الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (618) - سورة الدخان 54-59

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:52] {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}[الدخان:53] {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}[الدخان:54] {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان:55] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الدخان:56] {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الدخان:57] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[الدخان:58] {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}[الدخان:59]، هذه هي آخر سورة الدخان وفيها بيَّن الله -تبارك وتعالى- المآل الذي سيئول إليه أهل تقواه، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، وهذه الصفحة المشرقة البيضاء لمآل أهل الإيمان وما ادخره الله -تبارك وتعالى- لهم في جنته ورضوانه؛ جاءت بعد المصير المظلم الذي أعدَّه الله -تبارك وتعالى- للمُكذِّبين، ودائمًا في القرآن تأتي هذه الصفحة وهذه الصفحة؛ يعرض الله -تبارك وتعالى- مصير المجرمين ومصير المؤمنين، قد يبدأ بهذا أولًا وهذا ثانيًا بحسب السياق، المقام كان مقام تهديد لهؤلاء المُكذِّبين الذين أرسل الله -تبارك وتعالى- لهم هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- المبين، {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14]، فتهددهم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة.

هنا في آخر هذه السورة يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- مآلهم، قال {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الدخان:40] {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}[الدخان:41] {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الدخان:42]، ثم بيَّن مآل أهل الكفران فقال {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43] {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، فاعلوا الإثم، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46]، يعني أنه إذا أكلها فإنها تغلي -عياذًا بالله تبارك وتعالى- في بطنه كما يغلي المعدن المُذاب، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «يا عباد الله اتقوا الله، فلو أن قطرة من الزقوم قُطِرَت على أهل الأرض لأفسدت على الناس معايشهم»، قطرة واحدة تُفسِد على كل مَن يعيش على الأرض معيشته، لا يبقى معها ذو حياة؛ لا إنسان، ولا حيوان، ولا نبات، ولا هواء إلا أفسدته، ولا ماء إلا لوَّثته من قطرة واحدة، يقول النبي «فكيف بمَن هي طعامه وشرابه؟»، فهذا طعام وشراب أهل النار -عياذًا بالله-، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43] {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، يأكل منها، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45] {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46] {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، هذا الأمر الإلهي لزبانية النار حيث تأخذ الكافر تعتله عتل؛ تدفعه وتدزه دز إلى النار، أو تسحبه من ناصيته أو من قدمه، أو تعتله؛ تحمله وتُلقيه في النار، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «مقعد الكافر في النار»، المقعد الواحد للكافر في النار، «كما بين مكة والمدينة، ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام»، جِلده مسيرة ثلاثة أيام، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}.

{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، وسط النار، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان:48]، من الماء المغلي الذي يُصَب على رأسه، كذلك {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، يعني إذا أراد أن يشرب فإن فروة وجهه تقع فيه من حرارته؛ وهذا يُصَب على رأسه، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، استهزاءً به أو تذكيرًا بما كان يُقال له في الدنيا بأنه العزيز والكريم، {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}[الدخان:50]، إن هذا العذاب على هذا النحو ما كنتم به تمترون، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- نعيم أهل الجنة، فقال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، المتقين جمع متقي، والمتقي هو الذي حمى نفسه؛ يحمي نفسه، لأن التقوى هي الحماية؛ وقاية، تقول اتقيت هذا الأمر بمعنى أنني جعلت بيني وبينه ما يحميني منه، كما يقول الواحد اتقيت النار يعني ابتعدت عنها، واتقيت المطر بمظلتي، واتقيت البرد بمعطفي، واتقتنَّ باليد في قول الشاعر يعني غطت وجهها عن مَن ينظر إليها، فتقوى الله -تبارك وتعالى- هو أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله -تبارك وتعالى- حماية؛ شيء يحميه من عذاب الله، ولا يحتمي الإنسان من عذاب الله -تبارك وتعالى- وعقوبته إلا بالإيمان به وطاعته، فهذا المُنجي أن تؤمن بالله -تبارك وتعالى-؛ أن تسمع وتُطيع لربك -جل وعلا-، فتعمل بطاعة الله حسب مراد الله -تبارك وتعالى- تُريد وجه الله، وكذلك تنتهي عما نهاك الله -تبارك وتعالى- عنه حسب ما أمرك الله -تبارك وتعالى-؛ تخاف عقوبة الله -تبارك وتعالى-، التقوى، فهؤلاء المتقون الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى-؛ وخافوه، وجعلوا لأنفسهم حماية تحميهم من عذابه -سبحانه وتعالى- {........ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، مقام؛ مكان إقامة، الجنة مقام أمين، أمين يعني مَن عاش فيه فهو مؤمَّن من كل شيء؛ لا يُخيفه شيء، ما فيها خوف وكل شيء أمن وسلامة، سمى الله -تبارك وتعالى- الجنة دار السلام، {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25]، السلام؛ الأمن، والطمأنينة، والراحة، والهدوء، والتي ليس فيها أي مشكلة، ما فيها صراع بين إثنين؛ ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر، طبعًا فضلًا عن أن يكون فيها حروب؛ وسفك دماء، وسرقة، ونهب، وقتل، كما الشأن في الدنيا فإن فيها يحصل الفساد العظيم؛ والاضطراب، والفتن، والقلاقل، الجنة لا؛ الجنة دار إقامة كلها سلام، مقام أمين؛ يأمن ساكنها من كل خوف، لا يخيفه شيء، ولا يُزعِجه شيء، ولا يُكدِّر خاطره شيء، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، كذلك مقام أمين من كل آفة؛ لا زلازل، ولا أمراض، ولا مستشفيات، ولا تلوث، ولا كل شر من شرور هذه الدنيا؛ قد أمَّنه الله -تبارك وتعالى-.

{فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:52]، جنات؛ بساتين، جمع جنة، والبستان إذا تداخلت أغصان أشجاره بعضها مع بعض سُمي جنة؛ لأن مَن دخله فإنه يستتر، يعني يستتر من تداخل أشجاره، فليست اشجاره متباعدة؛ شجرة هنا وشجرة هناك، وإنما جنة؛ بستان قد تشابكت أغصانه، في جنات؛ بساتين، وعيون جارية كما قال -تبارك وتعالى- {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ}[الرحمن:50]، وقال {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}[الرحمن:66]، وقال {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:15]، فهي عيون جارية، {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:52].

{يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}[الدخان:53]، السندس؛ ما رق من الحرير، الحرير الرقيق؛ الناعم، الخفيف، والاستبرق؛ ما غلُظ منه، الثقيل من الحرير، والحرير أشرف الألبسة، في الدنيا هو أشرف الألبسة؛ وأعلاها، أنقاها حرير القز، وقد حرَّمه الله -تبارك وتعالى- هنا على رجال هذه الأمة؛ وأباحه لنسائها، وذلك أنه من الترف ومَن لبسه في الدنيا لا يلبسه في الآخرة، قال النبي -صل الله عليه وسلم- إنها لهم؛ يعني الحرير للكفار في الدنيا، ولكم في الآخرة، لكن عند يُذكَر حرير الجنة فلا شك أنه لا مقارنة بينه وبين حرير الدنيا، الجنة حقائقها تختلف تمامًا عن حقائق الدنيا وإن كان هناك قدْر مشترك في المعنى؛ في اشتراك في المعنى، لكن التفاوت في الخصائص والتفاوت في حقيقة ما في الجنة عن حقيقة ما في الدنيا أمر عظيم جدًا، مُتقابِلين يعني أن أهل الجنة يلبسون هذه الملابس الحريرية خفيفة وثقيلة كما يشتهون، مُتقابِلين يعني جالسون لا شغل لهم؛ لا عمل لهم، لا هموم ورائهم، وإنما يجلسون في مجالسهم؛ مجالس شرابهم، ومجالس لهوهم، ومجالس ذكرياتهم وحديثهم؛ يتناقلون الحديث، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26]، جالسون على سُرر موضونة كما قال -تبارك وتعالى- {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15]، وقال {عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ}، وقال {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}[الغاشية:16]، سجاد تحت الأشجار في أماكنهم، هذه مُخيماتهم، هذه أنديتهم، هذه أسواقهم التي يجتمعون فيها ويجلسون ولا هم يهمهم إلا متعهم، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56]، فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأنهم {يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}[الدخان:53]، يُقابِل بعضهم بعضًا ما في تدابر، وإنما هذا من إقبال بعضهم على بعض حُبًا وخُلَّة، كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.

{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}[الدخان:54]، كذلك يعني هذا النعيم الذين هم فيه، إشارة إلى ما ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- من نعيمهم، وهناك أيضًا زوجناهم بحور عين، الذي زوَّجهم الله -تبارك وتعالى-، الحور العين؛ الحور جمع حوراء، والحوَر قيل أنه شدة سواد في شدة بياض، شدة سواد العين في شدة بياضها؛ أن يكون البياض شديد البياض، وأن يكون السواد شديد السواد، وهذا جمال العين، وقيل الحوَر سواد يكون في طرف العين، كما قال جرير في شِعره ((إن العيون التي في طرفها حوَر قتلننا ثم لم يُحيينا قتلانا، يقتلن ذا اللب حتى لا حرَكَ به وهُنَّ أضعف خلْق الله إنسانًا))، فقال في طرفها حوَر؛ فالحوراء، عِين جمع عيناء، يعني عيون كبيرة وهذه جمال، فوصف الله -تبارك وتعالى- نساء الجنة بجمال العيون في هاتين الوصفين وكلها في العيون؛ الحوَر والعيناء، نساء الجنة هم صِنفان؛ صِنف هُنَّ المؤمنات في الدنيا، المؤمنات في الدنيا يُنشئهُنَّ الله -تبارك وتعالى- نشءً أخر، قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}[الواقعة:35]، إنشاء جديد للجنة، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}[الواقعة:36] {عُرُبًا أَتْرَابًا}[الواقعة:37] {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}[الواقعة:38]، فأعطاهم هذه الأوصاف أنهم أبكار دائمًا، تظل الأنثى الزوجة؛ زوجة المؤمن في الجنة بكرًا ما تعيش، كلما طُمِسَت عادت بِكرًا كما كانت، عُرُب جمع عَروب، والمرأة العروب هي المتحببة لزوجها؛ التي لا غضب عندها، ولا حزن فيها، ولا هم، ولا كدَر، ولا نكد، بل هي دائمًا في حالة من الرضا والسرور، عَروبٌ أتراب؛ الزوجات أتراب يعني في سن واحدة، فليست فيها الكبيرة؛ المُسِنَّة، والمتوسطة العمر، والصغيرة، وإنما كلهم في سن واحدة، وكلهم في بداية البلوغ كما قال -تبارك وتعالى- {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}[النبأ:33]، والكاعبة التي تكعَّب ثديها؛ يصبح كالكعب، اللي هو استدارة الثدي، وجاء في أوصافها في القرآن أمور عظيمة جدًا منها قول الله -تبارك وتعالى- عنهُن {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات:49]، يعني أنهن في البيوت محفوظات؛ مصونات، ليست مُتبذِّلات؛ خارجات إلى الأسواق، وإلى الخلط بالرجال، وإنما هُنَّ في قصورهِن وخيامهِن {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات:49]، مثل البيض الذي يوضع في الكِن؛ في مكانه الذي يُكِنُّه لا تخرج منه، وإنما هي كالؤلؤة في الصدفة؛ كأنها لؤلؤة في الصدفة، في صدفتها؛ قصرها، وخيمتها، والخيمة تكون من لؤلؤة واحدة، يخبر النبي -صل الله عليه وسلم- «إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة»، هذه الدانة الواحدة، الدانة هذه الصغير في الدنيا؛ التي يكون وزنها عشر قراريط، عشرين قيراط، أما هناك لؤلؤة واحدة تكون في هذه الخيمة، وهذه الخيمة ارتفاعها في السماء ثلاثون ميلًا، أو جاء في الرواية ستون ميلًا في السماء؛ ستون ميل طولها في السماء، «للمسلم فيها أهلون»، في كل جنَبَة من جنَباتها، «لا يرى بعضهم بعضًا»، وهذه الخيمة وليست القصر؛ هذه ما دون القصر، فكيف بالقصور؟.

فالله -تبارك وتعالى- زوَّج أهل الجنة بالحور العين، الحور العين إما من النساء اللاتي يُنشئهُنَّ الله -تبارك وتعالى- بهذه النشأة، وهناك نساء أخريات الله -تبارك وتعالى- خلَقَهُنَّ في الجنة؛ من جملة ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- وذرأ في الجنة، من أي شيء خلقَهُن؟ لم يُذكَر أساس خلْقِهِنَّ، الله خلَقَهُنَّ -سبحانه وتعالى- قال بعض الناس من الزعفران؛ لكن ليس على هذا دليل، بل خلْق والله -تبارك وتعالى- أخبر ووصف هذه النساء قال {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، ما عمرها طُمِسَت وإنما خُلِقَت لأهل الجنة، تُزوَّج ولم تُطمَس قبل هذا أبدًا؛ قبل أن يُزوِّجهم الله -تبارك وتعالى- لأهل الجنة، {........ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، ثم قال -تبارك وتعالى- {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:57]، ثم قال {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، في صفاء أجسامهم، الياقوت الذي إذا صفى فإنه يُرى ما في داخله، لو أنه ثُقِب ثم أنفذت فيه خيطًا ترى الخيط في داخل الثقب، {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58]، وقد وصف النبي -صل الله عليه وسلم- فقال «يُرى مُخ سوقها من خلال اللحم والعظم»، يعني من خلال اللحم والعظم يُرى مُخ السوق، ومُخ السوق اللي هو النخاع الذي يكون في داخل العظام، هذا من صفاء كل شيء؛ يكون هذا كله صافي، اللحم والعظام هذه صافية كأنها بلورة صافية، فهذا خلْق أخر خلَقَه الله -تبارك وتعالى- من نساء أهل الجنة فقال {........ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}[الدخان:54].

{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان:55]، أهل الجنة يدعون فيها ودعائهم مجرد الطلب، بالإشارة؛ يطلب بالإشارة أي ثمرة في الجنة، فيأتيه الغُصن وهو يحملها لتمثُلَ بين يديه؛ يأكل كما يشاء، ثم يرتفع الغُصن كما شاء، أهل الجنة لا يُعالِجون شيئًا من أمورهم؛ لا يُعالِج خياطة ثوبه، ولا صناعة حذائه، ولا بناء بيته، ولا صناعة مركبته، لا يُعالِج شيء، لا يُعالِج أمر من الأمور، كل أمر يُريده أهل الجنة يكون؛ بالإرادة، بالإشارة، بالدعوة، حتى لو ادَّعى شيء لا يوجد فيوجد، ولا يُعالَج فيها شيء، فليس فيها زراعة؛ ولا رعي، ولا صناعة، ولا كدح كما هو حال أهل الدنيا؛ فإنهم يكدحون ليعيشوا ويكسبوا معايشهم، أما أهل الجنة فلا كدح فيها؛ ولا تعب فيها، ولا نصَب بأي صورة من الصور، كل شيء يكون كما يشتهيه وكما يُريده المؤمن، جاء في الحديث أن رجل يقول للرب -تبارك وتعالى- أنا أشتهي الزرع؛ أشتهي ان أزرع، الزرع في الدنيا معلوم مُعالجة وتعب؛ فيه مشقة، فيه حرث للأرض، ووضع للبذر؛ وتسميد له، وعناية، وإزالة الأعشاب الضارة، والعناية من الآفات، وعناية الزرع دائمًا، والسهر عليه بالماء والسماد حتى يستوي، ثم الانتظار على الحبوب والخضروات شهور؛ أربع شهور، خمس شهور، الانتظار على الأشجار أحيانًا يكون سنتين؛ وثلاثة، وأربعة، وخمسة، وعشرة حتى تُثمِر الشجرة، ففي كذلك انتظار وفي معالجة طويلة؛ الزرع يحتاج معالجة وهم، يقول هذا الرجل المؤمن أنا أحب أن أزرع، فيقول له الله -تبارك وتعالى- «ألست في ما تشتهي؟»، يعني ماذا تُريد من زرع والله -تبارك وتعالى- زخر الجنة بكل أنواع الثمار؛ والورود، والزهور، مما رؤي له مثيل في الدنيا وما لم يُرى مثيله، وما رؤي في الدنيا والآن له شبيه في الجنة تختلف الحقائق تمامًا، «ألست في ما تشتهي؟ فيقول بلى؛ ولكني أحب الزرع»، يحب أن يُعالِج شيء، «فيُقال له ازرع، فعند ذلك إذا أخذ البذر يضعه، يقول النبي فيُسابِق الطرف مائه واستوائه»، يعني بمجرد ما يضع البذرة في الأرض فإذا به يكون قبل أن تطرف عينه قد نمى زرعه واستوى؛ وصل حدَّه من الكمال، فأهل الجنة لا يُعالِجون أمرًا، لا يُربي ماشية ودواجن؛ ويحلب شاته، ولا كل هذا الذي يُعالِجه الإنسان في الدنيا لا علاج له في الآخرة؛ بل إنما كل شيء يأتيهم، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ ........}[الدخان:55]، مما ألِفوه؛ وعرفوه، واختلفت حقائقه، كما قال -تبارك وتعالى- {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، هذا الوجه الأول في وجوه التفسير في دلائل هذا الذي رُزقنا من قبل في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان:55]، من كل شيء، آمنين من مرض؛ من تُخمة، فلا يتُخَم أمرئٍ، يجيله سكر من كثرة ما يأكل، آمنين من أن يُفزَّع عن الأمر؛ أن تنتهي ثمار الجنة... لا، بل هي {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ}[الواقعة:33]، لا تأتي صيفًا ثم تذهب شتاءً أو العكس، ولا ممنوعة بحراسة؛ أو بأسلاك، أو بغيرها، فآمنين على أنفسهم؛ على رزقهم، {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}[ص:54]، آمنين من أي خوف؛ لا خوف عليهم من أي شيء يخافوه، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}[الدخان:55].

ومن أمانهم الموت؛ الموت اللي هو أكبر مَخوف، أكبر مَخوف في الدنيا الموت؛ وهناك لا موت، قال -جل وعلا- {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[الدخان:56]، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ}، الموت حقيقة وتُذاق؛ وكل إنسان يذوقها لابد، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، كل حي في هذه الدنيا لابد أن يذوق هذه الحقيقة؛ وأن يرى الموت، وأما هناك خلاص؛ هي موتة واحدة فقط، ثم إذا حيا الناس لربهم -سبحانه وتعالى- فلا موت لمَن هم في الجنة؛ ولا مَن هم في النار، طبعًا الذين في النار يتمنون الموت؛ ويقولون {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}، يتمنون الهلاك وذلك لشدة عذابهم، وأما أهل الجنة فإنه في متعهم لا يُريدون الموت، بل يُريدون البقاء؛ والبقاء حاصل لهم، وقد جاء في الحديث أنه «إذا أصبح أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار يُنادي مُنادي بين الجنة والنار؛ يا أهل الجنة انظروا، ويا أهل النار انظروا إلى مكان في الوسط، فينظر هؤلاء وهؤلاء، ثم يقول النبي يؤتى بالموت كهيئة كبش»، يُمثَّل لهم الموت كهيئة كبش، «يقول لهم هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم نعرفه»، وكلهم يقول النبي قد رآه، «يقول هذا الموت؛ فيعرفه كل أحد»، لأنهم رأوه وذاقوه، «فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولوا هذا الموت، فعند ذلك يُذبَح الموت، ثم يُقال يا أهل الجنة خلود فلا موت؛ ويا أهل النار خلود فلا موت»، ما في موت خلاص؛ انتهى، فأهل الجنة يزداد فرحهم وسرورهم بأنهم باقون في هذا النعيم بقاءً لا ينقطع؛ ليس له نهاية ينتهي إليها، وأهل النار -عياذًا بالله تبارك وتعالى- يُغَمون غمًا لأنهم يعلمون بأن ما هم فيه من العذاب كذلك أمر لا ينقطع، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى ........}[الدخان:56]، التي ماتوها في الدنيا، {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، وقاهم؛ حماهم الله -تبارك وتعالى- من عذاب الجحيم، ويتناسب هذا مع وصفهم الذي وصفهم الله -تبارك وتعالى- به؛ قال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}[الدخان:51]، لانهم اتقوا عذاب الله -تبارك وتعالى- في الدنيا؛ اتقوا المساخط التي يسخَطُها، فكذلك الله -تبارك وتعالى- قد وقاهم عذاب الجحيم؛ وأعطاهم ما أعطاهم من الجنة.

قال {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ}، فضلًا يعني عطاؤهم الذي أُعطوا في الجنة فضل، الفضل هو مِنَّة منه وزيادة إحسان -سبحانه وتعالى-، وذلك أن الذي هم فيه ليس ثمنًا للعمل، العمل الذي عَمِلوه قد أخذوا أجرهم فيه في الدنيا مما متَّعهم الله -تبارك وتعالى- به، بل نعمة واحدة من نِعَم الله -تبارك وتعالى- على العبد في الدنيا هي أفضل من عمله، نعمة البصر بكل عمله، والله قال في أشرف عباده؛ في خليله إبراهيم -عليه السلام-، قال {........ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27]، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}، كل عمل الذي عَمِل لا شك أنه أخذ أجره لأن نِعَم الله -تبارك وتعالى- أكبر من عمل الإنسان، فتبقى هذه الجنة إنما فضل؛ هذه إحسان من الله -تبارك وتعالى-، هذه تفضُّل من الله -تبارك وتعالى-، ولا يمكن أن تكون ثمنًا لعمله الذي عَمِل، فإن عمل الإنسان لا شك أنه قليل ونِعَم الله -تبارك وتعالى- التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليه في الدنيا أكبر من عمله الذي عَمِل، فتبقى الجنة فضل من الله وإحسان -سبحانه وتعالى-، {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الدخان:57]، {ذَلِكَ}،المُشار إليه هذا الذي قصَّه الله -تبارك وتعالى- من حال أهل التقوى؛ المتقين، {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، الفوز؛ حصول المطلوب الأكبر، حصل المطلوب الأكبر الذي ليس بعده مطلوب؛ وليس بعده نُجْح، هذا أرقى وأعلى ما يمكن أن يناله الإنسان، {هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

ثم قال -جل وعلا- {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[الدخان:58]، {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ}، هذا القرآن جعله الله -تبارك وتعالى- مُيسَّرًا للقراء؛ والذِّكر، والفهم، بلسانك؛ العربي، بلسانك العربي كم قال -جل وعلا- {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .........}[الزخرف:3]، وقال {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2]، وقال {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، وقال {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}، فهو بلسان العرب لعلهم؛ يعني المخاطبين بهذا القرآن من العرب، {َتَذَكَّرُونَ}، يتذكرون ما يُذكِّرهم الله -تبارك وتعالى- به؛ من ربهم الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، ومن صراطه المستقيم، ومن معاملته لخلْقه؛ من عقوبته الشديدة عند المعصية والإثم، ومن عطائه ونِعَمه العظيمة -سبحانه وتعالى- وإفضاله العظيم عند الإيمان والطاعة.

ثم قال -جل وعلا- {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}[الدخان:59]، يعني ارتقب ما يعِدُكَ الله -تبارك وتعالى- به وما يوعِد به هؤلاء المجرمين مما أوعَدَهم به، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}[الدخان:15] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، وقال {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الدخان:40]، فهذا ما توعَّدهم الله به في الدنيا بالذي يكون، {........ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان:10] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الدخان:11] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12]، إلى أن قال الله -تبارك وتعالى- {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}[الدخان:16]، وكذلك توعَّدهم بيوم الفصل وقال {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الدخان:40]، ثم بيَّن ما سيكون حالهم في هذا اليوم، فارتقب ما وَعَدَ الله -تبارك وتعالى-، {........ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}[الدخان:59]، هم كذلك يرتقبون في النبي أن يُزيحه الله؛ وأن ينتهي دينه، وأن لا يفشوا أمره، وأن يذهب، فهم يرتقبون ما تخيلوه بأنفسهم لهذا الدين، وأنت ارتقب ما سيُحققه الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أن الذي سيكون هو ما أراده الله -تبارك وتعالى- وحكَمَ به، وأما ظنونهم الفارغة فإنها ذاهبة أدراج الرياح.

بهذا تنتهي هذه السورة العظيمة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من العِلم والهُدى، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.