الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (615) - سورة الدخان 25-37

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:25]{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الدخان:26]{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27]{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الدخان:28]{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[الدخان:29]{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[الدخان:30]{مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}[الدخان:31]{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الدخان:32]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن المآل الذي آل إليه فرعون وقومه بتكذيبهم آيات الله -تبارك وتعالى-، وقد ضرب الله -تبارك وتعالى- هذا مثَلًا للمُكذِّبين من العرب الذين جائهم هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-؛ ولكنهم قابلوه بالتكذيب والعناد، قال -جل وعلا- عن هؤلاء العرب {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}[الدخان:13]، محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}[الدخان:15]، عذاب الدخان والقحط الذي أصابهم بدعوة النبي -صل الله عليه وسلم-، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، يوم بدر.

ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- لهم مثَل بقوم فرعون، فقال {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ........}[الدخان:17]، قبلهم؛ قبل هؤلاء العرب، {........ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}[الدخان:17]، موسى -عليه السلام-، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ........}[الدخان:18]، اتركوا شعب بني إسرائيل لأخرج أنا وهو من أرض مصر، لنعبد الله -تبارك وتعالى- خارجًا إلى سيناء، {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}[الدخان:18]{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:19]{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ}[الدخان:20]{وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}[الدخان:21]، اتركوني اعتزل وأخرج، {فَدَعَا رَبَّهُ}، أي موسى -عليه السلام-، {........ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}[الدخان:22]، قد جُرِّبَت فيهم كل الآيات ولكنهم عَتَوا عن أمر الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أتاهم بآيات موسى البينات الواضحات؛ معجزاته، عصاه، ويده، وضربهم الله -تبارك وتعالى- بآيات خارقة للعادة، قال {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، قال موسى -عليه السلام- قال -جل وعلا- {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}[الدخان:22]، عند ذلك أتاه الأمر الإلهي بالخروج، قال -جل وعلا- {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}[الدخان:23]، أسري بهم؛ السُراء هو الخروج ليلًا أي من أرض مصر، إنكم مُتَّبَعون؛ سيتَّبعكم قوم فرعون.

{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ}[الدخان:24]، وذلك أن موسى عندما دخل في البحر ونظر خلفه ودخل بنوا إسرائيل في البحر قبل أن يخرجوا منه، ونظروا خلفهم وإذا بفرعون قد تَبِعَهم بجنوده أيضًا؛ داخل في الطريق الذي جعله الله -تبارك وتعالى- لهم في البحر، فعند ذلك أراد موسى أن يقطع الطريق على فرعون فأراد أن يضرب البحر من خلفه ليلتئم، حتى يُحال بين جيش فرعون وبين قوم موسى قبل أن يخرجوا، فقال له الله -تبارك وتعالى- {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ........}[الدخان:24]، أي ساكنًا، {........ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ}[الدخان:24]، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد دبَّر لهم أن يُغرِقهم في البحر؛ بأن يدخلوا بكليتهم، ثم بعد ذلك يُطبِق الله -تبارك وتعالى- البحر عليهم، {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ........}[الدخان:24]، أي ساكنًا، {........ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ}[الدخان:24]، وقد كان؛ فإن الله -تبارك وتعالى- عندما خرج آخر شخص من بني إسرائيل من البحر، وأصبح كل جيش فرعون في سواء البحر؛ هو وجميع جنوده، عند ذلك أطبق الله -تبارك وتعالى- عليهم البحر.

ثم قال -جل وعلا- {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:25]، كم التكثيرية العددية، يعني كثيرًا من الجنات والعيون في أرض مصر تركوها، وكان مآلهم الهلاك في هذا المكان؛ في البحر، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:25]{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الدخان:26]، الجنات؛ البساتين، يعني الأشجار المثمرة العالية، والزروع يعني ما تحت هذه البساتين من الخضروات والحبوب ونحوها، {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الدخان:26]،مقام كريم؛ نفيس، من حُسْنه قصور على شواطئ الأنهار؛ جلسات في وسط هذه الجنات وتحت هذه العرائش، مقام يُكرَمون فيه ويلتذون بصنوف أنواع الالتذاذ؛ من المناظر العظيمة، هذه البساتين العظيمة، وهذه الزروع الممتدة، والمروج العظيمة، والأنهار الجارية، والثمار اليانعة، {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الدخان:26]{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27]، نعمة؛ إنعام من الله -تبارك وتعالى-، في هذه النعمة كانوا فيها فاكهين؛ يعني يتفكَّهون، والتفكُّه هو دخول السرور على القلب، إدخال السرور على القلب بأنواع الأطعمة؛ وأنواع الأشربة، وأنواع المناظر، وأنواع التقلُّب في هذه النِعَم العظيمة، {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27].

قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الدخان:28]، يعني كذلك كهذا المصير البائس الذي انتهى إليه هؤلاء المجرمون، وأوثناها؛ أورثنا هذه الزروع والثمار والجنات قومًا أخرين، وهؤلاء القوم الأخرون أخبر الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى قال {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:59]، يعني أورثنا مثلها بني إسرائيل عندما أدخلهم الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك الأرض المباركة التي بارك الله فيها؛ وهي أرض الشام، أورثهم مثل هذه الجنات بعد أن أُخرِجوا وخرجوا من مصر على هذا النحو الذي خرجوا منه؛ يعني ليس معهم إلا متاعهم الذي استطاعوا أن يخرجوا به، لكن الله -تبارك وتعالى- أورثهم بعد ذلك الأرض، قال وأورثنا بني إسرائيل الأرض التي باركنا فيها، فتمتعوا فيها بصنوف المتع مثلها أو التي كان مثلها يتمتع به قوم فرعون قبل أن يُهلِكهم الله -تبارك وتعالى-، {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الدخان:28]، الوجه الأخر من التفسير هنا وأورثناها؛ أورثنا هذه الزروع والثمار التي تركها قوم فرعون في أرض مصر، أورثها الله -تبارك وتعالى- أجيال أخرى تقوم، وأهلك الله -تبارك وتعالى- هذا الجيل المجرم الذي عتى عن أمر الله -تبارك وتعالى-؛ وكذَّب رُسُله على هذا النحو، {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الدخان:28].

قال -جل وعلا- {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[الدخان:29]، لم يتأثَّر أحد بهلاكهم، قيل لأن الكافر لا يحزن عليه شيء، الأرض التي يعيش عليها والسماء التي يستظل بها لا تحزن عليه؛ بل تتخلص منه، وذلك أن السماء والأرض عابدة لله -تبارك وتعالى- وبالتالي هي كارهة للكافر، ولولا أنها مُسخَّرة ومُذلَّلة وأن الله سخَّرها وذلَّلها لَما سُخِّرَت لكافر؛ لَما سكنت لكافر ولا استسلمت له، ولكن لأنها كانت مُذلَّلة على هذا النحو قد سخَّرها الله -تبارك وتعالى-، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ........}[الجاثية:13]، وقد سخَّر الله -تبارك وتعالى- هذا للمؤمن والكافر، شاء الله -تبارك وتعالى- أن يتقلَّب الكافر في نِعَم الله -تبارك وتعالى- كما يتقلَّب، لكن هذه الأماكن وطعامه الذي يأكله يلعنه، وثوبه الذي يلبسه يلعنه، فكل مخلوق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- هو عابد لله -تبارك وتعالى- ومُبغِض للكافر؛ وكذلك في النهاية مُحِب للمؤمن، فإنه مُحِب للمؤمن كما كان النبي مثلًا يمر على جبل أُحُد فيقول «هذه طابا؛ هذا أُحد، جبل يُحبنا ونُحِبه»، الأماكن التي يقوم فيها المؤمن بعبادة الله -تبارك وتعالى- تشهد له يوم القيامة وتحبه؛ وكل ما حوله يوده ويحبه، ولذلك إذا فارقه يحزن عليه، إذا فارقه يحزن عليه؛ مكانه، وشواهده، وبيته، أما هؤلاء الذين ذهبوا هذا المذهب من الكفار فإن الأرض تستريح منهم، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- حُمِلَت جنازة قال «مُستريح ومُستراح منه، فقالوا يا رسول الله ما مُستريح وما مُستراح منه؟ فقال الميت إذا كان من أهل الإيمان فإنه مُستريح، يستريح من نكد الدنيا؛ ومن شقائها، ومن لَئوائها، وأما الكافر إذا مات فإنه يستريح منه البلاد والعباد»، الكل يستريح منه، الأرض التي كان يسير عليها هي تستريح منه، كل البلاد والعباد يستريحون منه وذلك أن الكافر كما قال الله -تبارك وتعالى- نجِس، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، يتأذى منه كل شيء؛ كل شيء يتأذى منه، ولذلك فالأرض عابدة لله -تبارك وتعالى-، لولا أنها مُسخَّرة لذلك للفظته ولم تقبله، وثوبه لو كان باختياره لَما مكَث على بدنه، قال -جل وعلا- {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[الدخان:29]، عندما ذهبوا.

هذا وجه من وجوه التفسير؛ وهذا هو الحق -إن شاء الله-، والوجه الأخر {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[الدخان:29]، من باب أنه لم يحزن أحد ولم يتأسَّف أحد لذهابهم، يعني أذهبهم الله -تبارك وتعالى- كما يُقال فلان ذهب؛ لا أحد يذرف عليه دمعة، فهذا يكون تعبير بلاغي مجازي؛ أنه لم يتأثَّر أحدٌ بذلك، لكن القرآن لا شك أنه على ظاهره؛ وظاهره هنا الصحيح، {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[الدخان:29]، هذا أمر حقيقي ولا شك أن المؤمن يبكي عليه مكانه ويتأثَّر به، وهذا نبينا -صلوات الله والسلام عليه- عندما كان يقوم في خُطبَته كان يستند قبل اتخاذ المنبر إلى جِذع في المسجد؛ يستند إليه عندما يخطُب -صلوات الله والسلام عليه-، فلمَّا صُنِعَ له المنبر وترك النبي الاستناد إلى هذا الجِذع؛ وهو موجود في المسجد، وصعد المنبر عند ذلك سمِعَ الصحابة وهم في المسجد لهذا الجذع حنين وصوت عالي؛ كأنه صوت فصيل الناقة عندما يبكي على أمه، حتى أن النبي -صل الله عليه وسلم- نزل من خُطبَته وأتى إلى هذا الجذع؛ واحتضنه، وجعل يُهدهده حتى سكن، فهذا جذع نخل خاوي لا حياة فيه؛ حتى حياة النبات ليست فيه، ومع ذلك حنَّ وبكى لمَّا فارقه النبي وهو يخطُب عنده وفارقه إلى المكان الأخر، فلا شك أن هذه الجمادات لها إدراكات، وهي كذلك تأنس وتُحِس بصلاة المؤمن وعبادته، وقد قال -صلوات الله وسلامه عليه- «كل شاخص يشهد للمؤذِّن يوم القيامة»، المؤذِّن إذا أذَّن وقال الله أكبر الله أكبر؛ إلى آخر الأذان، كل شاخص على الأرض؛ أي شيء شاخص، يعني كصخر قائمة، أو شجرة قائمة، أو تلَّة مرتفعة، كل شاخص يشهد له يوم القيامة، وقد قال -تبارك وتعالى- عن الأرض {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2]{وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3]{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4]، يومئذٍ؛ يوم القيامة، تُحدِّث؛ أي الأرض أخبارها، تُحدِّث الأرض أخبارها فتقول صُنِعَ عليَّ كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وصُنِعَ عليَّ كذا وكذا في يوم كذا، فتشهد الأرض بما صُنِعَ عليها، فالأرض تفرع بما صُنِعَ عليها من الخير، وكذلك تحزن وتأسف بما يُصنَع عليها من الشر، ولذلك إذا ذهب الشرير فإنها ترتاح، {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}[الدخان:29]، مُمهَلين، يعني أن الله -تبارك وتعالى- جعل لهم وقت ليُهلِكهم فيه، فكان الأمر كما قضى الله -تبارك وتعالى-؛ أُهلِكوا في الوقت الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى-، ولم يُنظَروا؛ يُمهَلوا ويؤجِّلوا ولا دقيقة من الدقائق، بل في الوقت الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[الدخان:30]، تأكيد من الله -تبارك وتعالى-، ولقد نجينا؛ الله -سبحانه وتعالى- هو الذي نجَّاهم، بني إسرائيل؛ أولاد يعقوب، وموسى وقومه من بني إسرائيل؛ من فرع إسحاق، من العذاب المهين؛ العذاب الذي كان يُهانون به من فرعون، وذلك أن فرعون سنَّ فيهم وقام فيهم بسُنَّة سيئة، وهي أن يضطهدهم وأن يُعذِّبهم تعذيب بحيث يبقوا في الذل والخدمة والتسخير؛ ولا تُقام لهم قائمة، وذلك كما قيل أنه خشي منهم أن يكثروا ويتغلَّبوا ويتسلَّطوا على أرض مصر وعلى المصريين، فقال عند ذلك لمَّا قيل له على هذا النحو {........ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127]، فأخذ فيهم سُنَّة وهي قتل الذريَّة من الكبار وإبقاء النساء حيَّات، وإخراجهم من مناصبهم؛ وأماكنهم، وأموالهم، وتحويلهم إلى أن يكونوا خدم، وأن يُسخَّرون في أعمال السُخرة، فكانوا يقومون بالأعمال الشاقة؛ كضرب اللبن، والبناء، ونحو ذلك، ويُسخِّرونهم ويجعلون لكل مجموعة منهم قائم على رأسه؛ كل عشرة هناك مَن يقوم عليهم، وكل شعب بني إسرائيل في أرض مصر على هذا النحو، ويُسخِّرونهم بمقرر يومي للعذاب؛ للعمل الذي يُهينهم ويُعذِّبهم على هذا النحو، كما ذكَّرهم الله -تبارك وتعالى- بنعمته عليهم قال {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، يسومونكم يعني يُرعونكم العذاب؛ كأنهم يرعونهم إياه رعي، كل يوم لهم مُقرر مُعيَّن ليُعذَّبوا بالأعمال الشاقة، فأخبر -سبحانه وتعالى- بأنه بعد هذا الهلاك الذي أهلك به قوم فرعون في البحر فإنه أنجى بني إسرائيل من العذاب المهين خلاص؛ من قبضة فرعون، وأصبحوا أحرار بعد ذلك في صحراء سيناء، يعبدون الله -تبارك وتعالى- كما يشاؤون ولا سلطان عليهم من غيرهم.

{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[الدخان:30]{مِنْ فِرْعَوْنَ}، وفرعون إسم يُطلَق على كل مَن ملَكَ مصر؛ كما يُطلَق كِسرى على مَن ملَكَ الفرس، وقيصر على مَن ملَكَ الروم؛ فهو لقب للحاكم الذي يحكُم، وفرعون في زمان موسى هو الذي استبد بالأمر على هذا النحو وسنَّ فيهم هذه السُنَّة السيئة؛ التي أذلَّتهم هذا الإذلال، {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}[الدخان:31]، إنه؛ فرعون، {كَانَ عَالِيًا}، عالي؛ مُتكبِّر، جبار، فرض عبادته على الناس، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، لا أعلم أن هناك إله يُعبَد غيري أنا، وقال لقومه {........ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29]، فقد كان هو صاحب الأمر وحدَه وصاحب الطَول والقول، وقد ألزم أمته بما يراه ولا يقبل رأيًا أخر غير رأيه، فكان عاليًا؛ من المسرفين في المعاصي، والمسرفين في القتل، فقد أسرف في القتل؛ في قتل بني إسرائيل، وفي حملهم في هذا العذاب المهين، {........ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}[الدخان:31].

ثم قال -سبحانه وتعالى- {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الدخان:32]، بني إسرائيل، فانظر فعل الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء الفئة التي كانت تُستضعف؛ وفعل الله -تبارك وتعالى- بهذا الجبار المُتكبِّر، ولقد اخترناهم؛ أي بني إسرائيل في وقت موسى -عليه السلام-، على عِلم؛ على عِلم من الله -تبارك وتعالى-، على عِلم من الله -تبارك وتعالى- أنهم أصلح وأفضل أهل زمانهم، على العالمين؛ كل الأمم والشعوب في زمانهم، اختارهم الله -تبارك وتعالى- فجعل فيهم الرسالة؛ رسالة موسى، والنبوَّة من بعد ذلك؛ الأنبياء، وأمدهم الله -تبارك وتعالى- بما أمدهم به من وجود الأتقياء؛ والصالحين، والمُجاهدين، وبقاء الكتاب فيهم؛ التوراة، التي تُنير دربهم، وتُنير طريقهم، ويحكمون بها، فاختارهم الله -تبارك وتعالى- وفضَّلهم بهذه الفضائل العظيمة؛ أن جعل فيهم النبوَّة، وجعل فيهم الكتاب، وجعل فيهم الهداية، وجعلهم هُداة مهديين، واختارهم الله -تبارك وتعالى- على أمم وشعوب الأرض في زمانهم ووقتهم، {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ ........}[الدخان:32]، يخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذا بعِلم الله -تبارك وتعالى-، {عَلَى الْعَالَمِينَ}.

{وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}[الدخان:33]، وآتيناهم؛ أعطيناهم، من الآيات؛ آيات الرب -تبارك وتعالى-، {........ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}[الدخان:33]، بلاء؛ اختبار، مُبين؛ بيِّن واضح، فإن الله -تبارك وتعالى- قد ابتلاهم بصنوف البلاء؛ يعني البلاء الحسَن، والبلاء الشديد، البلاء الحسَن اللي هو النِعَم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليهم، وكذلك المِحَن التي امتحنهم الله -تبارك وتعالى- فيها، فمن امتحانهم ما كانوا فيه تحت قهر فرعون؛ فإن هذا كان بلاء عظيم جدًا من الله، كما قال -تبارك وتعالى- {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، وإنجائهم من قوم فرعون بلاء من الله -تبارك وتعالى-؛ بلاء حسَن، كما قال –جل وعلا- {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[الأعراف:141]، وفي ذلكم هذا وهذا؛ إنجائهم من قوم فرعون، وكذلك كَون قوم فرعون سُلِّطوا عليهم زمانًا، {....... يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[الأعراف:141]، ثم البلاء الحسَن بعد ذلك بإنزال التوراة على موسى -عليه السلام-؛ بهدايتهم إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-، وجود الأنبياء والصالحين، تمكينهم من هذه الأرض، ثم كذلك ما ضربهم الله -تبارك وتعالى- به من العقوبات بسبب انحرافهم، كلما انحرفوا عن طريق الرب -تبارك وتعالى- ضربهم الرب -جل وعلا- بعقوبة، كما لمَّا قيل لهم {........ ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة:58]، قال -جل وعلا- {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[البقرة:59]، فضربهم الله -تبارك وتعالى- بالرجز وهو العذاب والطاعون الذي أخذهم؛ بسبب فِسقهم، والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، فابتلاهم الله -تبارك وتعالى- بالخير والشر كما قال -جل وعلا- {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}،وبلوناهم؛ اختبرناهم، {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.

قال {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}[الدخان:33]، آيات الرب -تبارك وتعالى-، آياته؛ نِعَمُه التي أنعم بها، بعض هذه الآيات نِعَم، وبعض هذه الآيات مِحَن قد امتحنهم الله -تبارك وتعالى- بها، {........ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ}[الدخان:33]، إذن هنا كل هذا السياق بيان أولًا تحذير للمُكذِّبين بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- من قريش ومَن حولها أن انظروا؛ انظروا سُنَّة الله -تبارك وتعالى- في السابقين كيف؟ هذا فرعون وقومه وهو يُشبَّه به هنا الآن أبو جهل ومَن معه من المُعاندين للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وموسى ومَن معه ويُشبَّه به النبي -صلوات الله والسلام عليه- والذين آمنوا معه، والله -تبارك وتعالى- يقول لقريش انظروا مصير أسلافكم من فرعون وقومه؛ ماذا صنع الله -تبارك وتعالى- بهم؟ كما قال الله في هلاك قوم فرعون {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ}[الزخرف:56]، فجعلناهم؛ هؤلاء الكفار، سلَفًا؛ لكل مَن يأتي بعدهم ممَن يُشابههم في الكفر، {........ وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ}[الزخرف:56]، وكذلك هذا أيضًا بُشرى للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أن انظروا حال بني إسرائيل من المستضعفين؛ كيف استُضعِفوا؟ وكيف أُهينوا؟ وكيف حُمِّلوا العذاب؟ وانظروا صنيع الله -تبارك وتعالى- بهم؛ كيف أنجاهم الله -تبارك وتعالى-، وجعل المآل لهم في نهاية الأمر.

ثم رد الله -تبارك وتعالى- القول على هؤلاء الكفار فقال {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ}[الدخان:34]{إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}[الدخان:35]، إن هؤلاء؛ إشارة إلى العرب المشركين الكفار، والإشارة لهم بهذا فيه ازدراء وتحقير لهم؛ تحقير لعقولهم واعتقاداتهم، {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ}[الدخان:34]{إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}[الدخان:35]{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الدخان:36]، هذه مقالتهم التي هي مقالة جهل وكفر، إن هي؛ بالحصر، {........ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}[الدخان:35]، يعني لن نموت إلا موتة واحدة، فقط نموت وتنتهي ولا حياة بعد ذلك، {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى ........}[الدخان:35]، هي موتة واحدة هي التي نموتها، {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}،يعني بأننا يُخلَق خلْق جديد ونُعاد، النشر هو الإخراج من الموت إلى الحياة، يعني لن نعود إلى الحياة مرة ثانية، ولن نُنشَر بحياة جديدة،{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الدخان:36]،يقولون للنبي محمد -صل الله عليه وسلم- بأتوا بآبائنا، يعني إن كنتم صادقين في أننا سنُبعَث من جديد بأحيوا لنا آبائنا لنُشاهدهم، ونشاهد كيف يُحيي الله -تبارك وتعالى- الناس كما تدَّعون، {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الدخان:36]، أي في أننا سنعود إلى الحياة مرة ثانية.

قال -جل وعلا- {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}[الدخان:37]، أهم؛ هؤلاء العرب، المشركين من قريش ومَن حولها من العرب الذين ناوئوا؛ وكانوا أول مَن كفر بدعوة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}، تبابعة كانوا في اليمن، {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، من الأمم التي كذَّبت كعاد وثمود، فإن الله -تبارك وتعالى- أهلك هذه، هذه قبائل عربية كانت موجودة ولكن الله -تبارك وتعالى- أهلكهم بكفرهم، وهذه مساكنهم في شمال الجزيرة وفي جنوبها، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ ........}[الدخان:37]، أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بمثل هذا الكفر الذي يقول به هؤلاء، {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}،إنهم؛ يعني إن قوم تُبَّع والذين من قبلهم من هذه الأمم الكافرة، كانوا مجرمين؛ أي فاعلي الإجرام، والإجرام هو الذنب العظيم، وأعظم هذه الذنوب الكفر بالله -تبارك وتعالى- والشرك به، قال -جل وعلا- {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}، والله -تبارك وتعالى- لا يُهلِك بهذه الصورة إلا أهل الإجرام.

ثم رد الله -تبارك وتعالى- مقالتهم في أنهم لن يُعادوا مرة ثانية فقال {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[الدخان:38]{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الدخان:39]، وهذه سنعود إليها -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.