الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا وبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5] {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:7] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الأحقاف:8] {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:9] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأحقاف:10]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه لا أضل في هذه الحياة ممَن يدعون من دون الله إلهًا، يدعوه من دون الله؛ يطلب منه خيرًا أو دفع ضر، والحال أن هذا المدعوا من دون الله وكل ما يُدعى من دون الله لا يستجيب لداعيه ولو وقف يدعوه إلى يوم القيامة؛ فلا أضل من هذا، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5]، هؤلاء الآلهة الذين يدعونهم من دون الله عافلون عن دعائهم؛ لا يسمعوا دعائهم، ولو سمعوا ما استجابوا لداعيهم، فالملائكة الذين يدعوهم المشركون لا يسمعون دعائهم؛ ولا عِلم لهم بمَن يدعوهم، لا عِلم لهم بأي شيء من الحقائق إلا بما علَّمهم الله، وقد {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، فلا يعلمون من العِلم إلا الشهادة وأما الغيب فلا يعلمونه، والذين يدعونهم إنما هم بالغيب، وكذلك عيسى الذي يدعوه مَن يدعوه ويزعمونه إله هو غافل عن دعائهم؛ ولا يسمع دعاؤهم، ولو سمع وهم يطلبون منه ما يطلبون ويُريدون منه ما يُريدون فإنه لا يستجيب لهم إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، ولا يستجيب بشر مدعوا لداعي إلا بما هو في قدرة البشر فقط، أما دعاء العبادة والطلب من وارء الغيب لهذه الآلهة المُدَّعاة فإنها لا تسمع هذا.
كذلك الأموات فإن مَن يدعوهم لو وقفوا على قبره يدعوه ليوم القيامة فإنه لا يستجيب له؛ وهو غافل عن دعائه، إن كان من أهل الجنة ففي الجنة، وإن كان من أهل النار ففي النار، ولا يسمع دعاء مَن يدعوه، وكذلك هذه الأصنام التي جعلوها آلهة ليست لها شيء، {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ}[الأعراف:195] {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}[الأعراف:196] {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}[الأعراف:197]، {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}[الأعراف:193] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأعراف:194]، لا يستجيب، فلا أضل ممَن يقف ويدعوا من دون الله -تبارك وتعالى- مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة، والحال أن الله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض هو عالم الغيب والشهادة، فهو الذي إذا دُعي أجاب -سبحانه وتعالى-، يُدعى بليل؛ أو بنهار، أو في وضَح النهار، أو في السر، فإنه -سبحانه وتعالى- يعلم السر وأخفى، الله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-، وهؤلاء الذين دعوا من دونه آلهة إنما يدعون سراب؛ ويدعون غيابن لا يستجيبون لهم، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[الأحقاف:5]، لو وقف يدعوه إلى يوم القيامة فإنه لا يستجيب له، قال -جل وعلا- {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}، هم؛ هؤلاء المدعوين، عن دعاء مَن يدعوهم غافلون.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً ........}[الأحقاف:6]، فإن كانوا من المُكرَّمين عند الله -تبارك وتعالى- فإنهم يُعادون مَن دعاهم، كالملائكة فإنهم يقولون لله -تبارك وتعالى- {........ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، يقول -جل وعلا- {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}[سبأ:40] {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41] {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا}، ما ملَك ممَن دعاه مَن دعاه بنافع وبمُستجيب لِمَن دعاه، وكذلك الحال فإن أشرف الناس الذين عُبِدوا وأكثر الناس الذين عُبِدوا في الأرض؛ عيسى ابن مريم، الذي ادَّعى مَن ادَّعى له ممَن ظن أنه على دينه وأنه تابع له أنه الله أو ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، فإنه يتبرَّأ ممَن عبَدَه يوم القيامة ويقول {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، كل مَن عُبِد دون الله وكان هذا المعبود هو من أولياء الله -تبارك وتعالى- فإنه يتبرَّأ ممَن عبَدَه، وأما الذين دعوا الناس إلى عبادة أنفسهم كفرعون ومَن على شاكلتهم؛ ممَن قال لقومه أنا ربكم الأعلى، أو {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، فهو ومَن عبَدَه في النار يلعن بعضهم بعضًا، كما قال -تبارك وتعالى- {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98]، أما إذا كانت أصنام؛ حجارة صنعها مَن صنعها، ودعوها، وعبدوها، فالأصنام وعابدوها إلى النار، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98] {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأنبياء:99]، الشمس التي عُبِدَت من دون الله مع أصحابها في النار، والقمر الذي عُبِدَ من دون الله مع أصحابه؛ مع مَن عبَدَه في النار، يُقال يوم القيامة كل مَن عبَدَ شيئًا فليتمسَّك به، كل مَن كان له إله فليتمسَّك به، فيُصوَّر لكل هؤلاء المشركين؛ لأهل الأصنام تُصوَّر لهم أصنامهم فيذهبون إليها، ومَن عبَدَ الشمس تأتيهم فيتمسَّكون بها، والقمر، وهكذا ...، ثم كل هؤلاء يُلقَون في النار، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98] {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأنبياء:99].
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً ........}[الأحقاف:6]، إن كانوا من أولياء الله كالملائكة والرُسُل فإنهم يُعادون مَن عبَدَهم، ويقولون يا ربي نتبرَّأ إليك؛ ما كانوا إيانا يعبدون، كما قال -جل وعلا- {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}[النحل:86] {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6]، يقولوا ما سمعناهم؛ ما رأيناهم، ما علِمنا عن عبادتهم شيء، وذلك أنهم كانوا في الغيب ولا يعلمون ما ورائهم بعد ذلك.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:7]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- ضلال هؤلاء المشركين؛ الذين يدعون من دون الله مَن لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، انظر موقفهم هنا من آيات الله البينات، قال {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ}، تُتلى؛ تُقرأ عليهم، آياتنا؛ آيات الله -سبحانه وتعالى-، نسبها الله إلى نفسه لأنه هو مُنزِلها وهو المتكلم بها -سبحانه وتعالى-، هنا آياته المسموعة، بينات؛ واضحات، ظاهرات، وكذلك هي مُبينات للحق، فهي آيات ظاهرة؛ بيِّنة، لا خفاء فيها، لا خفاء فيها أنها من الله -تبارك وتعالى-، لأن الله -تبارك وتعالى- أنزل هذا القرآن مُعجِزًا، بمعنى أنه لا يمكن صياغة مثله ولا سورة من مثله، لا يستطيع أحد أن يصوغ كلامًا عربيًا كهذا الكلام في حلاوته؛ وطلاوته، وجزالة لفظه، وبلاغته، وتعبيره عن المُراد، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13]، فهذه الآيات البينات التي هي أمرها بيِّن أنها من الله، ثم أنها مُبيِّنة للحق المُراد؛ لا خفاء فيها، يمكن لكل أحد ذي بصر وذي بصيرة أن يعرف مراد الله -تبارك وتعالى-، فهي مُيسَّرة؛ واضحة، بيِّنة، {........ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:7]، يقابلوا آيات الله -تبارك وتعالى- المُنزَلة من عنده فيقولوا؛ الله يقول {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ما قال قالوا ولكن يُبين هذه صفتهم، يذكرهم الله -تبارك وتعالى- بصفتهم؛ الذين كفروا، لأنهم عرفوا الحق وجحدوه، فهم يعلمون أن هذه من الله لكن كفر، المسألة عندهم مسألة عناد؛ وكفر، ورد للحق، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ}، قال الذين كفروا للحق؛ آيات الله، {لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، هذا؛ المُشيرين إليه سحر مبين، وشتَّان بين السحر وهذا القرآن، ويعنون بسحر أنه من أقوال السحرة الذين يُلبِّسون به على الناس؛ من همزهم، ونفيهم، وزمزمتهم، والحال أن هذا كلام الله الواضح؛ البيِّن، كيف يكون هذا سحر؟ لا يمكن لِمَن عنده أدنى بصر وأدنى عقل أن يجعل هذا القرآن المُنزَل من الله -تبارك وتعالى- الذي يدعوا إلى الحق؛ والهُدى، والنور، والخير، وتوحيد الله -تبارك وتعالى-، أن يكون ككلام السحرة، فأين كلام السحرة في زمزمتهم؛ وهمهمتهم، واستعاذتهم بالشياطين، وتعقيداتهم، من كلام الله -تبارك وتعالى- الواضح؛ البيِّن، الذي تقوم كل الأدلة على أنه كلام مُعجِز؛ مُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، لكن العمى وإرادة أن يصرفوا النار عن الحق فقالوا هذا سحر مبين.
قال -جل وعلا- {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الأحقاف:8]، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، إضراب وهمزة الاستفهام {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، يعني أم يقولون؛ يقول هؤلاء الكفار أن النبي -صل الله عليه وسلم- افترى هذا القرآن، يعني اكتفئه؛ وكذَبَه، وأتاه من عند نفسه، قال -جل وعلا- ردًا على فِريتهم هذه وكذبهم وادعائهم أن النبي قد افترى هذا القرآن؛ كما قالوا {........ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5]، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، لو كنت افتريته وهذا حديث عن الله -تبارك وتعالى-، أخبركم عن الله أنه يأمر بكذا؛ وينهى عن كذا، وهذا صراطه، فكيف يُخليه الله -تبارك وتعالى-؟ كيف يتركه الله يكذب عليه كل هذا الكذب ثم لا يُعاقِبه؟ قُل لهم إذا قالوا {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، لا تملكون لي من الله شيئًا؛ أن تحموني من الله -تبارك وتعالى-، والله لا يمكن أن يترك مَن يكذب عليه؛ ويُخليه، ولا يفضحه، ولا يقتله، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ}[الحاقة:44] {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}[الحاقة:45] {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}[الحاقة:46] {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[الحاقة:47]، ما أحد يستطيع أن يحجز الرب -سبحانه وتعالى- ويمنعه من قتله لو أنه افترى على الله -تبارك وتعالى-، فكيف يكون قد افترى على الله ويتركه الله -تبارك وتعالى- وقد افترى عليه كل هذا الافتراء؟ ويكذب عليه كل هذا الكذب ثم بعد ذلك لا يُعاقِبه؟ يستحيل هذا، يستحيل أن يترك الله -تبارك وتعالى- مَن يكذب عليه ويفتري عليه ولا يفضحه؛ ولا يُبين حقيقته، وهذا في كل مَن افترى على الله -تبارك وتعالى-، كل مَن ادَّعى النبوة وقال إنه نبي من الله؛ أو إنه آتاه الوحي وهو كاذب في ذلك، فإن الله -تبارك وتعالى- لابد أن يفضحه؛ وأن يكشف أمره، ولن يتركه الله -تبارك وتعالى-، فكيف وهذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ الحكيم، البليغ، الأمين، الصادق، الذي لم يقل قولًا إلا وصدَّقه الله -تبارك وتعالى- فيه، فكل ما أخبر به وقع كما أخبر، وكل ما تكلم عنه من الأحداث السابقة كانت كما أخبر -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يدعوا إلا إلى الهُدى والنور، وكان الله -تبارك وتعالى- مؤيدًا له ومُصدِّقًا له في كل خطواته -صلوات الله والسلام عليه-، إذن هذا الذي أتى به إنما هو من الله -تبارك وتعالى-؛ ولا يمكن أن يكذب على الله –جل وعلا-.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ........}[الأحقاف:8]، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، {أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ}، وهذا تهديد، بما تُفيضون فيه من الكذب؛ ومن ادعاء أني كاذب، اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- يعلم هذا، وبالتالي اعلموا أن الله لا يمكن أن يُخليكم؛ وأن يترككم تكذبون هذا الكذب عليه، عندما يقولون أن محمد -صل الله عليه وسلم- قد افترى هذا القرآن وكذَبَه إنما يُكذِّبون الرب -تبارك وتعالى-، والحال أن الله هو الذي أنزل هذا الكتاب على رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، يعني حسبنا وحسبكم الله -سبحانه وتعالى- هو الشهيد؛ الحاضر، الذي لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى- على ما أقول وعلى ما تقولون، وبالتالي فإن الله -تبارك وتعالى- سُنَّته؛ عقوبته، إنعامه، ستقع كما أخبر بها -سبحانه وتعالى-؛ إنعامه على أهل طاعته، وعِقابه وإهلاكه لأهل معصيته، فلابد أن تتحقق، أنتم تدَّعون أني كاذب وأنا أقول اعلموا أن هذا الذي تقولونه الله -تبارك وتعالى- عليم به؛ وهو شاهد على ما أقول وعلى ما تقولون، ولا شك أنه سيُحاسِب كل إنسان بمُقتضى هذا العِلم الإلهي؛ ومُقتضى عمل كل واحد منا، ثم قال -جل وعلا- {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وهذا فيه حث لهم على الرجوع، هذا حث لهم وبيان لهم على الرجوع عن كفرهم؛ وعن مقالتهم العظيمة في النبي -صل الله عليه وسلم-، وعن مقالتهم العظيمة في هذا القرآن، فقال {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، يعني ارجعوا إلى ربكم -سبحانه وتعالى- واشهدوا بالحق، فإنه يُقيل عثرتكم وهو الغفور؛ يغفر ذلاتكم، المغفرة؛ الستر، يستر هذا ويرحمكم -سبحانه وتعالى-؛ ويقبل توبتكم إليه.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}، ما الغريب؟ قُل لهم ما كنت بِدعًا من الرُسُل؛ يعني لست أنا الرسول وحدي الذي جاء إلى الأمم، فإنه قد سبقني هؤلاء الرُسُل جميعًا؛ هذا نوح، وهذا إبراهيم، وهذا موسى، وهذا عيسى، وهذا صالح، وهذا هود، فالنبي ليس أمرًا مُبتدعًا جاء بمقالة؛ أن يقول أنا رسول الله فلم يقُلها أحد قط، بل شأنه كشأن إخوانه الذين سبقوه، إذن فإن هذه الرسالة ليس شأنها شأن جديد فيكون هذا أمر يُستغرَب من النبي؛ ويُقال أنت أتيت بأمر لم يسبقك فيه أحد من العالمين، بل إنما جاء برسالة كشأنه شأن الرُسُل السابقين، وبالتالي الرُسُل السابقين كان لهم تاريخ؛ كان لهم مقالة، كان لهم عمل، كان لله -تبارك وتعالى- سُنَّة معهم في معاملتهم ومعاملة أعدائهم، فالنبي -صلوات الله والسلام عليه- مَن ينظر في أمره لا يمكن أن يخفى عليه الحال، لأنه على الأقل إذا كان هو رسول سيقيسه بالرُسُل الذين سبقوه، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ........}[الأحقاف:9]، أنا بشر لست أدري ما سيُفعَل بي ولا بكم من مقادير الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، فإن الأمر كله لله -تبارك وتعالى- وأنا رسول؛ بشر، مُحمَّل هذه الرسالة لأُبلِّغها للناس، وليس بيدي الغيب فأعلَمه، وليس بيدي النفع والضر، وأن أختار المصير والنهاية التي تلزمكم وتلزمني، وإنما هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ........}[الأحقاف:9]، في المستقبل.
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}، أنا أتَّبِع الذي يُوحى إلي، أنا يُوحى إلي وحي من الله -تبارك وتعالى- وأتَّبِعه وألتزم بما ألزمني الله -تبارك وتعالى- به من البلاغ؛ ومن القيام بالأمر الذي أُمِرت به، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}، بالنسبة إليكم أنا فقط نذير مُبين، نذير أُنذِركم وأُخوِّفكم عقوبة الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة إن تركتم طريقه، مُبين؛ بيِّن، واضح، نِذارة بيِّنة، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:9]، فالغيب كله لله -تبارك وتعالى-، في صحيح البُخاري أن أم العلاء؛ امرأة من الأنصار، تقول "طار لنا عثمان ابن مظعون في القُرعة"، الأنصار كانوا إذا نزل مُهاجِر؛ أتى مُهاجِر إلى الله -تبارك وتعالى- ورسوله إلى المدينة، فكان يتقاطر ويتنافس عليه الأنصار كلٌ يُريد أن يحوذه لينزل عندهم؛ ويقوم بأخوَّته ونفقته، فكان لمَّا يصير فيه تنافس تكون القُرعة، كما جاء في الأثر أنه ((ما نزل مُهاجري على أنصاري إلا بقُرعة))، بقُرعة يعني يقترعوا، مجموعة من الأنصار يجتمعوا وكل واحد يقول أنا يا رسول الله؛ أنا الذي أستضيفه وآخذه، فتقوم قُرعة ومَن خرجت قُرعته يأخذه، فتقول أم العلاء طار لنا؛ يعني القُرعة أخرجت لنا عثمان ابن مظعون، تقول "ووالله ما أعلم أن رجلًا صلى الخمس أفضل منه"، تقول ما رأيت في مَن أرى من المسلمين بعد رسول الله -صل الله عليه وسلم- رجل مسلم ممَن يُصلي الخمس صلوات أفضل من عثمان ابن مظعون، فلمَّا مات جاء النبي -صل الله عليه وسلم-؛ يعني حضر النبي جنازته، يعني هذا عثمان ابن مظعون وهذا النبي -صل الله عليه وسلم- وتقول أم العلاء "شهادتي عليك أبا الثائب أن الله قد أكرمك"، تشهد وتقول شهادتي عليك أبا الثائب؛ يعني من صلاحه، ودينه، وتقواه، "أن الله قد أكرمك، فقال لها النبي وما يُدريكي أن الله قد أكرمه؟ فقالت سبحان الله يا رسول الله؛ ومَن يُكرِم الله إذا لم يُكرِمه؟"، يعني مَن من الناس بعد النبي يُكرِم الله -تبارك وتعالى- إذا لم يُكرِم مثل هذا؛ مثل عثمان ابن مظعون؟ "فقال لها النبي -صل الله عليه وسلم- والله إني لرسول الله لا أدري ما يُفعَل بي غدًا"، قال لها أنا رسول الله ولكن لا أدري ما يُفعَل بي غدًا، "فقالت واللي لا أُزكِّي بعده أحدًا أبدًا"، لا أُزكِّي بعده أحدًا أبدًا إذا كان الرسول -صل الله عليه وسلم- يقول والله إني رسول الله لا أدري ما يُفعَل بي غدًا، ففي الجملة أن الله -تبارك وتعالى- الغيب له وحده -سبحانه وتعالى-؛ ولا يعلم الغيب إلا هو، وأُمِرَ النبي هنا قال {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}، لست الرسول الوحيد الذي جاء إلى الناس، بل قد سبقني رُسُلٌ كثيرين وشأني شأنهم، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ}، هل يأتيكم العذاب وأنا حي؟ هل يؤخِّره الله -تبارك وتعالى-؟ كيف سيتم هذا الأمر؟ ما المعركة التي بيني وبينكم؟ كيف ستتم؟ كل هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، فالله وحده هو الذي بيده الأمر؛ وهو الغيب له، ولا أدري أنا ما الذي سيكون عليه الحال مُستقبلًا، {........ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:9]، أنا؛ حصر، أنا نذير لكم، مُبين؛ بيِّن، واضح.
ثم الله -تبارك وتعالى- يقول لرسوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}، هذا عرض لهم ليُفكروا في الأمر من باب الفرض، يعني افرضوا فرض أن هذا الذي أتيتكم به هو من عند الله حقيقة وكفرتم به، يعني الأمر هو فرضين؛ إما أن يكون من عند الله، أو ليس من عند الله، هم يقولوا ليس من عند الله وأنك كذَبته وافتريته، طيب ليكن الفرض الأخر؛ خليه الفرض الأخر، افرضوا الفرض الأخر وهو أن يكون هذا من عند الله، ثم كفرتم به؛ إذن ماذا يكون شأنكم؟ كيف يكون حالكم؟ يعني على فرض جدلي أرأيتم؛ أخبروني، قُل أرأيتم يعني أخبروني، {إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ده الفرض الثاني، {وَكَفَرْتُمْ بِهِ}، وحصل منكم كفر بهذا؛ يعني أنكم جحدتموه ورددتموه والحال أنه من الله -تبارك وتعالى-، إذن فماذا تنتظرون؟ فما الذي تنتظرونه بعد ذلك؟ لا شك أن الذي تنتظرونه العقوبة الشديدة من الله -تبارك وتعالى-، يعني قدِّروا هذا؛ قدِّروا أن يكون الفرض الأخر، الذي تُحيلونه وتقولون مستحيل أن يكون هذا من عند الله -تبارك وتعالى-، قدِّروه ثم قدِّروا موقفكم بعد ذلك، لكن هؤلاء قد بلغ بهم الكره لهذا الدين والبُغض له بحيث أنه لو كان هو الحق لا يتَّبِعونه، وصل بهم الحال إلى هذا الحال؛ أن هذا لو كان هو الحق بالفعل، ومحمد هو رسول الله، وأن هذا هو دين الله -تبارك وتعالى-، فإنهم لا يتَّبِعونه وإن كان ورائه ما ورائه من النار، كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، فهم غير مستعدين ليؤمنوا به حتى لو كان هو الحق؛ ولو كان ورائه ما ورائه من العذاب، وهذا بلوغ الكفر عندهم كل مبلغ.
الله -تبارك وتعالى- في خطابه -سبحانه وتعالى- هذا خطاب رحمة، يُخاطِبهم به لعلهم يرجعوا إلى عقولهم ونفوسهم، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}، ثم يُعطيهم دليل قال لهم {........ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأحقاف:10]، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ}، شاهد من بني إسرائيل شهِد بأن هذا محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصِدقًا، ما بين النبي وبين هذا الشاهد نسَب ولا صِله، هذا من بني إسرائيل وهذا النبي من العرب -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا عنده عِلم من عِلم الكتاب وجاء شَهِد وقال "والله يا رسول الله إني لأعرفك أكثر من ابني"، وقد قال -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ........}[البقرة:146]، وهذا في عبد الله ابن سلام -رضي الله تعالى عنه-، فإنه بمجرد ما نزل النبي -صل الله عليه وسلم- قُباء؛ بعد أن هاجر من مكة إلى المدينة ونزل قباء، على طول أتى النبي -صل الله عليه وسلم-، انتشر الخبر في المدينة وعند اليهود؛ اليهود يسكنون المدينة، كانوا ثلاث قبائل كبرى، وهم الذين سكنوها قبل العرب؛ قبل الأوس والخزرج، فأتى عبد الله ابن سلام إلى النبي -صل الله عليه وسلم- وكان عالم اليهود وكبيرها في المدينة، فقال للنبي -صل الله عليه وسلم- قال له "إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي"، ثم سأله هذه الأسئلة الثلاث، أجابه النبي -صلوات الله والسلام عليه- وقال له "قد أخبرني بهِّن جبريل آنفًا"، قال له جبريل نزل وأخبرني بأنك ستسأل هذه الثلاث وهذه جوابها، لمَّا أجابه النبي -صل الله عليه وسلم- فقال "يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله"، ثم قال له "يا رسول الله إن اليهود قوم بُهت وإنهم إن علموا بإسلامي بهتوني عندك، فخبئني عندك وإذا جائوا فاسألهم عني"، فجاء اليهود بعد عبد الله ابن سلام وعبد الله ابن سلام مختفي خلف النبي -صل الله عليه وسلم-، فجائوا وكلَّمهم النبي ساعة؛ اللي هم اليهود، ثم بعد ساعة ما آمنوا قال لهم "ما عبد الله ابن سلام فيكم؟ قالوا خيرنا؛ وابن خيرنا، وعالمنا، وابن عالمنا، وسيدنا، وحبرُنا"، قالوا هذا يعني سيدنا؛ وحبرُنا، وعالمنا، وابن عالمنا كذلك، فقال لهم النبي "ما رأيكم لو أسلم؛ أتُسلِموا؟ فقالوا أعاذه الله من ذلك"، فخرج عبد الله ابن سلام من خلف النبي يقول "أشهد أن لا إله إلا الله؛ وأن محمدًا رسول الله، فقالوا هو شرنا؛ وابن شرنا، ووقعوا فيه"، الشاهد أن عبد الله ابن سلام -رضي الله تعالى عنه- كان يقول للنبي "والله يا رسول الله إني لأعلمك أكثر من ابني"؛ فهذا شاهد، الله يقول {........ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأحقاف:10].
لأن الوقت قد حان -إن شاء الله- نعود إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.