الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81] {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:84] {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزخرف:85] {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الزخرف:87] {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:89]، من تنزُّل الخطاب مع هؤلاء الكفار بيان أن ما يتمسكون به من عقيدتهم الباطلة في قولهم إن لله ولد؛ وأنهم مُصِرون على ذلك، وأنهم لا يمكن أن يتركوا هذا، وأن في عبادتهم لهؤلاء الأولاد إنما هو توسُّل إلى عبادة الرب -تبارك وتعالى-، قال الله -تبارك وتعالى- قُل لهم يا محمد قُل إن كان للرحمن ولد كما تدَّعون وتزعمون؛ وهم كاذبون في هذا، {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، لابد أن أكون أنا مُقدَّمكم؛ وأنا أول مَن يُنفِّذ هذا، لأنه هو مسلم لله -تبارك وتعالى-؛ مُطيع لله -تبارك وتعالى-، مُنفِّذ لأمره، فإن الله اختاره لرسالته وهو مُقدَّم العالم -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162] {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:163]، فهو أول المُنقادين والمُزعنين لله –تبارك وتعالى-.
ثم سبَّح الله -تبارك وتعالى- نفسه عن اتخاذ الولد، قال -جل وعلا- {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82]، تنزيهًا لله، السبحان؛ التنزيه، تنزيهًا لله -تبارك وتعالى- أن يكون له ولد؛ وهو الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-، {........ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101]، -سبحانه وتعالى-، أكبر جريمة ارتكبها الناس في حق الرب -تبارك وتعالى- نسبة الولد إليه، لأن هذا من نسبة النقص إليه -سبحانه وتعالى-؛ ومن القول بفساد العالم لو كان هذا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89] {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، وفي الحديث «شتمني ابن آدم ولا ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله إن لي ولد وأنا الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم ألِد ولم أُولَد»، فهذا شأن الرب -تبارك وتعالى- أنه الواحد في أسمائه؛ في صفاته، في أفعاله، الذي لا نِد له؛ ولا شبيه له، ولا شريك له، ومن كل ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- أزواج، كل شيء خلَقَه الله فله من جنسه نظير ونظراء؛ قد لا يُحصَون كثرة، فالملائكة الذين خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- لا يُحصَون كثرة؛ والبشر كذلك، والسماوات، والأرض، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49]، أما الله -جل وعلا- فإنه -سبحانه وتعالى- مُوجِد هذا العالم، وهو المتفرِّد وحده -سبحانه وتعالى- بصفاته؛ وذاته، وأسمائه، وأفعاله -جل وعلا-، {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الزخرف:82]، مالك هذا، {........ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82].
ثم قال -جل وعلا- {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}، بعد هذا البيان اتركهم، ذرهم؛ اتركهم، هؤلاء المفترون؛ الكاذبون، المتمسكون بما هم عليه من الباطل والزور والبهتان، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}، الخوض هو الدخول في الأمور بغير تبيُّن ومعرفة، سُمي خوضًا لأنه يُشبَّه بمَن يدخل الماء؛ لُجَّة الماء، والماء دائمًا يُغطِّي ما تحته، فالخائض ربما يكون أمامه حفرة فلا يتبيَّنها؛ فيقع فيها، حجر، دابة من دواب الماء، فهذا شُبِّه به، فالخائض هو الداخل في الحديث والداخل في الأمر دون أن تكون له رؤية بأبعاده؛ داخل على عماه، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا}، يعني يتكلموا في ما يتكلموه ويعتقدوا ما يعتقدوه على هذا العمى والباطل والزور الذي يقولونه، {وَيَلْعَبُوا}، آخذين الأمور كلها على أنها لهو، فدينهم كله لهو ولعب، ما تُصوِّره لهم أهوائهم المريضة السخيفة يعتقدونها، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}[الفرقان:43]، فالأمور عندهم أن آخذين الدين كله لهو ولعب، {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، سواءً كان في العقائد أو في الأعمال، فقد كان دين الكفار المشركين لهو ولعب؛ يعني يتلهَّوا بهذه العبادة، {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنفال:35]، أمور يخترعونها بعقولهم ويظنون أنها حق، ثم يتَّبِعونها من باب خلاص؛ يتلهَّون بهذا الأمر، فهذه حياتهم الدينية آخذينها على اللهو واللعب، وكذلك هم في الدنيا إنما آخذين الحياة كلها باللهو واللعب، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}، وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- بأن مَن جعل همَّه الدنيا آخذها لعب، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:20]، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا}، أي في هذه العقائد؛ في الدين بدون عِلم، {وَيَلْعَبُوا}، في دنياهم ويلهوا بها، {........ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83]، يعني ذرهم في هذا اللهو واللعب حتى يُلاقوا يومهم؛ يوم القيامة، يُلاقوه خلاص؛ يصطدموا بهذا اليوم ويأتي هذا اليوم، {الَّذِي يُوعَدُونَ}، بالبناء لِما لم يُسمى فاعله؛ والذي يعِدهم به هو الله -سبحانه وتعالى-، فيقول اتركهم في ما هم فيه من هذا اللهو واللعب حتى يأتيهم يوم القيامة، بعد ذلك يروا؛ بعد ذلك يروا نتيجة هذا الذي كانوا فيه من اللهو واللعب، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83].
ثم قال -جل وعلا- في بيان أنه الإله المُتفرِّد -سبحانه وتعالى-؛ الذي يعبده أهل السماوات، ويعبده أهل الأرض، قال {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:84]، وهو؛ الله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ}، السماء إلههم الله -تبارك وتعالى-، فهو إله في السماء أي مألوه؛ معبود، فهو معبود أهل السماوات؛ ليس لهم إله غيره، وأهل السماوات هم الملائكة؛ معبودهم الله -تبارك وتعالى-، وكذلك في الأرض إله؛ الله -تبارك وتعالى- في الأرض إله، معبود أهل الأرض؛ لا معبود لهم إلا الله -تبارك وتعالى-، وكل مَن عبَدَ غير الله -تبارك وتعالى- من أهل الأرض يعبد باطل؛ زور، كذب، ضلال، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5] {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6]، يعبد باطل، يمشي بزور، {........ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم:42]، فهذا شأن العابد للأصنام؛ يعبد ما لا يسمع، ولا يُبصِر، ولا يُغني عنه شيئًا، مَن يعبد الشمس ومَن يعبد القمر؛ ما عِلم الشمس والقمر بعبادته؟ وما شأنها بمَن يعبدها؟ نعم تبزغ فيراها أهلها؛ فيسجدون لها، ما عِلم الشمس بهذا؟ وما نفعهم بهذا الأمر؟ الله ينفعهم بالشمس، الله خلَقَها -سبحانه وتعالى-؛ وهو الذي يستحق العبادة، وأما سجودهم للشمس فلا يزيدهم عند ربهم -سبحانه وتعالى خالق الشمس- إلا خسارًا ونُكرانًا، ولا تنفعهم الشمس بشيء؛ ولا تضرهم بشيء، هذا هو بما وضع الله -تبارك وتعالى- فيها هذه الخواص التي وضعها من الله -تبارك وتعالى-، ثم مَن يعبد ما هو أحقر من هذا؛ من القرود، والأبقار، والحيوانات في الدنيا، والأشجار، والأحجار، والثمار، والأنهار، أمر باطل؛ يُنفِق حياته في أمر باطل.
وكذلك مَن عبَدَ مخلوقات شريفة؛ كالأنبياء، والرُسُل، مَن عبَدَ عيسى؛ ما ينفعه عبادته لعيسى؟ لا يفيده شيء، عيسى يتبرَّأ منه يوم القيامة، عيسى -عليه السلام- إن صرخ هذا عابده بأكبر صوته فلا يسمعه؛ ولا يُجيبه، فهو في غفلة عنه، قد رفعه الله إليه؛ فالله -تبارك وتعالى- رفعه في السماء، وينُزِله في الأرض عبدًا ورسولًا داعيًا إليه -سبحانه وتعالى-؛ لا يُجير أحدًا، ولا ينفع أحدًا بنافعة، ويوم القيامة يتبرَّأ من عابده، عندما يقول الله -عز وجل- {........ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116] {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، فما يفيد النصراني الذي يمضي ليله راهبًا على رجل واحدة يعبد في ظنه المسيح، أو يترهَّب ويترك ملذَّات الدنيا؛ يترك الزواج إلى أن يموت رغبة فيه، أو يحمل على صدره هذا الصليب الذي لم يُصلَب عليه هذا الإله، المصلوب على الصليب لم يكن عيسى -عليه السلام- وإنما شِبهه، ماذا يفيده أن يحمل صليبه بيده وعلى صدره طيلة حياته؟ فهذا لا شك أنه قد أمضى عمره في الضلال.
فالرب -تبارك وتعالى- هو إله أهل السماوات وإله أهل الأرض، هو الإله الحق لأهل الأرض -سبحانه وتعالى-، يعبده حق العبادة في الأرض عباده الموحِّدون المُخلِصون؛ بدءًا من آدم، إلى نوح، إلى إبراهيم، إلى موسى، إلى عيسى، إلى محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ومَن اتَّبَعَ هؤلاء الرُسُل الكرام كلهم عَبَدوا الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، فهو إله الصفوة من خلْق الله -تبارك وتعالى-، إلههم؛ معبودهم الذي يُعبَد، فالله -تبارك وتعالى- هو معبود أهل الأرض كذلك؛ أهل الأرض الصالحون، وأما الذين خرجوا عن عبادته من الكفار والمُعانِدين فإذا عبدوا غيره -سبحانه وتعالى- فإلى ضلال، أما الله -جل وعلا- فهو مألوه أهل الأرض؛ مألوه أهل السماء -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ........}[الزخرف:84]، هو المعبود -سبحانه وتعالى- في السماء؛ والمعبود -سبحانه وتعالى- في الأرض، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ ........}[الزخرف:84]، الذي يضع كل أمر في نِصابه، العليم -سبحانه وتعالى-، لا يضع أمر إلا في نِصابه -سبحانه وتعالى-، كل شيء موضوع في نِصابه خلْقًا وقدَرًا، فالخلْق كله له، والخلْق بميزان؛ كل شيء ف مكانه الصحيح تمامًا في الخلْق، خلْق الإنسان، خلْق الحيوان، خلْق هذه الأرض ووضعها في مجموعتها الشمسية؛ موضوعة في مكانها الصحيح تمامًا، مجرات هذا البناء الكون كل شيء موضوع في مكانه، فهو الحكيم في الخلْق؛ كل ذرَّة في الخلْق في مكانها، وكذلك الحكيم في كل تصرُّف يتصرَّف به -سبحانه وتعالى- في هذا الخلْق؛ كله واقع بمقتضى الحِكمة، العليم بكل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، الذي لا يفوته شيء ولا مثقال ذرَّة؛ ولا مثقال ذرَّة من هذا الخلْق تفوت الرب -تبارك وتعالى-، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ........}[الزخرف:85]، وتبارك؛ كثُرَ خيره، وبره، وإحسانه، وعطائه -سبحانه وتعالى-؛ فهذا لا حده له، لا حد لعطائه؛ وبره، وإحسانه -سبحانه وتعالى-، ورحمته؛ فرحمته وسعت كل شيء، ورزقه لعباده -سبحانه وتعالى- {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ........}[هود:6]، -سبحانه وتعالى-، فبركات الله -سبحانه وتعالى- وعطائه وإحسانه شمَلَ كل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، يملكها؛ يملك رقبتها، يملكها ذاتًا، ويملكها تصريفًا، مُلك السماوات؛ كل ما علانا، {وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، وما بين السماوات والأرض، ما بينهما من هذا السحاب المُسخَّر؛ من هذا الهواء، من هذه الأجرام العظيمة، من هذه النجوم، من هذه الكواكب، من هذا الخلْق الذي نعلمه ولا نعلمه، {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ}[الحاقة:38] {وَمَا لا تُبْصِرُونَ}[الحاقة:39] {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[الحاقة:40]، كل ما بين السماء والأرض كذلك الله -سبحانه وتعالى- هو مالِكه -سبحانه وتعالى-، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ........}[الزخرف:85]، عنده؛ وحده، عِلم الساعة؛ وقت حدوثها، الساعة؛ يوم القيامة، سُميَت بالساعة لأن لها وقت محدد؛ ساعة محددة لابد أن تكون فيها، وهذه قد احتفظ الله -تبارك وتعالى- واستأثر الله -تبارك وتعالى- علمها به، لم يُطلِع عليه أحد؛ لم يطلع عليها لا جبريل، ولا ميكائيل، ولا إسرافيل نافخ الصور، ولا أحد من ملائكته، ولا حملة عرشه، ولا أحد من رُسُله، ولا أوحى الله -تبارك وتعالى- بهذا لأحدٍ من خلْقِه، فالله استأثر بعلم الساعة، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، فله وحده -سبحانه وتعالى-، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، فلا يُظهِرها عند وقتها إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ هو الذي يأمر؛ عندما يأمر الله -تبارك وتعالى- إسرافيل بالنفخ في الصور، يأمره ولا يكون عند أحد؛ لا من ملائكته، ولا من إنسه، ولا من جِنه أي عِلم بحدوثها ولا قبل ثانية واحدة، ما أحد عنده عِلم وإنما يأتي بها الله -تبارك وتعالى-؛ يفجأ بها العالم فجأة.
{وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، إليه أيها المخاطبون تُرجَعون، وقال وإليه تُرجَعون ولم يقل وتُرجَعون إليه ليكون الحصر حصر الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فرجوعكم إليه لا إلى غيره، كل واحد، كل ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى-، كل واحد، كل نسمة خلَقَها الله رجوعها إلى الله ليُحاسِبها الله -تبارك وتعالى-، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- «ما منكم إلا وسيُكلِّمه ربه ليس بينه حاجب أو ترجمان يحجبه دونه، فيقول له ألم يأتك رسولي فبلَّغك؟ وآتيتك مالًا وأفضلت عليه؛ فما قدَّمت لنفسك؟ فلينظرن أيمن منه فلا يرى شيئًا، ولينظرن أشأم منه فلا يرى شيئًا، ولينظرن تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشِق تمرة»، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- واعِظًا لنا؛ بعد بيان هذه الحقيقة التي ستكون في الآخرة، اتقوا النار الآن؛ اعملوا الآن وقاية لكم من النار التي ستكون أمام وجوهكم والله -تبارك وتعالى- يُحاسِبكم، ولو بشِق تمرة؛ لو حتى أقل عمل ممكن أن تفعله هذا يحجب عنك النار، شِق تمرة؛ لو نصف تمرة تتصدَّق بها في سبيل الله، فإنها ربما كانت لك حجابًا بينك وبين هذه النار، فاتقوا النار؛ اعمل لك وقاية وحماية من النار ولو بشِق تمرة، فمرجع العباد كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-، كل العباد؛ كل الألوان، والأشكال، والأمم، كل مَن خلَقَ الله -تبارك وتعالى- كلٌ سيقف بين يدي الله -تبارك وتعالى- وحده؛ ويُحاسِبه الله –تبارك وتعالى-، الله الذي سيُحاسِبه ولا يكل الله حساب أحد من الخلْق إلى أحد، لا يُقال لجبريل أو ميكائيل أو إسرافيل أو ملَك من ملائكة الله حاسب هؤلاء؛ زِن أعمالهم، انظر ماذا صنعوا... لا، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، حساب الجميع على الله -تبارك وتعالى-، فالله هو الذي يُحاسِب خلْقَه -سبحانه وتعالى-؛ ويُحاسِبهم كما يُحاسِب نفس واحدة، فإن الله يُحاسِب الجميع في وقت واحد كما يُحاسِب نفس واحدة فقط؛ كل حساب الجميع -سبحانه وتعالى-، كلٌ يُكلِّمه الله -تبارك وتعالى-؛ يُخاطِبه الله، يُحاسِبه الله في ذات الوقت وكأنه يُحاسِب نفسًا واحدة -سبحانه وتعالى-، فهذا الله -تبارك وتعالى- الذي لا يشغله شأنًا عن شأن؛ ما يشغله شأن هذا الإنسان عن هذا الإنسان، بل شئون العباد كلها بين يديه -سبحانه وتعالى-؛ وهو مُطلِع عليها -سبحانه وتعالى-، بل هذا العبد الذي عمِل ما عمِل في هذه الدنيا ونسي وضيَّع الله أحصاه، {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، كل ما عمله الإنسان هو يُحصيه.
الله -تبارك وتعالى- قد أحصى حتى خطرات قلبه، القلب هذا الذي ما سُمي قلبًا إلا لتقلُّبه، والذي تأتي إليه الأفكار ويُقلِّبها؛ ويذهب من فكرة إلى فكرة، ومن خاطر إلى خاطر، ومن وادي إلى وادي، ومن دنيا إلى دنيا، ومن، ومن، ومن ...، على قلب الإنسان وهو قائم؛ وهو مستقيظ، لا يزال قلبه يُقلِّب الأمور ويذهب في كل مكان، والله -تبارك وتعالى- مع قلبه -سبحانه وتعالى-، ما في خاطرة تخطُر وتمر ولو لمح البصر خطرت هذه الخاطرة ومرت إلا والله -تبارك وتعالى- معها -سبحانه وتعالى-؛ يعلم ما جاء ومر، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ........}[البقرة:284]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]، فوسواس النفس هذا وتقلُّب القلب وذهابها ومجيئها، فكم من الأفكار؛ كم، كم، كم ...، وهذا للإنسان الواحد لو أراد أن يكتب أفكاره ووساوسه وخواطره في يوم واحد لبلغت عِدة مُجلدات؛ تبلغ عِدة مُجلدات لليوم الواحد، فكيف بالحياة كلها؟ لو أراد الإنسان أن يسجل كل خواطره؛ كانت الخواطر هذه فيه آلة تُحوِّل هذه الخواطر إلى كتابة، لتُرِكَ مُجلدات للواحد تملأ الأرض كلها، فهذه الله -تبارك وتعالى- معها، الله -سبحانه وتعالى- مع كل إنسان في خطرات قلبه؛ وفي لمحات عينه، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19]، فالعين هذه وخطفة العين؛ مُسارقة النظر، خائنة الأعين هي أن يُسارِق الإنسان النظر ويظن أن لا أحد يراه وهو يخطف بصره في ناحية؛ يعلمها الله -تبارك وتعالى-، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ ........}[الزخرف:85]، لا إلى غيره، تُرجَعون؛ مرجِعكم أيها العباد إلى الله.
ثم قال -جل وعلا- {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86]، {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ........}[الزخرف:86]، الذين يدعون من دونه يعني الذين يدعونهم من دون الله لا يملكون الشفاعة، والعرب كانت تعبد الملائكة؛ وتدعوهم من دون الله -تبارك وتعالى-، وتظن أنهم يشفعون لهم عند الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وقال -جل وعلا- {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، ما لا يضرهم ولا ينفعهم من هؤلاء الملائكة، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، هم يشفعون لنا عند الله، ومن زيادة الضلال عند الكفار أن هذه الشفاعة كانت عندهم شفاعة للدنيا، فيشفعون لهم فقط من أجل النفع الدنيوي؛ من أجل إنزال مطر، وزيادة الخير؛ والبر، والزوجات، والأولاد، والأموال فقط، هذا كان كل همهم هو الحياة فقط ولا هم لهم في الآخرة، لأنهم ما كانوا يعتقدون أن هناك آخرة أصلًا، فيخبر -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله لا يملكون الشفاعة، {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ........}[الزخرف:86]، أن يشفعوا لهم عند الله -تبارك وتعالى-؛ لا يملكونها، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- هو مالك الشفاعة كلها، قال –جل وعلا- {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، إلا مَن شهِدَ بالحق فإنه الذي يشفع عند الله -تبارك وتعالى-؛ وتنفع شفاعته عنده، وذلك أن الشفاعة كلها لله، الشفاعة كلها لله -تبارك وتعالى-، فالله هو الذي يأذَن للشافع أن يشفع؛ ويأذَن للمشفوع فيه، وأما أن يُشفَع عنده بغير إذنه فهذا نقص يتعالى الله -تبارك وتعالى- عنه، يعني أن يدخل مَن يدخل ليشفع عند الله -تبارك وتعالى- والله لم يأذَن له... لا، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، إلا بإذنه له أن يشفع، فليس الله -تبارك وتعالى- شأنه كملوك الدنيا، فإن ملوك الدنيا ممكن أن يدخل عليه مَن يدخل ليشفع في مَن لا يُريد هو أحدًا أن يشفع فيه، ولا يقبل شفاعة فيه لأنه مُتغيِّظ عليه، ولكن إذا دخل عليه وشفع عنده مَن يهابه الملك يخافه لمنزلته؛ وسطوته، أو لضرره، أو لنفع يرجوه منه، أو لمنزلة عنده؛ لا يُريد أن يُزعِجه لهذه المنزلة، فإنه يقبل شفاعته؛ وأحيانًا يقبلها وهو كارِه، ليس راضٍ؛ ما يُحِب أن يعفوا عن هذا الشخص الذي يُريد قتله، أو ينفع هذا الشخص الذي يُريد نفعه، لكنه يقبل هذا راغبًا، هذا في ملوك الدنيا، أما الرب -سبحانه وتعالى- لو كان هذا له؛ أن يشفع عنده –سبحانه وتعالى- مَن لا يرتضيه، لكان هذا نقصًا فيه -سبحانه وتعالى-، تعالى الله عن ذلك.
قال -جل وعلا- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، ولذلك كل الذين يشفعون عند الله -تبارك وتعالى- لا يشفعون إلا بعد أن يأذَن الله -تبارك وتعالى- لهم، فشفاعة نبينا العظمى -صلوات الله وسلامه عليه- لا تكون إلا بعد أن يأذَن الله له بالشفاعة، كما جاء في حديث الشفاعة الطويل أن المؤمنين بعد يأسهم وذهابهم إلى آدم «يقولون له يا آدم أنت أبو البشر؛ خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول لا، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ وإنه لن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فأكلت من الشجرة، ثم يقول لهم أأشفع لكم لأُدخِلكم الجنة؛ وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح ويقولون يا نوح أنت الذي سمَّاك الله عبدًا شكورًا، ألا تشفع لنا عند الله؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول نفس المقالة إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي ودعيت على قومي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى إبراهيم، فيذهبون إلى إبراهيم ويقولون يا إبراهيم أنت خليل الله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات؛ يقول النبي اثنتين منها في ذات الله، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى ويقولون يا موسى أنت كليم الله، وأنت الذي كتب الله لك التوراة بيده، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ فيقول نفس المقالة إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فقتلت نفسًا لم أُأمر بقتلها، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى عيسى، فيذهبون إلى عيسى ويقولون يا عيسى أنت عبد الله؛ ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ورح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، ولا يذكر ذنبًا، ولكن يقول اذهبوا إلى محمد؛ عبد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فيذهبون إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- ويمدحونه؛ ويصفونه بما هو أهله -صل الله عليه وسلم-، ويقولون ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول النبي أنا لها»، يقبل أن يشفع ولكن يقول «أذهب فأسجد تحت عرش ربي، ويُلهمني الله من تحميده وتسبيحه أشياء لا أعلمها الآن، ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك؛ سل تُعطى، اشفع تُشفَّع، فأقول يا ربي أمتي أمتي، فيقال أدخِل مَن لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن في الجنة؛ وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب، يقول ثم أعود فأسجد تحت عرش ربي، ويُلهمني الله من تحميد وتسبيحه أشياء لا أعلمها الآن، ثم يحُد لي ربي حدًا وأُدخِلهم الجنة»، فالأول قال له سبعين ألف؛ هؤلاء صفتهم كذا أدخلهم، ثم ربنا يُحدد له حد أخر؛ يقول له هذه الأسماء المعيَّنة أو الصفات المُعيَّنة أدخلها الجنة، «فيحُد لي ربي حدًا فأُدخِلهم الجنة»، فإذن الشفاعة العظمى هذه شفاعة النبي -صل الله عليه وسلم- لا تكون إلا بعد إذن الله؛ ولا تكون إلا في مَن أذِنَ الله -تبارك وتعالى- له.
أدركنا الوقت، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.