الإثنين 28 شوّال 1445 . 6 مايو 2024

الحلقة (62) - سورة البقرة 216-218

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبده الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين

 يقول -جل وعلا-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:216] يخبر الله عباده المؤمنين أنهم كُتب عليهم القتال، كتب: بما لم  يسمَ فاعله ولا شك أنه من كتب ذلك هو الله ----سبحانه وتعالى- كُتب أي فُرض عليكم أيها المؤمنون القتال، والقتال المشروع الذى أمر -تبارك وتعالى- به والقتال المشروع: هو القتال أن تكون كلمة الله هي العليا وله أهدافه سيأتي بيان بعض هذه الأهداف.

 يخبر -سبحانه وتعالى- أنه فرض القتال على المؤمنين وأخبر -سبحانه وتعالى- أن القتال كره لكم، فالقتال كره، وذلك أنه تعريض للنفس والمال إلى  الخطر، وما يترتب عليه كذلك من ترميل النساء، وتيتيم الأولاد، والنصر والهزيمة، فتكرهه النفوس،  هذا من أشق الأعمال وأعظمها الذي تكره النفوس، وإذا أصبح فريضة شرعية ومعنى ذلك لزوم القيام بها، فلاشك أن النفوس تكره هذا الأمر فلا تحبه،  فالحرب والقتال كريه، وصعب على النفوس، فقول الله –تعالى-: {هُوَ كُرْهٌ لَكُم}بيان صفة نفس أمام هذا الأمر، وأن هذا الأمر هذه طبيعته وأنه مكروه إلى  النفوس، ليس تشريعه ولكن هذه تكليفه.

 ثم قال -جل وعلا-: {........وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} هنا هذا للتسهيل،  لما كان القتال فريضة شرعية من الله -تبارك وتعالى- وحاله على هذا النحو أنه من الأمور الشاقة والصعبة على النفوس، فإن الله -تبارك وتعالى- سهّله للمؤمنين أولا بهذا الأمر أنه فيه خير وربما أن الإنسان يكره شيئًا هو فيه خير له فقوله: {........وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ولاشك أنه عسى من الله إلّأ  أنها حقيقة بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- سيجعل فيه خيرًا عظيمًا لأهل الإسلام، ففيه عزهم ونصرهم وتمكينهم ودفع العدو عنهم إعلاء  كلمة الله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- قد علق بالقتال ورتب عليه منافع عظيمة في الدنيا ومنافع عظيمة في الأخرة فالأجر والثواب العظيم على ذلك وأعظم ذلك الشهادة في سبيله حيث علو المنزلة وحيث ما يعطاه الشهيد من الكرامة العظيمة عند الله -تبارك وتعالى- منها أنه لا يموت ولكن يحيا  الشهيد عند الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154].

ثم قال -جل وعلا-:  {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} عسى أن تحبوا شيئا هذا مطلق،  هنا المحبوب الراحة والدعة وترك القتال ويكون هذا يعنى شرا لهم،  فأخطار ترك القتال والقعود عنه أخطار عظيمة ،منها ضياع الدين وضياع الدنيا وتسلط العدو عليهم فلاشك أنه هلاك كما مر  في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ........} [البقرة:195] فالتهلكة في ترك القتال،  وبين الله -تبارك وتعالى- أن الأمر علم هذا كله -سبحانه وتعالى- فقال:{........ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:216] يعلم ما هو الأنفع  لكم والأصلح وأنتم لا تعلمون، فإن  الإنسان نظره قاصر وعلمه غير محيط  والله -تبارك وتعالى- هو المحيط علما بكل شيء، و بالتالي يجب التسليم له -سبحانه وتعالى- وأنه ما يشرعه لعباده المؤمنين هو الخير لهم وإن كرهته نفوسهم لمشقته وصعوبته،  لكن الله -تبارك وتعالى- يعلم ما هو الخير لهم ، كما أن  المريض قد يكره الدواء وفيه شفاؤه،  وهنا يبين الله -تبارك وتعالى- أن القتال: هو شفاء هذه الأمة وأن الله -تبارك وتعالى- عندما شرعه فإن شرعه لخيرها ولإعلاء لمنزلته -سبحانه وتعالى- .  هذه الآية صريحة في أن القتال فريضة على كل مسلم، كتب عليكم القتال للجميع القتال: هو كره لكم،  و من هذا قال: أهل العلم بأن هذه الفريضة الاعتقاد بهذه الفريضة هذا أمر عيني يجب على كل عين من المسلمين من الرجال أن يعتقد بأن الله قد كتب عليه القتال، ولكن القيام به لا شك أنه فرض كفاية كما سيـأتي في قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة:122] .

وقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا}[النساء:71] فقول الله -تبارك تعالى- فانفروا ثبات ثبات: جمع ثبت يعنى جماعة جماعة  انفروا  جميعا أي بحسب الحاجة ، فإذا  كان ثم نفير  عام لكل الناس عند ذلك يتحتم القتال على كل واحد،  ويصبح فرض عين على كل هؤلاء المخاطبين، وإن  كان يمكن أن يقوم البعض به، فإن قيام البعض به ينفي الإثم عن الباقين،  فهو فرض على الكفاية للقيام به وليس فرض على الأعيان،  وأما اعتقاده لكل مسلم لاشك أنه يجب أن يعتقد أن الله -تبارك وتعالى- قد كتب عليه القتال، فواجب عليه القتال.

 ولكنه يتعين في ثلاثة مواضع الموضع الأول هو عند التقاء الصفين كل من حضر العدو وأصبح في صف المسلمين فلا يجوز له أن يفر أصبح القتال هنا واجب عليه وأما من فرَّ غير متحرف إلى قتال أو متحيز إلى فئة كما قال تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}[الأنفال:15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ُ}[الأنفال:16] هذا أول أمر . ثم إذا استُنفر شخص أو مجموعة أصبح لازمًا  عليه فمن ندبه الإمام للقتال وجب عليه أن يمتثل كما قال النبي وإذا استنفرتم فانفروا يصبح هنا القتال فرضا عليه، وكذلك إذا داهم العدو جهةً وثغرا للمسلمين وجب على من بإزاء  هذا العدو أن يواجهوه وألا  يفروا في هذه الحال يكون القتال فرض عين على من واجه هذا العدو،  وإذا تعين القتال فإن الخروج له يكون بإذن الإمام وبغير إذنه هذا في قتال الدفع ، وكذلك يجب على العبد بغير إذن مولاه، والابن بغير إذن  أبيه، بل والزوجة كذلك المرأة يغير إذن زوجها تقاتل، لأن هذا من قتال الدفع،  أما قتال الطلب وهو أن يخرج المسلمون من أرضهم لطلب العدو في مكان آخر فقد وضع له أهل العلم شروطا أخرى منها ندب الإمام لذلك يكون بإذن  الإمام وأن يكون كل هؤلاء لابد أن يستأذنوا كالابن يستأذن من أبيه والعبد يستأذن من سيده إذا أراد أن يخرج في جهاد الطلب.

كتب عليكم القتال أي أيها المؤمنون جميعا وهو كره لكم هذه حقيقته {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:216].

 

 بعد هذه الآية الجامعة في بيان فريضة  القتال بيّن الله -تبارك  وتعالى- حكم القتال في الشهر الحرام قال -جل وعلا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} يسألونك الخطاب للنبي -صلوات الله وسلامه عليه-. يسأله المؤمنون عن الشهر الحرام قتال فيه قتال هنا بدل من الشهر الحرام أي: القتال في الشهر الحرام، والشهر الحرام أربعة أشهر الشهر اسم علم للأشهر الحرم،  فأول شهر هو رجب هذا فرد وهو الشهر السابع بتعداد السنة الآن بالتعداد الأخير هذا بعد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هو الذى جعل أول السنة تبدأ من بعد شهر الحج وهو المحرم من بعد الحج بدء السنة  ثم جعل أول التاريخ من هجرة النبي  -صلوات الله وسلامه عليه- فبهذا النظام في تعداد الأشهر الذى كان العمل به بداية في خلافة الفاروق -رضى الله عنه- الشهر شهر رجب وهو بين جماد وشعبان،  والأشهر الثلاثة المتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهذه ثلاثة أشهر متوالية وشهر رجب  هذه هي الأشهر الحرم

قال -جل وعلا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} أي  الذى حرم الله -تبارك وتعالى- فيه القتال وكانت الجاهلية تعمل بهذا مما أثرته عن ملة إبراهيم -عليه السلام- هو هذه الأشهر محرمة منذ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قتالا فيه القتال فيه قل قتال فيه كبير القتال فيه كبير: أي  أمر كبير وذنب كبير وذلك لأنه انتهاك لحرمة هذه الأشهر الذى حرّم الله القتال فيها، ثم قال -جل وعلا-: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} هذه الجرائم التي كانوا يرتكبها المشركون وخاصة منهم مشركي قريش في صدهم الناس عن سبيل الله وذلك لأنهم هم بأنفسهم صدوا وكذلك بدأوا يصدون جموع العرب عن أن يدخلوا في هذا الدين،   كانت تأتيهم وفود العرب في الحج فيطوفون بهم ويقولون بأنه قد ظهر فينا رجل ساحر جاء بكلامٍ يُفرق فيه بين المرء وأخيه والمرء وأبيه والزوجة وزوجها احذروا حتى ينفر منه الناس ولا يؤمن به أحد فصدوا عن سبيل الله،،  والصد: هو المنع والإبعاد و اتهموا الرسول اتهموه  بالجنون والسحر وذكروا أن هذا الدين دين لا يعرف ترك دين الآباء والأجداد وسبل صدهم عن هذا الدين طرائق واسعة وكثيرة،  ثم وكفرًا به  كفرًا بالرب -سبحانه وتعالى- صدا عن سبيل الله وكفرهم به كفرهم بالله -تبارك وتعالى- .

 وأنواع الكفر كفرهم بالله متعددة فقد جحدوا آياته جحدوا رسوله  جحدوا أن يعيدهم مرة ثانية إلى هذه الدنيا جحدوا الإله الواحد الذى لا إله إلا هو وعبدوا معه غيره،  والمسجد الحرام كذلك كفرهم بالمسجد الحرام بحقوق المسجد الحرام على هذه الأرض قد انتهكوا فيها حرمة أهل المسجد فالنبي من أهل المسجد الحرام والمسلمون الذين آمنوا من مكة ومن اللاجئين والقائمين فيها والعاكفين فيها قد أذلوهم وعذبوهم وطردوهم فقد كفروا كذلك بحق المسجد الحرام،  وإخراج أهله منه أكبر عند الله إخراج أهل المسجد أهل المسجد سواء كان أهله من الذين استوطنوه من أهله أو الذين آووا  إليه وأصبحوا بعد ذلك من أهله كبلال وعمار وصهيب،  فإن هذا المسجد جعل الله -تبارك وتعالى- فيه سواء العاكف فيه والباد حتى من ليسمن  أهله ومن أتى ليعكف فيه فهو كذلك لا يجوز إخراجه ولا يجوز تنفيره ولا يجوز ظلمه،  فالله قال: لهم أن هذه الجرائم التي ارتكبتموها أكبر من القتال في الشهر الحرام.

 وسبب نزول هذه الآية أن النبي قد أرسل سرية وأمر عليهم عبدالله بن جحش -رضى الله تعالى عنه- وكانوا يرصدون عيرًا لقريش آتية من جهة اليمن ورصدوا هذه القافلة،  وكان هذا في آخر شهر رجب فلم يستطيعوا أن يقاتلوهم ويستولوا على هذه القافلة؛  وذلك لأن كان فيه شهر رجب شهر حرام،  وقالوا ننتظر حتى ينسلخ رجب فرأوا أنهم إذا انتظروا حتى ينسلخ رجب دخلت هذه القافلة في مكة دخلت في المسجد الحرام بالتالي تصبح حرام فالقتال في المسجد الحرام محرم طول العام، وأما القتال في الشهر الحرام فإنه يحرم في الشهر الحرام فقط في خارج مكة أما مكة أو الشهر الحرام فحرمته دائمة،  فرأوا أنهم إذا انتظروهم حتى ينسلخ الشهر الحرام دخلوا في المسجد الحرام فقاتلوهم في آخر ليلة من شهر رجب فقامت قيامة قريش وأشاعت في كل العرب أن محمدا قد انتهك حرمة الشهر الحرام وكان هذا الأمر بالنسبة للعرب من أكبر وأعظم الفظائع  والجرائم.؛ فإن الشهر الحرام كان معظمًا عند العرب في جاهليتهم تعظيمًا عظيمًا كان الشخص يرى قاتل أبيه في الشهر الحرام وقاتل أخيه ويقابله ولا يأخذ ثأره منه ولا يقاتله ما دام  أنه في الشهر الحرام،  فكانوا يقتتلون ويغزون ولكن إذا دخلت الأشهر الحرم وضعت سيوفهم في أجربتها وجنوا  أسلحتهم وتزاور الناس وخرجوا وذهبوا من مكان إلى مكان لا يعتدي منهم أحد على أحد  إذا انتهى الشهر الحرام رجب أو الثلاثة أشهر متوالية تلك فعند ذلك يبدأون الغزو من جديد.

فلما وقعت تلك القضية عبدالله بن جحش -رضي الله عنه- قامت قيامة قريش، وبدأت بحملة من الدعاية في العرب في التنفير من النبي -صلى الله عليه وسلم- وفى التنفير من المسلمين، وأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام وبالتالي خرجوا عن الدين المتبع الذى يحترمه الجميع وجاء الإسلام كذلك إقراره ووجوب احترام هذه الأشهر الحرم فلا يقاتل فيه

طبعا لما رجعت هذه السرية وكانت  قتلت ابن  الحضرمي، وأخذت مال هذه  القافلة قال النبي: «لم آمركم بقتال في الشهر الحرام»  إنما  أرسلهم النبي ولم يأمرهم بقتال في الشهر الحرام فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآية يسألونك عن الشهر الحرام لما سأل الصحابة وقام المشركون قتال في الشهر الحرام قال -تبارك وتعالى-: عن قتال في الشهر الحرام يقول: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لا شك أن القتال فيه كبير أمر عظيم ما ينبغي ولا يحل أن يقاتل في الشهر الحرام،  لكن انظروا أنتم أيها المشركون ماذا تفعلون من الجرائم أنتم تستكبرون يعنى القتال في الشهر الحرام عندكم لكنكم ترتكبون ما هو أعظم من هذا لما هو أيضا   مقرر حتى من الأمور المقررة عندكم والتي ترون أن  فعلها إثم وكبيرة وهو صدكم عن سبيل الله وكفر بالرب -جل وعلا-.والمسجد الحرام هذا الذى تسكنون فيه تقولون نقدسه، ونحترمه ونحترم أهله وإخراج أهله منه أكبر عند الله وإخراج أهله منه فقد أخرجتم أهل المسجد هم أهل قريش أخرجوا من المسجد الحرام،  هذه كلها أكبر عند الله هذه الجرائم التي ترتكبونها لا شك أنها جرائم هي  في الإثم والفحش أكبر عند الله أكبر إثمًا من مجرد قتال في الشهر الحرام،  والفتنة أكبر من القتل،  الفتنة وهى تعذيبكم المؤمن ليرجع عن دينه أكبر من القتل أكبر من أن تقاتلوا وتُقتلوا في الشهر الحرام وذلك لأن فتنة مؤمن ليرجع عن دينه أمر عظيم جدا هذا أمر عظيم جدا أما أن يقتل مشرك وكافر في الشهر الحرام طبعا نهى الله عن القتال في الشهر الحرام وقال: ارتكب إثم لكن أن المشرك يفتن المؤمن ويعذبه حتى يرجع عن دينه هذه جريمة كبرى هذه أكبر هذه والفتنة أكبر من القتل

 ثم قال -جل وعلا-: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} هذا إخبار منه -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء المشركين لا يزالون مستمرين في قتال أهل الإسلام يقال أنهم يقاتلونكم أي يا أيها المؤمنون حتى يردوكم عن دينكم فهذا هدفهم النهائي من قتال المسلمين وهو أن يزيلوا أهل الإسلام عن دينهم إن استطاعوا   أن يفعلوا بمعنى أنهم باذلون في ذلك كل جهدهم وطاقتهم قال -جل وعلا-: {ومن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217] ومن يرتدد منكم عن دينه هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان أنهم إن استسلموا للكفر ورضوا به وارتدوا عن دينهم إما خوفا من سيوف الكفار وإما تحت فتنتهم وتعذيبهم للنبي  رد الفتنة  فمن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر أي  أنه استمر على هذه الردة لم يخرج منها بالتوبة والرجوع مرة ثانية للإسلام إلى لله -تبارك وتعالى- ولكن استمر في ردته وكفره حتى مات على الكفر فيمت وهو كافر

{فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} الحبط: أصل الحبط داء  يصيب الإبل في أجوافها في بطونها تنتفخ وتنتفخ فيظن الراعي إنها سمينة سليمة ثم يصيبها الموت فتقع وتنفر،  فنقل هذا المعنى هو هذا الداء الذى يقضي  على الإبل إلى العمل حبطت أعمالهم بمعنى أنها هلكت ونفقت،  والمعنى أن كل عمله هذا الذى عمله من الإيمان  ولو كان سبق له جهاد وسبق له ما سبق لكنه مادام ارتدّ فإن كل عمله السابق يمحقه الله -تبارك وتعالى- ويفنيه الله -عز وجل-,  حبطت أعمالهم هلكت واضمحلت وذهبت أعمالهم  الصالحات في الدنيا والآخرة يمحقها الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة  ففي الدنيا بعد ذلك عمله الذى يعمله من لا في الدنيا ولو يعنى سعيه في الدنيا كذلك إلى ضلال وإلى شقوة وكذلك في الآخرة لا ينال أجرا ولا ثوابا من عملهم،  فأولئك حبطت أعمالهم يعنى أفناها الله -تبارك وتعالى- أذهب الله -تبارك وتعالى- خيرها وبركاتها وثمرتها في الدنيا والآخرة،  وأولئك أشاره كذلك إلى هؤلاء المرتدين أصحاب النار هم فيها خالدون،  أصحابها أي المصاحبون لها صحبة لا تنقضي ولا تنتهي،  هم هؤلاء الذين آمنوا وارتدوا بعد ذلك فيها في النار خالدون، أي  باقون بقاء لا ينقطع والخلود في العرب هو المكث الطويل وهنا مكث لا ينقطع أخبر الله -تبارك وتعالى- بالنسبة للكافر بأنه مكس لا ينقطع ولا يزول فالنار لا تفنى ولا تبيد ولا يخرج منه أبدًا ولكن يكون فيها بقاء لا انقطاع له عياذا بالله منها.

 

ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:218] بين الله -تبارك وتعالى- القتال فرض وأن حرمة الشهر الحرام قائمة وأن الكفار وإن عابوا على المسلمين أن يقع منهم خطأ باجتهاد وهو أن يقاتلوا ولم يتعمدوا القتال في الشهر الحرام وإنما وقع منهم باجتهاد خاطئ،  وأرجعوا الأمر بعد ذلك بالتزام بحرمه الشهر،  وأن ما يفعله الكفار من الجرائم أمر عظيم أكبر من هذا الخطأ الذى وقع من المسلمين بغير قصد منهم،  وأن الكفار إنما غايتهم في النهاية أن يصدوا المؤمنين عن الدين وأن يزيلوهم عنه،  ثم هدد الله -تبارك وتعالى- عن من يرتدد عن دينه بحبوط عمله في الدنيا والآخرة وأنه خالد في النار أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

أخبر -سبحانه وتعالى- بعد ذلك  بالصورة  المقابلة لهذا وهي المؤمن الذى آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا........} هذه قمة الأعمال الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والهجرة في سبيله والجهاد في سبيل الله –سبحانه- قال:{........أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:218] أولئك الذين قاموا بهذه الأعمال العظيمة يرجون رحمة الله ومعنى يرجون: يأملون ما في هذه الأعمال من الخير والثواب والبركة عند الله- تبارك وتعالى- والله غفور رحيم يخبر بأنه مسامح لهم وغفور لهم ---سبحانه وتعالى- لقيامهم بهذا الأمر العظيم فإن وقع  منهم تقصير فالله -تبارك وتعالى- غفور بمعنى أنه مسامح -سبحانه وتعالى- يستر عيوبهم رحيم بهم -جل وعلا-

 

نقف  لهذا أستغفر الله لي ولكم