الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (629) - سورة الأحقاف 26-33

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأحقاف:21] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأحقاف:22] {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}[الأحقاف:23] {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24] {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأحقاف:26]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه أرسل هودًا -عليه السلام-، وهود هو أخوا عاد؛ من قبيلة عاد، وعاد كانت تسكن في جنوب الجزيرة؛ في الأحقاف، الأحقاف هي الرمل المتجمع، ومكانها في ما يُسمى الآن بالربع الخالي في جنوب الجزيرة، قال -جل وعلا- {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ}، اذكره في الكتاب واذكره لهؤلاء الأقوام المُكذِّبين، {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل نُذرَه قبل عاد وكذلك بعد عاد -سبحانه وتعالى- يخوِّف الله -تبارك وتعالى- من عقوبته، كما أنزل الله -تبارك وتعالى- بطشه بقوم نوح قبل ذلك، وهذه دعوة هذا الرسول {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهي دعوة كل رسول إلى قومه.

{قَالُوا}، أي قومه، {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، يعني مستنكرين دعوة هود -عليه السلام-؛ دعوة هود إليهم إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، وجدوا أن هذه دعوة ينقلبون فيها على رؤوسهم؛ ويتركون آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، يعني بكذبك وبتضليلك لنا فتصرفنا عن عبادة آلهتنا، {........ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأحقاف:22]، أي العذاب، {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ}، يعني متى يأتيكم العذاب على كفركم؟ هذا عند الله -تبارك وتعالى-، {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}، هذه مهمتي التي كلفني الله -تبارك وتعالى- أن أُبلِّغكم هذه الرسالة، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}، قوم ذوي جهل؛ أهل جهالة في أن تستهينوا بأمر الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، وتتمسَّكوا بما أنتم عليه من الباطل في عبادة غيره؛ وتتركوا عبادة الرب الإله، الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَأَوْهُ}، أي العذاب، عارضًا؛ أي مُعترض في الأفق آتيهم، أوديتهم؛ قيعان أرضهم التي ينتظرون فيها أن يأتي المطر، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، يعني هذا العارض الذي جاء؛ السواد هذا الذي جاء في الأفق، ظنوه أنه سحاب قادم إليهم ليمطرهم، والحال أنه هو العذاب الذي قد استهانوا به، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، قال -جل وعلا- {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، هذا الذي استعجلتم به؛ العذاب، ريح شديدة فيها عذاب أليم، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، مما عندهم؛ زروعاتهم، وأنعامهم، وأنفسهم، دمَّرتهم فأهلكتهم، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، قال -جل وعلا- {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، يعني في نهاية أمرهم وكانت هذه المدة التي سفت عليهم هذه الريح أنها سبع ليالي وثمانية أيام حسومًا، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}، كهذا الجزاء الشديد في الهلاك، نجزي القوم المجرمين يعني أن هذا هو جزاء الله -تبارك وتعالى- للقوم المجرمين؛ فاعلي الإجرام، وإجرام هؤلاء هو كِبرهم؛ وعنادهم، وتعاليهم على أمر الله -تبارك وتعالى-، واستهانتهم بالعذاب، وقولهم لرسولهم {........ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأحقاف:22].

ذكَّر الله -تبارك وتعالى- المُكذِّبين من أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ قريش التي عتت في أول الأمر عن أمر الله -تبارك وتعالى- وعاندته، هذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- للأسلاف الذين سلفوا على الكفر انظروا كيف فعل الله -تبارك وتعالى- بهم، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}، يعني ولقد مكَّنَّا عاد فيما إن مكَّنَّاكم فيه؛ إن النافية هنا، يعني في ما لم نُمكِّينكم فيه أنتم يا أهل مكة ويا أيها العرب مثل هؤلاء، فإن عاد كانت مُمكَّنة يعني مكَّنها الله -تبارك وتعالى- بقوة عظيمة جدًا؛ منها البناء الخلْقي القوي، والزروعات، والثمار، والقدرة في البناء، فقد كانوا يبنون الأبنية العظيمة كما قال لهم رسولهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128]، آية في البناء، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130]، يعني إذا حاربوا قومًا بطشوا بهم بطش الجبارين؛ فأذلوهم إذلالًا، ولذلك قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، عتوا في الأمر وقالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، افتخارًا بقوتهم وأنهم لا يوجد في الأرض أمامهم مَن هو في مثل تمكُّنهم وقوتهم، وهذا لم يكن عند قريش وعند العرب الذين جائهم النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فقال -جل وعلا- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ}، أي عاد، {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ}، يعني فيما لم نُمكِّنكم في مثله؛ من القوة، والمتانة، والزروع، والأموال، والبناء، والمصانع، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً}، وكانوا ذوي سمع؛ وذوي أبصار، وذوي أفئدة، يعني أن عندهم بصيرة وقوة في أمور الدنيا، كما قال -تبارك وتعالى- {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}[العنكبوت:38]، وكانوا مستبصرين يعني أهل بصر وبصيرة لكن للأسف في هذه الدنيا، ولم تتعدَّى بصيرتهم ليعرفوا الحق ويروا ما بعد هذه الحياة الدنيا، كما قال -جل وعلا- {........ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:6] {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7]، فهؤلاء كانوا من أهل عِلم وبصر بالدنيا لكنهم أهل عمه وصمم بالآخرة.

قال -جل وعلا- {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً}، يعني سمع حقيقي وأبصار حقيقية وأفئدة حقيقية في هذه الدنيا، قال -جل وعلا- {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، يعني لم تنفعهم أدوات المعرفة هذه وما أعطاهم الله من السمع؛ والبصر، والأفئدة، ما نفعتهم لأنهم كانوا جاحدين، جاحدين؛ مُكذِّبين، عرفوا آيات الله -تبارك وتعالى- وردوها وجحدوها، فلمَّا جحدوها أبطل الله -تبارك وتعالى- نفع هذه الآلات وهذه القوى التي أعطاهم، أصبح لا نفع لها لأن الله طمس على بصائرهم، قال {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ}، يعني أي شيء، ولا شيء في أن يستفيدوا بهذا، فتنفتح عيونهم وتنفتح أسماعهم على الحق فيخرجوا مما هم فيه، {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، لمَّا كانوا يجحدون بآيات الله، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}، حاق بهم؛ أحاط بهم وأهلكهم، استهزائهم بالرسالة التي أُرسِل بها رسولهم هذا الذي جعل العذاب يحيق بهم؛ يعني يُحيط بهم من كل جانب، ويستأصلهم، ويُهلكهم، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}، هذا العذاب الذي استهزأوا بها هو الذي أتاهم وأهلكهم.

ثم قال الله -عز وجل- كذلك تتمة للإنذار؛ لقريش ومَن حولها، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأحقاف:27]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا}، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد أهلك قرىً كثيرة مما حول مكة التي أُرسِل فيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإهلاك عاد وهذه ماثلة، إهلاك ثمود وهي في شمال الحِجر؛ حِجر ثمود، إهلاك قرى لوط وهي أمامهم، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الأحقاف:27]، صرَّفناها؛ نوَّعناها، فإهلاك عاد كان بآية من آيات الله -تبارك وتعالى- وهي الريح العقيم، وإهلاك ثمود كان بصيحة ملَك؛ صاح فيهم وصرخ فيهم صرخة فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون، وإهلاك قرى لوط كان بصورة أخرى من صور العذاب؛ وهي أن الله أفكها على رؤوس أصحابها، وأمطر عليهم هذا المطر الخبيث الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- بهم، تصريف الآيات؛ تصريف آيات العذاب، فإن كل أمة نزل بها عذاب غير العذاب الأول، كذلك تصريف الآيات يعني الآيات المُنزَلة، فإن الله -تبارك وتعالى- نوَّع هذه الآيات بالوَعْد؛ والوعيد، والبيان، فهذا من تنويع الخطاب، نوَّع الله -تبارك وتعالى- خطابه لهؤلاء القوم؛ مرة بالبيان لهم، مرة بتحذيرهم، مرة بخطاب رحمة، مرة بمناداتهم وبيان ألوان ما ينتظرهم من العذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة لو كفروا بالله -تبارك وتعالى-، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، فالتصريف هنا بمعنى تنويع الخطاب لهم، {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، لعلهم يرجعون إلى الله -تبارك وتعالى-، ومن هذا انظر تنويع الخطاب هنا في ما يُخاطِبهم الله -تبارك وتعالى- من الوعظ ومن تذكيرهم بمصارع الغابرين؛ وكيف صنع بهؤلاء، وكيف صنع بهؤلاء.

قال -جل وعلا- {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأحقاف:28]، فلولا؛ فهلَّا نصرهم الأمم هذه التي أهلكها الله -تبارك وتعالى-، عاد التي استئصلها الله مع قوتها وجبروتها، وقولهم لا أشد منا في الأرض قوة، وقولهم لرسولهم {........ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأحقاف:22]، ودفاعهم عن آلهتهم وقولهم {........ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الأحقاف:22]، فالله يقول هل نفعتهم هذه الآلهة؟ هل نصرهم هذه الآلهة التي اعتزوا بها وتمسكوا بها؛ والتي من أجلها ردوا الحق؟ {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ........}[الأحقاف:28]، قُربانًا؛ يتقربون إليهم، وكذلك هذه الآلهة ظنوا أنها قربان لهم عند الله؛ تُقرِّبهم عند الله، كما كان شأن كفار قريش فإنهم كانوا يظنون أن عبادتهم للملائكة تُقرِّبهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وكذلك شأن أولئك السابقين فإنهم اتخذوا ما اتخذوه من آلهتهم ظنًا أنها تُقرِّبهم من الله -تبارك وتعالى-، يعني هؤلاء هلَّا نصورهم في الوقت الذي جائهم فيه عذاب الرب -تبارك وتعالى-؛ والحال أنهم لم ينصروهم، {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ........}[الأحقاف:28]، قال -جل وعلا- {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ}، ضلوا؛ ضاعوا وكأن ليس لهم وجود، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ}، لم يجدوا هذه الآلهة عند حاجتهم إليها وتمسُّكهم بها، ما وجدوا لهم أثر كما يضل البعير من صاحبه فلا ينتفع به ولا يعرف أين ذهب، {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[الأحقاف:28]، وهذا إفكهم؛ هذا كذبهم، الإفك هو الكلام المقلوب، هذا كذبهم الذي افتروه بأن هذه آلهة؛ وأنها نافعة لهم، وأنهم قد شدوا ظهورهم بها، وأنها هي التي تدفع عنهم الضر وتأتي لهم بالنفع، كل هذا ضاع منهم، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}، والذي كانوا يفترون هذا افترائهم يعني الكذب هذه نهايته؛ أنه لمَّا جائهم عذاب الله -تبارك وتعالى- وعقوبته لم يُفدهم من هذه الآلهة مفيد، بل ضاعت هذه الآلهة وانتهى كذبهم.

ثم بعد ذلك قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله مُبينًا نفحة من نفحات رحمته للنبي -صل الله عليه وسلم-، وأن دينه واصل إلى كل مكان؛ إلى الإنس والجِن، قال -جل وعلا- {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}[الأحقاف:29] {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأحقاف:30]، وإذ صرفنا؛ اذكر إذ صرفنا، صرفنا؛ حوَّلنا ووجهنا، إليك؛ إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، نفرًا من الجِن؛ جماعة من الجِن، {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ}، والنبي يقرأ، قالوا؛ أي بعضهم لبعض، {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}، ولَّوا؛ توجهوا إلى قومهم، يُنذِرونهم بما سمعوا من هذا القرآن؛ بنِذارة هذا القرآن بعد أن آمنوا به، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأحقاف:30] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأحقاف:31] {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:32]، انظر رحمة الله -تبارك وتعالى- بعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ المُرسَل إلى الإنس والجِن، النبي التقى بالجِن بعِدة لقاءات؛ منها هذا اللقاء الأول، وهو في أثناء عودة النبي -صل الله عليه وسلم- من الطائف، وكانت الجِن وجدت أن السماء قد حُرِسَت بالشُهُب، واجتمعوا وقالوا لم تُضرَب السماء بالشُهُب على هذا النحو الذي لم يكن قبلة بعثة النبي -صل الله عليه وسلم- إلا لأمر حَدَث، فأضربوا في الأرض؛ فابحثوا، شوفوا ما سبب ذلك، فتفرَّقوا في الأرض وجاء نفرٌ منهم وافوا النبي -صل الله عليه وسلم- عند عودته من الطائف؛ بعد أن ذهب ودعى أهلها إلى النُصرة، فلم يُجيبوه وردوا عليه ردًا سيئًا، يقول النبي "فخرجت من عندهم وأنا مهموم، فلم أستفق إلى وأنا في قرن الثعالب"، لمَّا وصل النبي إلى وادي نخلة قام في الليل يُصلي -صلوات الله والسلام عليه-، فجاء هؤلاء النفر الذين كانوا يبحثون، فوجدوا النبي -صل الله عليه وسلم- قائمًا يُصلي، فسمعوا القرآن وقالوا هذا الذي من أجله حُرِسَت السماء بالشُهُب، ويأتي في قول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ}، يستمعوا ما تُحدِّث به الملائكة من أمر الله -تبارك وتعالى- وقضائه، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:10]، جائوا هؤلاء الذين أتوا إلى النبي -صل الله عليه وسلم- وهو قائم يُصلي؛ فاستمعوا القرآن، وكان من شأنهم هذا أنهم آمنوا ورجعوا إلى قومهم مُنذِرين.

وكأن مجيء هذه الآيات هنا في هذا السياق الذي يُبين الله -تبارك وتعالى- فيه عناد قريش؛ وعناد العرب في قبول دعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وضرب الأمثلة بما كان عليه قوم هود، هنا بيان فسحة؛ أن هذا الدين سيبلغ مداه، وأنه سيؤمن به حتى الجِن، هؤلاء الجِن آمنوا بهذه الرسالة المُنزَلة، وكأن هذا ضرب مثَل كذلك للإنس أن انظروا هؤلاء عندهم قوة أكبر منكم؛ وعندهم علوم، ولكنهم انظروا لمَّا سمعوا القرآن ماذا كان شأنهم، قال -جل وعلا- {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ........}[الأحقاف:29]، يعني سكَّت بعضهم بعضًا، وقالوا لبعضهم بعضًا أنصتوا؛ أي لسماع القرآن، فلمَّا قُضي؛ أي انتهى النبي من قرائته، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}، يعني انطلقوا إلى قومهم؛ أي الجِن، مُنذِرين لهم مما هم عليه من الضلال؛ والبُعد عن الدين، فيُنذِرونهم بهذه النِذارة؛ بهذا القرآن المُنزَل من الله -تبارك وتعالى-، قالوا؛ أي هؤلاء الجِن الذين حضروا القرآن واستمعوا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {يَا قَوْمَنَا}، مُنادين قومهم، {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}، إنا سمعنا كتابًا أُنزِل؛ ونزوله من السماء، من بعد موسى؛ والذي نزل على موسى هو التوراة، وذكروا موسى ولم يذكروا عيسى لأن رسالة عيسى إنما هي امتداد لرسالة موسى -عليه السلام-؛ فإنما هو جاء بالتوراة، يعني جاء عيسى كذلك حاكمًا بالتوراة المُنزَلة على موسى -عليه السلام-، {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، يعني هذا الكتاب المُنزَل على محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ القرآن، هو يصدِّق ما بين يديه؛ ما قبله من الكتب، نفس الأخبار، نفس الدعوة التي تدعوا إليها هذه الكتب من توحيد الله -تبارك وتعالى-؛ وعبادته وحده ولا شريك له، فيُصدِّق ما جاء يعني الأخبار التي جائت هناك هي التي جائت هنا؛ من ذِكر آدم، وذِكر الملائكة، وبيان صفات الرب -تبارك وتعالى-؛ وتوحيده، وعبادته، والدعوة إليه، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}، يهدي؛ يُرشد هذا الكتاب إلى الحق، الحق؛ الثابت، ضد الباطل، والحق الثابت من الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ وملائكته، وكتبه، ورُسُله، واليوم الآخر، كل هذا حق؛ الجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والبعث حق، كل هذا حق ثابت، {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ}، يُرشد إليه، {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}، شِرعة مستقيمة، طريق مستقيم؛ شِرعة مستقيمة في الحياة، وهي القيام بأن يسير الإنسان قائمًا في هذا الطريق؛ طريق الرب -تبارك وتعالى-، بأداء ما فرضه الله -تبارك وتعالى- عليه؛ بأداء عبادته، التخلُّق بها الخُلُق المستقيم؛ الذي لا عوج فيه، بر الوالدين، صدق الحديث، الوفاء، الأمانة، هذا هو الصراط المستقيم، ويرشد كذلك {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}.

{يَا قَوْمَنَا}، وترديد هذا يا قومنا بعد يا قومنا للتحبيب وللتذكير، {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}، يعني آمنوا بالله -تبارك وتعالى-، وهذا داعي أتاكم من الله يدعوكم إلى الله -تبارك وتعالى- فاستجيبوا له، {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ}، صدِّقوا به واعملوا بمُقتضى هذا التصديق؛ هذا معنى الإيمان، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، يعني إذا فعلتم هذا فإن الله -تبارك وتعالى- يغفر لكم ذنبوكم السابقة، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، فيحُطَّها ويُذهِبها عنكم، {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، الإجارة؛ الحماية، أنه يقبلكم ويحميكم وينقذكم من عذاب أليم؛ عذاب الآخرة، دعوة عظيمة من هؤلاء الجِن إلى قومهم بعد أن سمعوا القرآن، لمرة واحدة يسمعونه من النبي -صلوات الله والسلام عليه- فيفهموا الرسالة التي جاء بها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ويذهبوا مُنذِرين إلى قوم بهذا؛ يؤمنوا ويذهبوا مُنذِرين إلى قومهم بهذا، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي التقى فيها النبي -صل الله عليه وسلم- بالجِن، بل هناك ليلة أخرى اللي هي ليلة الحُجون؛ وكان مع النبي فيها عبد الله ابن مسعود، فإن النبي قال لأصحابه في مكة «إني ذاهب إلى الجِن أدعوهم الليلة، فمَن يكون معي الليلة؟»، لم يقم معه أحد إلا عبد الله ابن مسعود، يقول "أخذني إلى طريق الحُجون، ثم خطَّ لي خطًا وقال لي لا تتعداه"، اجلس هنا ولا تتعدى هذا الخط، يقول "ثم انطلق النبي داخلًا، ثم وجدت أسوِدة وأصوات ولغط حول النبي –صل الله عليه وسلم-، وأسوِة كثيرة وخشيت على النبي -صل الله عليه وسلم-، فأردت أن أخطوا ولكني ذكرت أنه قال لي لا تتعدى هذا الخط، فجلست حتى قارب الصبح يطلع، فأتي النبي -صل الله عليه وسلم-، بعد هذا وجدتهم يتقطعون كما يتقطع السحاب"، السحاب إذا كان يملأ السماء ثم تأتي ريح فتُقطِّعه في كل إتجاهاته وتأخذه، يقول "تقطَّعوا كما تتقطع السحاب مولين، ثم جاء النبي -صل الله عليه وسلم- فأخبره بما قرأ النبي -صل الله عليه وسلم- عليهم؛ وبما طلبوا من النبي -صلوات الله والسلام عليه-"، من هذه الليالي كذلك في المدينة؛ ليلة كان مع النبي -صل الله عليه وسلم- أبا ذر، فكان النبي في ليلة مع أبي ذر ودخل النبي -صل الله عليه وسلم- وخاطب الجِن، حتى إنه بعد هذا أراه النبي -صل الله عليه وسلم- آثارهم، ومن هذا قال مَن قال من أهل العِلم أن نبينا -صل الله عليه وسلم- مُرسَل إلى الإنس والجِن، أنه رسول الله -تبارك وتعالى- إلى جميع الإنس في وقته وكذلك إلى الجِن، وأن الله -تبارك وتعالى- صرف إليه الجِن يستمعون، وأن النبي التقى بهم كذلك وذكَّرهم ودعاهم إلى الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأحقاف:33]، جاء في خِتام هذه السورة خطاب لهؤلاء المعاندين المُكذِّبين بعد أن ضرب الله -تبارك وتعالى- لهم الأمثلة على هذا النحو، ذكَّرهم بما كان عليه قوم عاد وعنادهم وإهلاكهم، وأن كل ما حولهم من القرى قد أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بذنوبهم، وأن هؤلاء الجِن الذين هم أوفر منهم حظًا وعلومًا انظروا لمَّا سمعوا القرآن ماذا كان من شأنهم، وأنهم ولَّوا إلى قومهم مُنذِرين، وأنهم آمنوا بالله -تبارك وتعالى-، ثم كانت عِلَّة العلل عند العرب هو التكذيب بيوم القيامة؛ وأن هذا الأمر لا يمكن أن يكون، وأنهم يُحيلونه على الله -تبارك وتعالى- مع إيمانهم أن الله هو خالق الكون؛ يعني هو خالق السماوات والأرض، خالقهم، المتولي شئونهم، المُدبِّر لهذا الكون، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ........}[لقمان:25]، فهذا أمر من أعجب العجب أن يؤمنوا بالله -تبارك وتعالى- خالق الكون ومُدبِّر شئونهم، ثم يُحيلون عليه أن يُعيد خلْقَهم مرة ثانية ويرون أن هذا أمر مستحيل؛ وأنه لا يكون، فقال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأحقاف:33]، أولم يروا يعني يعلموا؛ هذي رؤية علمية، أن الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق السماوات والأرض، وهم يُقِرون بهذا؛ يُقِرون بأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلَقَ السماوات والأرض، {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ}، يعيى؛ يعجَز، العي هو العجز والحيرة وعدم الاهتناء، فلم يعيى الله -تبارك وتعالى- أن يخلق هذه السماوات والأرض التي هي أكبر من خلْقِهم، فإن رفع هذه السماوات ووضع هذه الأجرام في مكانها أكبر من خلْق الناس؛ أكبر من أن يُعيد الله -تبارك وتعالى- هذه الأجساد مرة ثانية، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ........}[غافر:57]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ........}[الأحقاف:33]، لم يُتعِبه هذا؛ ولم يُحيِّره، ولم يضل به، ولم يعجز عنه -سبحانه وتعالى-، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}، فإن إحياء الموتى أقل في الخلْق من هذا، قال -جل وعلا- {بَلَى}، وبلى؛ نفي النفي، ونفي النفي إثبات، يعني بلى إنه -سبحانه وتعالى- قادر على أن يُحيي الموتى، والحال أنه هو القادر على كل شيء وهو خالق هذه السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، ليس فقط على إحياء الموتى بل على كل شيء؛ لا يُعجِزه شيء -سبحانه وتعالى-، ولا يقف أمامه شيء، هو قادر قدير؛ فعيل، صيغة مُبالغة من القدرة، يعني أنه -سبحانه وتعالى- قادر القدرة كلها على أن يفعل ما يشاء -سبحانه وتعالى-؛ وعلى أن يفعل ما يُريد، {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}، مما يُريده -سبحانه وتعالى- قدير.

نقف هنا ونُكمِل السورة -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.