الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (617) - سورة الدخان 48-53

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43] {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44] {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46] {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47] {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان:48] {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49] {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}[الدخان:50] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:52] {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}[الدخان:53] {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}[الدخان:54] {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان:55] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الدخان:56] {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الدخان:57] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[الدخان:58] {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}[الدخان:59]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن يوم الفصل هو الميقات الذي وقَّته للعباد أجمعين، قال -جل وعلا- {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الدخان:40]، وهذا يوم لا يُغادِر الله -تبارك وتعالى- صغيرًا ولا كبيرًا ممَن خلقَهم في هذه الأرض إلا ويجمعهم الله -تبارك وتعالى-؛ فلابد أن يؤتى بالجميع، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، ولا نفس صغيرة تخفى عن هذا اليوم، بل الكل قادم وحاضر لهذا اليوم، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الدخان:40]، كل مَن خلَقَ الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}[الدخان:41]، كل مَن له ولاية مع أحد في هذه الدنيا؛ ولاية نسَب، ولاية أخوَّة، ولاية عهد، ولاية متابعة بين أتباع ومتبوعين، أي مولى لا يُغني عن مولاه في هذا اليوم شيئًا، {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، يعني هؤلاء الذين كفروا لا نصر لهم من الله -تبارك وتعالى-، بل هم مهزومون ومُضطرون إلى عذاب النار اضطرار، كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، فلابد أن يُضطَر ويُلجأ بالدفع إلى النار -عياذًا بالله-، {كَلَّا لا وَزَرَ}[القيامة:11] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}[القيامة:12]، فليس هناك ملجأ ولا مفر، ولا يستطيع هؤلاء مهما كان لهم من القوة ولهم ولاية في الدنيا أن ينصر بعضهم بعضًا في الآخرة، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الدخان:42]، عباد الله -تبارك وتعالى- الذين رحِمَهم يبقون على ولايتهم بعضهم لبعض، يعني يوالي بعضهم بعضًا في الآخرة كما كان يوالي بعضهم بعضًا في هذه الدنيا، لكن لله؛ كانت محبتهم ونُصرَتهم بعضهم لبعض لله -تبارك وتعالى-، فتبقى ولايتهم قائمة في الآخرة؛ يشفع هؤلاء لهؤلاء، ويحزن هؤلاء لهؤلاء، فالذين ينجون من الصراط يُناشِدون ربهم -سبحانه وتعالى- ويستشفعونه في إخوانهم الذين تخلَّفوا عنهم؛ ووقعوا عن الصراط، كما قال النبي «فإذا فرغ المسلمون» أي من الصراط عندما يتجاوزوه، فيقول «فما أنتم بأشد مُناشدة لي في الحق استبان لكم من مناشدة المؤمنين ربهم يومئذ، يقولون يا ربي إخواننا كانوا يُصلون معنا ويصومون معنا، فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- ادخلوا النار فما وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه»، ثم يظلون يترددون ويدعون ربهم -تبارك وتعالى- حتى يقولون في النهاية بعد أن يُخرِجوا من النار كل مؤمن، يقولون «ربي لم يبق إلا مَن حبَسَه القرآن»، فالذين آمنوا وكانوا ولايتهم في الدنيا على الإيمان يبقون على محبتهم، كما قال -جل وعلا- {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67].

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الدخان:42]، العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، الرحيم بعباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-، فالعِزَّة في مُقابِل الكفار والرحمة في مُقابِل عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- ما يتهدد به هؤلاء المجرمين وما يتوعَّدهم به، فقال {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43] {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، هذا طعامهم في النار -عياذًا بالله-، {........ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43] {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، طعام فاعل الإثم، والإثم هنا اللي هو الشرك والكفر بالله -تبارك وتعالى- فهؤلاء مأواهم النار؛ وهذا طعامهم، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45]، أي أنه يُسلَّط عليهم الجوع، جاء في الحديث أن أهل النار يُسلَّط عليهم الجوع فيشعرون بالجوع الشديد، فتكون هذه ثمار الزقوم تخرج في أصل الجحيم فتنة لهم، كما قال -جل وعلا- {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ}[الصافات:64] {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}[الصافات:65]، وقال {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}[الصافات:63]، فتنة لهم؛ أنها تفتنهم، أنها فيها طعامهم ولكن يكون هي فيها عذابهم الأليم، كالمُهل؛ ثمارها عندما يأكلونها تتحوَّل في بطونهم كالمعدن المُذاب حرارة، كالرصاص المُذاب أو النحاس المُذاب، {........ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46]، يغلي في بطونهم -عياذًا بالله- كما يغلي الحميم وهو الماء، الماء إذا أصبح حميمًا يعني أشعلت عنده النار وأصبح في درجته التي هي درجته في الحرارة؛ لا يأخذ غيرها، فيغلي؛ الماء يغلي عند درجة مُعيَّنة، وكذلك كل معدن مُذاب إذا وصل حدَّه من الحرارة التي يأخذها وانصهر فإنه يبدأ بالغليان، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46].

ثم قال -جل وعلا- {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، أمر إلهي لزبانية النار، خذوه؛ هذا المجرم، {........ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، قيل أن العتل هو الدفع إلى النار بغِلظة وشدة، يعني أنه يُدفَع من ظهره كما قال -جل وعلا- {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، أو أنه يُسحَب من قدمه أو رأسه كما قال -تبارك وتعالى- {........ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41]، فيؤخذ بالنواصي يعني يؤخذ بناصيته أو بقدمه، وأيضًا من معنى العتل هو الحمْل والإلقاء، يعني يُحمَل ويُقذَف في النار قذفًا -عياذًا بالله-؛ وهذا هو المعنى الأجح هنا في معنى العتل، {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، فالعتل هو أن يُحمَل ويُقذَف إلى سواء الجحيم، سواء الشيء هو وسَطه، فيُلقى في وسَط النار -عياذًا بالله-، خذوه أي هذا المجرم بعد أن يُسَلسَل ويُقيَّد، {........ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، يعني فألقوه عتلًا ودفعًا إلى سواء الجحيم؛ إلى وسَط النار.

{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان:48]، يعني يُلقى وهو على هذه الحالة -عياذًا بالله-، ثم تؤمَر الزبانية كذلك بأن تصُب فوق رأسه من عذاب الحميم؛ الماء الذي وصل حدَّه من الغليان، يُصَب بعد ذلك فوق رأسه، وهذا الماء كذلك ليس ماءً رقيقًا كما يُعهَد في ماء هذه الدنيا وماء النعيم... لا؛ هذا ماء العذاب، وهذا ماء العذاب أخبر -تبارك وتعالى- بأنه ماء كالمُهل كذلك؛ غليظ، غليظ مُنتِن كالمُهل؛ كالمعدن المُذاب كذلك، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان:48] {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، يُقال له كذلك إهانة بعد هذا العذاب الحسي؛ البالغ حدَّه في الإهانة والتعذيب، فكذلك يُهان ويُزجَر بالكلام فيُقال له ذُق، الذوق هنا هو ليس ذوق اللسان وإنما ذَوق الكيان كله؛ بكيانه كله يذوق العذاب، فجِلده يحترق بالنيران، الماء الذي يشربه، الطعام الذي يأكله، الماء الذي يُصَب من فوق رأسه، فهو يُقاسي كل أنواع هذا العذاب، ثم يُقاسي كذلك إهانة الزجر من الملائكة فتقول له ذُق؛ يعني قاسي هذا بكل كيانك، {........ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، إهانة له؛ استهزاء به، {........ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، والحال أنه الذليل المَهين، لا ذل ولا مهانة ولا خِزي أعظم من هذا الخِزي، {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، فلا خِزي أخزى من أن يؤخذ الكافر على هذا النحو الذي صوَّره الله -تبارك وتعالى- ويُلقى به في النار على هذا النحو؛ مذئومًا، مدحورًا، مخزيًّا، يأتيه العذاب من كل مكان، ثم يأتيه بعد ذلك هذا التقريع، فعلى ظاهر هذا الكلام {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، يعني الذليل المَهين، أو أنك أنت العزيز الكريم تذكير له بما كان يُقال له في الدنيا، فقد كان يُقال له في الدنيا وقد كان يظن في الدنيا أنه العزيز؛ يعني الغالب، المتمكِّن في سلطانه وأُبهته بخدمه؛ وحَشَمِه، ورجاله، فهو عزيز؛ ممتنع، كان ممتنع عن أن يقهره أحد؛ وأن يُذِله أحد في الدنيا، وكذلك الكريم؛ الكريم عند الناس، فإنه كريم في منزله وفي مقامه، ونفيس له مكانته؛ وله تقديره، وله إعزازه، وله احترامه، قد كان هذا شأنه في الدنيا، فيُقال له {........ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، يعني قد كنت هكذا في الدنيا؛ وهذا ظنه، وهذا كلام الناس له، لكن هذا قد أصبح المآل الذي انتهيت إليه في الآخرة؛ وهذا مكانك النهائي، فتكون هذه إهانة مع إهانة؛ إهانة بالمعنى وبالتقريع مع إهانته بالعذاب -عياذًا بالله-، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49].

ثم يُقال لهم {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}[الدخان:50]، إن هذا العذاب الذي أنتم فيه الآن؛ وترونه، وتحسونه، وتذوقونه، {........ مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}[الدخان:50]، العذاب الذي كنتم به تمترون؛ تشكون في الدنيا، وتُجادِلون، وتدفعون بحُجَّته، وتقولون لن يكون، فهذا الذي كان فيه مِرائكم؛ يعني جِدالكم وسككم، هذا هو قد أصبح حقيقة واقعة؛ أصبح هذا حق واقع، فهذا الذي كذَّبتم به؛ وماريتم به، وشككتم به في الدنيا فهذا هو أمامكم، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:30]، فهذا حالهم يوم  القيامة أنهم يوقَفوا على الله -تبارك وتعالى-، يوقَفوا يعني يُحبَسوا على هذا العذاب، فيُقال لهم {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، يعني الذي أنتم فيه الآن من العذاب والنكال، {........ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[الأنعام:30]، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}، يعني بسبب كفركم في الدنيا وإنكاركم هذا الأمر؛ وردكم له، وشككم فيه، هذا هو قد أصبح العذاب حقيقة واقعة؛ ماثلة أمام أعينكم، جاء هذا البيان التفصيلي لهذا الحال الذي يكون يوم القيامة، فصَّله الله -تبارك وتعالى- وبيَّنه ونقل لنا صورته كأننا نُشاهِدها رأي العين، وأخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا هو المآل الذي سيئول إليه هؤلاء المُكذِّبون؛ الذين دفعوا حُجَّة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقالوا ما قالوا، وأتتم الآيات والنُذُر ولكنهم لم يرعوا ويرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى-.

ثم ذكَّر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك بالصورة الأخرى؛ أهل الإيمان، الذين آمنوا برسالة الرب -تبارك وتعالى- واتبعوا الرسول، قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، المتقون هم أهل الإيمان، سُموا بالمتقين لأنهم جعلوا لنفسهم حماية من هذا العذاب؛ حماية من عذاب الله -تبارك وتعالى- وسَخَطه، علِموا أن الله -تبارك وتعالى- يُعذِّب العباد الكفار بهذا العذاب فجعلوا لهم وقاية، لان التقوى هي أن تتقي بمعنى أن تحمي نفسك بما تحميه، فعندما تقول اتقيت النار يعني ابتعدت عنها؛ خفت منها، وعندما تقول اتقيت المطر بمظلتي يعني جعلت وقاية بيني وبين المطر بهذه المظلة؛ التي تقيني المطر، واتقيت البرد بمعطفي؛ فلبس المعطف حتى يتقي من البرد، يعني يحمي نفسه من البرد، والتقوى من الله -تبارك وتعالى- هي أن يجعل العبد حماية لنفسه من عذاب الله -تبارك وتعالى-، فالله يُعذِّب ويؤاخِذ بالذنب -سبحانه وتعالى-، يأمر ليُطاع وأنه يؤاخِذ بالذنب، كل مَن عصاه فإنه يضع نفسه في موقع المُسائلة، ما في معصية لله -تبارك وتعالى- وتذهب هكذا، بل كل مَن عصى الرب -تبارك وتعالى- وقع في موقع المسائلة، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، يرهنك ذنبك يعني يحبسُك؛ وتكون في موضع المسائلة، والله -تبارك وتعالى- يؤاخِذ بالذنب -سبحانه وتعالى-، فمَن أقال الله -تبارك وتعالى- عثرته يُقيله بالتوبة؛ والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، والإنابة إليه، ومَن سار في الذنب ولم يأبه له فإنه يُعاقَب، أول ما عصى إبليس بمعصية الرب -تبارك وتعالى- خلاص؛ ركبته المعصية، ولم يخرج منها بتوبة فبقيت عنده، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر:34] {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر:35]، عصى آدم وأكل من الشجرة التي نهاه الله -تبارك وتعالى- عنها ولكنه عاد وتاب إلى الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ........}[البقرة:37]، وذلك أنه عندما ذُكِّر بالذنب {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23]، فأقال الله -تبارك وتعالى- عثرته، وهذه مثال لمعاصي الخلْق بعد ذلك، مَن عصى ارتهم بالمعصية، فإن خرج منها بالتوبة فك نفسه، وإن بقي في المعصية ارتهم بهذه المعصية، {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81]، مَن كسب سيئة؛ المعصية، {........ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81]، فالمتقون هم الذين جعلوا لهم حماية من عذاب الله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، مقام؛ مكان إقامة، أمين؛ ليس فيه زعازع ولا مخاوف تنتاب المقيمين في هذا المقام والذين يحيون فيه، لا زلازل، ولا أعاصير، ولا سفر، ولا نكد، ولا غم، ولا هم، ولا موت عنه، ولا زوال عنه، بل هذا مقام أمين؛ ليس فيه حروب، ولا منازعات، ولا مخاصمات، ولا أي نوع من أنواع الخوف أو الخطر، لا خوف في هذا المكان ولا خطر فيه؛ إنها الجنة دار السلام، {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25]، فهذي دار السلام؛ الدار التي سلَّمها الله من كل الشرور، وهي التي كلها سِلم؛ فلا حرب فيها، لا حرب في أي مكان، لا هم، ولا غم، لا صديق يُنازِع صديقه، ولا سبة، ولا شتمة، ولا غيبة، ولا شيء يُكدِّر، وسِلم في قصور وفي بيوت أهل الإيمان، أقول بيوت هنا مجازًا لأنه لا مبيت في الجنة؛ لانه لا نوم في الجنة، فأهل الجنة في قصورهم ومع زوجاتهم، لا حسد بين امرأة وأخرى؛ وزوجة وأخرى، ولا حسد ولا تباغض بين نفسين قط في الجنة فهي سِلم كلها؛ كلها سلام، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، مقام؛ مكان إقامة دائمة لا ينقطع، ليس له حد ولا سنين ينتهي فيها؛ مليون سنة، إثنين مليون، ثلاث ملايين، أكثر من هذا، كل هذا ليست له نهاية وينقطع، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} من الرب -تبارك وتعالى-، ومقام أمين فهذا مقام وأمين كذلك من كل شيء، كل مَن دخله فهو آمن على نفسه من كل شيء، آمن من سَخَط الله؛ من غضبه، من عقوبته، من الإخراج، من الموت، من المرض، من الغم، من الهم، من كل آفة هو آمن، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51].

{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:52]، جنات جمع جنة؛ بساتين، الجنة هي البستان الذي التفت أغصانه بعضها ببعض، فهي مَن يدخل فيها تجُنُّه بمعنى تستره، إن هذه المادة جَنَنَّ كلها تدل على الاستتار، كما يُقال جنين لأنه مُستتِر في بطن أمه، ومجنون لأن عقله مستور، والجُنَّة هي الدِرع التي تَجُن؛ يعني تحمي صاحبها، ومنه قول النبي «الصوم جُنَّة»، يعني حماية وسِتار للإنسان عن المعاصي، فهذي جنات؛ بساتين مُلتفة الأغصان، وكل واحد في جنات وليس في بستان واحد وإنما في جنات متعددة، وعيون من ماء جارية كما قال الله -تبارك وتعالى- {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن:66].

{يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}[الدخان:53]، أهل الجنة يلبسون من السندس، السندس؛ الحرير الناعم، وهو أشرف أنواع اللباس، حرَّمه الله -تبارك وتعالى- في الدنيا، طبعًا أشرف أنواع لِباس أهل الدنيا الحرير المأخوذ من دود القَز؛ اللي هو دود الحرير، هذا حرَّمه الله -تبارك وتعالى- على رجال الإيمان في الدنيا ليكون لهم في الآخرة، كما قال النبي «إنه لهم في الدنيا ولكم في الآخرة»، وأباحه الله -تبارك وتعالى- لنساء هذه الأمة، كما أخذ النبي -صل الله عليه وسلم- ذهبًا في يده وحرير في يده وقال «هذان حلال لنساء أمتي؛ حرام على ذكورها»، لكن طبعًا حرير الجنة غير حرير الدنيا؛ شتَّان بين هذا وهذا، ليس في الجنة مما ذُكِرَ لنا إلا أسماء، الحقائق لا شك أنها مختلفة تمام الاختلاف، فذاك الحرير في ليونته وفي جماله وفي بهائه لا يمكن أن يُقارن بحرير الدنيا، كما كل ما جعله الله -تبارك وتعالى- من متاع لأهل الجنة يختلف عن ما مُتِّعوا به في هذه الدنيا؛ فليس الماء كالماء، ولا الخمر كالخمر، ولا الثمار كالثمار، ولا النساء كالنساء؛ مختلفات، هذا أمر مختلف تمام الاختلاف وبالتالي الحرير ليس كالحرير، وإنما حرير الجنة لا شك شيء شريف؛ لائق بحياة أهل الجنة، {مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}، الاستبرق هو الحرير كذلك؛ ولكنه الغليظ، يعني حرير خفيف وحرير كذلك سميك، {مُتَقَابِلِينَ}، يعني يلبسون هذه الثياب الحريرية التي تدل على غاية التنعُّم، ومُتقابِلين؛ جالسين، الأصدقاء والخلَّان من أهل الجنة يجلسون في مجالسهم مُتقابِلين بعضهم مع بعض، وكونهم مُتقابِلين هذه المجالس المُتقابِلة ليس فيها تدابر وإنما مُتقابِلين لأطراف الحديث؛ حديثهم عن الدنيا، حديثهم عن ذكرياتهم السابقة، كل حديث عذْب، وكل حديثهم ليس فيه إلا سلامًا سلامًا، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، ولا يقول أحد منهم إلا كل الكلام الذي فيه سِلم، ليس في كلامهم بغضاء بأي صورة من صور البغضاء، لأن الله -تبارك وتعالى- قبل أن يُدخِلهم الجنة ينزع ما في صدورهم من غِل، كما قال -جل وعلا- {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]، إخوانًا؛ الأخوَّة التي هي بالغة حدَّها، {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.

فهذا حال أهل الجنة {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:52] {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}[الدخان:53]، في جلساتهم، وتصويرهم على هذا النحو لأنه ليس هناك ما يشغلهم، فليس هناك عمل يشغلهم وإنما شغلهم الالتذاذ بصنوف أنواع اللذائذ، ومن لذتهم جلوس هؤلاء الأحباب وهؤلاء الخِلَّان بعضهم مع بعض للحديث، للحديث الطيب الذي ليس فيه إثم ولا تأثيم، فجلوسهم على هذا النحو لأنهم ما عندهم أي عمل يُعالِجونه، الجنة ليس فيها علاج لأي شيء بتاتًا، لا يُعالِج الإنسان أي أمر؛ لا يُعالِج خياطة ثوبه، ولا صناعة حذائه، ولا إنضاج طعامه، ولا السعي في أن يأتي بماء أو يستعذبه، ولا أن يُزيل قذارة عنه، كل هذا لا يوجد في الجنة شيء يُعالَج؛ ويُتعَب الإنسان فيه، ويكِد فيه، ويكدح، بل إن كل شيء يأتي في التو واللحظة بمجرد الخاطرة، بمجرد أن يخطر أو يدَّعي أمر من الأمور يكون، حتى لو كان مما لا يكون في الجنة فإنه يكون؛ يُعطى، كما جاء في الحديث «يخبر النبي -صل الله عليه وسلم- أن رجلًا في الجنة يقول يا رب أُريد أن أزرع»، فهذا يُريد أن يُعالِج شيء، يعني يُريد شيء يُعالِجه وهو الزرع، رجل يُحب الزرع، «فيقول له الله -تبارك وتعالى- ألست في ما تشتهي؟»، يعني ألست في ما تشتهي من المزروعات؟ كل ما تظن وتحلُم وتُريد من أنواع الثمار والزروع والبهجة والسرور موجود، «ألست في ما تشتهي؟ فيقول ولكني أُحِب الزرع»، هذا يحب أن يُعالِج؛ يعني يُعالِج أمر، كان يحب الكدح، «فيُقال له ازرع، فيأخذ البذر ليضع في الأرض، فيقول النبي -صل الله عليه وسلم- فيسبق الطرف نمائه واستوائه»، يعني يضع البذرة في الأرض فقبل أن يطرف بعينه إذ يكون قد نما واستوى في طرفة عين، هذا لأن هذه طبيعة الجنة؛ لا معالجة لشيء فيها، أما بالنسبة للدنيا فمَن أراد أن يزرع فالزرع من الأعمال الشاقة؛ حرث الأرض، تسميدها، وضع البذر؛ ثم العناية به، وإبعاد الآفات عنها التي يمكن أن تأتيها من هذه الآفات المتعددة، لابد من إبعاد هذه الآفة ورش هذه الآفات بالمُبيدات، ويظل في العناية بالزرع ثم الانتظار شهور، فبالنسبة للزروع مثلًا لابد ثلاث شهور أو أربع شهور حتى تأتيه ثمرة هذه الخضروات وغيرها، القمح يحتاج إلى ست شهور، أما إذا كان من الأشجار فإن هذه تحتاج إلى سنوات؛ ثلاث سنوات، وأربع سنوات، وخمس سنوات، وأحيانًا عشر سنوات ينتظر حتى تُثمر هذه الشجرة، هذا كله غير موجود في الجنة؛ لا معالجة لشيء، ولا انتظار لأمر، ولا مخاطرة بشيء؛ ليس هناك خطر، ليس هناك مخاطرة لشيء، كل شيء موجود وحاضر عند أهل الجنة، فنعيمهم موجود كما قال -تبارك وتعالى- {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}[الرحمن:54]، جنى الجنتين؛ ثمار الجنتين، دان؛ قريب، ويقول {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، فثمار الجنة مُذلَّلة لأهلها تذليل، فمجرد النظر يأتي الغصن ليخِر بين صاحبه؛ يأكل منه ما يشتهي، ثم يعود كما كان.

أدركنا الوقت، نعود -إن شاء الله- إلى تمام هذه الآيات في آخر هذه السورة -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.