الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (621) - سورة الجاثية 16-20

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الجاثية:16] {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[الجاثية:17] {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:18] {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية:19]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد آتى؛ أعطى بنوا إسرائيل، بنوا إسرائيل هم أولاد يعقوب، إسرائيل هو يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم -عليهم السلام-، والنبوة من فرع إسحاق؛ جائت بعده، إسحاق كان نبي، إسرائيل وهو يعقوب كان نبيًا، ثم تتابعت النبوة في أبنائه إلى عيسى ابن مريم -عليه السلام-؛ فعيسى من بني إسرائيل، كل هؤلاء الأنبياء من ذُرية إسرائيل ابن إسحاق ابن إبراهيم، ثم كانت النبوة بعد ذلك في إسماعيل وهو بِكر إبراهيم -عليه السلام-، ثم في النبي الخاتم محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، فإبراهيم أبو الأنبياء؛ كل الأنبياء الذين جائوا من بعده إنما هم كانوا من نسلِه، فالله -تبارك وتعالى- يمتَن هنا على بني إسرائيل؛ أولاد يعقوب، أن الله -تبارك وتعالى- قد آتاهم الكتاب؛ الكتب المُنزَّلة على أنبيائهم، ومنه التوراة المُنزَّلة على موسى؛ أعظم وأشرف أنبياء بني إسرائيل، رسول الله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ}، الحُكم؛ العِلم الذي يُحكِم الأمور، فهو عِلم الفقه وعِلم السُنَّة؛ سُنَّة هؤلاء الأنبياء، أو الحُكم؛ الحُكم الصائب والصحيح في الأمور المُختَلَف فيها، والنبوة جعلها الله -تبارك وتعالى- متوارثة فيهم، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلَكَ نبي خلَفَه نبي»، ومعنى تسوسهم يعني تقودهم، وهم أهل الحُكم الزمني فيهم وهم المرجع؛ فهم ملوكهم، وهم الذين يرجعون إليهم في تصريف شئونهم، فقيام شئون الدنيا وشئون الدين كانت بيد الأنبياء، {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، الطيبات في هذه الحياة، فإسرائيل -عليه السلام- قد مَنَّ الله -تبارك وتعالى- عليه وعلى ذُريته، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أسكنهم مصر ما أسكنهم، قيل ليوسف -عليه السلام- {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ}، ؟؟؟وهو في؟؟؟ أرض مصر، ثم لمَّا أخرجهم الله -تبارك وتعالى- إلى التيه فإن الله رزقهم من الطيبات وهم في التيه، المَن والسلوى الذي كان يأتيهم بدون مُعالجة، لا يزرعون ولا يحصدون وإنما يأتيهم رزقهم في هذه الصحراء بعد أن كُتِبَ عليهم التيه برفضهم الدخول إلى الأرض المقدسة؛ ومُحاربة أهلها، ثم لمَّا مَنَّ الله -تبارك وتعالى- عليهم ودخلوا الأرض المقدسة فإن الله -تبارك وتعالى- قد أعطاهم من الطيبات في هذه الأرض ما أعطاهم، {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ........}[البقرة:58]، فأعطاهم الله؛ رزقهم الله -تبارك وتعالى- من الطيبات.

{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، فضلناهم على العالمين يعني جميع أمم وشعوب الأرض، وهذا التفضيل على العالمين لا شك أنه في زمانهم، وليس على العالمين مُطلَقًا في كل الأزمنة منذ وقتهم وإلى آخر الدنيا، بل إن الله -تبارك وتعالى- قد أقام بعد ذلك الأمة التي فضَّلها الله -تبارك وتعالى- على سائر أمم وشعوب أهل الأرض كلها؛ وهم أمة الإسلام، أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، التي قال -تبارك وتعالى- فيها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فخير أمة على الإطلاق في كل أمم الهداية منذ أن كانت الأمم من قوم نوح وإلى آخر الأمم وهم أتباع عيسى -عليه السلام-، أفضلهم وأكرمهم أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وأما بنوا إسرائيل فإن الله -تبارك وتعالى- فضَّلهم كأمة هداية على غيرهم من الأمم الأخرى، وهذا التفضيل أنه قد جعل النبوة والهداية فيهم؛ وتوارُث الكتاب فيهم، بعكس الأمم الأخرى التي لم تكن على هذا النحو، كان فيها لكنهم لم يتوارثوا الهداية والنبوة ويكون الكتاب في ذريتهم على هذا النحو، طبعًا لا وجه للتفاضل بين بني إسرائيل وبين أمة محمد؛ أمة الإسلام، فإن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل ومنهم أتباع موسى وأتباع عيسى من كل الوجوه، فأولًا من حيث التابع والكثرة فإن الله -تبارك وتعالى- جعل أمة محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- أكثر الأمم إيمانًا، وهم شِطر أهل الجنة كما قال النبي «والذي نفس محمد بيده إني لأرجوا أن تكونوا شِطر أهل الجنة؛ فكبَّروا»، نصف الذين يدخلون الجنة من كل الأمم هم من أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم إذا وجِدَت المقارنة بينهم وبين بني إسرائيل يوجد الفارق الهائل جدًا، فأولًا أصحاب محمد هم خير أصحاب الأنبياء، فانظر إن أصحاب موسى عند أول امتحان لهم بقتال أعدائهم كعوا؛ وخافوا، وجبُنوا، وقالوا لموسى عندما دعاهم إلى القتال فقال {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة:21] {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة:22]، إلى أن كتب الله -تبارك وتعالى- عليهم التيه لمَّا اشتكى موسى {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25] {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26]، لكن أصحاب النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- في أول صدام لهم مع الكفار وكان في غزوة بدر، استشارهم النبي -صل الله عليه وسلم- عن الحرب فقالوا "والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى"، {........ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24]، "بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"، وقال سعد ابن معاذ للنبي -صلوات الله والسلام عليه- "كأنك تعيننا يا رسول الله؟ قال نعم؛ أنتم الناس، فقال قُم لِما أرادك الله أو لِما أمرك الله، فلعلك تلتقي عدونا غدًا فيُقِر الله -تبارك وتعالى- بنا عينيك، إنا والله لصُبُر عند اللقاء؛ صُدُقٌ في الحرب، والله لو خُضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ما تخلَّف منَّا رجل، والله لو ذهبت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه"، فأثبتوا شجاعة وقوة في هذا المقام؛ مقام الخوف، قاموا ولم يخافوا؛ وحاربوا أعدائهم، ونصرهم الله -تبارك وتعالى-، بعكس ما كان عليه بني إسرائيل عندما جبُنوا؛ وخافوا، وكعوا، كذلك بالطمع؛ فإن الله -تبارك وتعالى- امتحن هؤلاء وهؤلاء بالطمع، انظر المسلمين لمَّا جُبِهوا بالطمع ما مدَّ أحدٌ يده، لمَّا قال لهم الله -تبارك وتعالى- {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}، فما اقتربوه، وأما بنوا إسرائيل لمَّا فُتِنوا بالطمع فإنهم احتالوا على أخذ السمك بهذه الحيلة، {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163]، فسقطوا في امتحان الطمع.

كذلك الأمر في أن أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه- هم خير الناس للناس، أما كانت أفضلية بني إسرائيل في أنها كانت في أنفسهم، فإن دعوتهم ظلت محفوظة في أنفسهم في بني إسرائيل، حتى أنهم من هذا الإنغلاق على أنفسهم ظنوا أن هذا الدين لا يصلح لغيرهم، وأنهم شعب الله فقط المختار الذي ينبغي أن تكون فيه الهداية وحده ولا تنتقل بعد ذلك إلى غيره، وأما أمة محمد فإن الله -تبارك وتعالى- أرسل رسوله محمدًا إلى العالمين، وأمر هذه الأمة أن تخرج بهذه الرسالة إلى العالمين، فكانوا خير الناس للناس، حملوا رسالة الله -تبارك وتعالى- إلى الدنيا كلها؛ وإلى جميع الأمم، وإلى جميع الشعوب، وساووا أنفسهم بغيرهم؛ بالعبيد، بالأرِقَّاء، بالسود، بالبيض، بالصُّفْر، فإنهم دعوا الناس جميعًا وعندما دخل الناس في الإسلام ساووهم معهم؛ وتزوَّجوا منهم، وصارت أمة الإسلام أمة من كل هذا الخليط من الأمم المختلفة، أما بنوا إسرائيل فلا، فإن بنوا إسرائيل ظلوا يقولون إن هذا الدين لا يصلح إلا لنا فقط؛ ولا ينبغي أن ننقله لغيرنا، وبقي الدين عندهم إنما هو محصور في القومية، فمن باب الفضل الواضح أن أمة محمد خير من بني إسرائيل أن محمد قد أرسلها الله -تبارك وتعالى- للعالمين، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، ويقول النبي «أنتم خير الناس للناس؛ تقودوهم إلى الجنة بالسلاسل»، فجاهدوا الأمم كلها وجاهدوهم من أجل أن يُدخِلوهم في دين الله -تبارك وتعالى-، أما بنوا إسرائيل فإنما كان جهادهم لإقامة أمتهم فقط؛ وإقامة دولتهم الخاصة بهم في بني إسرائيل، أما قتال المسلمين فإنما كان لتكون كلمة الله هي العليا؛ وليدخل الناس -أي ناس- في دين الله -تبارك وتعالى-، فالفضل عظيم لهذه الأمة على سائر الأمم؛ أوجه التفضيل كثيرة جدًا، كذلك ما فضَّلها الله -تبارك وتعالى- به من أنها الأمة الخاتمة؛ هي آخر الأمم وجودًا في الأرض، ولكنها هي أسبق الأمم في كل المواطن؛ في كل المواطن السابقة، فهم أول أمة تدخل الجنة، أول مَن يدخل الجنة من كل الأمم هم أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهم الذين يشهدون لكل الأمم السابقة على أنبيائهم، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، أي عُدولًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، كتابهم الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- خير الكتب، فهو كتاب لا يمحوه الماء؛ لا يتبدل ولا يتغير، لم يُسلِّط الله -تبارك وتعالى- عليه أي جبار ليُغيِّره، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، أما الكتب التي أُنزِلَت على بني إسرائيل فإنهم قد غيروها وبدلوها، كما قال -تبارك وتعالى- {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}، فحرَّفوا في كتابهم؛ وزادوا، ونقصوا في الكتاب المُنزَل لهم من الله -تبارك وتعالى-، أما كتاب هذه الأمة فإن الله -تبارك وتعالى- قد حَفَظَه من التغيير والتبديل.

ثم الفضائل الأخرى التي فضَّلهم الله -تبارك وتعالى- بها؛ أن هذه الأمة تعمل عمل قليل وتأخذ أجر عظيم جدًا، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إنما مثَلكم ومثَل اليهود والنصارى كمثَل رجل كان له عمل، فقال مَن يعمل لي من الصبح إلى الظهر على قيراط؟»، وحدة من العملة، «فعملت اليهود فأخذوا قيراطًا قيراطًا، ثم قال مَن يعمل لي من الظهر إلى العصر على قيراط؟ فعملت النصارة فأخذوا قيراطًا قيراطًا»، أي كل واحد يأخذ قيراط للعمل في هذه الفترة، «ثم قال مَن يعمل لي من العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين؟ فعملتم»، يقول النبي اللي هم أمة الإسلام، «فأخذوا قيراطين قيراطين»، ضعف الأجر، «فاحتجت اليهود والنصارى عند ربهم، قالوا يا رب نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا»، نحن عملنا أكثر ولكن أعطيتنا في الأجر أقل، «فقال لهم الله -تبارك وتعالى- هل نقصتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا لا، قال فذلك فضلي؛ أوتيه مَن أشاء»، فذلك فضلي؛ زيادة الأجر هذا فضل الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحديد:28] {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:29]، فالله -تبارك وتعالى- وَعَد هذه الأمة بكِفلين من رحمته، كِفلين إثنين يعني أجرين إثنين من رحمته لهذه الأمة، ولذلك كان فيها أعمال قليلة ولها أجر عظيم جدًا، كالقيام ليلة القدر فإنه قيام ليلة واحدة من الليالي يُعطي الله -تبارك وتعالى- فيها كمن يقوم ألف شهر؛ ليالي ألف شهر كاملة، وهذا أمر عظيم جدًا كأنه يقوم في حياته أكثر من بِضع وثمانين سنة، قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3]، أي قيامها أفضل عند الله؛ فهذا أمر عظيم جدًا، وكذلك سائر ما جعل الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة من الأجر العظيم على العمل القليل، فقد يكون عمل قليل لكن ثوابه أعظم؛ يُعطيه الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة، التي هي لا شك أفضل الأمم وأكرمها على الله -تبارك وتعالى-؛ أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

فالله -تبارك وتعالى- يُذكِّر بأن هذا إفضاله على بني إسرائيل ولكنهم لم يحفظوا هذا الأمر، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الجاثية:16]، عالمي زمانهم، {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ}، بينات من الأمر كالآيات القهرية؛ المعجزات التي أجراها الله -تبارك وتعالى- يد رُسُله إليهم، أمور واضحة؛ بيِّنة، قال -جل وعلا- {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، فما اختلفوا أي في دينهم وتفرَّقوا هذه الفِرق الكثيرة، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إثنين وسبعين فرقة»، {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}، يعني العِلم الواضح البيِّن الذي يُوضِّح الصراط ويجعل الطريق واحدة لكن اختلفوا في دينهم، قال -جل وعلا- {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، يعني من أجل البغي بينهم، البغي؛ التحاسد، والتظالم، والبغضاء بينهم، فبسبب البغي تفرَّقوا في دينهم كما قال -جل وعلا- {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53]، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، إن ربك؛ يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {يَقْضِي بَيْنَهُمْ}، القضاء؛ الحُكم، الحُكم وإعطاء كل ذي حق حقه، وبيان مَن الباغي؛ ومَن الظالم، ومَن كان على الحق، ومَن كان على الباطل، {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، في الذي كانوا يختلفون فيه من أمر الدين، فهذه الآيات تذكير من الله -تبارك وتعالى- بإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى- على بني إسرائيل الذين جعل الله -تبارك وتعالى- فيهم الحُكم، والنبوة، ورزقهم من الطيبات، وأنعم عليهم هذه النِعَم، لكنهم لم يحفظوا هذه النعمة؛ واختلفوا في دينهم، واختلفوا في دينهم لا عن ضياع للحُجَّة وذهاب لها... لا، بل عن وجود الحُجَّة؛ والبيان، والإيضاح، لكن بسبب البغي والتظالم بينهم فوقع ما وقع فيهم، فلم يكن اختلافهم لنقص الحُجَّة؛ والدليل، ونقص البرهان الذي يوضِّح الله -تبارك وتعالى- لهم به الطريق... لا، وإنما كان للتظالم والتحاسد بينهم، ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- أن كل الأمور التي اختلفوا فيها مردها في النهاية إلى الله -تبارك وتعالى- ليحكُم فيها.

هذا أولًا تذكير لنبي الله -تبارك وتعالى- ولهذه الأمة بنعمته عليهم، وتحذير من أن يقعوا في ما وقعوا فيه بنوا إسرائيل من الاختلاف بعد إيضاح الحُجَّة، لذلك قال الله بعد ذلك {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:18] {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية:19]، ثم؛ أي بعد بني إسرائيل، {جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ}، جعلناك؛ أقمناك، أقام الله -تبارك وتعالى- رسوله، {عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ}، أصل الشريعة في لغة العرب هي الطريق المشروع؛ الواسع، الذي لا يضل سالكه، أمر مشروع؛ واسع، يُسار فيه، فلا يضل مَن يسير فيه ويسلكه، وليس هو درب صغير وإنما شريعة من أمر الله -تبارك وتعالى- ومن أوامره -جل وعلا- التي يأمر الله -تبارك وتعالى- فيها؛ فيوضِّح الصراط المستقيم الذي يُسار فيه، إذن فاتَّبِعها؛ أنت مأمور بأن تسير في هذا الطريق؛ في هذه الشريعة التي شرعها الله -تبارك وتعالى- لك، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، نهي من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يتَّبِع أهواء الذين لا يعلمون، وأهواؤهم؛ ما تشتهيه أنفسهم، سُمي هوى وهو أن يتَّبِع الإنسان ما يحبه وما يشتهيه؛ لأنه يهوي بصاحبه، لانه يُهلِك صاحبه اتِّباع هوى النفوس، ما تهواه النفس؛ ما تُريده وما تحبه دون بيِّنة، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، الذين لا يعلمون الحق، سواءً كان الذين لا يعلمون من العرب الجاهلين؛ الذين يدعوا النبي إلى أن يبقى على دين آبائه، مش من حقك تخرج عن دين آبائك والدين الذي تعارفنا عليه وسِرنا عليه، فلا تتَّبِع أهواء هؤلاء في ما ساروا فيه الكفار الجاهلين، وكذلك الذين لا يعلمون من أهل الكتاب؛ الذين يدعون النبي إلى الباطل، وإلى ترك ما هو عليه، وأنه لن يكون مُهتديًا إلا إذا اتَّبَعَ طريقهم، كما قالوا {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ........}[البقرة:111]، يعني قال اليهود ما في طريق للجنة إلا طريقهم، وقال النصارى كذلك نفس الأمر، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.

{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، يعني إن اتبعت أهوائهم فإنهم لن يُفيدوك شيئًا عند الله -تبارك وتعالى-، وطبعًا حاش النبي؛ النبي معصوم -صلوات الله والسلام عليه- أن يتَّبِعَ غير طريق الله -تبارك وتعالى-، لكن هذا بيان وتحذير وإنذار ثم أن هذا خطاب كذلك لأتباع النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن طريق الله هو الطريق؛ وهُدى الله -تبارك وتعالى- هو الهُدى، ولا خيار لهم في الخروج عن هذا الطريق، إنهم؛ أي هؤلاء الذين يتَّبِعون أهوائهم من العرب الجاهلين أو أهل الكتاب الضالين والمغضوب عليهم، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ........}[الجاثية:19]، في هذه الدنيا الظالمون يوالي بعضهم بعضًا، {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، فإن كل أمم الكفر للأسف توالي بعضهم بعضًا على الإسلام، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، ثم قال -جل وعلا- {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، يعني كلٌ منهم يوالي الأخر ضد الإسلام، فالإسلام عندهم هو عدو لهم، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، لكن {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، تمسَّكوا بولاية الله -تبارك وتعالى- لأن الله ولي؛ ناصر ومحب، المتقين؛ أهل التقوى، الذين يخافونه -سبحانه وتعالى-؛ ويجعلون لأنفهم حماية عن غضبه وعن عقابه -سبحانه وتعالى-، سُموا المتقون يعني الذين اتقوا عقوبة الله وعذاب الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، يعني خافوني، اجعلوا لأنفسكم حماية من غضبي وعذابي وذلك باتِّباع أمر الله -تبارك وتعالى- وسلوك طريقه، {........ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية:19].

{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، هذا؛ القرآن، هذا الحديث المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، جمع بصيرة، يعني أنه أمر يوضِّح الحقائق فيُبصِر الإنسان، كل مَن له بصر يُبصِر الطريق؛ يعرف هذا طريق الله -تبارك وتعالى-، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، يعني هذا القرآن قد أُنزِل ليجعل الناس يُبصِرون طريق الحق ولا يضلون عنه، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، كلهم، وبصائر للناس؛ لِمَن يُبصِر منهم، يعني بمعنى أنه هداية للجميع، كما قال -تبارك وتعالى- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ}، فالقرآن هداية للناس كلهم من حيث هداية البيان والإرشاد، لكن لا يهتدي به ويأخذه على الحقيقة إلا أهل الإيمان والتقوى، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، بمعنى أنه هداية لهم ونور كاشف يُكشَف به الحقائق فيُبصِر الناس؛ يعرفوا الشرك، والتوحيد، طريق الله -تبارك وتعالى-، الطريق الباطل، لماذا ضل هؤلاء؟، هذه آيات الله، كل ما نزل له القرآن فإنه يوضِّح الأشياء ويُبيِّنها، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فهو مُبيِّن لكل الأشياء بحيث أن تتضح الأمور، ولا تختلف الأمور على مَن يُريد أن يسلك طريق الحق، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، لكن {........ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20]، لكنه هداية؛ هداية توفيق، هُدىً ورحمة لكن لقوم يوقنون؛ لأهل اليقين الذين يوقنون ويؤمنون، واليقين هو العِلم الذي يصل إلى حد بلوغ نهاية العِلم، وأن يصبح الأمر الذي يُحدِّث عنه أكيد في النفس ولا يتطرق إليه أدنى شك، فالقرآن هداية لهم، هذا القرآن بالنسبة للناس بيان للناس كلهم؛ وهداية خاصة لأهل الإيمان، كما قال -تبارك وتعالى- {الم}[البقرة:1] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، فحصر الهداية فيه للمتقين، هذه ليست هداية البيان فقط بل هداية بيان وهداية توفيق، فإن الله -تبارك وتعالى- يهدي به أهل الإيمان؛ يشرح صدورهم له، ويؤمنون به، فيسلكون به الطريق، {......... قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:44]، فهو لأهل الإيمان هُدى توفيق وشفاء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82].

{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ........}[الجاثية:20]، رحمة من الله -تبارك وتعالى-، {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، ومعنى أنه رحمة لأن الله -تبارك وتعالى- يُنقِذهم به من الظلمات إلى النور؛ من الشرك إلى التوحيد، فيرحمهم الله -تبارك وتعالى- من المعصية إلى الطاعة؛ من الظلم إلى العدل، من الفِسق إلى تقوى الله -تبارك وتعالى-، فيكون هذا رحمة لهم لأنه واعظ ومُبيِّن، فإذن تمسَّكوا به ودخلوا فيه رحمهم الله -تبارك وتعالى- به، وهُدىً ورحمة لكن لقوم يوقنون؛ لأهل اليقين، فهذا القرآن هذه صفته؛ هداية للعالمين، وهُدىً وتوفيق ورحمة منه -سبحانه وتعالى- لعباده الذين يوقنون، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من هؤلاء الذين هداهم الله -تبارك وتعالى- بالقرآن ورحمهم.

نقف هنا، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.