعت ثم أن النبي خرج بعد أن تآمر به الكفار ليقتلوه,  فلقد عزموا في نهاية المطاف أنه لابد من قتل النبي -صلوات الله وسلامه عليه-  {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30] .

 فيسر الله لنبيه أن يخرج سالما من ببن أيديهم ويأتي المدينة،  ثم لما جاء المدينة كانت هناك ابتلاءات للنبي والفئة المؤمنة معه بطريقة أخرى، فبرغم من أنه كانت لهم العزة في المدينة إلا أنهم ابتُلُوا بالكفار من كل مكان، حتى كان هذا الابتلاء في غزوة الخندق عندما أُحيطَ بالمدينة وأصبح الكفار حولها يحيطون بها إحاطة السوار بالمعصم، و جاء المسلمين جنود الكفر من كل مكان  {يَا {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} جنود الكفر {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10]  {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11] زُلْزِلُوا}: زلزلت قلوبهم،  وكثير منهم ظن بالله الظنون كما قال-جل وعلا-:  {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12] {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}[الأحزاب:13].

فأمر عظيم هذا من جملة الابتلاءات وظل المسلمون في هذا الابتلاءات  حتى الفتح، حتى فتح مكة وهم يخرجون من ابتلاء إلى  ابتلاء كما قال -تبارك وتعالى-: للمنافقين {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}[التوبة:126]

 فالله يذكر أهل الإيمان بأن طريق الجنة ليس طريقًا سالمًا من العقبات وأنه  بمجرد أن  يقول: -أشهد  أن  لا إله إلّا الله وأشهد  أن محمدا رسول الله- يصبح الطريق سالما وسالكا إلى الجنة بل  قبل أن يصل إلى الجنة لابد أن يمر بمراحل طويلة من الابتلاءات والاختبارات والامتحانات.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي هكذا بلا ابتلاء ولا اختبارا ولا امتحان، ولما يأتكم لما لم يحصل بعد، لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، يأتكم مثل ما أتاهم من هذه الأمور،

{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ َالضَّرَّاءُ وزلزلوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي أنهم  في زلزال في الزلزال الشديد، الرسول يقول قبل المؤمنين، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، استبطاء للنصر فكأنهم يستبطئون نصر الله متى سيأتينا؟ أي  لقد تأخر نصر الله -تبارك وتعالى- علينا.

 الرسول يقول هذا ما وليس  المؤمنون فقط بل الرسول الذى يكون معهم،  يلجأ إلى  الله -تبارك وتعالى- ويدعو الله عز وجل كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عن نوح أنه قال: {.......أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:10] أني مغلوب أنى قد غُلبت ووصل الأمر بي إلى  الحد فانتصر أي فانصرنى.

 وكما فعل لوط أنه قال لأضيافه من الملائكة وهو لا يعلمهم {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، أي  يا ليت بي من قوة أو آوى إلى ركن شديد ينقذني مما أنا فيه مما ينتظرني من الخزي والعار من هؤلاء المجرمين الذين أحاطوا بداره من كل مكان.

وهكذا الرسل وصل بهم الأمر إلى  أنهم استبطؤوا  نصر الله -تبارك وتعالى- وقال أهل الإيمان معهم متى نصر الله، وقد جاء الخباب بن الأرت -رضى الله تعالى عنه- يقول: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلت له: يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ يعنى استنصر لنا الله -عز وجل- ،يعنى خذ لنا  النصر من الله -عز وجل-، ادع  لنا  يقول: فجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: « إن من كان قبلكم كان يؤتى أحدهم بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه، حتى يقع فرقتين يعنى ينشر من مفرق الرأس يشق شقين ويمشط بأمشاط  الحديد»، يعنى يأتي له الكفار بمشط من الحديد فيمشط ما بين عظمه ولحمه، يعنى كل لحمه ينهش حتى يقع ويبقى يعنى عظامه فقط، لا يرده ذلك عن دينه والله أو  قال: « والذى نفس محمد بيده لتخرجنّ الظعينة من بصرة  بالشام إلى صنعاء اليمن لا تخاف إلا الله ولكنكم قومًا تستعجلون» .

 قال لهم الأمر سيستقر وهذا الدين سيتمكن وتخرج الظعينة المرأة المسافرة تخرج من طرف الجزيرة إلى  طرفها الآخر لا تخاف إلا  الله -سبحانه وتعالى-، وكون امرأة تمشى آمنة   لا يتعرض لها، معناها الأمن في كل مكان،  الآن  في مكة حاضرة الجزيرة لا يستطيع الإنسان أن يشهد- أن  لا إله  إلّا الله محمد رسول الله- هذا أبو  ذر فقط  قبل أن يشهد –أن  لا إله  إلا  الله محمد رسول الله- جاء فقط يسأل عن النبي قال: أين هذا الرجل الذى خرج فيكم؟ يعنى يزعم أنه  نبي فضربوه كلٌّ تجمعوا عليه وضربوه حتى أُغميَ عليه، ولم يرفع عنه ولم يدفع عنه إلا  العباس -رضى الله عنه- قال هذا من طريقكم هذا من غفار غفاري وهذا طريقكم في التجارة أهله يقطع طريقكم  ونهاهم عنه، وبقى أربعين يوم في مكة لا يسأله أحد  ولا يعطيه أحد  كسرة خبز يأكلها،  يقول: والله بقيت فقط على ماء زمزم يقول: حتى سمنت فقال النبي: «إنها  طعام طعم وشفاء سقم» فبقي أربعين يوم يشرب من الماء فقط، يقاطعونه أهل مكة والحال أنهم يطعمون الحجاج ويقرون الضيف يأتيهم من يأتيهم من كل أطراف الجزيرة فيطعمونه ويكرمونه مجانا.

     ولكن لأن هذا لما كان الإسلام تغير كل الأمر، وهذا لأنه  فقط سأل عن النبي  ما عمل شيئا ما قال: -أشهد أن لا إله  إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله- ولا أسلم وإنما بمجرد سؤال عن النبي رجل غريب غفارى ونزل عندهم فلم يقروه ولم يضيفوه، وإنما ضربوه بمجرد فقط أنه سأل عن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- فهذا أمرً ،يعني كأن  الله يقول للمسلمين لا دخول للجنة دون ابتلاء واختبار وتمحيص.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] والذين خلوا من قبلكم من الأمم  السابقة من أهل الإيمان السابقين "مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول: والذين آمنوا  معه متى نصر} الله قال -جل وعلا-: {........أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214] أي اعلموا  أيها المخاطبون أن نصر الله قريب وإن  استبطأه أهل الإيمان فهو قريب لابد أن يأتي والعاقبة للمتقين وهذه سيرة كل أهل الإيمان من بدء الخليقة فمع استبطائهم النصر إلا أنه جاء ونصرهم الله -تبارك وتعالى- فقد نصرالله نوحًا وأهل الإيمان ، وكذلك هود والذين آمنوا  معه وصالحا والذين آمنوا معه، ولوطا وأهل بيته ونصر الله -تبارك وتعالى- إبراهيم من قومه وأذلهم ولم يمكنهم ممّا راموه من النَيل منه، وكذلك نصر موسى وأهل الإيمان معه، وعيسى وأهل الإيمان معه، فالنصر لله والعاقبة دائمَا للمتقين قال -جل وعلا- {........أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214].

  هذا الفصل الذى جاء من السورة في ثناء الأحكام نوع فاصل تعليمي عظيم علمّ الله -تبارك وتعالى- فيه أهل الإيمان وأعطاهم هذه الدروس البليغة العظيمة التى تبين لهم مسيرتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم تأتي بعد ذلك السورة في فاصل جديد من الأحكام  التى يشرحها الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين.

 

 وجاءت هذه التشريعات جوابا عن  أسئلة يسألها أصحاب النبي -صلوات الله وسلامه عليه- أول هذه الأسئلة قال الله -جل وعلا-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، أول الأمر جاء على الإنفاق إنفاق المال يسألونك ماذا ينفقون؟ أي  ما الذى ينفقونه هم يريدون أن يحدد الله -تبارك وتعالى- لهم مقدار النفقة وكيفيتها وهنا وجههم الله -تبارك وتعالى- إلى الأبواب التى ينفقون منها وأجابهم عن ماذا ينفقون إلي أن أيَّ نفقة ينفقونها لله -تبارك وتعالى- فالله يقبلها قل ما أنفقتم من خير أي خير والخير المال كل ما ينتفع به هذا خير ومن خير هذا لتأكيد هذه الكلمة النكرة أي شيء أي خير كان ولو كان ذرة من هذا الخير شق تمرة أي صورة وأي جزء من الخير تنفقونه

 وجه الله -تبارك وتعالى- إلى  أولى الأبواب بالنفقة فقال للوالدين : فالوالدان أحق الناس بحسن الصحبة وبالإنفاق عليهما وبَذْل المال لهما وفى راحتهما وذلك لأنه من العبد استيفاء للحق فإن  للوالدين حقا عظيما على الأبناء  ومهما بلغ الإنسان لا يمكن أن يوفيهما حقهما أنّى يوفي الإنسان حق أمه فالأم عملت جميلًا لا يمكن للإنسان أن  يوفيه,  فهي جعلها الله -تبارك وتعالى- وعاء الخِلقة حملته في بطنها تسعة أشهر تزيد وتنقص ثم التصق هذا الطفل بها حملا ً وإرضاعًا وخدمة ًكما قال -جل وعلا-: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال[ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [الأحقاف:15].

 فمع ضعف البِنية يأتيها ضعف الحمل فيكون ضعف على ضعف ثم إرضاع  لسنتين ثم لا ينفصل عنها إلا  بثلاثين شهر ثلاثين شهر وهي تحمله وترضعه وتخدمه وتقوم به وتسهر عليه فلا يمكن، وكذلك الوالد المنفق الذي رعا هذه الأم  هي زوجته وأنفق عليها وأنفق على الولد هذا أمر عظيم ولذلك قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- «لا يجزي والد والديه إلا  أن يجدهما عبدين فيعتقهما» هذا فقط يمكن أن يجازي به الإنسان والديه إلا  إذا وجد أمه أو  أباه عبدين واشتراهما  وأعتقهما فيكون  صنع فيهم جميلًا مكافئا لجميلهما إنا مهما أنفق الإنسان لوالديه إنما هو مكافئ، ولن يكون مكافئا إنما  هو يؤدى دين عليه تجاههما فللوالدين وقد جاء أن الأم   مقدمة عن الأب كما جاء في الحديث « من يا رسول الله  أحق الناس بحسن صحابتى قال امك قال ثم من قال امك قال ثم من قال امك قال ثم من قال أبوك»  وقد قدّم الله -تبارك وتعالى- بعد الوصية لوالدين قدّم الأم قال: و{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّه} فذكر الأم بعد ذكر الوالدين مما يدل على أنها مقدمة عليه.

والأقربين يشمل كل من له قرابة وطبعا القرابة هي درجات فبعد الوالدين يأتي الإخوة، وفى الإخوة يتفاضلون كل من كان أقرب في الرحم يكون أقرب في الأخوة،  فالأخ الذى يليك أقرب يليك في الولادة أقرب إليك من الأخ الذى بعده، وهكذا الأخوة الأشقَّاء أولًا ثم الأخوة لأم ثم الأخوة لأب، فهذه كذلك ترتيب الأخوة،  ثم بعد ذلك بعد الأخوة يأتي صلة من يدنون من الأم أقارب الأم ثم أقارب الأب وهكذا، فهؤلاء الأقربون وأقرب القربى الأرحام كل من يجتمعون ويلتقون عند رحم واحدة هم أرحام ، فالنفقة في هؤلاء،  واليتامى اليتامى جمع يتيم، واليتيم هو: الذى مات أبوه  وهو دون البلوغ،  فبعد البلوغ لا يُتْمَ,  فاليتيم المحتاج وهذا غالبًا ما يكون الإنسان إذا مات أبوه دون البلوغ ربما يكون إذا لم يترك له مالا فيكون في الأعم  الأغلب ربما يكون فقيرًا ومحتاجًا

والمساكين: جمع مسكين والمسكين هو: الفقير الذي أسكنه الفقر وأقعده,  وابن  السبيل المسافر المحتاج الذى انقطعت نفقته وهو مسافر والسبيل هو الطريق وسمي من له من الملازم، فمن لازم شيئا يقال له أي مازال ملازمًا للطريق وإذا كان محتاجا وإن كان غنيا في بلده لكن لا وسيلة له إلى ماله فهذا الغريب المحتاج هذا يعطى، ثم قال -جل وعلا-:{....... وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}[النساء:127] به عليم تكرير وإعادة وتأكيد في آخر الآية لما كان من أول الآية ما أنفقتم من خير ثم قال: هنا والله  وما أن تفعلوا من خير أيَ خير تفعلوه فان الله به عليم .

حضٌّ منه -سبحانه وتعالى- أن يفعل للإنسان الخير وذلك مادام أن الله يعلم أي خير يعلمه الله -عز وجلا- ومادام أن الله يعلمه إذا لابد أن يكافئ عليه وأن يجازي عليه -سبحانه وتعالى- لأنه لا يضيع عمل عامل قط{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويأتي من لدنه أجرا عظيما} [النساء 40] أي  اعلموا  أيها  المنفقون أن  الله -تبارك وتعالى- عليم بما تنفقونه فما دام أنه عليم بالنفقة إذن لا تضيع عنده -سبحانه وتعالى-  هذا حض عظيم على الإنفاق في سبيله.

 

 ثم جاءت الآيات إلى  تشريع القتال وبيان أحكامه فقال -جل وعلا-: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى  أن تكرهوه شيء وهو خيرا لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرا لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة 216]

لمَّا كان القتال من التشريعات الشديدة فإن القتال إيجاب الله -تبارك وتعالى- أن يقاتَل الكفار للمصالح العظيمة التى شرعها الله- تبارك وتعالى- للقتال كدفعهم وكذلك قتالهم بالكفر حتى يرجعوا عن كفرهم وعنادهم وصدهم عن سبيل الله كما قال -جل وعلا-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [ التوبة 29] فيقاتَلون للكفر وكذلك قتال الذين يمنعون ويصدون عن سبيل الله -عز وجل- حتى يُفتح الطريق يعنى لأهل الإيمان بزوال رؤوس الكفر والصادِّين عن سبيل الله وكذلك لاستخلاص أهل الإيمان وكذلك حتى لا تكون فتنة,  فللقتال منافع وفوائد عظيمة {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} ويعلو الكفر ولا يبقى إيمان {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع  وصوامع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} فلولا أن الله -تبارك وتعالى- يدفع أهل الإيمان بأهل الكفر لعلا الكفر ولا ما كان لله -تبارك وتعالى- في الأرض وهى  أرضه من بيت يعبد فيها -سبحانه وتعالى- {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرنَّ الله من ينصره إن  الله لقوى عزيز}.

 فالقتال له منافعه وفوائده العظيمة لذك فرضه الله- تبارك وتعالى- هنا على أهل الإيمان فقال كتب عليكم القتال وكُتب أي فرض  لما كانت شريعة القتال شريعة شديده وشاقة لأن القتال ما معناه القتال إنما هو تعريض للنفس والمال للهلاك النفس للقتل والمال للضياع وكذلك الأولاد والأهل والأوطان هذا قتال كفار وقد يكون الكفار أكثر عددًا وأكثر قوة أقول لما كان الأمر كذلك فإن الله -تبارك وتعالى- سهَّل هذه المهمة الشاقة حتى يتقبلها أهل الإيمان فقال هو كره لكم نعلم أن القتال كره لكم كره للنفس لأن هذا من  التكاليف الشاقة  ثم قال -جل وعلا-:{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:216].

تركنا الوقت تفصيل للحلقات القادمة إن شاء الله أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم على رسوله محمد