الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}[الجاثية:30] {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الجاثية:31] {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}[الجاثية:32] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الجاثية:33] {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[الجاثية:34] {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}[الجاثية:35] {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الجاثية:36] {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الجاثية:37]، يخبر -سبحانه وتعالى- في آخر هذه السورة عن الحال التي سيئول إليها أهل الإيمان وأهل الكفر، فنقل الله -تبارك وتعالى- لنا مشهد الأمم؛ قال -جل وعلا- {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ........}[الجاثية:28]، وترى في يوم القيامة كل أمة جاثية؛ قائمة على الرُكَب، {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا}، كتابها؛ كتاب أعمالها، فكل فرد يتناول كتاب عمله؛ آخذ بيمنه، آخذ بشِماله من وراء ظهره، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، هذه مقالة الله -تبارك وتعالى- للجميع.
{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}، فقد سُطِّر فيه كل ما عَمِله الإنسان، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، مُحصي لكل أعمالها، فيجد كل ما عَمِل مُحصى؛ موجود، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا .........}[آل عمران:30]، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29]، نستنسخ؛ الملائكة، يعني يأمر الله -تبارك وتعالى- أن ينسخوا كل عمل يعمَلَه الإنسان حتى خطرات قلبه ونيَّاته، فإذا همَّ بحسنة تُكتَب له، إذا همَّ بسيئة فتركها تُكتَب له كما جاء في الحديث «إذا همَّ عبدي بحسنة كتبتها له حسنة كاملة، فإن عَمِلها كتبتها عشر حسنات، وإذا همَّ بسيئة فلم يعملها كتبتها حسنة كاملة، فإن عَمِلها كُتِبَت سيئة واحدة»، {........ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29]، ثم قال -جل وعلا- {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}[الجاثية:30]، هؤلاء هم أهل الجنة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}، رحمة الله -تبارك وتعالى- هنا جنته -سبحانه وتعالى- ورضوانه، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}، يُقال لهم، {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ}، يعني في الدنيا، {فَاسْتَكْبَرْتُمْ}، هذا كان موقفهم في الدنيا؛ يعني تعاليتم عليها، {وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}، فاعلي الإجرام، {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، إذا قيل لكم بل أقسَم لكم الرسول ونزلت آيات الله -تبارك وتعالى- تخبركم بأن وعْد الله حق، وعْده لعباده بأنهم لابد أن يقوموا بين يديه ليُحاسِبهم يوم القيامة، {وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا}، يوم القيامة لا ريب فيه؛ لا شك فيه، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ}، مقالة مُستكبِر مستهزئ، {مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ}، تجهيل لأنفسهم وهم يعلمون بأن هذا خبر الله -تبارك وتعالى-، {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}، فردوا الأمر إلى أنفسهم وأن هذا مجرد ظن، وما نحن بمستيقنين بأن يكون هناك بعث وهناك نشور.
قال -جل وعلا- {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}، بدا لهم؛ ظهر لهم، {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}، قد كان الذي عملوه في الدنيا مُزيَّنًا في أعينهم؛ مُجمَّلًا لهم، فقد كانوا يرون أنهم على الحق والصواب، وأن الذي هم عليه هو الخير؛ وهو الحق، وهو الثابت، وأن ما يدعوهم الله -تبارك وتعالى- إليه باطل وزيف، كذَّبوا الرُسُل وقالوا لن يكون، وزُينَت لهم سوء أعمالهم في هذه الدنيا، لكن في هذا اليوم خلاص؛ تظهر لهم سيئات ما عملوا، يظهر لهم حقيقة هذا التكذيب؛ يعني حقيقة تكذيبهم تظهر عند ذلك، تكذيبهم بالله -تبارك وتعالى- وفعلهم الإجرامي يظهر بقى سيئات هذا عندما يرون أن الذي عملوه قد كان زور؛ وكذب، وبُهتان، وإثم عظيم، ومخالفة لأمر الرب -تبارك وتعالى-، ثم يروا بعد ذلك العقوبات التي جعلها الله -تبارك وتعالى- على هذا الزور والكذب الذي كانوا فيه، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الجاثية:33]، الذين سيظهر لهم سيئات ما عملوا أصناف كثيرة، وكلٌ بحسَب الزيف؛ والغرور، والتغرير الذي كان فيه، فأما الكافر فإنه يظهر له هذا الأمر جليًا واضحًا، أولًا قد كان مشركًا بالله -تبارك وتعالى-؛ كان يعبد غير الله -تبارك وتعالى-، فيرى أن كل الذين عُبِدوا من دون الله -تبارك وتعالى- لا يملكون شيء؛ وأن المُلك لله وحده -سبحانه وتعالى-، فتذهب كما يُقال السكرة وتأتي الفكرة، خلاص؛ يظهر الأمر، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[مريم:38]، فالآن هم يكونون كلهم سمع وكلهم بصر في ذلك اليوم، {........ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22]، بصره حاد فيرى هذه الأمور، فمما يرى الكافر يرى أن المُلك لله وحده -سبحانه وتعالى-؛ وأن الحق لله وحده، ويضِل عن الكافر ما كان قد افتراه وأفكه من الكذب والبُهتان، ويرى أن آلهته التي عبدها من دون الله -تبارك وتعالى- لا سلطان لهم؛ ولا مُلك لهم، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، هذا في الدنيا، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، هؤلاء ليس لهم قوة، {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166] {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، فعندما يتبرَّأ كل متبوع بباطل من أتباعه؛ كل مَن اتُّبِعَ في باطل يتبرَّأ من أتباعه، على رأس هؤلاء إبليس الذي يتبرَّأ من أتباعه، ويقول لأتباعه {........ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22]، وكذلك الملائكة تتبرَّأ من أنها عُبِدَت من دون الله -تبارك وتعالى-؛ وأنهم رضوا بهذا، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}[سبأ:40] {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ........}[النحل:86]، قال -جل وعلا- {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، عيسى يقول ويشهد أمام الله -تبارك وتعالى- وأمام الجمع من أمته؛ الذي عبدوه من دون الله، يقول {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وأما الأصنام والأوثان التي عُبِدَت من دون الله؛ من الأحجار ومن غيرها، فإنها تؤخذ هي ومَن عبَدَها وتُلقى في النار، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98] {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأنبياء:99].
فعند ذلك يظهر لهؤلاء الذي عَبَدوا غير الله -تبارك وتعالى- زيف عبادتهم وضلالهم، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}، كذلك العناد والكفر والإشراك وسب الرسول وتكذيبه مما ساروا فيه يظهر لهم سوء هذا العمل؛ وعِظَم هذا الجُرم، ما كانوا يُقدِّرون هذا في الدنيا ولكن أصبح الآن يعلمون عِظَم الذنب الذي أذنبوه والجُرم الذي أجرموه، فتظهر لهم سيئات هذه الأعمال التي عملوها؛ وكثيرٌ منها كانوا قد نسوها، تظهر لهم في العيان، كذلك من أتباع الرُسُل نصيب من هذا، فإن كثيرًا من أتباع الرُسُل قد يكون فيه غرور؛ يعني غرور المغفرة، وأن الله -تبارك وتعالى- لن يؤاخذه بهذا الذنب ويستهين به، فكل مُستهين بذنب فإنه يظهر له أثر هذا يوم القيامة، ويبدوا له سيئات ما عَمِل كما في قول الحسن البصري -رحمه الله- يقول "وإن قومًا ألهتهم أماني المغفرة خروجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا نحن نُحسِن الظن بالله وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"، فالمُفرِّط في جنب الله -تبارك وتعالى- يعض أصابع الندم يوم القيامة؛ أنه لماذا فرَّط؟ والذي فعل المعصية واستهان بها ظن أن الله -تبارك وتعالى- لا يُحاسبه عليها يتهوَّل عندما يحاسبه الله -تبارك وتعالى- عليها؛ وعندما يرى من شؤم المعصية وأثرها، والعقوبة على المعاصي وعلى الكبائر شديدة، فإن النبي يقول مثلًا -صلوات الله والسلام عليه- في تارك الزكاة «ما من صاحب ذهب وفضة لا يؤدي زكاتهما إلا صُفِّحَت له يوم القيامة صفائح، ثم يُحمى عليها في نار جهنم، ثم يُكوى بها جبينه وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، فهذا يتهوَّل، يرى أن الزكاة قد كانت أمر ميسور؛ وفي متناول يده في الدنيا، وهي نسبة قليلة؛ واحد من أربعين، من كل أربعين دينار دينار، وأنه لم يؤدها ثم يُعاقَب عليها هذه العقوبة الشديدة؛ خمسين ألف سنة وهو تحت هذا العذاب.
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}، يظهر له سيئات العمل؛ اللي هو عقوبة العمل الذي عَمِلَه وما كان يظن أنه يُعاقَب عليه هذه العقوبة، ولو ظن في الدنيا أنه يُعاقَب هذه العقوبة وأيقنها لكان له شأن أخر، كما قال النبي أيضًا في تارك الزكاة «وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا جيء بها يوم القيامة أوفر ما كانت؛ لا يُغادَر منها فصيل»، أوفر ما كانت يعني أكثر عدد كان يملكه من الإبل، «لا يُغادَر منها فصيل»، الفصيل؛ مَن انفصل عن أمه بعد الرضاعة، بعد سنتين خلاص ينفصل، فهذا الفصيل يأتي، يقول النبي «ثم يُبطَح لها بقاع قرقر»، يُبطَح الشخص يعني يُبطَح على بطنه، بقاع؛ أرض، قرر يعني يابسة شديدة، «ثم تأتي هذه الإبل كما هي»، كما كانت في الدنيا تمامًا نفس الإبل، «تطأه بأخفافها وتعضه بأنيابها، كلما مر عليها أُخراها رُدَّ عليه أُولاها؛ فتدور عليه دائرة»، تصبح دائرة، كل بعير وكل فصيل يفعل فيه نفس الفعل؛ يطأه بأخفافه ويعضه بأنيابه، فإذا انتهت إلى آخر واحد يُرجَع الأول مرة ثانية وهكذا، «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، فهذا الذي يُعذَّب هذا العذاب ويُعاقَب هذه العقوبة على ذنب أذنبه؛ زكاة لم يُخرِجها، فلا شك أن هذا عند ذلك يظهر له سيئات ما عَمِلَه، يظهر له كما قال الله -تبارك وتعالى- فيهم {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}، أحصى الله -تبارك وتعالى- ذنب هؤلاء العباد وهم نسوه؛ نسوا هذا، ويقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الرجل ليتكلم الكلمة من سخط الله -تعالى- لا يُلقي لها بالًا فيهوي بها في النار سبعين خريفًا»، فهذا الذي يهوي سبعين خريف في النار في كلمة قالها لم يكن يظن أنها بالغة في الشر هذا المبلغ؛ كلمة غير كلمة الكفر هذه، هذي كلمة غير كلمة الكفر؛ كلمة الكفر مُخلِّدة في النار لِمَن يموت عليها، ولكن هذه الكلمة فيها إثم، يقول النبي «لا يُلقي لها بالًا فيهوي بها في النار سبعين خريفًا»، من أجل أنه تكلم بهذه الكلمة، الذي يُعاقَب مثل هذه العقوبة في الآخرة خلاص؛ يظهر له سيئات العمل الذي عَمِل، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الجاثية:33]، حاق؛ أهلكهم وأحاط بهم من كل جانب، يعني أهلكهم هذا العذاب الذي كانوا يستهزئوا به من كل جانب من جوانبهم، فلا مخرج لهم من إحاطة العذاب بهم -عياذًا بالله-، {........ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الجاثية:33]، أحدق وأحاط بهم.
{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ........}[الجاثية:34]، هذا لا شك أن القائل هو الله -سبحانه وتعالى- عقوبة لهؤلاء الذين في النار؛ المُخلَّدون فيها خلودًا لا ينقطع، يُقال لهم اليوم ننساكم؛ اليوم هذا اليوم اللي هو يوم القيامة ننساكم في النار، والله -تبارك وتعالى- لا ينسى، لا يضل ربي ولا ينسى -سبحانه وتعالى-؛ لا ينسى شيء، ولكن النسيان هنا بمعنى التخلية والترك، يعني أنهم يُترَكون ويُلقَون في النار ويُهمَلون؛ ولا يُنظَر لهم بتاتًا، ولا يُعاد أمرهم وتلحقهم رحمة الله -تبارك وتعالى- وينظر الله -تبارك وتعالى- لهم نظر رحمة في مستقبل الأيام قط، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ........}[الجاثية:34]، مثل ما نسيتم يوم القيامة؛ وألقيتموه خلف ظهوركم، ولم تذكروه، ولم تظنوا أن ستُوقَفوا بين يدي الله -تبارك وتعالى- تُعاقَبون نفس العقوبة، فتُترَكون في النار تركًا وتُهمَلون فيها إهمالًا كليًّا؛ لا يؤبه لكم، ولا يُنظَر في أمركم، {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ........}[الجاثية:34]، المشار إليه يوم القيامة، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ}، أصل المأوى هو ما يلجأ إليه الإنسان ليرتاح ويستريح، فالبيت مأوى؛ بيت الإنسان مأوى، هنا قيل مأواكم النار يعني مكان قراركم؛ يعني مكان استقراركم النار، والنار ليست مكان استقرار بمعنى أن يستقر الإنسان فيها فيرتاح ويُستَر... لا، وإنما مَن كان في النار فإنه ما نقول قلق بل هو مُعذَّبٌ أبدًا، وهو في غم يكاد يُفجِّر قلبه؛ ويخرج من مكان إلى مكان، وينتهي من مكان إلى مكان، فهي ليست دار قرار لكنها دار قرار بمعنى أنه لا مجال له أن يخرج منها، هي مُستقَره؛ هي مكان بقائه الذي لا يخرج منه، ما له خروج من هذا، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ}، يعني أنها مكان بقاؤكم البقاء السرمدي الأبدي؛ الذي لا ينقطع، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، ليس هناك مَن ينصركم؛ ما في أحد يُعينكم، لا أحد يُعينهم أو يشفع لهم ليخرجوا أو ينصرهم بأي نوع من النصر حتى دمعة إشفاقًا عليهم، لا يجدون مَن يذرف عليهم دمعة لهم فضلًا عن أن يُنصَرون بمعنى يُخرَجون؛ أو يُشفَع لهم، أو يجدون قوة أو نحو ذلك ليخرجوا من النار.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، ليس هناك مَن ينصرهم وذلك أن الكافر لا شك أنه يتخلى عنه كل أحد؛ كل أحدٍ يتخلى عنه، بل يلعنه ويسبُّه كله أحد، فملائكة الله -تبارك وتعالى- يتخلون عنه وليس أمامه إلا ملائكة العذاب؛ الذين قد أُمِروا بأن يُعذِّبوه، {........ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، وملائكة الرحمة ليس هؤلاء داخلون في حسابهم ولا يرحمونهم، الرُسُل والشافعون لا يشفعون في أهل الإجرام، أهل الإجرام الذين ماتوا على الكفر لا شفاعة لهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254]، الكافر هو الذي ظلم نفسه عندما كفر بالله -تبارك وتعالى-؛ فما في شفاعة، الأحباب والأنصار الذي كانوا في الدنيا؛ كانوا يُحبون بعضهم ويتوالون، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، الأهل والأولاد {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، ثم أهل النار كلٌ يلعن أخاه؛ ما في أحد منهم يوالي الأخر أبدًا، حتى وإن كانوا في الدنيا من أهل الموالاة ومن أهل النُصرة؛ ينصر بعضهم بعضًا، ويوالي بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا، لكن في النار كلٌ يلعن الأخر، {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}[ص:64]، {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}، يُقال لفوج يأتي بعد فوج كان في النار، يُقال لهم {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ}، يعني النار، العادة في الدنيا إذا جائك ناس يشاركونك تفرح بهم، فيقولوا {........ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ}[ص:59]، فيأتي الأخرون {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}[ص:60]، أنتم الأولين، أنتم استنيتم الكفر ونحن سِرنا على سُنَّتكم وعلى مسيرتكم، فيبقى هؤلاء يسبوا هؤلاء؛ أول الأمة من الكفار يسب آخرها، وآخرها يسب أولها، فحياتهم كلها أو بقاؤهم كله في النار معاداة من بعضهم لبعض، فليس للكافر ناصر {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، ينصرونكم، ليس هناك أحد يقف معه لينصره ولو بكلمة.
قال -جل وعلا- {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، ذلكم؛ الإشارة إلى ما هم فيه من هذا العذاب، وهذا النكال وهذا البقاء في النار {بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، في الدنيا كنتم تستهزئون بآيات الله -تبارك وتعالى-؛ لم تأخذوها مأخذ الجِد، استهزأتم بها تطنزتم عليها بالطنز والهُزء لها، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ........}[الجاثية:35]، غرَّتكم؛ ألهتكم، ظننتم فيها البقاء؛ والراحة، والهدوء، والطمأنينة، والسعادة، واطمأننتم بهذا وعشتم معه ونسيتم ما وراء هذه الدنيا، عمرك محدود وأنت ترى أن هذا الأمر لابد أن ينتهي، عمرك محدود وقيل لك أن هناك بعث؛ وهناك نشور، وهناك قيام بين يدي الله -تبارك وتعالى-، نسيت هذا؛ الذي بعد الحياة نسيته، ومدَّك الأمل في هذه الحياة وغرَّتك الدنيا؛ ألهتك، شيء وراء شيء وأمل وراء أمل فالدنيا ألهتكم بزخرفها؛ وزينتها، وغرورها، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، قال -جل وعلا- {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا}، هذا اليوم؛ يوم القيامة، لا يُخرَجون منها؛ ليس لهم خروج، لا خروج لهم من هذه النار، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، يُستعتَبون؛ يُطلَب منهم العتاب، والعتاب دائمًا يكون مع الأحباب، فإن الحبيب إذا اعتذر عن خطأه في مَن يحب يُقبَل اعتذاره، إذا قال والله سامحني؛ فعلت كذا، وفعلت كذا، فيُقبَل عتَبه، الله -تبارك وتعالى- لا يقبل عتاب من هؤلاء لأنهم لم يكن هناك موالاة بينهم وبين الله -تبارك وتعالى-؛ لم يكونوا يحبوا ربهم -سبحانه وتعالى-، لم يعبدوه، لم ينصروه، الله -تبارك وتعالى- أبغضهم؛ كرههم، لا يقبل منهم عتابًا، لا يقبل أن يقولوا يا ربي إذا استعتبوا سامحنا؛ أخطأنا، جنينا ما جنينا، فرطنا في أمرك، فرطنا في حقك، ما يقول هذا، لا يُستعتَبون؛ لا يُقبَل منهم عُتبى، مهما بالغوا في الإقرار بذنبهم وخطئهم فإن الله لا يقبل منهم، لا مجال لأن يقبل الله -تبارك وتعالى- منهم استغفار ولا استعتاب مهما كان، {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
ثم حَمِدَ الله -تبارك وتعالى- نفسه على صنيعه -سبحانه وتعالى- وعلى قضائه في خلْقِه -جل وعلا-، قال {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ}، فلله الحمْد وحده -سبحانه وتعالى-، فلله؛ لا لغيره -سبحانه وتعالى-، الحمْد كله له فإنه خالق الخلْق؛ ومُدبِّر أمر السماوات والأرض، هو الذي بدأ هذه السورة -سبحانه وتعالى- بتعريف العباد بصفاته -جل وعلا- فقال {حم}[الجاثية:1] {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[الجاثية:2] {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الجاثية:3] {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:4] {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الجاثية:5] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:6]، فالله هو الذي له الحمْد، هذه آياته -سبحانه وتعالى- في الكون؛ والحياة، والناس، ثم خالق هذا الخلْق -سبحانه وتعالى- رب حكيم، دعى الناس إلى الصراط المستقيم وحذَّرهم من الخروج عن طريقه -سبحانه وتعالى-، ثم إنه -سبحانه وتعالى- رتَّب يومًا يُحاسب كل إنسان على عمله، لابد أن يُحاسَب كل إنسان على عمله فلا يُخلي الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان؛ لا يجزيهم بعملهم، ولا يُخلي أهل الكفران فلا يجزيهم بعملهم، فمن حِكمته وسُنَّته وقضائه -سبحانه وتعالى- الحق قال -جل وعلا- {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:21] {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22].
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ}، على قضائه، على خلْقِه هذا الخلْق -سبحانه وتعالى-، وعلى حِكمته -سبحانه وتعالى- في ما قضاه ورتَّبه من هذه الأمور الكونية القدرية؛ ومن شرعه ودينه، ومن مثوبته وعقابه -سبحانه وتعالى-، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الجاثية:36]، هو رب السماوات؛ خالقها، مالكها رقبةً؛ ذاتًا وتصريفًا، {وَرَبِّ الأَرْضِ}، وهنا عاد رب الأرض لتأكيد المعنى في العلو والسُفُل؛ في السماوات العُلى والأرض السفلى، {........ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الجاثية:36]، رب كل هذه العوالم، العالمون جمع عالم، والعالم هو الوحدة من الخلْق التي تشترك في صفات واحدة؛ عالم الملائكة، عالم الجِن، عالم الإنس، عالم السماوات، عالم الأرض، عالم البحار، كل هذه العوالم ربها الله -تبارك وتعالى- {رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الجاثية:37]، هو وحده الذي يليق به الكِبْر -سبحانه وتعالى- لأنه لا مِثل له؛ ولا نِد له، ولا شبيه له -سبحانه وتعالى-، فله الكبرياء وحده -سبحانه وتعالى- ولا يليق الكِبْر بغيره، بل كل ممَن سِواه فعبد له -سبحانه وتعالى-؛ عبْد له -جل وعلا-، فهو الرب الإله وحده -سبحانه وتعالى- وما سِواه فإنما هم عبيده -سبحانه وتعالى- وأرِقائه، وله الكبرياء -سبحانه وتعالى- وحده في السماوات والأرض، لا يُنازِعه مُنازِع؛ ما يُنازِع الرب -تبارك وتعالى- في سلطانه مُنازِع لا في السماوات ولا في الأرض، وهو العزيز؛ الغالب، الذي غلب كل شيء؛ ما يغلبه أحد، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نِصابه، فعندما حكَمَ بالعقوبة هنا فإن عقوبته تقع في نِصابها، وعندما رحم مَن رحم -سبحانه وتعالى- فإنها في نِصابها، فكل قضاء قضاه الله -تبارك وتعالى- فإنما هو بمُقتضى العِلم التام والحكمة، لا يضع كل أمر إلا في نَصابه -سبحانه وتعالى-، ليس بعد هذا الحديث حديث للإيمان، مَن لم يؤمن بعد هذا الحديث فلن يؤمن بشيء كما قال -جل وعلا- {........ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:6].
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.