الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (623) - سورة الجاثية 24-32

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[الجاثية:24]{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجاثية:25]{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:26]{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}[الجاثية:27]{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:28]، هذه صورة الضلال التي كان عليها العرب المشركون؛ إنكارهم للبعث وأنه لا يكون، وأنهم ظنوا واعتقدوا أنها ليست إلا هذه الحياة الدنيا فقط؛ وأنه لا بعث ولا نشور بعد ذلك، قالوا "إن هي أرحام تدفع وأرض تبلع"، ولا يمكن أن يكون هناك بعث ولا نشور، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}، ما هي يعني ما نحن فيه فقط هي هذه الحياة الدنيا؛ ليست هناك حياة أخرى، نموت ونحيا؛ قدَّموا الموت لأنه الحقيقة القادمة أمامًا، ونحيا اللي هو حياتهم الأولى، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، ما يُهلِكنا؛ في الهلاك بعد ذلك، إلا الدهر؛ اللي هو الزمان، كروا الجديدان؛ الليل والنهار، فالليل والنهار هو الذي إذا استنفذ الإنسان مدة حياته فإنه يموت، ليس هناك أي حياة بعد ذلك وإنما فقط استنفاذ مدته التي في هذه الحياة، كما هي مدة الحياة لكافة الأحياء؛ للشجر ولغيره، قال -جل وعلا- {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}،يعني أنهم عندما قالوا هذا وقطعوا هذا إنما قالوه بالظن والتخمين، ما في عِلم ولا في شيء استندوا إليه، ما عندهم آثارة من عِلم على هذا الذي يقولوه، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}،إنما هم قالوا هذا بالظن والتخمين وليس عندهم أي برهان ولا أي دليل.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجاثية:25]، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}، تُقرأ، التلاوة؛ القراءة، عليهم؛ على هؤلاء الكفار، {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}، آيات الله بينات، آيات الله المُنزَّلة من عنده -سبحانه وتعالى- بينات واضحات؛ أن هناك بعث، هناك نشور، في جنة، في نار، هذه تحمل الخبر الصادق من الله -تبارك وتعالى-، والخبر الصادق الذي قام على صِدقه كل هذه البراهين، فمحمد صادق -صلوات الله والسلام عليه-، هذا النبي جاء بالهُدى والنور من الله -تبارك وتعالى-؛ ولا يمكن أن يتطرَّق الشك إلى كلامه، فإنه قد نشأن فيهم -صل الله عليه وسلم- أربعين سنة لم يُجرِّبوا عليه كذبًا؛ فكيف يكذب على الله؟ كذلك كل الذي ظنوه من هذا يستحيل؛ بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه في مقدوره وميسوره -سبحانه وتعالى-، إعادة الحياة مرة ثانية ليست بمُستعصاه على الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي أنشأ الخلْق يوم أنشأه -سبحانه وتعالى- وبالتالي هو يُعيده؛ فهو الذي يبدأ الخلْق ثم يُعيده، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78]{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ........}[يس:79]، ثم حملت آيات الله -تبارك وتعالى- البراهين على أن الله لا يمكن أن يجعل الخلْق سُدىً وعبثًا، {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}[التين:7]{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}[التين:8]، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:28]، فيجعل الله -تبارك وتعالى- مصيرهم واحد، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:21]، لا يمكن أن يكون هذا حُكم الله، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ........}[المؤمنون:116].

الله -تبارك وتعالى- أنزل لهم آياته وتحمل البراهين، أولًا الخبر {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[يونس:53]، فأتاهم الخبر الإلهي بأن هناك يوم قيامة، وأقسَم الله -تبارك وتعالى- لهم وأمر النبي أن يُقسِم لهم بالأيمان أن في يوم قيامة؛ وفي بعث ونشور، وأن هذا الذي استعظموه من إعادة الحياة مرة ثانية هيِّن على الله -تبارك وتعالى-؛ وأنه سهل عليه، وأنهم هم يرون كيف أن الله يُحيي الأرض بعد موتها، وكيف يرون أن الله -تبارك وتعالى- يُخرِج الشيء من ضده، وهم يرون أن الله بدأهم ولم يكونوا شيئًا فبالتالي يستطيع أن يُعيدهم -سبحانه وتعالى-، فتنزل عليهم آيات الله -تبارك وتعالى- وبراهينه في هذا الأمر واضحة؛ بيِّنة، يخبرهم الله بهذا لكنهم يردوا كل هذا، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجاثية:25]، ما كان حُجَّتهم يعني الدليل الذي عندهم أو البرهان الذي عندهم والحُجَّة التي يُدلون بها سُميَت حُجَّة وهي ليست بحُجَّة؛ هي ليست حُجَّة، ولكن هذا لأنه جاء في معرض الإثبات عندهم والبرهان فإن هذا حُجَّتهم، هذا الذي قالوه هو ليس بحُجَّة، {........ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجاثية:25]،يعني إن كنتم تُخبروننا بالفعل بأن هناك يوم بعث ويوم نشور فاجعلوا آبائنا يطلعوا؛ دعونا نرى آبائنا الذين ماتوا، أخرجوهم لنا من القبور حتى نُشاهِدهم وعند ذلك نُصدِّق أنه سيكون هناك بعث ونشور، {........ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الجاثية:25].

قال الله -تبارك وتعالى- مُجيبًا على تعنُّتهم؛ وعلى جهلهم وكفرهم، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الجاثية:26]، قُل لهم الله يُحييكم؛ هذي برهان، الله يُحييكم وكنتم لا شيء؛ كنتم أمواتًا فأحياكم الله -تبارك وتعالى-، كنت أيها الجميع الآن الذين أنتم على ظهر الأرض أمواتًا؛ لم تكونوا شيئًا، أموات ثم إن الله -تبارك وتعالى- أنشأكم، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}،فالله هو القادر على الموت كذلك، تموت رغمًا عنك وهذا الله -تبارك وتعالى- هو فاعله -سبحانه وتعالى-؛ وهو الآمر به، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}، فمدام أنه -سبحانه وتعالى- هو الذي أحياكم من العدم؛ وهو الذي حكَمَ عليكم بالموت، وهو الذي يخبركم هنا بأنه هو الذي يُحييكم مرة ثانية، ثم إليه تُرجَعون؛ لابد من رجوعكم إليه، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}،لابد أن يجمع الجميع ليوم القيامة لا ريب فيه ليُعطي كل عامل بما عَمِل لأنه الرب الحكيم العليم -سبحانه وتعالى-؛ الذي لابد أن يُجازي كل عامل بما عَمِل، {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا}، ثم قال الله في يوم القيامة {لا رَيْبَ فِيهِ}،لا شك فيه، ليس في هذا اليوم شك بأي وجه من الشكوك، برهانه قائم والله هو الذي يخبر به -سبحانه وتعالى-، وهو القادر على أن يوجِد هذا اليوم لأنه هو الرب الذي لا يُعجِزه شيء -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}،ومع هذا الخبر الإلهي وهذا البرهان القائم الذي يُعطيه الله -تبارك وتعالى-؛ والحُجَّة الظاهرة القوية إلا أن أكثر الناس لا يعلمون، يعني بقيام هذا اليوم وأصبح حالهم حال الجاهل، ومعنى أنهم لا يعلمون ليس أنهم جهلوه ولكنهم أصبحم في حُكم رفضه ومنعه كأنهم لا يعلمون به، فهم غافلون عنه؛ مُنساقون إليه، رافضون له، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}،ولله؛ لا لغيره -سبحانه وتعالى-، قدَّم هنا العامل على المعمول ليُبيِّن أنه له وحده -سبحانه وتعالى-، مُلك السموات والأرض لله لا لغيره -سبحانه وتعالى-، فقُدِّم الخبر هنا على المبتدأ لبيان أن هذا له وحده؛ للحصر، لله لا لغيره، {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، مُلكها؛ الله يملِك السماوات والأرض مُلك رقبة؛ مُلك ذات، وذلك أنه هو الذي أنشأها من العدم -سبحانه وتعالى-، ومُلك تصريف؛ فهو الذي يتصرَّف فيها -سبحانه وتعالى-، فكل مخلوق من هذه المخلوقات الله هو الذي يتصرف فيه، هو الذي يتصرف في الشمس؛ في القمر، في النجوم، في السماوات، في الليل، في النهار، في كل المخلوقات، كل المخلوقات هذه من النملة الصغيرة إلى الفيل الكبير، إلى البشر، إلى الملائكة، إلى غيرهم، المُتصرِّف فيهم هو الله وحده -سبحانه وتعالى-، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26]{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27]، فالتصريف كله لله، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، الموكَّل بكل شيء،فكل شيء هو الموكَّل به -سبحانه وتعالى-؛ إحياءً، إماتةً، خلْقًا، ضحكًا، بكاءًا، صورة من الصور، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6]{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7]{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ ........}[الانفطار:8]، يعني ما شاء الله -عز وجل- ركَّبك، فكل مخلوق ركَّبَه الله في صورته اللتي اختارها الله -تبارك وتعالى-، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6]، فهذا الله -تبارك وتعالى- له مُلك السماوات والأرض؛ مُلك ذات ومُلك تصريف، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42]{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43]{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44]{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[النجم:45]{مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46]{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47]{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48]{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49]{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50]{وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52]{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53]{فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54]{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55]، فالخلْق له كله والتصريف له كله -سبحانه وتعالى-.

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}[الجاثية:27]، يوم تقوم الساعة؛ يقوم يوم القيامة، {يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}،وقد خسروا في الدنيا لكن خسارتهم ما كانت ظاهرة لهم، المُبطِل هو خسران يوم أن غضب الله -تبارك وتعالى- عليه في هذه الدنيا؛ وأضله الله -عز وجل- على عِلم، وختم على سمعه وقلبه، خلاص هو خسران من هذا الآن، يسير في الخسارة لكن ما كان مُتبيِّنًا له؛ ولا كان ظاهرًا له، لكن في يوم القيامة تظهر خسارته؛هنا تظهر خسارته لنفسه، {........ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}[الجاثية:27]، والخسارة لكل شيء؛ يخسر نفسه، يخسر أهله، هذا طبعًا فضلًا عن ماله وولده، كل هذا خسره، {........ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}[الجاثية:27]، المُبطِلون؛ فاعلوا الباطل، الذين قالوا بهذا الباطل، وهذا الباطل الذي قالوه أنه لا بعث؛ ولا نشور، ولا حساب يوم القيامة، {........ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}[الجاثية:27]{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}، وترى؛ حيث ترى في هذا اليوم، {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}، أمة؛ جماعة كانت مجتمعة من الأمم، وذلك أن كل أمة تُحشَر ليشهد عليها رسولها الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- فيها، جاثية؛ الجثو هو القيام على الرُكَب، ليس قيام على الأقدام وإنما يقوم على الرُكَب؛ وهذا قيام الذليل، قيام الذليل عندما يذِل لأمر لا يقف على قدميه لأن الوقوف على القدمين نوع من الانتصاب، ولكن هذا يقف على ركبتيه؛ يكون وقوفه على ركبتيه مع ثني رأسه وتنكيث رأسه فيكون هذا غاية الذل.

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ........}[الجاثية:28]، كل أمة من هذه الأمم تُدعى إلى كتابها؛ يعني يُدعى كل فرد فيها إلى كتاب أعماله، فإن الصحف تتطاير وآخذ بيمينه وآخذ بشِماله؛ من وراء ظهره، عندما تتطاير الصحف والناس في المحشر فإنه كل إنسان يأتيه كتاب أعمال على طول إليه؛ كأنه رصاصة موجَّهة إلى ما صوِّبَت له، فيأتيه كتابه حيث هو، فالمؤمن يجد كتابه على طول أتاه من أمامه فيأخذه بيمنه، وأما الكافر فإنه يأتيه كتابه يضربه من وراء ظهره فيتناوله بشِماله؛ وهذا احتقار واستهزاء به، حتى هذه صورة أخذ الكتاب تكون صورة مهينة له، {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}،خلاص يُقال لكل أحد {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، هذا كتاب أعمالك، فالمؤمن طبعًا عندما يفتح كتابه ويرى أنه قد سُطِّرَت فيه أعماله البيضاء الطيبة؛ أعماله الصالحة، وأن الله –تبارك وتعالى- ما ترك له من عمل من أعماله الصالحة إلا وهو مُسجَّل كاتبه؛ فعند ذلك يطير من الفرحة،يطير من الفرحة ويصرخ في الناس {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، هاؤم؛ يا ناس، اقرأوا كتابيه ويفرح لعمله، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20]، يقول أن كنت مُعتقِد أن هناك بعث ونشور؛ وسنلقى الحساب، وقد عملت لهذا اليوم فهذا هو الفوز المبين، وأما الكافر والمنافق -عياذًا بالله- فإنه عندما يفتح صحائفه ويرى أعماله السوداء قد سُطِّرَت يسوَد وجهه سوادًا إثر سواد، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}، ويقول ويصرخ {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}[الحاقة:26]{يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:27]، هناك المرة الأولى في الموت، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29]، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]، هذه الخسارة؛ ظهور الخسارة، المال ذهب، السلطان ذهب، السلطان وهو القوة التي كان فيها من الأعوان؛ والأنصار، والجيوش، والحرس، والحشم، والخدم، كل هذا راح،{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29].

الله -تبارك وتعالى- ينقل لنا من هذا الغيب الذي يكون وكأننا نُشاهِده، يقول هذه هي الصورة التي سيكون عليها الأمر، {وَتَرَى}، عندما ترى، {كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}، وقافة على الرُكَب،{كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}،وذلك أنه يُقال لكل أحد{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]،{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، اليوم؛ هذا يوم القيامة، تُجزَون؛ كلٌ يأخذ جزاء ما كان يعمله في الدنيا وهذا من عدل الله -تبارك وتعالى- ورحمته، أنت خلاص لا تُحمَّل وِزر غيرك، هذا كتابك؛ كتاب أعمالك، هذا كل ما فعلته مُسطَّركما قال -جل وعلا- {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}،الكافر طبعًا يشتد غيظه؛ وألمه، وحسرته، ويقول {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}، قال -جل وعلا- {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}،{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}، مكتوب، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}،هذي النفس السيئة؛ التي عملت السوء، {........ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:30]، فالله -تبارك وتعالى- يخبر عن هذا المنظر الفظيع وهذا الأمر العظيم فيقول {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:28].

{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}،هذا كتابنا؛ نسَبَ الله -تبارك وتعالى- الكتاب إلى نفسه وذلك لأنه الآمر به؛ ولأنه هو الذي أمر بأن يُكتَب على كل إنسان كل عمل هو عَمِلَه، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17]{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، ما يلفظ من قول؛ بنت شفه، إلا لديه رقيب عتيد؛ ملَكان يُسجِّلان أعماله على الحصر ولا يتركان شيء، حتى لو همَّ بعمل يقولا يا ربي همَّ بهذا العمل، فالسيئة الله -تبارك وتعالى- يقول «اتركوه؛ فإن عملها فاكتبوها، وإن لم يعملها اكتبوها له حسنة كاملة»، فهذا مما كتب الله -تبارك وتعالى- الحسنات والسيئات، كما جاء في الحديث «إن الله كتب الحسنات والسيئات، فمَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة»، هذا من رحمة الله -سبحانه وتعالى- وإحسانه، يهُم بالخير فيكتبها الله له حسنة كاملة، «ومَن همَّ بحسنة فعملها»، فإن عملها؛ عمل هذه الحسنة، «كُتِبَت له عشر حسنات»، الحد الأدنى، «إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة»، الحد الأدنى عشرة، تصدَّق بدينار كُتِب كأنه تصدَّق بعشرة، فإن كانت هذه الصدقة في سبيل الله كُتِبَت بسبعمائة ضِعف، كما «جاء رجل إلى النبي -صل الله عليه وسلم- بناقة مخطومة للجهاد، فقال له النبي لك بها سبعمائة ناقة مخطومة يوم القيامة»، كأنك أنت أتيت الآن بقطيع من الإبل، سبعمائة بعير أو سبعمائة ناقة ناقة مخطومة بهذه الصفة كأنك تصدَّقت بها، فيكتب الله –تبارك وتعالى- له أجر صدقته سبعمائة ضِعف؛ هذا في الحسنات، وفي السيئات يقول النبي -صل الله عليه وسلم- عن ربه -سبحانه وتعالى- «ومَن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة»، لأنه ترك هذه السيئة بعد ما همَّ بها، إذا تركها لله -تبارك وتعالى- يكتبها الله -تبارك وتعالى- له حسنة كاملة، «فإن عملها كُتِبَت سيئة واحدة»، إذا عملها لم تُكتَب له إلا سيئة واحدة، وطبعًا مَن غلبت آحاده عشراته بئس له، بئس الخاسر الذي تغلب آحاده، السيئة واحدة واحدة ما تُكتَب عشرة؛ ولا سبعمائة ضِعف، ولا أضعاف كثيرة كالحسنات، وإنما تُكتَب السيئة مهما كانت هي سيئة واحدة، فالذي جمع من السيئات؛ الآحاد، ما يغلب به الحسنات؛ العشرات، فهذا خاسر؛ هذا بئست خسارته.

يُقال لهم {هَذَا كِتَابُنَا}،هذا كتاب الأعمال، كُتِب هذا من الكتبة الحافظين، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، مُحصي يُحصي عليها أعمالها، هذا كتاب نُسِب إلى الرب -تبارك وتعالى- لأن الله -تبارك وتعالى- هو الآمر به؛ وهو المُقيم لملائكته بأن يكتبوه، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}،يعني قد كُتِبَ فيه كل شيء؛ فهو ناطق بالحق عليكم، قد سُجِّل فيه كل الذي عملتموه بالحق؛ بدون أي زيادة، وبدون أي تقوُّل، وبدون أي كذب، فالملائكة لا يتقوَّلون؛ لا يكذبون، لا يُضيفون شيئًا من عندهم، بل ما فعله الإنسان هو المكتوب فقط، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29]، إنا؛ الرب -سبحانه وتعالى- يخبر عن نفسه، {كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}،نأمر بنسخ ما كنتم تعملون، نسخه؛ كتابته، فإن الله قد أمر بكتابة كل ما يعمله الإنسان حتى لا يبقى لأحد حُجَّة على الله يوم القيامة ويقول ما عملت؛ هذا كتابك، فإن أنكر هذا الكتاب يُقيم الله -تبارك وتعالى- شاهد عليه من نفسه؛ تشهد يده، وتشهد رِجله، وتشهد جوارحه عليه،{........ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29].

ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن مصير هؤلاء ومصير هؤلاء؛ مصير الذين أخذوا كتبهم بأيمانهم، ومصير الذي أخذوا كتبهم بشمائلهم، والأخذ باليمين والشِمال حتم لازم، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7]{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:8]{وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:9]{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ}[الانشقاق:10]{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا}[الانشقاق:11]، يدعوا على نفسه بالهلاك، {وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق:12]، هذا أمر حتم، وفي الآية الأخرى يقول الله -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:19]{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}[الحاقة:20]{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[الحاقة:21]{فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}[الحاقة:22]{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}[الحاقة:23]{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة:24]{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}[الحاقة:25]{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}[الحاقة:26]{يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:27]{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29]، ثم تكون النتيجة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}[الحاقة:30]{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}[الحاقة:31]{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة:32]{إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:33]{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الحاقة:34]{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}[الحاقة:35]{وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ}[الحاقة:36]، عُصارة أهل النار، {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}[الحاقة:37]، عياذًا بالله -تبارك وتعالى- من هذا.

وهنا يقول الله -تبارك وتعالى- {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}[الجاثية:30]{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الجاثية:31]{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}[الجاثية:32]، هذا المآل، هذا مآل البشر إلى هذين القِسمين؛ لا ثالث لهما، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وهذه قد كُتِبَت أعمالهم على التفصيل، قال -جل وعلا- {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}،يُدخِلهم الله -تبارك وتعالى- في رحمته، ورحمة الله -تبارك وتعالى- في هذا اليوم رضوانه وجنته -سبحانه وتعالى-، يرضى الله -تبارك وتعالى- عنهم، يُدخِلهم الله -تبارك وتعالى- جنته اللي هي دار السرور الدائم؛ ودار الحبور، {........ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف:71]، دار أهل الجنة، {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}،ذلك؛ المُشار إليه هنا اللي هو إدخال الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هو الفوز المبين؛ البيِّن، الواضح، أن يفوز الإنسان يعني أن ينال المطلوب الأكبر؛ ولا مطلوب أكبر من هذا المطلوب، ليس هناك مطلوب ومُشتهى ومُرتقى يمكن أن يرتقي إليه الإنسان وأمر عظيم يحوزه أكبر من هذا؛ أن يفوز برضوان الله -تبارك وتعالى- وجنته، ويسعد السعادة التي لا تنتهي ولا تنقطع، فيكون في هذه الدار في قصوره؛ ودوره، في الجنة؛ في ثمارها، يتقلَّب في نعيمها مسرورًا بكل سرور إلى ما لا نهاية؛ إلى أمر لا ينقطع ولا ينتهي، {هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}، هذا هو حصول المطلوب الأعظم، لا مطلوب ولا مُشتهى ولا مُرتقى أعظم من هذا.

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، ومن هذا الكفر إنكارهم البعث والنشور، فيُقال لهم هذا؛ يُبكَّتون، ويؤنَّبون، فيُقال لهم {........ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الجاثية:31]، سؤال للتقرير ولكنه تقرير للتقبيح؛ يُبَّح كذلك يُنكَّل به، أفلم تكن آياتي؛ آيات الله -تبارك وتعالى-، تُتلى عليكم؛ تُقرأ عليكم، فاستكبرتم؛ أي عنها، تكبَّرتم أن تُطيعوها وأن تؤمنوا بالله -تبارك وتعالى-، وكنتم قومًا مجرمين؛ فاعلي الإجرام، كنتم قوم فاعلي الإجرام، والجُرم هو الذنب العظيم في حق الله -تبارك وتعالى-، {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}[الجاثية:32]،{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، الله وَعَدَكم ولا يمكن أن الله -تبارك وتعالى- يعِد وَعْد ويُخلِف فيه ولا يكون، {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، والنبي أخبر بهذا وأقسم عليه، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[يونس:53]،{وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا}، الساعة آتية، يوم القيامة آتي ما فيه ريب فيه؛ لا شك فيه، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ}،قول ينُم عن الاحتقار؛ والاستهزاء، والاستكبار، لا ندري ما الساعة، كيف لا تدري ما الساعة وأنت الآن تُعلَّم بها؛ وتُخبَر بتفصيلاتها؟ أنه يوم قيامة سيقوم وهذه أخباره بالتفصيل، {........ قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}[الجاثية:32]،{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا}، في ما هم فيه من إنكار البعث والنشور، {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}،يعني ليس هناك يقين على هذا الأمر، هذا أمر يعني قد يدخل في الظنون، إنه من باب الاحتمالات لكنه لا دليل عليه ولا برهان عليه عندهم، وهذا يقولونه كذلك على جهة الاستهزاء بيوم القيامة.

قال -جل وعلا- {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ}، ولمَّا أدركنا الوقت نُرجئ -إن شاء الله- بقية الآيات في هذه السورة إلى الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.