الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81] {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}[الزخرف:84] {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزخرف:85] {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الزخرف:87] {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:89]، هذه هي الآيات الأخيرة من هذه السورة؛ سورة الزخرف، وقد مضى أنها من القرآن المكي، من التنزُّل مع الكفار في الخطاب وإقامة الحجة عليهم قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81]، ولد كما تزعمون، وهذه المقالة هي من أعظم مقالات الكفر والشِرك، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الواحد الأحد؛ الذي لا ينبغي له أن يتخذ ولدًا، {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93]، فإنه الرب الإله المُتفرِّد -سبحانه وتعالى-؛ الفرد، الواحد الأحد في ذاته وفي صفاته -سبحانه وتعالى-؛ لا يُشبهه أحدًا من خلْقِه، ولو كان له ولد -تعالى الله عن ذلك- لكان صِنوا أبيه؛ ولكان خالقًا، رازقًا، إلهًا، ووجود آلهة في هذا الكون يفسُد بها الكون، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء:42]، لمُغالبته، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:43] {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ........}[الإسراء:44]، {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[المؤمنون:90] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ........}[المؤمنون:91]، لو كان مع الله ولد هناك لأصبح إله فعند ذلك يفسُد كل هذا الكون، {........ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[المؤمنون:91] {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:92]، فمع التنزُّل في الخطاب قُل إن كان للرحمن ولد كما تدَّعون فأنا أول العابدين، {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81]، النبي وهو رسول الله -تبارك وتعالى- ويجب أن يُطيعه، إذن لابد أن يُعبَد هذا الولد فيكون هو أول المُطيعين؛ النبي -صلوات الله والسلام عليه-، لأنه المطيع لأمر الله -تبارك وتعالى- كما قال الله -تبارك وتعالى- له {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162] {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:163]، فهو أول المسلمين المُنقادين؛ المُزعنين لله -تبارك وتعالى-.
ثم نزَّه الله -تبارك وتعالى- نفسه عن هذه المقالة؛ فقال -جل وعلا- {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82]، وهذه كل الموجودات، كل الموجودات؛ كل ما سوى الله -تبارك وتعالى-، السماوات والأرض وما بينهما والعرش هذه كل الموجودات؛ الله ربها وخالقها -سبحانه وتعالى-، ومالكها مُلك ذاتي ومُلك تصرُّف كذلك؛ هي تصرُّفها كذلك بيد إلهها ومولاها وخالقها -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83]، وهذا تهديد من الله -تبارك وتعالى-، اتركهم في خوضهم ولعبهم؛ خوضهم في هذه العقائد، في مسائل الإيمان بغير عِلم، ويلعبوا في هذه الدنيا؛ فالدنيا لعب، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ}، فهي لعب، فذرهم على هذا الحال الذي هم فيه، {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83]، يوم القيامة.
{وَهُوَ}، الله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}، أي أنه ليس لأهل السماء إله إلا هو؛ فهو إله أهل السماوات، وأهل السماوات منهم الملائكة؛ وهم يعبدونه، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}، أي في السماء، {........ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206]، وقال عنهم -سبحانه وتعالى- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فالملائكة عباد الله -تبارك وتعالى- يعبدونه؛ وهم سُكَّان هذه السماوات، فإنهم عبادون لله -تبارك وتعالى-، جاء في الحديث «ما في السماء من موضع شبر إلا وفيه ملَك قائمٌ لله»، ساجدٌ أو راكع لله -تبارك وتعالى-، فهذه ملائكة السماء عابدون لله -تبارك وتعالى-، {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82]، عما يصفون الرب -جل وعلا- بهذا الوصف الذي لا يليق به -سبحانه وتعالى-؛ وهو أن له ولد، أو أنه تزوَّج من الجِن كما يقول العرب، أو أن له أبناء كما يقول اليهود، أو أن الله -تبارك وتعالى- أرسَل روح القدس، روح القدس يعتبرونه أُقنون من أقانين الرب؛ أو جزء من ذاته، تعالى الله -سبحانه وتعالى- عما يقولون علوًا كبيرًا، فتغشَّى مريم فحملت بعيسى؛ وعيسى ابن الله -تبارك وتعالى-، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الزخرف:82] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:83] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ........}[الزخرف:84]، هو معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض -سبحانه وتعالى-، ليس لأهل الأرض معبود إلا هو، وأهل الأرض الذين يعبدونه طوعًا الأنبياء؛ والمُرسَلون، وأتباعهم من المؤمنين، هؤلاء يعبدون الله -تبارك وتعالى- طوعًا؛ باختيارهم، والباقين ربهم الله -تبارك وتعالى- شاؤوا أم أبوا، فالله هو رب العباد كلهم -سبحانه وتعالى-، وجحود الكافر بربه لا ينفي حقيقة أن الله -تبارك وتعالى- ربه؛ فهذا جحوده في نفسه، وأما الله -تبارك وتعالى- فلا شك أن الله -تبارك وتعالى- رب العباد كلهم؛ وهو خالقهم، وبارئهم، والمتصرِّف فيهم، والكافر ليس له في نفسه تصريف إلا بأمر إلهه ومولاه –سبحانه وتعالى-؛ فالله مولى الجميع، مولاه بمعنى أنه ربه، هو الذي يُطعِمه؛ ويسقيه، ويكفله، ويرزقه، هذا الرب -سبحانه وتعالى-، فالله هو إله أهل السماوات وأهل الأرض -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ}، الله مألوه في السماء؛ مألوه في الأرض -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}، الذي يضع كل شيء في نِصابه، كل حُكم لله -تبارك وتعالى-، حُكم كوني قدري أو حُكم شرعي دينه كله في نِصابه، {الْعَلِيمُ}، بكل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-.
{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ........}[الزخرف:85]، تبارك؛ عظُمَ خيره وبركَته -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، له مُلك السماوات والأرض مُلك يملكها ذاتًا؛ فهو الذي أخرجها من العدَم -سبحانه وتعالى-، ويملكها تصرُّفًا، وما بينهما؛ ما بين السماوات والأرض من هذه المخلوقات التي نعلم منها وما لا نعلم منها، {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، وحده -سبحانه وتعالى-، يوم القيامة الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى- لكل هذا يتغير فيه؛ كل هذا الخلْق يتغير، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، الساعة {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3] {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4]، كل هذه الموجودات في السماوات، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، فكل هذا الكون المُشاهَد يتغير بعِلم الساعة، والله -تبارك وتعالى- قد جعل وقت مجيء الساعة عنده وحده لا شريك له، وإليه؛ لا إلى الله وحده لا إلى غيره يُرجَعون.
{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ........}[الزخرف:86]، أيضًا من صفته أنه مالك السماوات والأرض، وكذلك لا يستطيع أحد من خلْقِه أن يشفع عنده إلا بإذنه؛ فهو الذي يملك الشفاعة، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}، له الشفاعة جميعًا بكل أبعادها، بمعنى أنه هو الذي لابد أن يرضى عن الشافع إذا أراد أن يشفع، وأن يرضى عن المشفوع كذلك، فهو الذي يُقيم الشافع ليشفع، وهو الذي يرضى عن المشفوع، ولا يستطيع أحد أن يشفع عند الله -تبارك وتعالى- إلا بإذنه، قال -جل وعلا- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، وكذلك عن المشفوع قال {........ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، وقد مضى في حديث الشفاعة أن النبي الذي له الشفاعة العظمى، أعظم الله جاهًا وشفاعة عند الله هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، لا جاه لأحد من البشر كجاه النبي -صل الله عليه وسلم- عند الله -تبارك وتعالى-، إذا كان قد قال عن موسى {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}، فإن جاه النبي -صل الله عليه وسلم- محمد ابن عبد الله هو أعظم جاه، ومع ذلك فإنه لا يشفع لأحد إلا بأن يأذن الله -تبارك وتعالى- له، والشفاعة العظمى يوم القيامة؛ والتي ادَّخرها الله -تبارك وتعالى-، والتي هي نتيجة للدعوة المستجابة، فإن النبي -صل الله عليه وسلم- قال «لكل نبي دعوة مستجابة»، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد أعطاه أن يدعوا ربه بدعوة يُجيبها الله له مهما كان هذا السؤال، يقول النبي «فكل نبي تعجَّل دعوته»، يعني دعى في الدنيا بما دعى به، ولكن يقول «ادَّخرت دعوتي ليوم القيامة شفاعة لأُمتي»، وهذا من عِظَم رحمته -صل الله عليه وسلم-، فإنه ادَّخر دعوته التي أعطاه الله -تبارك وتعالى- إياها لتكون شفاعة لأُمته، فلم يجعلها لنفسه وإنما جعلها للأمة وادَّخرها لهذا اليوم العصيب؛ يوم القيامة، وهذا أُعطي يعني أعطاه الله -تبارك وتعالى- تفويض بأن اسأل ما تشاء تُجَب له، وجعل النبي -صل الله عليه وسلم- هذه الدعوة التي أعطاه الله إياها والتي تُتستجاب حتمًا أن تكون في الشفاعة، ومع هذا فإن النبي لا يقوم بالشفاعة إلا عندما يأذن الله -تبارك وتعالى- له، يقول «فأذهب فأسجد تحت عرش ربي فيُلهمني الله من تحميده وتسبيحه أشياء لا أعلمها الآن، ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك؛ وسل تُعطى، واشفع تُشفَّع، فأقول يا رب أمتي أمتي، فيُقال أدخِل مَن لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن في الجنة، وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب، يقول ثم أعود فأسجد تحت عرش ربي ويُلهمني من تحميده وتسبيحه أشياء لا أعلمها الآن»، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يفتح عليه بأنواع من حمْد الله -تبارك وتعالى- ومن تسبيحه؛ كلمات عظيمة في تمجيد الرب –تبارك وتعالى- وتسبيحه، ويقول النبي لا أعلمها الآن وإنما تكون في ذلك الوقت فتح على النبي -صل الله عليه وسلم- من الله -عز وجل- في هذا الوقت، «ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك؛ سل تُعطى، اشفع تُشفَّع، ثم يقول النبي يحُد لي ربي حدًا أي من أمتي فأُدخِلهم الجنة»، ومعنى فيحُد لي ربي حدًا يعني يُحدِّد لي صفة أو مجموعة من عباد الله -تبارك وتعالى- من أهل الإيمان من أمة محمد؛ فيُدخِلهم النبي الجنة -صلوات الله والسلام عليه-.
إذن هذا صاحب الشفاعة العظمى؛ محمد ابن عبد الله -صل الله عليه وسلم-، لا يستطيع أن يشفع عند الله -تبارك وتعالى- هكذا؛ يعني باقتراح من عنده هو، أو أن يبدأ بالشفاعة قبل أن يأذن الله له، بل لابد من تحقق الشرطين؛ أن يأذن الله له في أن يشفع، ثم كذلك في أن يحُد له الحد الذي يشفع فيه فيشفع فيه، وقد يقول قائل ما فائدة الشفاعة إذن؟ مادام أنها كلها لله -تبارك وتعالى-؛ وأن الله هو الذي يُحدِّد الشافع، وهو الذي يُحدِّد المشفوع فيه، فما هي ثمرة الشفاعة إذن؟ والجواب أن ثمرة الشفاعة كون الله -تبارك وتعالى- يأذن لهذا الشافع أن يشفع هذا تكريم له -سبحانه وتعالى-؛ لا شك أن هذا تكريم للشافع، وكذلك كونه هو الذي يُحدِّد المشفوع فيهم هذي كرامة من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء؛ أن اختارهم -سبحانه وتعالى- لرحمته، بهذه الوسيلة؛ بوسيلة هذا الشافع الذي شفَّعه فيهم، ويقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعته، وأما أن تكون الشفاعة كالشفاعة عن الملوك والكبراء في الدنيا؛ بأن يدخل عليه الشافع بغير إذنه، وأن يطلب منه مثلًا أن يعفوا عن أحد الناس، ويكون هذا العظيم أو الملِك مُتغيِّظ قلبه عليه؛ يُريد أن يُعاقِبه أو يقتله، ولكن إذا دخل عليه شافع ممَن يخافهم الملِك؛ أو ممَن يُحِبهم، أو ممَن يرجى أن تتغير قلوبهم عليه إذا لم يقبل شفاعته، فإنه يقبل؛ يقبل شفاعة الشافعين عنده مُرغَمًا، لأن بعضهم لا يستطيع أن يرد هذه الشفاعة لرغبة عنده أو لرهبة؛ فيقبلها وهو كارِه، تعالى الله -سبحانه وتعالى- أن يكون الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو المعلوم عند هؤلاء الزعماء؛ والرؤساء، والكبراء، يقبل الشفاعة وهو لا يُريدها؛ تعالى الله عن ذلك، فلا يشفع عنده إلا لمَن يأذن الله له، ولا يُشفَع إلا في مَن يرتضيهم الرب -تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا- {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}، يعني الذين يدعونهم من دون الله؛ كالملائكة الذين كان يعبدهم كفار العرب، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، الله يقول {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86]، إلا الرُسُل والأنبياء الذين يشهدون بالحق، وهم يعلمون؛ وهم يعلمون أنهم يشهدون بالحق عند الله -تبارك وتعالى-، أن الله -تبارك وتعالى- يقبل الشفاعة في هؤلاء ونحو ذلك، فمن هذا مثلًا شفاعة أهل الإيمان في إخوانهم، يقولون يا رب إخواننا كانوا يُصلون معنا ويصومون معنا؛ الذين يتساقطون عن الصراط، وهذي شفاعة حق، ويقولوا إخواننا هكذا، ثم الله يُحدِّد لهم حد، يقول لهم «ادخلوا النار فمَن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه»، فيحُد لأهل الإيمان حد، شفاعة أهل الإيمان أولًا استجاروا بربهم -سبحانه وتعالى-؛ ودعوا لإخوانهم، قالوا يا رب إخواننا؛ هذا كده بالعموم، كانوا يُصلون معنا ويصومون معنا، فالله يقول له ادخلوا النار فأخرجوهم، وطبعًا النار لا تستطيع أن تؤذي المؤمن إذا دخلها، هؤلاء هم المؤمنين الذين كتب الله -تبارك وتعالى- لهم النجاة، وأما المؤمنين من عُصاة أهل الإيمان فإنهم يتساقطون في النار؛ تحرقهم النار، ولكن لا تأخذ منهم مواضع السجود، ولذلك قيل للنبي يا رسول الله كيف يعرفونهم إذا دخلوا النار ليُخرِجوا إخوانهم هؤلاء؟ كيف يعرفونهم؟ قال النبي «إن الله حرَّم على النار أن تأكل مواضع السجود من المؤمن»، فالمؤمن تبقى مواضع السجود السبعة وهي جبهته وأنفه؛ وجهه الذي كان يسجد فيه لله، وكفاه، وركبتاه، وقدماه لا تأكلها، فلذلك يعرفونهم، فيُخرِجونهم ولكنهم لا يشفعون إلا في الحد الذي حدَّه الله -تبارك وتعالى- لهم، وهو قال «مَن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان»، في قلبه مثقال؛ العلامة.
ثم في المرة الثانية كذلك بعد أن يستشفعوا الرب -تبارك وتعالى-، يقول لهم الله -تبارك وتعالى- «ادخلوا النار فمَن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه؛ فيُخرِجوه، إلى أن يقول ادخلوا النار فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه»، آخر شيء، «فإذا أخرجوا هؤلاء يأتوا ويقولوا يا رب لم يبق إلا مَن حبَسَه القرآن»، يعني لم نترك في النار بعد هذه الشفاعات المتكررة لهم إلا مَن حبَسَه القرآن، والقرآن يحبِس المشرك والكافر، فإن الله -تبارك وتعالى- قال عن الكفار والمشركين أنهم {........ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[الحجر:48]، وما هم منها اللي هم الكفار، وما هم منها بمُخرَجين؛ لن يخرجوا منها، وقال عليهم نار مؤصدة؛ مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، وقال {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ........}[النساء:48]، فالذي لا يغفره الله -تبارك وتعالى- هو الشرك، ويغفر ما دون الشرك لمَن يشاء -سبحانه وتعالى-، فمن هذا مَن بشفاعة هؤلاء الشافعين، {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وأعلى من شفاعة أهل الإيمان الرُسُل؛ فإنهم كذلك لا يشفعون إلا بالحق، فإن عيسى -عليه السلام- عندما يُقابَل في يوم القيامة مع مَن عبدَه من دون الله؛ وقال إنه ابن الله، يتبرَّأ منهم ويقول لله -تبارك وتعالى- {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118] {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، فهذا اليوم الذي ينفع الصادقين صِدقهم، عيسى صادق -عليه السلام- وينفعه صِدقه هنا، وهؤلاء الذين كذبوا على الله -تبارك وتعالى- بأن قالوا أن عيسى قال لهم أنا ابن الله؛ واعبدوني من دون الله، واعبدوا أمي من دون الله، كذَّابون؛ كذبوا على عيسى، وكذبوا على الله -تبارك وتعالى-، لذلك لا ينتفعون بهذا الكذب يوم القيامة؛ الكذب هذا ما عاد ينفعهم، ويتبرَّأ عيسى -عليه السلام- من كذبهم ومن إفكهم؛ ويقول أنا ما قلت لهم هذا، ما قلت لهم اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؛ أو أنا ابن الله، اعبدوني من دون الله، أنا جئت لأحمل أخطائكم عنكم، أبي أرسلني إليكم لأُعلَّق على الصليب؛ لأحمل أخطاء بني آدم، كل هذا كذب؛ ما قاله عيسى -عليه السلام-، ولذلك لا ينفعهم هذا الكذب عند الله -تبارك وتعالى-، وإنما الذي ينفع هو قول الصدق، {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
ثم عجَّب الله -تبارك وتعالى- العباد من حال هؤلاء المشركين؛ مشركي العرب بالذات، الذين يعتقدون عقيدة في غاية التناقض؛ وهي أنهم يؤمنون بأن ربهم هو خالق هذا الكون كله، ولكن هذا يلزم منهم أن يعبدوه وحده لا شريك له، مادام أنه خالق هذا الكون كله وهو المتصرِّف فيه؛ إذن كيف يُعبَد معه غيره؟ كيف تُعبَد الأصنام والأحجار؛ ويُعبَد معه أجزاء من هذا الخلْق؟ يجب أن يُعبَد وحده -سبحانه وتعالى-، لكن تناقضهم هذا مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء؛ إلا أنهم اتخذوا من هذه الأشياء آلهة لهم مع الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الزخرف:87]، ولئن سألتهم؛ سألت هؤلاء المشركين المعاندين، مَن خلقَهم؛ مَن الذي خلَقَك، أوجدك، جعلك رجل على هذا النحو، وجعلك امرأة على هذا النحو، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ}، يعني أبرزهم من العَدَم وأعطاهم صورتهم التي هم عليها، {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، بكل سلاسة وبكل استجابة وبكل تأكيد الله هو الذي فعل ذلك، قال -جل وعلا- {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}، كيف يُقلَبون على رؤوسهم؟ إذا أنت تعتقد وتؤمن بأن الله هو خالقك؛ إذن لِما لا تعبده؟ لِما لا تعبده وحده -سبحانه وتعالى-؟ ليس له شريك في خلْقِك؛ ما خلقك غيره، إذن ليس لك إله سواه، لكن تناقض عظيم جدًا في هذه، لذلك جائت هنا هذه الآية بصيغة التعجُّب من حالهم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الزخرف:87]، كيف يُقلَبون على رؤوسهم على هذا النحو ويذهبون إلى الشرك؟ والحال أنهم يُقِرون إقرار بأن الله -سبحانه وتعالى- هو خالقهم.
ثم قال -جل وعلا- {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88]، هذي شِكاة النبي -صل الله عليه وسلم-، بعد هذا البيان والإيضاح والدعوة وهذا التفصيل العظيم والدعوة الكريمة من الله -تبارك وتعالى- لعباده؛ أن يعبدوه، وهذه النِذارة الهائلة والبيان بما سيكون عليه الحال في يوم القيامة؛ كل هذا بعد وضوحه على هذا النحو ولا يؤمنون، فالنبي -صل الله عليه وسلم- كان يتحسَّر أشد التحسُّر؛ تحسُّر يكاد يقتله من الغم على الناس -صلوات الله والسلام عليه-، ويشتكي إلى الله، وقيله؛ قوله، قول النبي -صل الله عليه وسلم-، يا رب؛ داعيًا ربه -سبحانه وتعالى-، {........ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88]، يقولها النبي مُشتكيًا؛ مُتحسِّرًا على النار، حتى إن حسرته لتكاد تقتله، كما قال له الله -تبارك وتعالى- {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، باخع نفسك؛ قاتل نفسك، وقال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، فلعلك باخع نفسك؛ قاتل نفسك، على آثارهم يعني حُزنًا عليهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث؛ حديث الرب -تبارك وتعالى-، أسفًا؛ من شدة أسفك تقتل نفسك، فالغم يقتل، الغم والحُزن المتواصل يقتل، فالله -تبارك وتعالى- يقول له هوِّن عليك، فهذه الله -تبارك وتعالى- يُخبِر بأنه يعلم شِكاة نبيه -صل الله عليه وسلم-، وقيله؛ قول النبي، {........ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88]، والإشارة هنا إلى قوم النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، لا يؤمنون وذلك لأنهم كانوا غِلاظ؛ شِداد، وأصحاب عداوة كما قال -تبارك وتعالى- {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}، اللدادة هي المبالغة في الخصومة، وهذا بتمسكهم بما عليه آباؤهم وأجدادهم؛ ومعاداتهم للأمر.
{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88]، كان النبي يقول هذا حالًا وكذلك قالًا -صلوات الله والسلام عليه-، ومن قوله حالًا ما لقيَّه -صل الله عليه وسلم- يوم الطائف، وكان من أشد الأيام التي لقيها النبي -صل الله عليه وسلم- من التكذيب عندما خرج من المدينة إلى الطائف؛ لعله أن يجد عند بعض كبرائها مَن يحميه حتى يُبلِّغ رسالة ربه، وذلك بعد أن اشتد التضييق عليه وإيذائه، وذلك بعد أن مات عمه أبو طالب؛ الذي كانت له المهابة في قريش، كانوا يهابونه ولذلك ما كانوا يتجرَّأون على النبي في حياته، وكذلك ماتت زوجه خديجة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، فنال النبي من الأذى ما لم يكن ينله في حياتهما، فذهب النبي إلى الطائف لعله أن يجد عند أهلها مَن يقوم معه، وعرض نفسه على ثلاثة من أولاد عبد يا ليل، وقال لهم احموني حتى أُبلِّغ رسالة ربي؛ جئتكم بس حتى ألقى منكم حماية، وهذا كان الشأن في العرب؛ أن العرب تُجير المستجير، فأي واحد يستجير بهم يُجيرونه، ويروا أنهم إذا لم يُجيروه هذا من أعظم خِصال النذالة والخِسَّة والضعف؛ أن يأتيك مُستجير ولا تُجيره، والنبي أتاهم -صلوات الله عليه وسلم- مُستجير بهم لعلهم يُجيروه، يقولون لا أنت في حِمانا؛ اذهب فقل ما تشاء، لك الحرية في أن تدعوا بما تشاء وأنت في حمايتنا مادام استجار بهم، لكنهم لم يُجيروه؛ وخالفوا حتى أخلاق العرب التي يتحارصون عليها، بل استهزأوا به؛ وقال قائل له أما وجد الله غيرك ليُرسِله؟ أنا والله لا أُكلِّمك، أنت إن كنت كاذبًا فأنت أحقر من أن أُكلِّمك، وأنت إن كنت صادقًا لا تصير أعظم من أن أُكلِّمك، ورد عليه الثالث ثم أغروا به السفهاء، حتى إن النبي يقول «فخرجت مهمومًا؛ فل أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، فإذا أنا بجبريل ومع ملَك الجبال، قال إن ربك قد سمِعَ ما قلت وما رد به قومك عليك، وإنه قد أرسل معي ملَك الجبال لتأمره بأمرك»، لتأمره؛ تأمر ملَك الجبال، «فقال ملَك الجبال للنبي دعني؛ فلأطبق عليهم الأخشبين»، جبلي مكة، «فأقتلهم قتلة واحدة، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- أرجوا أن يُخرِج الله من أصلابهم مَن يعبد الله لا يُشرك به شيئًا».
فهذا النبي شِكاته إلى الله -تبارك وتعالى- وصبره، وقيله؛ قوله، قول النبي -صل الله عليه وسلم-، سمِعَ الله -تبارك وتعالى- وعلم الله هذا؛ علِمَ قيل النبي، {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}[الزخرف:88] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ}، الصفح؛ المسامحة، لأنه أُخذ من صفحة الوجه، يعني اصفح عنهم؛ أمِل وجهك عنهم تركًا لهم، لا تستعجل لهم، {وَقُلْ سَلامٌ}، يعني مني سلام، يعني لا يكون مني إلا السلام لكم، فلا يدعوا عليهم ولا يستعجل لهم الهلاك، قال -جل وعلا- {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، تهديد من الله -تبارك وتعالى-، فسوف يعلمون يعني العقوبة والمآل الذي سيئولون إليه بهذا التكذيب وقد كان، وقد كان؛ فإن الله -تبارك وتعالى- بالنسبة للمُكذِّبين أولًا، عُتاة المجرمين الثمانية الذين كانوا يؤذون النبي في مكة قتلهم الله -تبارك وتعالى-، قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، فقضى عليهم، ثم يسَّر الله لنبيه بعد ذلك؛ كبرائهم قُتِلوا في قريش، ثم فتح الله -تبارك وتعالى- قلوب مَن شاء بعد ذلك من العرب إلى الدخول في هذا الدين، ثم ينتظر المُكذِّبين عقوبة الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة.
أدركنا الوقت، وصلنا إلى خِتام هذه السورة العظيمة؛ سورة الزخرف، الحمد لله رب العالمين، وأُصلي وأُسلِّم على عبد الله وروسله الأمين في البدء والخِتام.