الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (622) - سورة الجاثية 21-24

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:21] {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23] {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[الجاثية:24] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجاثية:25] {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:26]، يُشيد الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن المُنزَل من عنده -سبحانه وتعالى-؛ وأنه قد أنزَله -سبحانه وتعالى- بصائر للناس، قال -جل وعلا- {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، هذا؛ القرآن، هذه الآيات المُنزَّلة من الله -تبارك وتعالى-، {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، أي أنها نور يجعلهم يُبصِرون الطريق؛ يعرفون الحق من الباطل، الهُدى من الضلال، الشرك من التوحيد، يعرفون طريق الله -تبارك وتعالى- المستقيم؛ الموصِّل إلى جنته ورضوانه، يعرفون طرق الشيطان، فتستبين لهم كل الأمور، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ}، وهو موضَّح؛ سهل، يستطيع الجميع أن يفهموه، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]، فهذا الكتاب بينات للناس كلهم، ولكنه {........ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20]، أهل اليقين؛ أهل التصديق، الذين يُصدِّقون تصديقًا حقيقيًا ويوقنون يهديهم الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن، ويرحمهم به -سبحانه وتعالى- لأنه يُخرِجهم به من الظلمات إلى النور، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة:124] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]، فهذا القرآن {........ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20].

ثم قال -جل وعلا- {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:21]، هذه عقيدة الكفار بأنه ليس بعد الموت حياة؛ ولا بعث، ولا نشور، وأنه لا دار أخرى يأخذ فيها كلٌ جزائه؛ المُحسِن يأخذ جزاء إحسانه، والمُسيئ يأخذ جزاء إسائته، يعتقدون أن هذا لا يكون، الرب -تبارك وتعالى- يُبيِّن أن حُكمهم باطل؛ واتهام للرب -تبارك وتعالى-، ويقول {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ........}[الجاثية:21]، أم حسب؛ ظن، أم هذه التي يُسمونها المُنقطِعة؛ التي هي بمعنى بل وهمزة الاستفهام، والاستفهام هنا للإنكار على هؤلاء الذين ظنوا هذا الظن الخبيث؛ وحسِبوا هذا الحُسبان الباطل، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}، اجترحوها؛ فعلوها وكسبوها، لأن الكسْب يُسمى جرح، ويُسمى كل ما يكسبه الإنسان بيده وبرجله جوارح؛ فاليد جارحة، والعين جارحة، ومعنى أنها جارحة أنها تكسِب، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}، اجترحوها؛ اكتسبوها، والسيئات جمع سيئة وهي كل معصية، وسُميت سيئة لأن السيئ هو ضد الحُسن ثم هي تسوء صاحبها في النهاية؛ هي لابد أن تسوء صاحبها، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[الجاثية:21]، يجعلهم الله -تبارك وتعالى- مثل أهل الإيمان والعمل الصالح، {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}، يعني أن محياهم في الحياة سواء ثم مماتهم بعد ذلك يكون مستوي في هذا، يعني يستوون في الحياة الدينا ويستوون عند الموت؛ يستحيل، الله -تبارك وتعالى- ميَّز حياة المؤمن عن حياة الكافر، فالمؤمن في حياته يكسِب الطيبات، هداه الله -تبارك وتعالى- ووفَّقه إلى طريقه، هداه سُبُلَه فهو يسير على نور من ربه بإيمانه بالله -تبارك وتعالى-؛ وتوحيده له، والعمل الصالح، وتكون حياته كلها له خير، ولا يصيبه في هذه الدنيا من قضاء إلا وهو خير له.

يقول النبي «عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، إن أصابته سرَّاء فشكر كان خيرًا له»، يؤجَر على هذا، «وإن أصابته ضرَّاء فصبر كان خيرًا له»، فكل قضاء يقضي الله -تبارك وتعالى- لعبد مؤمن في الدنيا كله خير، فالسرَّاء نعمة مُعجَّلة، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً}، فهذي نعمة مُعجَّلة؛ يُعجِّلها الله -تبارك وتعالى-، يسرُّه الله -تبارك وتعالى- بما يُعطيه من المال؛ من الصحة، من الأولاد، هذه مسرَّة مُعجَّلة له وثواب مُعجَّل كما قال الله في إبراهيم {........ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27]، ثواب من الله -تبارك وتعالى- على الطاعة مُعجَّل، إن أصابته ضرَّاء فصبر على هذا؛ فهذا كان له خير كذلك، ثم هو موفَّق في عمله؛ يُقدِّم لحياته، يعمل للآخرة، فصلاته وصيامه وحجُّه وفعله كل هذا عمل إنما يضعه في كيس أعماله؛ يُوفِّره، يدخره ليوم القيامة، وله بكل ذرَّة من الخير فعلها أجر عند الله -تبارك وتعالى- وحسنات، لو تحركت شفتاه فقال الحمد لله غُرِسَت له نخلة في الجنة، لو تصدَّق بصدقة؛ الله -تبارك وتعالى- ادخرها له، الدينار بعشرة إلى سبعمائة ضعف؛ إلى أضعاف كثيرة، ثم الجزاء لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، صلى ركعتين؛ خير من الدنيا وما فيها، ثواب الركعتين هذه عند الله -تبارك وتعالى- خير من الدنيا كلها وما فيها، فلو أن إنسان اكتسب بعمله الدنيا كلها وما فيها بسعيه؛ وجِدِه، واجتهاده، وحاذها فلا شك أن مَن صلى ركعتين خيرٌ منه لأنه حاذ أعظم مما حاذ هذا، حاذ في الآخرة من الثواب على هاتين الركعتين التي قد لا يمضي فيها دقيقتين لكنه يحوذ من الأجر والثواب أكثر من الدنيا كلها وما فيها، وخير منها؛ خير من أن يُعطى الدنيا كلها وما فيها، فإذن المؤمن هذه حياته؛ كلها حياة خير، ومماته؛ عندما يموت يُبشَّر، من أول ما تُقبَض روحه يأتي ملَك الموت عند روحه يُبشِّره، يقول اخرجي أيتها الروح الطيبة التي كانت تسكن في الجسد الطيب، يرى ملائكة الرحمة أمامه تُبشِّره؛ لا تخف، هذا يومك الذي كنت توعَد، لا تخف؛ أنت مُقدِم على خير، فيُبشَّر بالجنة، ثم بعد ذلك عند البعث والنشور يلتقي مع رضوان الله -تبارك وتعالى-؛ ومع جنته، ومع الفوز العظيم، هذا حال المؤمن أما الكافر لا.

الكافر هو الذي كفر بالله -تبارك وتعالى- واجترح السيئات، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ........}[الجاثية:21]، {الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}، وأعظم السيئات سيئات الكفر بالله -تبارك وتعالى- والشرك، هؤلاء الله -تبارك وتعالى- يجعل عيشتهم في الدنيا كلها نكد؛ وضنك، وخسارة، فهذا يسعى كل حياته في خسار نفسه؛ في هلاك نفسه، وفي الخسران، فعمله بالمعاصي عليه، يكسِب السيئة فيرتهن بها وتبقى عليه، أثر هذه السيئات في الدنيا أثر سيئ من أن السيئة تورِث سيئة مثلها؛ هذه عقوبة، من أن هذه السيئة قد تُحرَم بها بعض الخير من الرزق، هذه السيئة تسوئه يوم القيامة؛ يتمنى أنه لم يرها، ما يُمتَّع به في هذه الحياة الله -تبارك وتعالى- يشوبه إياه بالنكد، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124] {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا}[طه:125] {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه:126]، يُنسيه الله -تبارك وتعالى- نفسه، لا يعمل للآخرة، لا يفوق من سكرته ومن عماه الذي هو فيه، {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:54]، في غمرتهم؛ سكرتهم التي هم مغمورون فيها، في معاصيهم التي هم مغمورون فيها، فيبقى مُغطَّى على قلبه وعلى بصره غشاوة، كما قال -تبارك وتعالى- في الكفار {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6] {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7]، فالله -تبارك وتعالى- يُضله؛ يطمس بصيرته، يطمس بصره، يُبعِده عن طريق الحق، إذا أعطاه في الدنيا فإنما ليشغله؛ وليصرفه عن طريق الخير، {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44] {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45]، أُملي لهم؛ أُمهِلهم في معاصيهم ليزدادوا إثمًا، فتبقى حياته كلها خسارة له، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، يُيسِّره الله -تبارك وتعالى- لطريق العُسرى؛ النار، ومعنى يُيسِّره يعني يجعل طريق النار سهلًا عليه؛ مُحببًا إليه، فرحًا به، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[فاطر:8]، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، يُزيَّن له الباطل؛ والشر، والكفر، والفِسق، والمعاصي تُزيَّن وتُجمَّل في نظره فيرى أنه على الحق والصواب؛ ويُحبها، ويستأنس بها، ويسير فيها عقوبة له من الله -تبارك وتعالى-.

الله -تبارك وتعالى- يقول لا يمكن مَن يعمل السيئات كمَن هو مؤمن؛ يعمل الصالحات، فالمؤمن الذي يعمل الصالحات هو رضوان الله -تبارك وتعالى- وفي رحمته في الدنيا أولًا؛ ثم في الأخرى، وهذا الذي اجترح السيئات هو في الخسار، يجعله الله -تبارك وتعالى- في الخسران في الدنيا، ثم المآل الذي هو أسوأ مآل؛ جهنم وبئس القرار تنتظره في الآخرة، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ........}[الجاثية:21]، نجعلم في الحياة وفي الموت سواء؛ أن هذا وهذا سواء، طبعًا هذا ظن الكفار أنهم يعيشون؛ يعني أن الكافر يعيش مع المؤمن، والكل يعيش، والغلبة للأقوى، ومَن لا يظلم الناس يُظلَم، والغلبة للأقوى، وتنتهي إذا مات الجميع؛ مات، فلا حكومة بعد ذلك، وأن المؤمن مهما عمِل لا ثواب له؛ ولا أجر له في الآخرة، وليس هناك مثوبة لهذا الأمر، فهذا ظن الكفار، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:21]، قال -جل وعلا- {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، يعني هذا الحُكم الذي حكموا به على هذه الحياة أن ليس إلا هذه الحياة أسوأ حُكم؛ وهذا اتهام لله -تبارك وتعالى-، وهذا جعل أن الله -تبارك وتعالى- ليس بحكيم وأنه خلَقَ هذا الخلْق عبثًا وسُدى؛ ليس له غايه، وليس له هدف.

قال -جل وعلا- {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22]، يعني أن الله هو الرب الحكيم -سبحانه وتعالى-، فلم يخلُق هذه السماوات العُلا وهذه الأرض إلا بالحق، ومن خلقِها بالحق أنه هو الله الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولَد، والذي لا كُفء له؛ ولا ند له، وأنه هو بديع السماوات والأرض، وأنه هو خالقُها -سبحانه وتعالى-، خلَقَها خلَقَنا -سبحانه وتعالى- لنعرفه ونؤمن به -سبحانه وتعالى-، نعرفه من خلال آياته في الخلْق -سبحانه وتعالى-؛ ومن خلال عظمة هذا الخلْق الذي يدل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-، ثم لنؤمن به؛ لنشكره -سبحانه وتعالى- على إحسانه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، لنسير في الطريق الذي أحبه لنا، يأمرنا وينهانا فنسير في الطريق الذي أحبه -سبحانه وتعالى- ونبتعد عن ما نهانا عنه -سبحانه وتعالى-، ثم ليظهَر للجميع صفاته -سبحانه وتعالى-، فهذه الجنة هي رحمته لأنه هو الرب الرحيم -سبحانه وتعالى-؛ العفو الكريم، وهذه النار هي عذابه ونقمته في أهل معصيته -سبحانه وتعالى-، فهذا خلْق السماوات والأرض لم يكن إلا بالحق، {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ........}[الجاثية:22]، يعني ليجزي الله -سبحانه وتعالى- كل نفس بما كسبت مما يدل على عظمته -سبحانه وتعالى-؛ وأنه قد أحاط عِلمًا بكل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، وأنه لا يفوته فائتة؛ ما شيء يفوته الله -تبارك وتعالى-، وأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت -سبحانه وتعالى-، وأنه يجزي بالحسنة مثلها -سبحانه وتعالى- وأكثر منها في الثواب، وأنه يجزي بالسيئة كذلك؛ فهو يُجازي بالحسنات والسيئات، {........ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22]، وهم لا يُظلَمون؛ الجميع، فالمؤمن الذي عمل الصالحات لا يظلمه الله -تبارك وتعالى- من عمله -الذي وعَدَه سبحانه وتعالى بالثواب عليه- ولا مثقال ذرَّة، لو عمل مثقال ذرَّة من الخير؛ قدْر نملة واحدة من الخير، فإن الله -تبارك وتعالى- لا يُضيِّعها له، يُعطيه ثوابه عليها لأنه قد وعَدَه بهذا -سبحانه وتعالى-، وكذلك الكافر الذي فعل السيئات لا يُظلَم؛ يأخذ جزاء عمله هذا، ولا يُحمَّل عمل غيره بل يُلزِمه الله -تبارك وتعالى- بجزاء هذا العمل الذي عمله، {........ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22].

ثم قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23]، هذه صورة من عقوبة الرب -تبارك وتعالى- لِمَن ضل عن سبيله -سبحانه وتعالى-، وفيها جواب لهؤلاء الكفار المعاندين الذين ظنوا أنها ليست إلا هذه الحياة الدنيا وسنموت جميعًا؛ الكفار والمؤمنون، وأنه لا بعث ولا نشور، وأنه لا جنة ولا نار، وكل هذا ظنوه وأن هذا ضرب من الكذب والخيالات التي يقولها النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فانظر الله -تبارك وتعالى- يُعجِّب من حال هذا، انظر كيف عاقبه الله -تبارك وتعالى-؟ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:21]، قال -جل وعلا- {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، يعني انظر إلى هذا الذي اتخذ إلهه هواه، يعني فليُنظَر في شأن هذا، {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، اتخذ إلهه؛ معبوده، هواه؛ ما تهوى نفسه، فما تهواه نفسه يسير فيه، إن خيَّلَت له نفسه خيال من الخيالات لا وجود له؛ أمر في الذهن، فجعله خلاص إله وانتحله إلهًا وسار فيه، وكل ما خيَّلَت له خيالاته المريضة وهواه أي أمر من الأمور سار فيه؛ فهو يُحِل، ويُحرِّم، ويسير بحسَب ما تشتهيه نفسه وما تهواه، هذا الذي اتخذ هواه إلهًا له، فمعبوده هو نفسه وما تهواه، والحال أن المعبود الذي يجب أن تعبده هو المُتفضِّل عليك، الذي تفضَّل عليك بالوجود؛ بالخلْق، بالرزق، الذي يُحييك، يُميتك، شأنك كله بيديه، فهذا الذي يجب أن تُصلي له؛ وتعبده، وتؤمن به، الله -سبحانه وتعالى- لا إله غيره المُتفضِّل، أما أن يجعل الإنسان نفسه إلهه؛ فما يشتهيه يذهب معه، وما لا يشتهيه لا يذهب معه، وينتحل ما ينتحل بعقله وبخيالاته ثم يسير في هذا؛ ويجعل هذا شيئًا موجودًا يعبده، كما هي تخيلات وتخرصات كل الذي عَبَدوا من دون الله -تبارك وتعالى-.

من أين لمشركي العرب أن الله -تبارك وتعالى- له نِد؛ وله شبيه، وله نظير، وله بنات كما يدَّعون؟ ومن أين للنصارى الذين جعلوا عيسى ابن مريم هو ابن الله -تبارك وتعالى-؛ وأنه يُحيي، ويُميت، ويخلُق، ويرزق؟ الذين عبدوا الشمس وعبدوا القمر؛ من أي لهم أنهم آلهة؟ إنما هذا بخيالاتهم المريضة؛ بأهوائهم، انتحلوا هذا الأمر بخيالاتهم المريضة وبأكاذيبهم، وجعلوا هذه آلهة واتبعوا هذا، كذلك الذين أحلوا ما شاؤوا؛ وعبدوا ما شاؤوا، واتخذوا أصنامًا، واتخذوا غير هذا، كلها إنما هي عبادة للأهواء، ما أملته أهوائهم وتخيلاتهم هو الذي ساروا فيه، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، قال -جل وعلا- {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}، لمَّا جعل الهوى هو الإله فإن الله -تبارك وتعالى- أضله على عِلم؛ على عِلم من الله -تبارك وتعالى- أنه يستحق الضلال، يعني أن الله -تبارك وتعالى- لمَّا عَلِم أن هذا مُستحِق للضلال فأضله الله -تبارك وتعالى-، أو على عِلم من أن هذا الذي اتخذ إلهه هواه قد عَلِمَ أن الذي يستحق العبادة هو الله وحده لا شريك له؛ لكنه ترك هذا، وسار في اتِّباع هواه، وترك طريق الرب -سبحانه وتعالى-، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}، ختم الله على سمْعِهِ فلا يسمع، والختم معناه أنه قُفِلَت وخُتِمَت بالختم كما الشأن في كل شيء عند البشر؛ أنه يُحفَظ، ثم بعد ذلك يُربَط، ثم يُختَم عليه الخاتم حتى يُعرَف أنه لا يفتحه إلا مَن ضرب هذا الخاتم، فهذا الله ختم على سمعه يعني أنه قفل هذا السمْع وختم عليه بحيث أنه لا يفتحه إلا مَن ختم عليه هذا الختم؛ اللي هو الله -سبحانه وتعالى-، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}، فلا ينفذ له كلام إلى السمْع، ولا ينفذ كلام إلى القلب ليفقه.

{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}، جعل غشاوة على البصر، والغشاوة؛ غطاء يُغطي البصر، فإذا كان هذا قد أُغلِقَت عليه كل منافذ العِلم والمعرفة فلا يسمع؛ ولا يبصر، ولا يفقه بقلبه شيء، والله هو الذي فعل هذا، إذا كان الله هو الذي فعل هذا وهو الذي ختمها بنفسه فلا يفتحها إلا هو -سبحانه وتعالى-، فإذا كان الله هو الذي فعل هذا بالذي ضل عن سبيل الله واتخذ إلهه هواه؛ قال -جل وعلا- {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}، سؤال للتقرير، مَن الذي يهدي هذا من بعد الله؟ هل هناك مَن يستطيع أن يفتح قفل الله -تبارك وتعالى-؟ ويُدخِل الهداية إلى قلب هذا؟ ويجعل هذا الذي ختم الله سمعه ووضع غشاوة على بصره يهتدي؛ يسمع ويُبصِر؟ {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}، والجواب أنه لا يوجد هناك مَن يهديه من بعد الله، لا أحد يستطيع أن يهدي مَن صنع الله -تبارك وتعالى- به هذا الصنيع، ثم قال -جل وعلا- {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، كذلك هذا سؤال للموعظة والاعتبار، أفلا تتذكرون أيها الناس وتذكرون هذا؛ وتعلمون أن الله -تبارك وتعالى- يُعاقِب هذه العقوبة؟ فكيف يظن بعد ذلك الكافر بربه؛ المجترح للسيئات، أن يجعله الله -تبارك وتعالى- هو وأهل الإيمان سواء؟ يستحيل هذا، هذا أمر يستحيل، بل هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- في أهل معصيته في الدنيا، انظر صنيع الله -تبارك وتعالى-؛ ماذا يصنع في الذين يتَّبِعون أهوائهم في الدنيا؟ فإن الله -تبارك وتعالى- يُضِلهم على عِلم؛ ويختم على كل منافذ المعرفة، ويجعله يعيش في هذا الضلال إلى أن يموت، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أن هؤلاء مثل هذه، هؤلاء المشركون الذي عموا عن طريق الرب -تبارك وتعالى-؛ الله -تبارك وتعالى- هو مَن صنع بهم هذا الصنيع، {وَقَالُوا}، أي مشركوا العرب، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، قال -جل وعلا- {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، {وَقَالُوا}، هؤلا المشركون، العرب قاطبة كانت قد أجمعت على هذا الأمر؛ واستقر عندها، وأصبحت لا ترى أن هناك بعثًا ونشورًا، مع إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- وإيمانهم أنه ربهم خالق السماوات والأرض لكنهم أطبقوا جميعم؛ واجتمع أمرهم كلهم على أنه لا بعث ولا نشور، لا بعث بعد الموت، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}، ليست هناك حياة أخرى بل هي فقط هذه الحياة الدنيا التي نحن فيها، {نَمُوتُ وَنَحْيَا}، نموت في الأخير ونحيا؛ قدَّموا الموت لأن الحقيقة الكبرى في الموت، ونحيا قبل هذا؛ أنها حياتهم وموتهم فقط، ما قالوا نحيا ونموت لأنهم لا يؤمنون بحياة، وإنما قالوا نموت ونحيا؛ يعنون بالحياة اللي هي الأولى، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، وما يُهلِكنا عندما يُهلِكنا إلا الدهر؛ يعني مرور الأيام والليالي، فالدهر؛ الزمان، كر الأيام والليالي هو الذي يحكُم علينا بالهلاك، يعني أن الإنسان خلاص؛ مثل الزرعة، مثل الثمرة، مثل الشجرة، له بداية؛ بذرة، ثم يستوي بعد ذلك، ثم يسقط ميتًا وينتهي، هذه هي فقط الحياة؛ لا حياة سوى هذه، والذي يحكُم علينا بالموت هو نهاية مدة العمر بِكَر الجديدين؛ كر الليل والنهار، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}.

قال -جل وعلا- {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، ليس لهم عِلم بهذا الذي يقولونه، وإنما يقولونه بالظن؛ هذا هو ظنهم وهواهم، {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، بظنهم وأهوائهم، قال -جل وعلا- {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، بالحصر، يعني ما هم إلا يظنون هذا الظن، يقولون نظن هذا؛ نظن أن فقط هي هذه الحياة الدنيا، ليس عندهم بهذا لا دليل ولا برهان، ما عندهم أي حُجَّة ولا دليل ولا برهان ليُقدِّموه، فقط ظنونهم وخيالاتهم المريضة التي صوَّرَت لهم أنه ليست إلا هذه الحياة الدنيا؛ وأنه بعد الموت لا بعث ولا نشور، فهذه صورة من صور الطمس الذي طمس الله -تبارك وتعالى- به على قلوب هؤلاء العرب المشركين، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23].

نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.