الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {حم}[الجاثية:1] {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2] {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الجاثية:3] {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:4] {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الجاثية:5] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:6] {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الجاثية:7] {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الجاثية:8] {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[الجاثية:9] {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الجاثية:10]، سورة الجاثية؛ سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذين الحرفين {حم}[الجاثية:1]؛ الحاء والميم، فهي إحدى الحواميم السبعة، وقد مضى القول في الحروف المُقطَّعة وأن أمثل أقوال أهل العِلم فيها أنها أدوات تنبيه؛ أو رمز من الله -تبارك وتعالى- وإشارة إلى الحروف التي هي حروف العربية والتي نزل القرآن بها، ونزل القرآن بالتحدي؛ يتحدى الكفار بأن يأتي بسورة من مثل سوره إن كانوا صادقين في أن النبي -صل الله عليه وسلم- افترى هذا القرآن، فهم مثله؛ بشر مثله، فيهم شعرائهم، وكُتَّابهم، وأُدباؤهم، يعني أهل الفصاحة وأهل البيان فليأتوا بسورة من مثله، في مثل القرآن حلاوة؛ ونصاعة، وفصاحة، لكنهم عجزوا عن ذلك، فهذه إشارة إلى هذا التحدي الذي يحمله هذا القرآن، وهو معجزة الله -تبارك وتعالى- الباقية والحية لهذا النبي الكريم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فهو البرهان والبيان الباقي على مدار بقاء الإسلام، لتبقى هذه المعجزة متعددة كما قال -صلوات الله والسلام عليه- «ما من رسول أرسله الله إلا وأُوتي ما على مثله آمن البشر»، ما على مثله من المعجزات والآيات، «وكان الذي أُعطيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»، فهذا إشارة إلى هذه المعجزة الإلهية المُنزَلة على عبد الله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-.
{حم}[الجاثية:1] {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2]، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم جملة إسمية مستقرى في الإخبار، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2]، تنزيل هذا الكتاب، سمى الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن كتابًا لأنه كُتِبَ في السماء، كتبه الله -تبارك وتعالى- في السماء؛ في اللوح المحفوظ، كما قال -تبارك وتعالى- {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، فهو في هذه الصف المُطهَّرة التي يقرأها أهل السماء؛ يقرأها ملائكة الله -تبارك وتعالى- في السماء، فهو مكتوب؛ كتاب مكتوب في السماء، ثم كتاب يُكتَب في الأرض، ليكون الكتاب ذلك الكتاب؛ الكتاب على الحقيقة، الذي إذا أُطلِقَ كتاب فهو الكتاب، هو الكتاب حقيقة الذي هو أشرف الكتب لأنه كلام الله -تبارك وتعالى-، وفضل كلام الله -تبارك وتعالى- على سائر الكلام كفضل الله -تبارك وتعالى- على سائر خلْقِه -جل وعلا-، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2]، يعني أنه مُنزَّل من الله، الله لفظ الجلالة؛ إسم الله -تبارك وتعالى-، عَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى- بمعنى الإله، وكل أسماء الله –تبارك وتعالى- عائدة إليه بعد ذلك، فهو الإسم الأعظم الذي أُطلِق الله فإنه ينصرف عند كل الخلْق إلى رب السماوات والأرض؛ المنسوب له خلْق هذه السماوات والأرض، وخلْق العالم كله -سبحانه وتعالى-، العزيز؛ الغالب، الذي لا يلغلبه أحد، فكل شيء في قهره وتحت أمره -سبحانه وتعالى-، فالله هو العزيز؛ الغالب -سبحانه وتعالى-، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نِصابه، فكل أمر من أوامره الكونية القدرية أو الشرعية الدينية هي على مُقتضى العِلم، فكل أوامره -سبحانه وتعالى- حكيمة وموضوعة في مواضعها الصحيحة، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2]، ومن حِكمته -سبحانه وتعالى- إنزال هذا الكتاب على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الجاثية:3]، تأكيد من الله -تبارك وتعالى-، {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، في السماوات والأرض يعني في خلْقها؛ أو ما فيها مما تحتويه السماوات والأرض، السماوات؛ كل ما علانا فهو سماء، كل ما علانا فهو سماء بدءًا بهذا السحاب المُسخَّر في السماء؛ النجوم التي زيَّن الله -تبارك وتعالى- بها السماء الدنيا، ثم سبع سماوات بعد ذلك فوقنا، ثم الكرسي، ثم العرش، كل هذا ما علانا؛ ما علانا فهو سماء، والأرض التي نحن عليها، فهذه السماوات الله يخبر بأن في خلْقِها وفي خلْق الأرض آيات ولكن للمؤمنين، طبعًا هذه الآيات لا يمكن أن يحويها عد ولا يشملها كتب، لأنها قد تضمنت من الاتساع والشمول والحكمة أمور لا يمكن أن يستوعبها أي كتب؛ ولا أي عد، لأن في كل ذرَّة من ذرَّات هذه السماوات والأرض آية عظيمة، وتحت كل ذرَّة من العلوم ومن الأسرار ما لا يمكن إحصائه، فأصغر جُزيء من جزئيات هذه المادة قد اكتشف الناس في داخله من الأسرار أمر عظيم جدًا؛ فيه نواة، فيه الكترونات تدور حول هذه النواة، تختلف كل هذه الالكترونات باختلاف المواد المختلفة؛ وهي في حركة، وأمر لا يُرى؛ من الدقائق التي لا تُرى بأعلى المُكبرات، هذا في الجمادات أما في الأحياء فإن كل خلية من خلايا الإنسان؛ من خلايا الحي الموجود، عبارة عن عالم كامل؛ كأنه مجرة كاملة، ما فيه وما استودعه الله -تبارك وتعالى- في داخله من الأسرار الأمور التي تفوق الوصف، البصمة الوراثية؛ كل ما يُشكِّل هذا الإنسان، الأمراض الموجودة فيه، كلها في داخل هذه الخلية، الناس الآن عزلوا أكثر من ألف وستمائة جينة من الجينات، كل جينة مُكلَّفة بعمل من الأعمال، وهناك من المكونات ما لا يمكن للإنسان مهما بلغ من عمره أن يصل إلى نهايته؛ ويدرك كل الموجود فيه، فكيف إذا كان هذا في الخلية الواحدة؛ فكيف بكل هذه الموجودات كلها؟ هي كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[لقمان:27]، لا يمكن للبحر لو تحوَّل مِدادًا وللأشجار كلها أن تتحوَّل أقلام وتكتب عِلم الله -تبارك وتعالى-؛ كلمات الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن تُحصيها.
ففي السماوات والأرض من أسرار الخلْق ومن عظيم صنع الله -تبارك وتعالى- آيات لا يمكن لعقل أن يحيط بها؛ وأن يبلغ مداها، ففيها آيات عظيمة لكن للمؤمنين؛ أهل الإيمان، الذين لو عرفوا بعض هذه الآيات لا شك أنها دلالة لهم على الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، من هذه الدلالات هذا الخلْق العظيم، وأنه لابد أن يكون موجِده إله؛ قوي، قادر، قاهر، فإنه مَن يستطيع أن يضع الشمس في مكانها؛ والأرض في مكانها، وأن يجعل لكل كوكب من هذه الكواكب السيارة التي يراها الناس الآن؛ ويطلعون عليها، يرونها رأي العين الآن في مداراتها ومساراتها، يضبط حركتها ودورانها على هذا النحو سواءً كانت حول نفسها؛ أو حول أجرام أخرى أكبر منها، كالمجموعة الشمسية التي تدور حول الشمس ويضبط هذا الأمر بهذا الضبط؛ بحيث أنها لا تتأخر ولا تتقدم جزء من مليون جزء من الثانية، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، ثم مَن الذي يخلُق هذا الخلْق المتسع على هذا النحو؟ يُقال أن مجرة من مجموعة النجوم التي نعيش فيها لو أردنا أن ننطلق لنخرج منها إلى مجموعة أخرى؛ مجرة أخرى من مجرات هذه النجوم، نحتاج إلى ملايين من السنين حتى نخرج وبسرعة الضوء؛ اللي هي أعظم سرعة عرفها الإنسان، سرعة الضوء؛ سرعة البرق، فكيف بما عداها من ملايين المجمرات؛ المجموعات هذه الكونية والشمسية التي خلقها الله -تبارك وتعالى-، لا شك أن خالق هذا إله بلغت قدرته وعظمته ما لا يمكن أن تقع تحت الوصف؛ ولا إدراك العقول، فالعقل يبقى عاجز عن إدراك مخلوقات الله -تبارك وتعالى-، وإذن لابد أن يكون خالقها أعظم منها -سبحانه وتعالى-، وقد قال -سبحانه وتعالى- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، فالآيات التي تؤخذ من خلْق السماوات والأرض آيات عظيمة جدًا؛ دلائل عظيمة على عِلم الله وقدرته -سبحانه وتعالى-، وأن كل ما عداه ممَن تُدَّعى له الإلهية باطل، كيف يُرى هذا الخلْق العظيم ثم تُنسَب بعد ذلك الألوهية إلى بشر؛ يأكل، ويشرب، وينام، ويضعُف، وينسى، وقدراته جدًا محدودة؛ وضعيفة جدًا، ما هو البشر هذا بالنسبة إلى هذا الخلْق العظيم؟ الإنسان بشر لا يستطيع أن يُدير بعض ما في جسمه من هذه الأجهزة العظيمة المركوزة فيه، لا هو الذي يُحرِّك قلبه النابض؛ ولا نفسه المتردد، ولا منظم حرارته في جسمه، ولا ينظم دورة دموية، ليس له من فعله في ذاته كبيرًا، فعل الإنسان للمحافظة على كيانه فعل بسيط جدًا؛ إنه يسعى، يأكل، يشرب، يغسل الأذى عن نفسه، لكن أين هذا مما يحتاجه هو ليبقى كائنًا قائمًا؟ وأن تشتغل كل ذرَّة من كيانه بعمل منتظم؛ مضبوط تمامًا، كل خلية من خلاياه لابد أن تعمل عملها المنضبط وإلا حصل فساد؛ حصل سرطان، حصل كذا، يحصل فساد، فلا شك أن الآيات العظيمة في خلْق السماوات والأرض آيات عظيمة جدًا، بعض هذه الآيات لو الإنسان أدركها لكانت آيات عظيمة له؛ للإيمان، للإيمان بأن الله ليس كمثله شيء، وأن هذا الإله الذي خلَق هذا الكون إله عظيم بكل معاني العظمة، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:103]، قوي، مهيمن، بالغ عِلمه كل شيء -سبحانه وتعالى-؛ ووسعت رحمته كل شيء.
{إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الجاثية:3] {وَفِي خَلْقِكُمْ}، في خلقكم؛ أي آيات في خلْق الإنسان على هذا النحو، كل ذرَّة من ذرَّاته، الإنسان مستوي الخلْق، انظر طول اليدين؛ طول القدمين، وضع العينين في مكانها الصحيح، استقامة الإنسان بشر، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8]، ثم لمَّا يرجع الإنسان إلى بداية خلْقِه يجد أنه لم يكن شيئًا، ثم أنه بدأ بهذا الشيء الضعيف؛ حيوان منوي من الرجل وبويضة من الأنثى، وأنه تلقَّح، كان خلية واحدة فانفصلت هذه الخلية إلى مجموعة خلايا، ثم إلى مُضغة غير مُخلَّقة، ثم مُضغة مُخلَّقة، ثم، ثم، ثم ...، من تدرُّج الخلْق وأطواره إلى أن أصبح خلْق، عندما نزل من بطن أمه كان خلْق أخر مختلف عن البدايات تمامًا، أين هو من نطفة قذرة إلى هذا الخلْق المختلف تمامًا؟ خلْق عنده هذه القدرات العظيمة، أولًا ما هداه الله -تبارك وتعالى-؛ أن يمتص الثدي، أن يبكي، أن يضحك، ثم بعد ذلك أن يكون له القدرة على التعلُّم، ثم يشُب، ثم بعد ذلك ينشأ نشء أخر بإدراكه؛ وفهمه، وعِلمه، أين هذا من البدايات؟ فخلْق الإنسان بهذه الصورة؛ وبهذا التدرُّج، ومن لا شيء إلى هذا الشيء العظيم آيات عظيمة جدًا.
{وَفِي خَلْقِكُمْ}، والإنسان لو أخذ كل جزئية من جزئياته وبدأ يبحث عن الأسرار التي فيها والعظمة التي فيها؛ تركيب العين والآيات التي فيها، تركيب الأُذُن والآيات التي فيها، قبضة اليد وما فيها من الأعصاب؛ والعروق، والأربطة التي ربطت هذه، والسُلَّاميات التي تُشكِّل هذه، ثم ما أدى هذا إلى المنافع العظيمة ليد الإنسان في النفع، اليد أعظم آلة، يد الإنسان أعظم آلة موجودة من آلات هذا الكون، آلة تستطيع أن تكتب الخط الرفيع؛ والنقطة الرفيعة، وتُشكِّل هذه، وتضرب الضرب الشديد، وتتحرك في كل اتجاه، عقل الإنسان وتفكيره؛ انظر العمليات التي يقوم بها، لو أردنا أن نُقيم إنسان فيه قدرات الإنسان نفسه لا يمكن لبشر، لو أقمنا ريبوت فيه كل الأدوات؛ والاختراعات، والكمبيوترات، مهما بلغنا فلا يمكن أن نأتي أو نخلُق شبيه لهذا الإنسان، فلينظر الإنسان هذا الخلْق العظيم، {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ ........}[الجاثية:4]، في جَنَبات هذه الأرض، البث؛ النشر، التوزيع، {مِنْ دَابَّةٍ}، خذ ملايين الملايين من أنواع هذه الحشرات؛ والهوام، والطيور، والزواحف، والمفترسات، والأنعام، كل دابة من هذه الدواب آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- أعطى كل دابة من هذه الدواب خلْقَها؛ وهداها إلى سُبُلها، وهداها إلى طريق معيشتها؛ كيف تعيش، كيف تجمع قوتها، كيف تعتني بصغارها، كيف تحافظ على دورة حياتها، أمور مذهللة من العلوم تحت كل دابة مما خلَقَه الله -تبارك وتعالى-، {........ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:4]، آيات من آيات الله؛ علامات، دلالات واضحة لكن لقوم يوقنون، يوقنون يعني يُصدِّقون ويعلمون عِلم يقيني ثابت، يعلمون بما أعلمهم الله -تبارك وتعالى- به؛ بأنه خالق هذا الكون، وهو مُدبِّره، وهو مُسيِّره -سبحانه وتعالى-، وأن له أمد ينتهي إليه؛ وله نهاية، وأن الناس لابد أن يُلاقوا ربهم -سبحانه وتعالى-، وأن الله له شِرعة وله مِنهاج لابد أن تُسار، وأنه لم يخلُق خلْقَه عبثًا ولا خلَقَه سدىً، كل هذه أهل اليقين يُصدِّقون بها عندما يروا آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلْق.
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، اختلاف الليل والنهار خصائصًا ووقتًا، فالله -تبارك وتعالى- جعل الليل والنهار يجريان على هذه الأرض التي نعيش عليها، ولولا هذا الجريان المستمر والمتابعة المستمرة لَما بقيت حياة، لو كان ليل جامد لجمُدَت الأرض؛ وانتهت الحياة، ولو نهار دائم كذلك لاحترقت الأرض؛ ولم تصبح صالحة للسُكنى، ولا بقيت حياة، تتابع الليل والنهار آيتان من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ آيتان في الخصائص، هذا مشرق؛ مضيء، ليعمل الناس ويجتهدوا، وفيه الحرارة، وهذا مُظلم بارد ليكون مكان للسكون؛ والهدوء، والراحة، هذا يأخذ من هذا وهذا يأخذ من هذا صيفًا وشتاءًا؛ لتتم فصول، وهذه الفصول يتم بها أنواع من التغيير، وبهذا التغيير يكون كثرة النبات؛ وكثرة الثمار، واحتياج هذا وهذا، هذا أمر عظيم جدًا في اختلاف الليل والنهار، فهذي آية كذلك من آيات الله -تبارك وتعالى- في ما نفع الله -تبارك وتعالى- بها العباد، وآية على أنه لا يمكن أن يفعل هذا إلا الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا الذي فعله الله من الليل والنهار من رحمته، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73].
{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ}، يعني إنزال الله -تبارك وتعالى- من السماء من رزق؛ اللي هو المطر، وهذا المطر هو الرزق، سماه الله رزق لأنه هو الرزق الحقيقي، الأرزاق كلها إنما هي تابعة للمطر، فنزول المطر هو الخير وبه يكون، أولًا تكون به سُقيا الناس وحياتهم؛ وسُقيا ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- من الأحياء، وبها حياة الأرض وحياة النبات، إذا حيا هذا ثم إنه تعيش على المملكة النباتية الحيوانات؛ ويعيش عليها الإنسان، والإنسان يعيش كذلك على ما يأكله من الحيوان، فهو أساس الرزق، ومعنى أن يعيش الإنسان على الحيوان؛ هذا لباسه، وطعامه، وشرابه، وركوبه، فهذا المطر النازل من السماء هو الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، أرزاق الناس بعد ذلك كلها تابعة لهذا الرزق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، قال {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، أحيا به الأرض بعد موتها؛ أحياها بالنبات، بهذا المطر النازل من السماء.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}، تصريفها؛ تنويعها، فإن الرياح التي تسير على هذه الأرض متغيرة؛ متعددة، من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، وبين كذلك هذه الجهات؛ شمالية شرقية، شمالية غربية، وهكذا ...، تمر من أماكن باردة إلى أماكن حارة فتُلطِّف الجو، تأتي من أماكن حارة إلى أماكن باردة فتُدفِّئ الجو، تحمل هذه الملايين الملايين من أطنان الماء في هذه السُحُب الثِقال، يحملها الله؛ يحمل السُحُب الثقال، المليئة بالماء، تُحمَل بهذا الهواء وبهذه الريح تدفعها وتُزجيها من مكان إلى مكان، يُثير الله -تبارك وتعالى- بهذه الرياح السحاب ويرفعه الله -تبارك وتعالى- إلى طبقات الجو؛ في طبقة معيَّنة تسير فيه، اختار الله -تبارك وتعالى- طبقة من أنسب ارتفاع لهذا، فوق الناس بمستوى مُعيَّن؛ فوق رؤوسهم، لو كان مُنخفِض لحطَّم ما حطَّم في جريانه؛ وعطَّل ما عطَّل، ولو كان بعيد لأصبح مُشتَّتًا؛ ضائعًا، ولكنه جعله الله -تبارك وتعالى- في هذا المكان المناسب تمامًا؛ فالرياح تحمل هذا، تحمل وتوزِّع المطر على ظهر هذه الأرض دون إزعاج؛ ودون أن تُقفَل طرقنا، ودون أن تُدمِّر معيشتنا، بل بهذا التصريف العظيم من تصريف الله -تبارك وتعالى-، {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}، كذلك من تصريفها أن بعضها يكون رحمة وبعضها عذاب؛ فالريح تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب كذلك، وهذا من آيات الرب -تبارك وتعالى- أنه يرحم عباده بما شاء؛ وقد يُعذِّبهم ويُعاقِبهم بما شاء -سبحانه وتعالى-، آيات؛ كل هذا آيات لكن لقوم يعقلون، لناس عندهم عقول يعقلون بها، مفهوم هذا أن مَن لا عقل له ولا يعقل فلا يستفيد بها؛ يرى كل هذه الآيات ولا يستفيد بها، كما قال -جل وعلا- {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، إذا كان يُعرِض عن هذه الآية؛ لا ينظر إليها، ولا يتفكَّر فيها، فكيف يستفيد بها؟ لا يستفيد.
قال -جل وعلا- {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ........}[الجاثية:6]، تلك؛ هذه التي قرأها الله -تبارك وتعالى- مُشير إلى هذه وأخبرنا بها، {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}، من خلْق السماوات والأرض، من خلْق الإنسان، بما بث الله من دابة، من اختلاف الليل والنهار، من الماء الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-؛ الرزق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها، من تصريف الرياح، قال -جل وعلا- {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:6]، سؤال يُراد به التقرير، يعني بأي حديث يُحدَّثون به هؤلاء المُعاندين المُكذِّبين بعد الله؟ تذكير بالله خالق هذا الخلْق -سبحانه وتعالى-، وتذكيرهم بآياته في الخلْق، يعني هل هناك حديث أخر يمكن أن يُحدَّثوا به ليؤمنوا بالله -تبارك وتعالى-؟ والحال أن الله -تبارك وتعالى- يُحدِّثهم هذا الحديث عن نفسه -سبحانه وتعالى-، وعن صفاته بأنه العزيز الحكيم؛ الذي أبدع هذا الخلْق، وعن هذه آياته ويُفصِّلها لهم، آياته السماوات والأرض؛ خلْق الناس، ما بث فيها من دابة، اختلاف الليل والنهار، المطر النازل لهم من السماء، تصريف الرياح، كل هذه آيات الله -تبارك وتعالى- يخبرهم بها؛ وأن هذه آياته، والدلالات التي تدل عليه -سبحانه وتعالى-، وهم مع ذلك لا يؤمنون، فهات حديثًا بعد ذلك يؤمن به هؤلاء المعاندون المُكذِّبون، {........ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:6].
نقف هنا، استغفر الله -تبارك وتعالى- من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.