الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (612) - سورة الدخان 1-8

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]  {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {حم}[الدخان:1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الدخان:2] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3] {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:6] {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[الدخان:7] {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الدخان:8] {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان:9] {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14] {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}[الدخان:15] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، هذه سورة الدخان؛ وهذه السورة من القرآن المكي، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذين الحرفين؛ الحاء والميم، {حم}[الدخان:1]، والدخان أحد الحواميم السبعة، ثم أقسم الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن فقال {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الدخان:2]، قسَم منه -سبحانه وتعالى- وحَلِف بهذا الكتاب؛ القرآن المبين، البيِّن الواضح، والمُبين؛ المُبيِّن لِما نزَل له من كل شيء، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، سمى الله -تبارك وتعالى- هذا المُنزَل من عنده -سبحانه وتعالى- كتابًا لأنه مكتوب في السماء؛ ويُكتَب في الأرض، وهو أعظم كتاب كُتِب؛ وأشرفه، وأعلاه، وكذلك أعظم كتاب يُقرأ في الأرض، فهو الكتاب الحق الذي لا ينبغي أن يُسمى كتاب إذا أُطلِق الكتاب إلا كتاب ربنا -سبحانه وتعالى-.

ثم أخبر بأنه من صفات هذا الكتاب أنه مُبين أولًا؛ بيِّن، واضح، إذا كان من بان فبيِّن؛ واضح، مُيسَّر للذِّكر، لا غموض فيه، ولا شُبهة فيه، بل هو مُحكَم، ظاهر، واضح، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]، وكذلك هو مُبين بمعنى أنه أبان كل ما أُنزِل له الكتاب؛ وهو تبيان لكل شيء، يعني بيان كامل واضح لكل شيء مما تحتاجه الأمة لتعرف ربها؛ وإلهها، وخالقها، ومبدأها، ونهايتها، وطريقها إلى الرب -سبحانه وتعالى-، وتعلم ما يُضاد ذلك من الشِرك؛ والكفر، وكل طرق الضلال، وضحد هذا، كل هذا قد أبانه الله -تبارك وتعالى- وأضهره -سبحانه وتعالى- في ما يحويه هذا الكتاب العظيم؛ المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الدخان:2]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- به، وإقسام الله -تبارك وتعالى- بهذا الكتاب أولًا تعظيم له -سبحانه وتعالى- وتشريف لهذا المُنزَل من عنده -سبحانه وتعالى-؛ كلامه الشريف، المُعجِز، النازل من عنده، المُبيِّن لكل الحقائق.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3]، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، يتكلم عن نفسه بصيغة الجمع في اللغة؛ وهذه صيغة الجمع للتعظيم، والله -تبارك وتعالى- هو العظيم -سبحانه وتعالى-؛ الرب العظيم، {أَنزَلْنَاهُ}، تأكيد منه -سبحانه وتعالى- أنه هو مُنزِل هذا الكتاب من عنده -سبحانه وتعالى- على عبده ونبيه محمد -صل الله عليه وسلم-، وقال {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، يعني بداية نزوله من الله -تبارك وتعالى- في ليلة مباركة، وهذه الليلة التي نزل فيها القرآن إحدى ليالي شهر رمضان العظيم، كما قال -سبحانه وتعالى- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]، وليلة القدْر هي الليلة التي لها القدْر العظيم والمنزِلة العظيمة عند الله -تبارك وتعالى-، وكذلك هو من القدْر بمعنى التقدير؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- يُقدِّر في هذه الليلة مقادير السنة، مقادير من هذه الليلة إلى هذه الليلة التي تأتي بعد شهر ليلة بليلة، تنزل المقادير والأحكام الإلهية على مخلوقات الله -تبارك وتعالى- والحُكم الكوني القدري منذ ذلك الوقت؛ من هذه الليلة إلى التي تليها، وهذا تقدير بعد تقدير وإلا فالله -تبارك وتعالى- قد قدَّر مقادير الخلْق قبل أن يخلُقَهم -سبحانه وتعالى- بخمسين ألف سنة؛ قدَّر مقادير خلْقِه -سبحانه وتعالى-، ولكن هذا تقدير بعد هذا التقدير، تقدير مقادير السنة تنزل في هذه الليلة، فهي ليلة القدْر تعظيمًا لها وتقديرًا من الرب -تبارك وتعالى-.

سمَّى الله -تبارك وتعالى- هذه الليلة ليلة مباركة، ليلة مباركة لأنها أولًا هي ليلة القدْر؛ ليلة المقادير، وهي الليلة كذلك التي جعلها الله -تبارك وتعالى- مناسبة لنزول أعظم أمر إلهي منه -سبحانه وتعالى- للعباد وأكبره نفع وبركه؛ وهو إنزال هذا الكلام من عند -سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه-، ليكون بذلك فجر النور؛ إنفجار النور الله -تبارك وتعالى- على العالمين، ليُنذِرهم وليُعرِّفهم طريق الرب -تبارك وتعالى-؛ ليُرشِدهم إليه، فيُنشئ هذا النور هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- الذي أنشأه الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن، فإن النبي قبل أن تنزل عليه إقرأ ما كان يعرف شيئًا من هذه الأمور؛ ما كان يدري عنها، وكما قال -تبارك وتعالى- {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}، {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7]، فانفجار ونزول هذا النور منه -سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد ليُنشئه الله -تبارك وتعالى-، ثم يُقيمه الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، ويقوم النبي بهذا القرآن يدعوا إلى الله -تبارك وتعالى- فتأتي رحمة الله على العباد؛ رحمته التي تعُم جميع البلدان والأقطار، ويأتي صوت الله -تبارك وتعالى- العظيم ليستعلِم في الأرض كلها، داعٍ الناس إلى الدخول في طريق العِزَّة والسعادة؛ طريق الرب -تبارك وتعالى-، صراطه المستقيم الموصِل إلى جنته ورضوانه -سبحانه وتعالى-، هذا أعظم أمر أن يختار الله -تبارك وتعالى- نزول القرآن في هذه الليلة المباركة بكل معاني البركة، انظر ماذا ترتَّب على نزول هذا القرآن من البركات من وقت نزوله وإلى يوم القيامة؛ من الهداية، والتوفيق، والعمل الصالح، والإيمان، والجهاد في سبيل الله، وفعل الخير، أمور لا يُحصيها العد إلا مَن عدَّها؛ إلا عند الرب -سبحانه وتعالى-، بركات لا تنقطع، إيماننا بالله -تبارك وتعالى- وهدايتنا لهذا الطريق جزء من هذه البركة، لولا الله -تبارك وتعالى- وإنزاله القرآن على عبده في هذا الوقت ما اهتدينا؛ ولا صُمنا، ولا صلينا، ولا تصدَّقنا، ولا برَّ مَن برَّ والديه، ولا صدق مَن صدق الحديث، ولا تراحم مَن تراحم، ولا عمل بهذا القرآن مَن عمل على مدار هذه الأجيال، فلله الحمْد على إنزاله هذا القرآن؛ رحمته -سبحانه وتعالى- على عباده -جل وعلا-.

قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه مُنزِل هذا القرآن ليكون في هذا أعظم بلاغ لنا أن الله مُنزِله، وليكون أعظم ذِكرى أن هذه رحمته؛ وهذه منَّته -سبحانه وتعالى- وكرامته على عباده، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، وكذلك ليكون في هذا التحذير العظيم من مخالفته، فأنت إذا خالفت هذا خالفت أمر الرب الإله -سبحانه وتعالى-؛ مُنزِل هذا القرآن، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ........}[الدخان:3]، ليلة مباركة لأنها حملت هذه البركة العظيمة من الله -تبارك وتعالى-؛ الكتاب الكريم، فكانت مباركة أن ناسبت هذه الليلة نزول هذه البركة العظيمة؛ هذا الكتاب المبارك من الله -تبارك وتعالى-، الذي كان من بركته أولًا إنشاء النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، النموذج الأعظم للإنسان الكامل للبشرية كلها، أنشأه الله -تبارك وتعالى- ورباه الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن، فكان هذا النموذج الذي تحتذي به الأجيال إلى يوم القيامة، ثم كانت البركات بعد ذلك في ما كان من أثر هذه الدعوة؛ من أثر الإسلام على العالمين، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ........}[الدخان:3]، قال -جل وعلا- {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، من أهداف هذا النزول أن الله -تبارك وتعالى- كان مُنزِلًا بهذا الكتاب نِذارة، ومعنى النِذارة التخويف والتحذير من شر عظيم، وهذه أعظم الشرور وهي عقوبة الرب -تبارك وتعالى- لِمَن تخلَّف وابتعد عن هذا القرآن؛ ولم يسمع له، ولم يستجب له، كما قال -تبارك وتعالى- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، ليكون هذا القرآن نذيرًا للعالمين، وقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] {قَيِّمًا}، كتاب ليس فيه عِوَج، كتاب قيِّم، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}، يعني نزل القرآن ليُنذِر بأسًا شديدًا من لدُن الله -تبارك وتعالى-، انظر بأس وشديد وهذا من عند الله، إذن لا شك أنه لا بأس أكبر منه ولا شدة أكبر من شدة هذا البأس لأنه من الله؛ القوي، القادر، الجبار، القهَّار -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، فهذي أنزل الله -تبارك وتعالى- القرآن ليكون نِذارة.

قال -جل وعلا- {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، يعني في هذه الليلة التي نزل فيها القرآن {........ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، يُفرَق؛ الفرق هنا بمعنى الحُكم، وأنه خلاص يُمضى ويُفرَّق بين حق وباطل؛ بين هدىً وضلال، {........ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، كل أمر من الله -تبارك وتعالى- أمر حكيم؛ أمر كوني قدَري، يعني المقادير كلها التي تكون في هذه السنة من الليلة إلى الليلة؛ من ليلة القدْر إلى ليلة القدْر من السنة التي تليها يُفرَق كل أمر حكيم، وكل أوامر الله -تبارك وتعالى- حكيمة، ما في أمر لله -تبارك وتعالى- خارج عن مُقتضى الحكمة، أمره الكوني القدري وكل ما قضاه -سبحانه وتعالى- وقدَّره فهو موضوع في نِصابه، ما في أمر خارج عن نِصاب الحق والعدل، فالله يقضي بالحق -سبحانه وتعالى- وبالعدل بين عباده -جل وعلا-؛ ولا يضع كل أمر إلا في نِصابه، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، لأنه أمر من الله الحكيم العليم -سبحانه وتعالى-.

{أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ........}[الدخان:5]، فهذا الأمر الحكيم قال -جل وعلا-  {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ........}[الدخان:5]، ويكفي بأن يكون الأمر من عند الله -تبارك وتعالى- ليُعلَم أنه حكيم؛ وأنه نزل بعِلم الله -تبارك وتعالى-، وأنه في مكانه الصحيح تمامًا، فكل التصريف من التحوُّل والتغيُّر؛ من الهدى والضلال، من الصحة والمرض، من الحياة والموت، من الغِنى والفقر، كله واقع بأمر الله -تبارك وتعالى- الحكيم -سبحانه وتعالى-،  {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ........}[الدخان:5]، ثم قال -جل وعلا-  {........ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، إنَّا كذلك تأكيد منه -سبحانه وتعالى-، {كُنَّا مُرْسِلِينَ}، يعني نزل هذا القرآن كذلك في هذه الليلة المباركة لأن الله كان مُرسِل {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، القرآن رحمة من الله -تبارك وتعالى- ليُنشئ النبي الذي يكون رحمة الله -تبارك وتعالى- للعباد كلهم، كما قال -جل وعلا- عن رسوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، فهو رحمة من الله -تبارك وتعالى-، والنبي -صل الله عليه وسلم- مَن الذي أنشأه؟ ومَن الذي جعله هذه الرحمة؟ هذا القرآن. القرآن الذي نزل على قلبه فحوَّله من رجل لا عِلم له بهذه الأمور كلها؛ بأمر الرسالات، وبأمر الدين، وبأمر الهداية، وبصراط الله المستقيم، ليُنشأ فيكون النبي رحمة الله المُهداة إلى العالمين -صلوات الله والسلام عليه-، {........ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، بنزول هذا القرآن.

{........ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:6]، إنه؛ الله -سبحانه وتعالى-، هو؛ تأكيد، السميع لكل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، العليم بكل أحوالهم -سبحانه وتعالى-، فلا يغيب عن سمعه صوت ولا حركة، كما قال ابن عباس في وصفه لسمع الله -عز وجل- "يسمع دبيب النملة السوداء"، ودب النملة برجليها من أخفى الأصوات، "على الصفاة الملساء في الليلة الظلماء"، ليلة مظلمة، وصخرة صمَّاء مظلمة، ونملة أيضًا سوداء وتسير؛ دبيبها يسمعه الله -تبارك وتعالى-، وهي لا تخفى على الله -تبارك وتعالى-، الله لا يخفى عليه من خلْقِه شيء ولا مثقال ذرَّة، ولا مثقال ذرَّة مما خلَق تغيب عن الرب -تبارك وتعالى-، مثقال ذرَّة في صخرة؛ في السماوات، في الأرض، في أي مكان، في أعماق البحار، في أعماق الأرض، في أطباق السماوات، كلها يعملها الله -تبارك وتعالى- بذاتها وبتصريفها، بتصريفها كذلك؛ فوين تنبُت ورقة في شجرة، تسقط هذه الورقة من شجرة، هذا بعِلم الله -تبارك وتعالى-، لا ينبُت بُرعُم صغير في أي شجرة في الأرض كلها إلا وهي بعِلم الله، ولا تسقط ورقة إلا ويعلمها الله -تبارك وتعالى-، وكذلك هذا المطر؛ قطرة من قطراته، انظر ماذا ينزل على هذه الأرض التي نحن فيها من هذه الأمطار؛ والبحيرات، والغُدران، لكن لا تنزل قطرة من قطرات المطر إلا وهي بعِلم الله -تبارك وتعالى-، فلا يغيب عن سمْع الله -تبارك وتعالى- شيء؛ ولا يغيب عن عِلمه شيء -سبحانه وتعالى-، كل خلْقِه –سبحانه وتعالى- إنما هم تحت بصره وسمعه، لا يغيب عنه -سبحانه وتعالى- شيء من مخلوقاته -جل وعلا-.

ثم هو {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[الدخان:7]، الله الذي يصف نفسه هنا -سبحانه وتعالى- {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الرب؛ السيد، سيد السماوات والأرض وذلك أنه المُتصرِّف فيها -سبحانه وتعالى-؛ ويتصرَّف فيها لأنه خالقها، فالرب يأتي كذلك بمعنى الخالق؛ ويأتي بمعنى المُربِّي، فالله -تبارك وتعالى- خالق السماوات والأرض وهو المُتصرِّف فيها، السيد الذي يتصرَّف فيها بما يشاء -سبحانه وتعالى-، ليس لمخلوق حظ في أن ينفع نفسه أو يضر نفسه إلا بمشيئة ربه -سبحانه وتعالى-، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يستطيع أحد أن يصرف قضائه وقدَرَه -سبحانه وتعالى-، ولا ينفع مخلوق نفسه بنافعة ولا يرد عن نفسه ضرر ولا حتى يضر نفسه إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا}[الجن:21]، هذا قول الله -تبارك وتعالى- لنبيه، وقال في الآية الأخرى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، لا أملك لنفسي؛ هذا النبي، {........ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:188]، فلا الملائكة، ولا الرُسُل، ولا الإنس، ولا الجِن، ولا غيرهم، لا أحد من هذه المخلوقات يستطيع أن ينفع نفسه وأن يضرها إلا بإذن خالقه وربه ومولاه -سبحانه وتعالى-، {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، السماوات السبع؛ وهي سبع، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأنها سبع؛ وأنها شِداد، وأنها واسعة بحيث أنه لا يمكن معرفة أبعادها، ولا حتى أبعاد النجوم التي زيَّن بها السماء الدنيا؛ التي هي دون السماوات السبع، فهذه أبعادها الله -تبارك وتعالى- ربها، والأرض؛ التي نعيش عليها، {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}، وما بينهما؛ ما بين السماوات والأرض، ما بين الأرض والسماء وما بين كل سماء وسماء كل هذا الله ربه -سبحانه وتعالى-؛ بمعنى أنه سيده، وخالقه، والمُتصرِّف فيه -سبحانه وتعالى-، ولا يملك أحد من هذه المخلوقات؛ من هذه السماوات والأرض، ولا من ساكنيها لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-.

{إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}، خطاب لهم؛ هذا الخطاب الموجَّه لهم، يعني إن كنتم موقنين أيها الناس فاعلموا هذا؛ اعلموا أن هذه صفة ربكم -سبحانه وتعالى-، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3] {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:6] {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[الدخان:7]، يعني إن كنتم موقني يعني مؤمنين تمام الإيمان، هذا اليقين هو نهاية العِلم، أقصى نوع من العِلم اليقين؛ فهذا أقصى درجات العِلم، أول العِلم الشك ثم الظن والحُسبان؛ هذا هو الرُجحان، ثم العِلم، ثم اليقين، ثم عين اليقين بعد ذلك؛ اللي هي تمام الإحاطة والعِلم، فإن كنتم موقنين يعني تعلمون عِلمًا حقيقيًا بهذا الذي يخبر به الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- أيضًا عن نفسه -جل وعلا- {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الدخان:8]، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا إله حقًا إلا هو، لا إله هنا ليس نفي للوجود، يعني لا إله إلا هو؛ يعني لا إله موجود إلا هو... لا، لا إله حقًا موجود إلا هو، أما آلهة باطلة موجودة فكثيرة، زُعِمَت لها الإلهة ولكنها ليست في الحقيقة آلهة؛ هذا الفرق بين هذا وهذا، يعني في إله حق يستحق أن يُسمى إله؛ يستحق هذا الإسم وهو الله -سبحانه وتعالى-، لا يستحق هذا الإسم "الإله" ومنه الله لأن الله أصلها الإله إلا هو، وأما أن يُسمى غيره إله يكون هذا من باب إطلاق الإسم على غير مُسمَّاه؛ ليس هو المُسمَّى الحقيقي، فمَن سمَّى الشمس؛ أو القمر، أو النجوم، أو الكواكب، أو الشجر، أو الملائكة، سمَّاها آلهة وسمَّى الأصنام آلهة؛ هذا كذب، هذا إطلاق لفظ الإله على غير مدلوله الصحيح، فمَن أتى وقال عيسى إله وأمه إلهة -إله يعني معبود يُعبَد- كذَّاب؛ هذا كاذب في هذا القول، عيسى ليس إله وإنما عيسى عبد، وكذلك أمه ليست إلهة وإنما هي صدِّيقة؛ مؤمنة، عبده لله -تبارك وتعالى-، {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75]، ومَن قال أن الشمس إلهة كذَّاب، هذي ليست إلهة؛ هذه مخلوق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى-، خاضع لأمره، لا تستحق العبادة لذاتها، الذي يُعبَد هو الذي خلقها، نعم فيها نفع والله خلقَها وركَّب فيها هذا النفع العظيم للعباد من هذا الإشراق، فهي الضوء؛ والبهاء، والسناء، وهي الحرارة، وهي مصدر الحياة لهذه الأرض ولولاها لَما كانت هناك حياة، لكن الذي يستحق أن يُعبَد مَن خلقَها؛ ومَن أقامها في مكانها، فهي آية من آيات الله وليست إلهة، قال -جل وعلا- {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37]، فهي لا تستحق العبادة لأنها ليست إلهة؛ وليس هذا من تصريفها ومن إرادتها، وإنما من إرادة مولاها -سبحانه وتعالى- وإلهها الذي خلَقَ الخلْق -جل وعلا-.

ثم بعد ذلك مَن نزل بتسمية الإله إلى الأحجار والأوثان هؤلاء لا عقيدة لهم، يعني هؤلاء ما عبدوا مخلوقات شريفة وإنما عبدوا مخلوقات ضعيفة؛ دنيئة، لا تسمع، ولا تُبصِر، هذا الذي يعبد حجر؛ يعبد صنم، يعبد رمز، هذا أشد في الضلال؛ يعني أكثر في الضلال، فالله هو الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، فالإله الذي يستحق أن يُسمى بالإله هو الله، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، يعني أنه الإله حقًا؛ الموجود حقًا -سبحانه وتعالى-، وأما غيره ممَن أُدُعيَت له الألوهية كذب، {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، ثم {يُحْيِي وَيُمِيتُ}، هذا من صفته -سبحانه وتعالى-، وهذا من صفاته التي يستحق بها أن يُعبَد فهو الذي يُحيي ويُميت، أعظم أمور التصريف في الخلْق الإحياء والإماتة، وهي بيد الله وحده -سبحانه وتعالى- وليست بيد سِواه، فهي بيد الله وحده -سبحانه وتعالى- وليست بيد سِواه، {يُحْيِي وَيُمِيتُ}، فكل أنواع الحياة للنبات والإنسان والحيوان منه -سبحانه وتعالى-، وكذلك موت هذه المخلوقات إلى الله -تبارك وتعالى-، وأما غيره مهما أُدُعيَت له الألوهية فلا يستطيع أن يخلُق ولا مخلوق من المخلوقات الحقيرة، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ........}[الحج:73]، {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا}، واختار الله -تبارك وتعالى- هذا النوع من الحشرات لأنه شيء حقير؛ ويستصغره الناس، ويحتقروه، وهذا المخلوق وهو من المخلوقات الحقير المستصغرة ما يستطيع الذي تدعونهم من دون الله أن يخلقوا ولو هذا الخلْق الحقير، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، ولو اجتمع له هؤلاء الذين تدَّعوا لهم الألوهية من دون الله، بل {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.

فهذا شأنهم في الخلْق وكذلك شأنهم في المُلك، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22] {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، فالله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ........}[الدخان:8]، هذه صفاته ولذلك هو الذي يستحق العبادة وحده، {رَبُّكُمْ}، ربكم؛ سيدكم، مالككم، المُتصرِّف فيكم، حاكمكم، {وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}، وهو كذلك رب آبائكم الأولين بمعنى أنه هو سيدهم؛ وهو خالقهم، وهو الذي يتولَّى شئونهم ويتصرَّف فيهم -سبحانه وتعالى-، {آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}، إذن أين تذهبون؟ إذن هذا ربكم أنزل لكم هذا القرآن في هذا الليلة المباركة؛ ليلة القدْر، ليكون هذا نذارة للعالمين، ويكون بركة من عنده -سبحانه وتعالى- ورحمة من عنده للعالمين، {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:6]،

ثم قال -جل وعلا- {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان:9]، ولكنهم مع هذا في شك من هذا القرآن يلعبون، ونعود -إن شاء الله- إلى سياق الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.