الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[محمد:2] {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}[محمد:3] {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:4] {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6]، هذه الآيات هي الآيات الأولى من سورة محمد أو سورة القتال، وهذه السورة مدينة؛ من القرآن المدني الذي نزل على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- بعد هجرته، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه البداية العظيمة قال {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1]، حُكْم وخبر من الله -تبارك وتعالى-، {الَّذِينَ كَفَرُوا}، والكفر هو الستر والتغطية، أنهم جائتهم أدلة الإيمان ولكنهم جحدوها؛ وكفروها، وستروها، وأظهروا بأنهم غير مُصدِّقين بما جائهم من الله -تبارك وتعالى-، {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، الصد؛ المنع، يعني منعوا غيرهم عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، وسبيل الله -تبارك وتعالى- هو طريقه؛ صراطه المستقيم، فهم كفروا بأنفسهم وصدوا غيرهم؛ منعوا غيرهم أن يؤمن بالله -تبارك وتعالى-، وصدهم عن سبيل الله إما بواقعهم؛ بكفرهم، فإنهم مُثُل لغيرهم؛ لأبنائهم ولغيرهم، وإما بأفعال الصد كتعذيب المؤمنين؛ وإلقاء الشُبهات عليهم، وإظهار تكذيب الرسول، والتحريض والتخويف على ترك الدين، فالأساليب التي سار فيها الكفار لمنع الغير عن سبيل الله أمور كثيرة ومتعددة، بدءًا بقوم نوح الذين قالوا {........ لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23]، وأضلوا ونشَّأوا أبنائهم على الكفر، كان كل أب يُحذِّر ابنه عندما يشِب من نوح -عليه السلام-، إلى الذين جابهوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- عندما دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فقالوا ساحر، وكاهن، ومجنون، وقال له عمه تبًا لك سائر اليوم، فأنواع الصد عن سبيل الله؛ اتخذ الكفار أساليب شتى في صدهم عن سبيل الله.
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[محمد:1]، قال -جل وعلا- {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، جعلها أعمال ضالة، أعمالهم؛ كل أعمالهم، أعمالهم التي عملوها للدنيا، أعمالهم من الصد عن سبيل الله، لأنهم لن ينالوا مطلوبهم بإطفاء نور الله -تبارك وتعالى-، بل كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36]، فمرادهم من صرف الناس عن دين الله -تبارك وتعالى- وإطفاء نور الله لن يكون، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8]، فلابد أن يظهر هذا النور؛ أن يطرق الأسماع، أن تقوم حُجة الله -تبارك وتعالى- لعباده، وقد قضى الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة أن تنتصر على كل الأمم، كما قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، فلابد أن يكون مهما حالوا أن يصرفوا الناس عن دين الله -تبارك وتعالى- فإن عملهم إلى ضلال؛ هذا في الصد، وأما أعمالهم الدنيوية فإنهم يكدحون؛ ويعملون، ويشتغلون ليهنأوا وليسعدوا، ولكن لابد أن تكون شقوة عليهم لأن الله -تبارك وتعالى- قد حكَمَ بأن كل كافر لابد أن يعيش معيشة طنكًا، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]، فسعيه كذلك في الدنيا إلى ضلال، وكذلك سعيه وعمله للآخرة إلى ضلال إن كان ممَن يؤمن بالآخرة، ولكن كافر بالله -تبارك وتعالى- وصاد عن سبيل الله كما صنع اليهود؛ وكما صنع النصارى، فإنهم وإن كانوا يؤمنون بالبعث وبالنشور إلا أنهم بصدهم عن سبيل الله وبكفرهم فإن أعمالهم التي عملوها للأخرة وظنوها نافعة عند الله -تبارك وتعالى-؛ فهي ضالة كذلك لأن الله لا يُثيبهم شيئًا عليها، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23]، لا ينفعهم عملهم الذي عملوا للآخرة، فكل أعمال الكفار سواء كانت أعمال في الدنيا؛ أو أعمال للصد عن سبيل الله، أو عمل ظنوه نافعًا لهم في الآخرة، كله إلى ضلال، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1]، ومعنى أنها ضالة؛ هالكة، ذاهبة، لا ثمرة لها، ولا نتيجة لها، ولا يُحصِّلون غاية هذه الأعمال.
في مقابلهم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[محمد:2]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، الإيمان والعمل الصالح هؤلاء متلازمان، وإذا اجتمع الإيمان والعمل الصالح فالإيمان ينصرف إلى أعمال القلوب؛ صدَّقوا بما جائهم عن ربهم -سبحانه وتعالى-، آمنوا بآياته، آياته المنظورة بأنه خالق هذا الكون -سبحانه وتعالى-؛ وبارئه، ومُسيِّره، وكذلك آمنوا بآيات الله -تبارك وتعالى- المقروءة؛ ما نزل من الله -تبارك وتعالى-، وما حدَّث الله -تبارك وتعالى- به عن نفسه وعن غيبه، عن نفسه بأسمائه؛ وصفاته، وأفعاله -سبحانه وتعالى-، وعن غيبه؛ ملائكته، وكتبه، ورُسُله، واليوم الآخر، وقضائه وقدَره، فهذا الإيمان وكان في القلب بمُقتضى هذا التصديق مخافة الله -تبارك وتعالى-؛ وتعظيمه، وإجلاله، ورجائه، ومحبته، أعمال تقوم بالقلب؛ هذا الإيمان، وقد سُئِلَ النبي عن الإيمان فقال -صل الله عليه وسلم- «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسُله واليوم الآخر، وتؤمن بالقَدَر خيره وشره من الله –تعالى-»، وعملوا الصالحات اللي هي أعمال الإسلام، فكل عمل أمرنا الله -تبارك وتعالى- به لا يكون إلا صالحًا، من صلاحه في هذه الدنيا أول ما يُصلِح يُصلِح قلب صاحبه وفعل صاحبه؛ فكلها أعمال تزكية، فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وبر الوالدين، وصدق الحديث، والأمانة، وهكذا مرورًا بشُعَب الإيمان كلها أعمال صالحة؛ تُصلِح نفس صاحبها، وأيضًا هي صالحة لأنه مُثاب عليها عند الله –تبارك وتعالى-.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات قال -جل وعلا- {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}، التخصيص بعد التعميم، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}، وقد النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- بالإيمان والعمل الصالح، وعطف هذا الخصوص على هذا العموم لبيان خصوصه؛ وأن هذا تذكير لِمَن آمن بهذا القرآن وهذا الوحي المُنزَل على عبد الله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وهنا في هذه السورة ذُكِرَ النبي باسمه كما ذُكِرَ في موضع أخر {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، كلام عيسى -عليه السلام-، فالنبي هو محمد -صل الله عليه وسلم- وهو أحمد، هذان أسماه العالمان وله أسماء أخرى -صلوات الله والسلام عليه-؛ فهو محمد، وأحمد، والعاقب، والحاشر؛ يُحشر الناس على قدمه -صل الله عليه وسلم-، والماحي؛ الذي يمحوا الله -تبارك وتعالى- به الشرك، وهذا الإسم الذي سُميَه النبي -صلوات الله والسلام عليه- هو الإسم اللائق بالنبي -صل الله عليه وسلم- معنىً، فالنبي محمد؛ محمد بمعنى أنه يُحمَد المرة تلوا المرة، ولم يوجد مَن يُحمَد من البشر كنبينا -صلوات الله والسلام عليه-، فإنه محمود قبل أن يوجد؛ ومحمود في وجوده، ومحمود بعد وجوده -صلوات الله والسلام عليه-، ولا يوجد أحد قد حُمِدَت أقواله؛ وأفعاله، وسيرته، ومنهجه، كهذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فهو محمد حقيقة -صلوات الله والسلام عليه-، إسمه هو الذي ينطبق عليه -صل الله عليه وسلم-، وهذا من توفيق الله -تبارك وتعالى- أن يُسمى النبي بهذا الإسم منذ ولادته -صلوات الله والسلام عليه-؛ محمد وأحمد، أحمد؛ فعل مضارع من الحمْد، فهو الحمَّاد -صلوات الله عليه وسلم-، وبهذا سمَّاه الله -تبارك وتعالى- بهذا الإسم قبل أن يوجد، وسُميَت أمته كذلك بالحمَّادون لكثرة حمْدهم لله -تبارك وتعالى-، محمد رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}، النبي -صلوات الله عليه وسلم-؛ رسول الله.
ثم جائت جملة اعتراضية تُبيِّن هذه صفة المُنزَل فقال {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، يعني المُنزَل على النبي محمد -صل الله عليه وسلم- من القرآن والوحي هو الحق من ربهم، الحق؛ الثابت، والحق ضد الباطل، الباطل هالك؛ ذاهب، لا حقيقة له، لا لوجود له على الحقيقة، لا ثمرة فيه، لا خير فيه، والحق هو الثابت، وهذا الحق هو النازل من الله -تبارك وتعالى-، فالله حق، والجنة حق، والنار حق، ومحمد حق، والنبيون حق، كل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به حق وصدق، فهذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أن الذي أُنزِل على محمد هو الحق من ربهم، يعني آمنوا بالحق المُنزَل على محمد -صل الله عليه وسلم- وهذا هو الحق من ربهم، ربهم؛ خالقهم وبارئهم -سبحانه وتعالى-، إذن عملهم ثابت، عملهم وإيمانهم ثابت لأنهم آمنوا بالحق ولم يؤمنوا بالباطل وفعلوا الحق، قال -جل وعلا- {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، كفَّر؛ الله -سبحانه وتعالى- عنهم سيئاتهم، ومعنى كفَّرها بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- محاها؛ وسترها، وغطاها، فلا يفضحهم بها -سبحانه وتعالى- في المشهد ولا يُحاسِبهم عليها، وإنما يُزيلها ويُغطيها عنهم -سبحانه وتعالى-، سيئاتهم؛ معاصيهم، كل المعاصي وكل ما صدر منهم من الأمور التي تسوء كلها سترها الله -تبارك وتعالى-، انظر هذا فهذا تطهير؛ وإبعاد عن السوء، وبراءة لهم، فطهَّرهم الله -تبارك وتعالى- من معاصيهم ومن ذنوبهم؛ فلا يُحاسِبهم عليها -سبحانه وتعالى-.
ثم {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}، البال؛ الخاطر والنفس، جعل بالهم صالحًا، فمن صلاح بالهم اطمئنانهم أنهم على الحق في هذه الدنيا؛ ثباتهم على هذا، رضاهم عن الله -تبارك وتعالى-، رضاهم بالطريق، رضاهم بالإسلام هو خلاصة هذا، رضوا بالله ربًا؛ وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولًا، مهما قاسوا في هذا من مشقات في هذه الدنيا لكن بالهم صالح، بالهم صالح وهو اطمئنانهم أنهم أهل الحق؛ وأنهم على الحق، وأن طريقهم طريق النور، وأنه طريق واصل إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وأن غايته هي الفوز والسعادة، فهذا صلاح البال، بعكس الكفار الذين هم في قلق وشك من أمورهم وليسوا على يقين من شيء من هذا، وإنما لتكذيبهم بالحق؛ يعرفون أن هذا حق ويُكذِّبون به، فهم دائمًا قلقون؛ لا صلاح لبالهم، بل هم في شِقاق وفي تخرصاتهم النفسية، وآلامهم النفسية لا شك أنها تُلاحِقهم ليلًا ونهارًا لأنهم ليسوا على ثبات من الأمر، أما أهل الإيمان فإن الله -تبارك وتعالى- قد أصلح بالهم، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28]، قلوبهم مطمئنة إلى ربهم -سبحانه وتعالى- وبالهم صالح؛ وهذا منتهى السعادة، مهما كانت الشِقوة الظاهرية من الجِد؛ والاجتهاد، والعمل، وتحمُّل المشاق في سبيل الله، كل هذا أمر ظاهر لكن بالهم صالح؛ نفوسهم طيبة، مطمئنين إلى طريقهم إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم إن هذا إخبار الله -تبارك وتعالى- عن الكفار وعن المؤمنين، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[محمد:2].
ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- لِما كان شأن الكفار هكذا وشأن أهل الإيمان هكذا، قال {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}، هذا النشر بعد هذا الإجمال، ذكَرَ الكفار {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}، اتبعوا الباطل؛ ساروا فيه، والذي يتَّبِع الباطل ماذا سيجد في نهاية المطاف؟ لا شيء، باطل، لأنه مشى في الطريق هذا؛ طريق الباطل، والباطل هو الذاهب؛ المضمحل، الذي لا وجود له، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}، فإلى أين يوصلهم الباطل؟ إلى لا شيء، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}، وأما أهل الإيمان فإنهم اتبعوا الحق؛ والحق من ربهم، إذن لابد أن يجدوا ثمرة هذا ونتيجة هذا، فالذي ساروا فيه هو حق، وحق من مَن؟ من ربهم -سبحانه وتعالى-، إذن لابد أن يجدوا ثمرته، هذه الثمرة عند ربهم -سبحانه وتعالى- أنه كفَّر عنهم سيئاتهم؛ أصلح بالهم، أصلح بالهم في هذه الدنيا ولا شك أن بالهم سعيد كل السعادة في الآخرة؛ عندما يرون نتيجة عملهم وثمرة هذا عند الله -تبارك وتعالى-، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}، فلابد أن يجدوا في النهاية الغواية والضلال، وأنه لا مولى لهم ولا ثمرة لعملهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:3]، ثم قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}، كذلك؛ بهذا المثَل الواضح البيِّن، يضرب الله -سبحانه وتعالى- للناس أمثالهم، ضرب الله -تبارك وتعالى- هذا المثَل، وضرب المثَل بمعنى أنه قوله ووضعه ونصبه على هذا النحو؛ وتصوير المثَل، لأن المثَل إنما هو صورة حسية لأمر معنوي، فهذه الصورة الحسية إنسان يسير في طريق الباطل؛ طريق كاذب ضال، لابد أنه إذا سار إنسان في طريق الضلال لابد أنه لا يُحصِّل شيء؛ يضِل، واحد سار في الطريق الصحيح؛ في طريق الرب -تبارك وتعالى- الواضح البيِّن، وسائر إلى ربه، إذن لابد هذا يكون خلاص؛ الذي سار في الطريق الصحيح يجد النتيجة المعلومة من الحق الواضح البيِّن، كذلك بهذا المثَل الواضح البيِّن؛ أن هذا الكافر سائر في طريق ضلال، وأن هذا سائر طريق حق، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}، والناس ينقسمون إلى هذين القسمين لا ثالث لهما؛ مؤمن مُهتدي، كافر ضال.
ثم بعد ذلك رتَّب الله -تبارك وتعالى- على هذا وأوجب على المسلمين قتال هؤلاء الضالين؛ الفئة الخارجة عن طاعة الله، قال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين؛ المُهتدين، السائرين على طريقه، قال إذا لقيتم الذين كفروا؛ معنى ليقتموهم يعني في القتال، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، ضرب الرقاب بالقتل، وخُصَّت الرقاب من جملة البدن لأنها أسهل المواطن للقتل، فإن الضرب على أي مكان أخر ممكن ألا يؤثر في القتل، أما مَن ضُرِبَت عنقه فهذا قد تحتم قتله، يعني تحتم قتله؛ ففصل الرأس عن الجسد هذا للقتل، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، يعني اقتلوهم بقطع الأعناق، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ}، أثخنتموهم؛ الإثخان هو الإتعاب والإتلاف بكثرة القتل، يعني قتلتم منهم بحيث أنهم قد انهدت قواهم وضعف أمرهم، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، الوثاق؛ القيد، يعني الأسر هنا، يعني الأول يكون القتل حتى تضعف وتنكسر شوكة الجيش الكافر، ثم بعد ذلك اتجهوا إلى أخذ الأسرى، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ}، مَنًّا على هؤلاء الأسرى، والمَن هو العفو عنهم وتركهم، وإما فداء؛ مبادلة، يُفدى الأسير من الكفار إما بأسرى المسلمين؛ فيؤخذ أسرى المسلمين عندهم بأسرى الكفار، وإما بمال، وإما بخدمة، وقد فعل النبي -صل الله عليه وسلم- هذا وهذا، فقد فادى بعض أسرى الكفار بالمال كما فعل في بدر -صلوات الله والسلام عليه-، وفادى بعضهم بالتعليم؛ فإن بعضهم ممَن كان يعرف القراءة والكتابة كان فدائه أن يُعلِّم عشرة من أبناء الأنصار الخط، القراءة والكتابة ثم يُفدى، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، فالأسرى على كل حال هنا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أمرين للأسرى؛ المَن أو الفداء، قال {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
وقد فعل النبي -صل الله عليه وسلم- أربعة أمور بالنسبة للأسرى؛ المَن، والفداء، والقتل، والاسترقاق، هذه أربعة أمور فعلها النبي -صلوات الله والسلام عليه- بحسب حاجة المسلمين، فقد قتل بعض الأسرى، ومَنَّ على بعض كما مَنَّ على أسامة ابن آثار الحنفي؛ وكان قتل قتل بعض المسلمين، ثم لمَّا لحقه جيش المسلمين وأُسِر؛ ورُبِطَ في سارية المسجد، مر النبي -صل الله عليه وسلم- عليه في اليوم الأول وقال له؛ يعني وسأله النبي "ما تقول يا ثُمامة؟ فقال له يا محمد إن أردت المال فاطلب منهم ما شئت، وإن قتلت؛ قتلت ذا دم"، قال له إن تقتُل؛ تقتُل ذا دم، "وإن تمنُن؛ تمنُن على شاكر، وإن تُرد الفداء فاطلب من المال ما شئت"، فتركه النبي -صلوات الله عليه وسلم- ثم عاد له في اليوم الثاني، وقال له "ما تقول يا ثُمامة؟ فقال ما قلت لك بالأمس، إن تقتُل؛ تقتُل ذا دم"، يعني إنك إن قتلتني فإن تقتُل ذا دم لأنه قد قتل من المسلمين، فقتل بقتل؛ يعني يستحق القتل، "وإن تمنُن؛ تمنُن على شاكر"، يعني إن مننت علي فإني أشكر لك أنك تمُن علي، ومعنى مَنَّ عليه هو أن يتركه بدون عقوبة وبدون فدية، "وإن تطلب المال"؛ يعني فدية، "فاطلب من المال ما شئت"، رجل غني؛ ثري، سيد في قومه، قال له اطلب من المال ما شئت، يعني مائة ناقة؛ مائتين، ثلاثمائة، يدفع، في اليوم الثالث كذلك مر عليه النبي -صلوات الله والسلام عليه- فقال له نفس المقالة، ثم أن النبي -صل الله عليه وسلم- قال أطلقوا ثُمامة، في اليوم الثالث قال أطلقوا ثُمامة؛ فأطلقوه ليذهب، ذهب بعد ذلك فاغتسل وأتى المسجد وقال "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله"، أسلم ولم يُرد أن يُسلِم وهو في الأسر حتى لا يُقال له أنه أسلم خوفًا من القتل؛ أو خوفًا من الفدية، فالشاهد أن هذا المَن.
وأما القتل فإن النبي قتل بعض الأسرى -صلوات الله والسلام عليه- كما قتل النضر ابن الحارث؛ وعبد الله ابن الزبعرة، وقال في بعضهم "لو رأيتموه مُعلَّقًا بأستار الكعبة فاقتلوه"، وكذلك قد استشار النبي -صل الله عليه وسلم- أصحابه بعد بدر في الأسرى الذين بأيديهم، وكان مع المسلمين سبعين من الأسرى؛ من المشركين، وكلهم من كبار المشركين، فاستشار النبي -صل الله عليه وسلم- الناس فيهم، فقال عمر "يا رسول الله أعطي كل أحدٍ مِنَّا وليه"؛ قريبه منهم، "يقتله بيده، وقال إذا قتلناهم خضضنا شوكتهم؛ لا تقوم لهم قائمة بعد الآن"، وقال أبو بكر –رضي الله تعالى عنه- "يا رسول الله أبناء العم والعشيرة"، هؤلاء أبناء عمنا وعشيرتنا، "نأخذ منهم الفدية ولعل الله -تبارك وتعالى- أن يهديهم للإسلام"، وقد مال النبي -صل الله عليه وسلم- إلى ما أشار إليه أبو بكر الصديق وأخذ منهم الفدية، وأطلقهم -صلوات الله والسلام عليه- بعد أخذ الفدية، ونزل الخطاب الإلهي ليُعاتِب الله -تبارك وتعالى- المسلمين في هذا، ويبين أنه كان الواجب عليهم في هذه الوقعة الأولى أن يكون القتل هو المُقدَّم على الأسر وعلى أخذ الفدية، وقبل هذا في وقت المعركة كان النبي في العريش ويطلع على المعركة، وكان معه سعد ابن معاذ الأنصاري -رضي الله تعالى عنه-؛ سيد الأوس، ثم لمَّا بدأ المشركون في الهرب وتتبَّعهم المسلمون وبدأوا يأسرون منهم؛ رأي النبي في وجه سعد الكراهية، فقال له "كأني أرى في وجهك الكراهية، فقال له يا رسول الله هذه أول وقعة أوقعها الله -تبارك وتعالى- بالكفار، وإن القتل أحب إليَّ من أسر الرجال"، قال له القتل أحب إليَّ هنا من الأسر، وقد نزل القرآن يوافق سعد -رضي الله تعالى عنه- ويوافق قول عمر؛ في أن كان الواجب هو القتل، قال -جل وعلا- {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:67]، فقال الله -تبارك وتعالى- أنه ما كان ينبغي استبقاء الأسرى إلا بعد الإثخان في الأرض.
كما جاء هنا في هذه الآية التي يُعلِّم الله -تبارك وتعالى- بها المسلمين تعليمًا متواصلًا إلى آخر الزمان، قال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، فلا يكون أخذ أسرى إلا بعد كسر شوكتهم وفَلْ حدِّهم؛ عند ذلك يكون الأسرى، وذلك أن الأسير إذا أُخِذ في أول المعركة فإنه عِبء، الأسير في أول أمره عِبء على الجيش لأنه إذا أُسِر فإنه يحتاج إلى حراسة؛ وإلى طعام، وإلى عناية به ونحو ذلك، فقد يشغل إثنين أو ثلاثة من الرجال، وأما القتل في البداية فإنه يحُط قواهم وإن كان يُستفاد بالأسير بعد ذلك في أمور، فالأسر يُستفاد به لكن في أول الأمر يكون عِبء، ولذلك وجَّه الله -تبارك وتعالى- المسلمين إلى هذا، قال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أولاً {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، فالشاهد أن الله -تبارك وتعالى- أنزل قوله بعد بدر {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:67] {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68]، لولا كتاب من الله سبق بأن يُحِل لكم الغنائم وأخذ الفدية من الكفار، لمسَّكم فيما أخذتم؛ أي من الكفار فديه ومن الغنائم عذاب عظيم، {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69].
أدركنا الوقت ونعود إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.