الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان:9] {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14] {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}[الدخان:15] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، هذه الآيات من سورة الدخان التي مضى أن الله -تبارك وتعالى- قد افتتح هذه السورة بهذين الحرفين؛ الحاء والميم، وأقسَم بهذا الكتاب المُنزَل من عنده -سبحانه وتعالى- فقال {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الدخان:2] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}[الدخان:3]، هذه الليلة هي ليلة القدْر، وهي إحدى ليالي شهر رمضان المُعظَّم؛ وقد ثبت أنها في العشر الأواخر منه، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- في ليلة القدْر «التمسوها في العشر الأواخر من هذا الشهر»، وجاء أنها في الليالي الوِتر، وقد أُريها النبي -صل الله عليه وسلم- في رؤياه، ثم إنه قام من نومه ليخبر الناس بها فتناحر رجلان؛ تقاتل، فنُسِّيها النبي -صل الله عليه وسلم-، فقال «إني أُريت ليلة القدْر وإنه تناحر رجلان منكم فنُسِّيتها، فالتمسوها في الليالي الوِتر من العشر الأواخر؛ في تسعٍ بقين، في سبعٍ بقين، في خمسٍ بقين، في ثلاثٍ بقين»، يعني من واحد وعشرين إلى تسعٍ وعشرين.
طبعًا الله -تبارك وتعالى- بارك هذه الليلة ببركة عظيمة، أولًا كانت أعظم ليلة مباركة؛ فيها إنزال هذا القرآن الذي عمَّت بركاته، فكان من بركاته هذا النبي -صلوات الله عليه وسلم-، تنبيئ النبي محمد -صل الله عليه وسلم- وإرساله ليكون رحمة للعالمين، ثم بعد ذلك الخيرات والبركات العظيمة التي جائت بتوجُّه مَن توجَّه من المؤمنين إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وما نشأن عن هذا التوجُّه من الخيرات العظيمة؛ من ملايين الملايين الذين آمنوا، والذين قاموا لله -تبارك وتعالى- صلوا؛ وركعوا، سجدوا، وحجوا، وبروا والديهم، وفعلوا الخيرات التي جاء بها هذا الدين، وانتهوا عن الشرور العظيمة التي كانت تسود الأرض والظلمة من الشرك؛ والكفر، وقتل النفس، فقد كانت الأرض قد مُلِئت سوادًا وظُلمًا، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الله نظر إلى أهل الأرض قبل أن يبعثني فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»، فالخير الذي كان في الأرض هو البقايا القليلة التي بقيت على الدين من أهل الكتاب، ثم إن الله -تبارك وتعالى- فجَّر نوره العظيم -سبحانه وتعالى- بإنزال هذا الكتاب على نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وقد ناسب أول نزول هذا في هذه الليلة المباركة، الله سمَّاها مباركة لِما حدث فيها من هذه البركة العظيمة بإنزال هذا القرآن؛ وبعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وما تلى ذلك من البركات منذ ذلك الوقت وإلى يومنا وإلى قيام الساعة، هذه البركات العظيمة بركات نزول هذا الكتاب المبين من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، أي هذا الكتاب المبين، {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، ثم أخبر أن من أهداف هذا {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، مُحذِّرين بهذا الكتاب من العقوبة العظمى يوم القيامة، عقوبة الرب -تبارك وتعالى-؛ ناره وعقابه لمَن يحيد عن هذا الطريق.
ثم أخبر الله عن ليلة القدْر قال {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، في هذه الليلة الله -تبارك وتعالى- يحكم بأوامره الحكيمة -سبحانه وتعالى-، ولا يأمر الله -تبارك وتعالى- إلا بالحكمة والعِلم -سبحانه وتعالى-، {........ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4]، من الأمر الكوني القدري، فمقادير العباد تنزل في هذه الليلة؛ من هذه الليلة إلى الليلة التي تأتي بعد سنة، كل مقادير السنة تنزل في هذه الليلة، وهذه تقدير بعد تقدير؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قدَّر مقادير الخلْق قبل أن يخلُقهم -سبحانه وتعالى- بخمسين ألف سنة، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:4] {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ........}[الدخان:5]، ويكفي هذا، يكفي أن نعلم أن هذا الأمر الكوني القدري من عند الله -تبارك وتعالى-؛ فلا يكون إلا بمقتضى العِلم والحكمة، {........ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان:5] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، بهذا القرآن، {........ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:6] {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[الدخان:7]، أيها المخاطبون، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا معبود لكم إلا هو، لا إله على الحقيقة في الوجود كله إلا هو، آلهة باطلة نعم موجودة، لكن هذه الآلهة أسماء وصور تُسمَّى لآلهة؛ لكن ليست آلهة في نفسها، بل هي مخلوقة مربوبة؛ لها ربها -سبحانه وتعالى-، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، فكل ما عُبِدَ سوى الله -تبارك وتعالى- هو عبْد لله -تبارك وتعالى-، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، فالله لا جزء له؛ ولا نِد له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا مضاد له -سبحانه وتعالى-، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الدخان:8].
ثم قال -جل وعلا- {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان:9]، بل هؤلاء المخاطبون بهذا القرآن من العرب وغيرهم في شك من هذه الرسالة التي يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بها؛ يُقسِم بهذا الكتاب، ويُبيِّن أنه أنزَله نِذارة للعالمين؛ ورحمة للعالمين، وهداية، وأن هذا أمر أُنزِل في هذه الليلة المباركة التي تفجَّر فيها هذا النور، لكنهم مع ذلك في شك من هذه الرسالة، يلعبون بما هم فيه؛ لعب هذه الحياة الدنيا، الحياة الدنيا لعب؛ يأكلون، ويشربون، ويتمتعون، ويكدحون في هذه الحياة لعب، {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان:9]، لاهين عن هذا الأمر العظيم؛ عن الرسالة العظمى التي جائت تؤهلهم لسُكنى ملكوت الله -تبارك وتعالى-، تدخلهم ملكوت الله -عز وجل- في الآخرة؛ جنة الله، وكذلك تنشدهم وتُبعِدهم عن عقوبته العظيمة، {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان:9].
قال -جل وعلا- مُهددًا لهم {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11]، هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى-، قال {فَارْتَقِبْ يَوْمَ}، والارتقاب؛ الانتظار والتوقُّع، ترقَّب الأمر بمعنى أنه انتظره ويتوقعه أن يأتي في أي لحظة من اللحظات، {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12]، أهل التفسير من الصحابة ومَن بعدهم اختلفوا في مراد الله -تبارك وتعالى- بهذا {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10]، متى يكون هذا الدخان؟ فعبد الله ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول أن هذا من الأمر الذي وقع، وأنه ليس من أشراط الساعة؛ ولا من يوم القيامة، وإنما هذا وقع، وفسَّر هذا بأن قريش لمَّا استعصت على النبي -صلوات الله عليه وسلم-، واستبطأ النبي إيمانها ودينها دعى عليها، وقال «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف»، يعني سنين من القحط، فأجدبت أرضهم سنين حتى أن قريش من الجدب أكلوا الخِرَق، وكان الشخص يقوم من جهْد الجوع فينظر ما بينه وبين السماء كأنه دخان، فجيئ للنبي -صل الله عليه وسلم- وقيل له ادعوا على مُضَر؛ لقد هلكوا، هلكت مُضَر يعني ادعوا الله -تبارك وتعالى- أن يسقيهم؛ لقد هلكوا، فدعى النبي ربه -سبحانه وتعالى- وكشف هذا العذاب، قول الله -تبارك وتعالى- {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14] {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا ........}[الدخان:15]، أي هذا القحط الذي كانوا فيه، {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}، إلى الكفر، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ........}[الدخان:16]، وهذه فسَّرها ابن مسعود في تتمة كلامه بأنها يوم بدر، {إِنَّا مُنتَقِمُونَ}، أي منهم، فتكون البطشة الكبرى هي ما نزل في يوم بدر، وقال ابن مسعود هذه قد مضت؛ البطشة الكبرى اللي هي يوم بدر، والروم، {غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:3]، انتهت، واللزام؛ العذاب الذي لزمهم ونزل، والدخان، والقمر، قال كل هذه الآيات الخمس قد مضت، القمر؛ قول الله -تبارك وتعالى- {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}[القمر:2]، قال هذه قد مضت كذلك، فإن القمر قد انشق لأهل قريش لمَّا قالوا لن نؤمن لك إلا أن تأتينا بآية؛ فأراهم القمر، ثم انشق القمر إلى فلقتين حتى رأوا جبل أبي قُبيس بي شِقيه، ثم التأم أمامهم مرة ثانية ولكنهم لم يؤمنوا، يقول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- هذه الآيات الخمس قد مضت؛ ومنها الدخان، ويُفسِّر هنا {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ........}[الدخان:16]، بأنها يوم بدر.
أما ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- فأخبر بأن هذا الدخان إنما هو يكون يوم القيامة، وأن عذاب هذا الدخان يوم القيامة يغشى الناس في الموقف، يأخذ الكافر فيصطلي به ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزُكام، ثم يرفعه الله -تبارك وتعالى-، لكن ابن مسعود يرُد هذا القول فيقول أن {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}[الدخان:15]، يقول عذاب الآخرة إذا جاء فإنه لا يُرفَع، إذا جاء عذاب الآخرة فإنه لا يُرفَع وإنما هذا عذاب في الدنيا، فسَّر بعضهم هذا الدخان فقال بما جاء من قول النبي -صل الله عليه وسلم- في أشراط الساعة الكبرى، وذلك أن النبي قال أنه «لن تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات»، قبل مجيئ الساعة، فذكَرَ منها -صل الله عليه وسلم- الدخان؛ والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، والمسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، ويأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن؛ عدن أبين، تحشر الناس إلى محشرهم في الشام، تبيت معهم وتقيل معهم، هذي سبع آيات وثلاثة خسوف؛ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، فهذي عشر آيات أخبر النبي أنه لن تقوم الساعة حتى تروا هذه الآيات العشر، فمنها الدخان؛ قال النبي –صل الله عليه وسلم- الدخان، وهذا الحديث موجود في الصحيحين، ويكون هنا في تفسير الآية حسب السياق هنا {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10]، أنه آية من آيات الله –تبارك وتعالى-؛ وعقوبة مُعجَّلة لهؤلاء الناس في الدنيا قبل يوم القيامة، {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12]، هذي استجارة الناس بربهم -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، فالبطشة الكبرى على مَن فسَّر الدخان بأنه سيأتي قبل يوم القيامة؛ البطشة الكبرى يوم القيامة، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، هذا يوم القيامة.
وأما على تفسير ابن مسعود للآية {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ........}[الدخان:16]، يوم بدر، والذين قالوا بأن يوم بدر لا يكون بطشة كبرى؛ إنما هو عقوبة صغرى، والبطشة الكبرى إنما هي يوم القيامة، الصحيح ممكن أن تكون أيضًا يوم بدر هو البطشة الكبرى بمعنى الكبرى لقريش، فإنه لم تقع بهم مصيبة في تاريخهم كمثل هذه المصيبة التي وقعت بهم، فإنه يوم بدر قُتِلَ سبعون من أشرافهم وصناديدهم، كبرائهم؛ كبارء أهل مكة اللي هم كبراء قريش، ثم أُسِرَ سبعون منهم كذلك؛ من أشرافهم، ومن ساستهم، وقادتهم، فكانت بطشة كبرى بالنسبة إليهم، وقد قلبت موازين القوة بين قريش وبين النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ فإنه قد ظهر نجم الإسلام بعد ذلك، وكانت هذه الضربة بالنسبة لقريش ضربة قاصمة لهم؛ يعني كسرت جناحهم تمامًا، ثم كانت التمهيد لِما تلاها بعد ذلك من النصر المبين، بل كانت فرقان؛ كما سماها الله -تبارك وتعالى- فرقان بين الحق والباطل، إذن هنا على تفسير ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10]، ممكن يكون في تفسير ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- للدخان هنا بأنه لم يُفسِّر الدخان بأنه دخان، وإنما هذا هو حالة الغبَرَة التي صعدت من الأرض، وحالة أوهام الجوع والضنك الذي كانت فيه قريش بعد القحط، {........ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10]، لكن الآية تقولم {........ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10]، دخان بيِّن واضح، وسمته دخان وليس هو مجرد الغبار الذي يكون صاعد من الأرض بطول مُكثها في الجفاف؛ بعيدة عن المطر، {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11]، فعلى قول ابن مسعود هذا عذاب أليم؛ عذاب القحط، الذي ضرب الله -تبارك وتعالى- به مُضَر عندما دعى عليهم النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وقال «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف»، يعني كسنين يوسف التي ضرب الله -تبارك وتعالى- بها وكانت في قوم فرعون؛ سبع سنوات عِجاف، ثم رزقهم الله -تبارك وتعالى- الفيضان بعد ذلك وجريان النيل بعد ذلك في سبع سنوات تلتها.
{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12] {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى}، يقول –جل وعلا- {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى}، يعني كيف لهم أن يتذكَّروا، {........ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ........}[الدخان:14]، يعني أنَّى لهم هؤلاء أن يتذكَّروا وقد جائهم رسول مبين؛ النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، مُبين؛ أولًا مُبين من بان بمعنى بيِّن واضح، فكل دلائل الصدق تحتف له -صلوات الله والسلام عليه- وتقوم معه، ما في أي مدخل يمكن أن يدُخِل الشُبهة فيه إلى القلب، فمَن كذَّب به إنما هو العِناد فقط، فإن كل أحواله كانت تدل على صِدقه -صلوات الله والسلام عليه-، من ذلك أولًا أنهم لم يُجرِّبوا عليه كذبًا قط قبل أن يأتي بهذه الرسالة، فكيف يكون شخص لم يكذب طيلة حياته أن يأتي بعد ذلك ويكذب كل حياته الباقية؟ فيقول الله أرسلني؛ والله يأمركم بكذا، وينهاكم عن كذا، وهناك كذا، وهناك كذا ...، ويُحدِّث أحاديث الغيب، ويُحدِّث الأحاديث المستقبلة؛ ويكون في كل هذا كاذب على ربه، هذا أمر يستحيل في عالم البشر أن يترك رجل الكذب إلى سن الأربعين ثم يأتي بعد ذلك يكذب من هذا الوقت إلى أن يموت؛ هذا أمر مستحيل، فكيف يكون كاذبًا؟ هذي واحدة، الأمر الأخر هذه أدلة صدِقه؛ جائهم بكتاب، قال لهم هذا كتاب من الله -تبارك وتعالى-، إن كنتم مُكذِّبيني فأتوا بسورة منه؛ أنتم أهل الفصاحة والبلاغة، لا أُطالبكم بالمعاني وإنما أُطالبكم بالألفاظ والصياغة، {........ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23].
ثم هذا رجل مبارك بكل معاني البركة؛ في صدقه، في أمانته، في بره، في إحسانه، فكيف يكون الكذَّاب رجلًا مباركًا على هذا النحو؟ وكل أمره مبارك، وكل أمره طيب، وكل ما يدعوا إليه خير، وكل ما ينهى عنه شر، فكيف يكون هذا حال الكاذب؟ الكاذب لا يمكن أن ينبع منه الطُهْر والعِفَّة والصدق على هذا النحو؛ يستحيل هذا، هذا أمر مستحيل، فكيف يكون مثله كاذب؟ وهذا حاله في أن لا يأمر إلا بالطُهْر؛ والعفاف، والصدق، والأمانة، بر الوالدين، الإحسان إلى الجار، العناية والرحمة بكل مخلوقات الله -تبارك وتعالى-، فلا يقاوم ولا ينبذ إلا الشر فقطن {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، فكيف يكون مثل هذا كاذبًا؟ الأمر الأخر أنه مُنزَّه عن الغرض؛ ما في غرض، ليس له أي غرض دنيوي في ما يدعوا إليه، فما هو طالب أموال يجمعها؛ طالب قصور، طالب أن يكون له زوجات ونساء، طالب أن يأخذ أموال الناس، بالعكس؛ هو مُتعفِّفٌ تمامًا عن أموال الناس، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، ولم يطلب منهم شيئًا من هذا؛ هذا أمر، ثم هو مع التنزيه من الغرض هذه الرسالة تجُر عليه كل المشاكل؛ وكل العَنَت، والمصائب، تجُر عليه غضب الأقربين والأبعدين، فإنه أتى بهذه الرسالة يصادم بها ويُخالِف بها مع عليه الناس كلهم، ماعليه أهله وقومه من عبادتهم؛ من أعمالهم، من سلوكهم، من تصرُّفاتهم، ليس قومه وحدهم بل كل الناس؛ فقط جاء يُكفِر اليهود، ويُكفِر النصارى، ويُكفِر المجوس، ويُكفِر هؤلاء قومه المشركين، ويقول لهم كل ما تعبدونه من دون الله إنما هو باطل، وأن الحق هو هذا الطريق فقط الذي جئت به؛ لا طريق إلا هذا الطريق، اعبدوا الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، فجاء يُصادِم الجميع وبالتالي يُعادي الأمم؛ كل الأمم تصير أعداء له، فكيف يأتي إنسان كذَّاب يُعادي الناس كلهم؟ يأتي برسالة إلى الكل ويكذب عليهم، لا غرض له فيها؛ لا هدف له دنيوي فيها، ثم يستجلب على نفسه كل غضب الناس؛ وحُنقهم، وسعيهم في قتله وفي إزالته من الأرض بكل سبيل، يستحيل هذا؛ كل هذا يستحيل في عالم البشر، أن يأتي إنسان كذَّاب يُعادي الناس كلهم بغير ما يكون له هدف دنيوي يكسبه من وراء ذلك.
كذلك ما أجرى الله -تبارك وتعالى- على يديه من المعجزات الحسية الكثيرة، فقد رأوا معجزات حسية؛ رأت قريش انشقاق القمر، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}[القمر:2]، يخبرهم بالأخبار التفصيلية، ففي قصة الإسراء يخبرهم مررت على فلان وهو سائر؛ وفلان وفلان وهم راحين، وهم راجعين رأيت فلان وفلان، رأيت القافلة الفلانية أمامها البعير الفلاني، قالوا له أنت ذهب إلى بيت المقدس ورجعت في ليلة واحدة؛ ونحن نذهب شهر بالإبل وشهر رجعة، شهر مُصعِدة وشهر مُدوية، شهر رايحة وشهر راجعة، شهرين حتى نرجع إلى مكة مرة ثانية وأنت تزعم بأنك ذهبت ورجعت من البيت المقدس في ليلة واحدة، أخبرنا بيت المقدس هذا؛ أين بيت المقدس هذا؟ ما شكله؟ فيخبرهم النبي بالتفصيل، يقول النبي «جلَّاه الله لي، جعلت انظر إليه أمامي وأُخبِرهم»، أقول لهم هذا تفصيل كذا؛ وتفصيل كذا، وتفصيل كذا ...، والنبي ذهب ليلًا -صلوات الله والسلام عليه-، ورأوا أنه لم يكذب عليهم في شيء من ذلك، بل نقل لهم الصورة كأنه يشاهدها؛ وهو بالفعل يُشاهدها -صلوات الله والسلام عليه-، ثم أخبرهم بالأخبار السابقة، قال هم اسألوا، {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}، فأتاهم بذِكْر مَن قبله من الأمم؛ من أول آدم -عليه السلام-، كيف خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في السماء، كيف أنزله، نوح وقومه، هود، صالح، موسى أخبار بالتفصيل، يوسف أخبار تفصيلية، قال لهم اسألوا أهل الكتاب، انظروا هذه الأخبار التي أتيتكم بها هي التي عند أهل الكتاب، لم أقرأ ما عند أهل الكتاب، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:48]، رجل أمي؛ ما قرأ أي شيء، ثم أتى لهم بهذه العلوم، كيف يأتي بهذه العلوم؟ {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[ص:69] {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[ص:70] {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}[ص:71] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[ص:72]، أين كان النبي عن هذه العلوم؟ من أين يستطيع أن يأتي بشيء من ذلك؟ هذا موجود في كتب السابقين ولم يقرأها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كل هذه الأدلة مُحتفَّة بصِدقه؛ مُحتفَّة به، تدل على أنه الصادق الأمين -صلوات الله والسلام عليه-؛ وعلى أنه لا يمكن أن يكون قد افترى هذا الكلام وأتى به.
الله -تبارك وتعالى- يقول {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى}، كيف يتذكَّر هؤلاء؟ {........ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13]، بيِّن واضح أنه رسول الله -تبارك وتعالى- في كل أقواله؛ وتصرُّفاته، وحركاته، وسكناته، وكل ما يحيط به، وكل ما أتى به، لكن {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14]، {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ........}[الدخان:14]، رسول يأتيهم من الله -تبارك وتعالى- مبين؛ كل أدلة الصدق قائمة معه، لا يمكن أن يكون هناك شك يتطرَّق إليه، ما في أي باب للشك يتطرَّق إلى النفس بأن هذا رسول الله، ولكنهم مع كل هذا يقولوا مُعلَّم مجنون، وقولهم مُعلَّم مجنون أولًا هذا قول مُتناقِض؛ فإن المُعلَّم لا يكون مجنونًا، المجنون لا يتعلَّم ولا يُعلِّم، كيف يتعلَّم المجنون؟! لكن هذا أيضًا من تناقضهم، فيقولوا قولين متناقضين في شخص واحد؛ شخص النبي -صل الله عليه وسلم-، مُعلَّم؛ يعني علَّمه غيره، طيب مَن علَّمَه؟ أحيانًا نسبوا التعليم إلى رجل أمي، غلام رومي حدَّاد؛ كان قين في مكة حدَّاد، وكان النبي أحيانًا يجلس إليه، فقال هذا يأخذ القرآن من هذا الرومي، فالله -تبارك وتعالى- تنزَّل لهم في الخطاب وقال {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل:103]، قال لهم هذا الذي تزعمون بأنه يُعلِّم النبي أعجمي؛ رومي، لا يُحسِن العربية، فكيف مَن لا يُحسِن العربية يُعلِّم العربية؟ والله -تبارك وتعالى- قد جائكم بهذا الكتاب العربي المُبين، النبي جائكم بكلام عربي مُبين؛ فصيح، وتحدَّكم؛ قال لكم هاتوا كلامًا مثله، فكيف يُعلِّم الرومي العربية؟! فهذا من سخافة عقولهم، يردوا الحق بأي صورة من صور الرد، يفتروا كلام هكذا لا يفكروا فيه؛ مُعلَّم، وأحيانًا لا ينسبون تعليمه لشيء، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]، وقالوا؛ أي أن هذا القرآن، أساطير الأولين؛ ما سطَّرَه الأولون، اكتتبها؛ اكتتبها النبي، فهي تُملى عليه؛ بالبناء للمجهول، بُكرة وأصيلًا هذي بتُملَّى عليه، طيب مَن الذي يُملِّيها؟ ومَن الذي يُعطيه هذا؟ {........ فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]، من هذا الكذب.
ثم قالوا بعد ذلك؛ قالوا مُعلَّم، وقالوا مجنون، {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}، كيف يكون المُعلَّم مجنونًا؟ المجنون لا يتعلَّم ولا يُعلِّم، لكنها الخصومة الشديدة؛ اللدد في الخصومة، {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}، والإجرام، والكفر، والعناد، ورد الحق؛ بأي صورة يردوا هذا الحق، فالله -تبارك وتعالى- الذي يُقسِم بهذا القرآن؛ وأنزَله في هذه الليلة المباركة، وأنزَله نِذارة، وأنزَله رحمة، وأنزَله على هذا العبد البيِّن الواضح؛ الرسول الذي بان صدقه وأمانته بيِّن واضح، والمُبيِّن كذلك لمراد الرب -تبارك وتعالى- ولطريق الرب كل البيان، لكنهم مع هذا لم يؤمنوا به، فيقول الله -جل وعلا- {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14]، ثم يأتيهم تهديد الله -تبارك وتعالى-.
نعود إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، الحمد لله رب العالمين.