الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (632) - سورة محمد 4-6

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[محمد:2] {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}[محمد:3] {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:4] {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6]، الآيات الأولى من سورة محمد، سورة ذكرنا أنها سورة مدنية وهي سورة القتال، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة ببيان هذه الحقيقة؛ مَن الكفار؟ مَن المؤمنين؟ قال {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ........}[محمد:1]، منعوا غيرهم عن سبيل الله، {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، جعل أعمالهم إلى ضلال، كل أعمالهم؛ أعمالهم سواءً الدنيوية، أو التي ظنوها أنها تنفعهم في الآخرة، أو أعمالهم في الصد عن سبيل الله لابد أن تأتي إلى ضلال، لابد أن يُتِم الله نوره -سبحانه وتعالى-.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:2]، هذا المُنزَل على النبي محمد هو قرآن الله ووحيه، {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}، هؤلاء كل عملهم إلى فلاح، فكفَّر الله -تبارك وتعالى- عنهم سيئاتهم؛ لا يُحاسِبهم الله -تبارك وتعالى- بهذه السيئات، وأصلح بالهم في الدنيا والآخرة، إصلاح البال هو هدوء النفس وطمأنينتها إلى الله -تبارك وتعالى-، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28]، مطمئنين إلى أن طريقهم حق؛ وأنهم ساعون في حق، وأنهم واصلون إلى ربهم -سبحانه وتعالى-، وأنهم بالغون رضوانه وجنته، فبالهم صالح وإن تحمَّلوا ما تحمَّلوا، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ}، فإنسان ماشي في طريق الباطل؛ ما الذي سيجده؟ سيجد لا شيء، ماشي بطريق السراب، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والذي يسير في طريق الحق وهو الحق من الله؛ من ربهم وخالقهم، لا شك أنه سيجد الخير والطمأنينة، قال الله {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}، هذا مثَل يضربه الله -تبارك وتعالى- للناس، مَن سار في طريق الباطل لم يجد إلا الباطل، ومَن سار في طريق الحق سيجد الحق.

ثم رتَّب الله على ذلك فحمَّل عباده المؤمنين مهمة قتل هؤلاء الأنجاس الأرجاس؛ الذي ساروا في طريق الباطل، قال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، اختص الرقاب لأن هذا هو مكان الفصل الرأس والجسد؛ وهذا مكان القتل، وكانت العرب تقول سأضرب ما فيه عيناك أو سأقطع رأسك؛ هذا للإجهاز، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ}، يعني أتعبتموهم بالجراح، الإثخان هو هدُّ الجسد بالجراح، أتعبتوهم وخضضتم شوكتهم بجزء كبير من القتل، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، اللي هو الأسر، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}، يعني بالأسر بعد ذلك إما أن تمنُّوا على الأُسارى وإما أن تفدوهم بمال؛ أو بأسرى، أو بغيره، {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، ذكرنا في الدرس الماضي في الحلقة الماضية أن النبي -صلوات الله عليه وسلم- اتخذ في الأسرى أربعة أمور؛ القتل وقد قتل بعض الأسرى، وقال عن بعضهم "لو رأيتموه متعلقًا بأستار الكعبة فاقتلوه"، وقتل بعضهم صبرًا كنضر ابن الحارس بعد بدر، وقتل عبد الله ابن الزبعرة وغيره من الذين كانوا يؤذون الله -تبارك وتعالى- ورسوله؛ من أسرى لا يصلح فيهم المَّن، ومَنَّ على أسرى؛ فقد مَنَّ على ثمامة ابن آثال -ذكرنا قصته-، مَنَّ على أهل مكة؛ فإن مكة فُتِحَت عُنوة، دخلها النبي عُنوة -صلوات الله والسلام عليه-، وللفتح عُنوة فإن المسلمين يُملَّكون؛ يُملَّكون الكفار بأرضهم، وديارهم، وأموالهم، ونسائهم، ولكن النبي مَنَّ عليهم جميعًا؛ فلم يأخذ منهم أسرى، ولم يأخذ منهم فدية، ومَنَّ عليهم بكل شيء؛ تركهم على أموالهم، وفي أراضيهم، ونسائهم، في هوازن النبي -صلوات الله والسلام عليه- أخذ الأسرى فسبى، وأخذ المال كذلك؛ فغنِم، ثم بعد ذلك مَنَّ النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا جائه الذين فروا من هوازن مؤمنين سمح لهم بنسائهم، كذلك في الاسترقاق استرقَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- في خيبر وفي بني المُستلَق، فالشاهد أن هناك أربع خيارات؛ الاسترقاق، القتل، والفداء؛ هذا كذلك فادى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والمَن، ففي الأسرى الذي يؤخذون من الرجال فيهم هذين قال -تبارك وتعالى- {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}، لكن القتل قد قتل النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولذلك هناك هذه الخيارات في ما خيَّر الله -تبارك وتعالى- به أهل الإسلام.

وقد كان النبي -صل الله عليه وسلم- يقول لِمَن يُرسِله من أمرائه "إذا أنت استنزلت أهل حِصن فأرادوك أن تُنزِلهم على حُكم الله ورسوله فلا تُنزِلهم على حُكم الله ورسوله، ولكن أنزلهم على حُكمك وحُكم أصحابك"، وكان الذين يُنزَلون من الحصون يكون للمسلمين فيهم هذه الخيارات، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ........}[محمد:4]، تضع الحرب أوزارها كناية عن انتهاء الحرب بينكم وبين عدوكم، وأوزار الحرب؛ أثقالها من عُدَّتِها، ومعنى أنها وضعتها يعني خلاص؛ انتهت الحرب، ومن أوزار الحرب بمعنى عُدَّتِها قول الأعشى الذي قال "أعددت للحرب أوزارها؛ رِماحًا طِوالًا، وخيلًا ذكورًا"، يقول أنا أعددت للحرب أوزارها؛ ما أوزارها؟ قال "رِماحًا طِوالًا، وخيلًا ذكورًا"، وذلك أن ذكور الخيل في الحرب أشد من الفرس، هذي أوزار الحرب، {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، بمعنى أنها تنتهي الحرب بينكم وبين عدوكم، أما الحرب نهايتها بين المسلمين وبين أعدائهم فهذي لا تنتهي إلا بنزول عيسى ابن مريم -عليه السلام- في آخر الزمان، هذا ما تضع الحرب أوزارها بين المسلمين وبين الكفار ولا ينتهي القتال إلا هناك، ولكن مع أقوام أقوام تُضَع الحرب، فإن مع قريش أول مَن حاربت النبي -صلوات الله والسلام عليه- حارب النبي قريش في بدر؛ وفي أُحُد، وفي الخندق، ثم لمَّا فتح النبي مكة -صلوات الله والسلام عليه- انتهت؛ وضعت الحرب أوزارها بين النبي وبين قريش، ثم كانت مع آخرين؛ مع هوازن، ثم لمَّا انتهت وقعة حُنين وانتهت بنصر الإسلام فقد انتهى الأمر، الطائف دخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- بعد الأسر، النبي تركهم بعد أن حاصرهم شهرًا ثم بعد ذلك جائوا تائبين مسلمين قوم قوم، ثم أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأن المسلمين سيُحارِبوا أمم، أخبر بأن فارس تُفتَح؛ الروم تُفتح، فأخبر بأن الحرب مع الفرس ستنتهي، نطحة أو نطحتين وتنتهي بعد ذلك وتضع الحرب أوزارها معهم.

أما بالنسبة للروم فإنه قد جاء في الحديث أن «الروم ذات القرون»، وأن الحرب لا تنتهي معهم إلى آخر الزمان، الروم؛ الشعوب الأوربية، وهذه بالفعل؛ فإن المسلمين حاربوا الروم حرب مستمرة منذ ما بدأت هذه الحرب مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكانت أول معركة هي معركة تبوك، كانت مؤتة بعد ذلك، ثم كان جيش أسامة بعد ذلك والذي قال له النبي -صل الله عليه وسلم- "أوطئ الخيل أرض البلقاء"، ثم بعد ذلك كان القتال في عهد الخلفاء الراشدين؛ في عهد أبو بكر الصدِّيق، في عهد عمر ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- كُسِرَت الكنيسة الشرقية، ثم أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأنه ستستمر الحرب حتى تُكسَر الكنيسة الغربية؛ ولا تُكسَر إلا في آخر الزمان، أخبر بأن القُسطنطينية تُفتَح، تُفتَح بعدها روما بعد ذلك، والحروب مع الشعوب الأوربية حرب مستمرة، فقد استمرت الحرب بعد ذلك في الحروب الصليبية وفي الحروب حول العالم الإسلامي، ثم مازالت الحرب معهم إلى آخر الزمان، كما أخبر النبي بأن الملاحم الكبرى التي تكون في بلاد الشام في آخر الزمان إنما تكون مع الروم، قال "يجمع الروم لكم وتجمعون لهم"، وأخبر النبي بمَقاتِل عظيمة تكون هناك، فلا تضع الحرب أوزارها إلا ...، قال أهل العِلم لا توضَع الحرب مع الروم بالذات إلا بنزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-، والذي قال عنه النبي -صل الله عليه وسلم- «والذي نفس محمد بيده لينزِلنَّ فيكم عيسى ابن مريم حَكَمًا عدلًا مُقسِطًا؛ فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويؤذن للصلاة»، ووضعه للجزية أنه لا يقبل إلا الإسلام كما فعل النبي بعد ذلك مع العرب، فإن الله -تبارك وتعالى- لم يرضَ من العرب إلا الإسلام أو القتل بعد الأربعة شهور الفسحة التي فُسِحوا فيها بعد السنة التاسعة، كما قال -تبارك وتعالى- {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[التوبة:1]، ثم قال {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}[التوبة:2] {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة:3].

ثم قال -جل وعلا- {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ}، اللي هم هذه الشهور المُهلة؛ هذه الأربعة، {ُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، فجعل الحَد الذي به يُنتهى عن الكفار -كفار العرب بالذات- أن ينتهوا عن الشرك؛ وأن يُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، قال فإن تابوا؛ أي عن الكفر والشرك الذي هم فيه، {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فجعل نهاية القتال معهم ووضع الحرب أوزارها مع العرب هو أن ينتهوا وأن يعودوا إلى الإسلام، وهكذا قد كان؛ فإنهم قد دخلوا بعد ذلك كلهم في دين الله أفواجًا، ووضِعَت الحرب في عهد النبي -صل الله عليه وسلم- بين أهل الإسلام من العرب وبين العرب كلهم لمَّا دخلوا في الإسلام؛ دخلوا في دين الله أفواجًا، وأسلموا لله ووضعت الحرب أوزارها معهم، ثم لمَّا ارتدوا بعد ذلك في عهد الصدِّيق حاربهم وكسر شوكتهم، وانتهت بهذا حركة الرِدَّة التي كانت عودة إلى الجاهلية مرة ثانية، هذا بالنسبة للخيار مع العرب، بالنسبة لأهل الكتاب فإن الله -تبارك وتعالى- جعل للمسلمين حد قال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29]، فجعل الحَد هو أن يقبلوا بالجزية وبأن ينضووا تحت مظلة الإسلام، قال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[التوبة:30] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]، فأمَر الله -تبارك وتعالى- قتالهم إلى أن يُعطوا الجزية، هذا الحَد ينتهي بنزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-؛ فإنه لا يقبل الجزية، كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- قال «والذي نفس محمد بيده لينزِلنَّ فيكم عيسى ابن مريم حَكَمًا عدلًا مُقسِطًا؛ فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويؤذن بالصلاة، ويضع الجزية»، ومعنى وضع الجزية أنه لا يقبلها؛ لم يعد يقبلها، بل يكون أهل الكتاب بين خيارين؛ الإسلام أو القتل، إما أن يُسلِم وإما أن يُقتَل، فإذا نزل عيسى ابن مريم وضِعَت الحرب؛ أصبح هنا تضع الحرب أوزارها بين المسلمين وبين اليهود، يقتل عيسى ابن مريم الدجال الذي يلتف حوله هؤلاء، ويدخل المسلمون وتضع الحرب أوزارها.

فهنا قول الله -تبارك وتعالى- {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، بالنسبة إلى قوم قوم إذا وضعت الحرب أوزارها خلاص؛ لا قتل، لا ضرب رقاب، ولا أخذ أسرى منهم، خلاص انتهت؛ وضعت الحرب أوزارها، لكن الحرب تستمر مع أقوام أخرين، في أقوام تنتهي الحرب معهم كما ذكرنا مع قبائل العرب قبيلة قبيلة؛ قريش، فهوازن، فغيرها، ثم العرب كلهم، ثم الأمم والشعوب التي غزاها المسلمون ووضعت الحرب بين بعضهم خلاص كما قال النبي "إذا هلك كِسرى فلا كِسرى بعده"، لكن الروم ذات القرون لابد في كل قرن يقوم حروب، وقد استمرت الحرب مع الروم كل هذه المُدد الطويلة، نحن الآن في القرن الخامس عشر من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- ولا تزال هذه الحرب إلى أن يأتي المسيح عيسى ابن مريم؛ وعند ذلك تضع الحرب أوزارها، {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ}، ذلك؛ المُشار إليه هنا ما أمَر الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين، أن يُقاتلوا في سبيل الله وأن يقتلوا؛ قد أباح لهم قتل الكفار على هذا النحو وأسرهم، قال {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ}، يعني لو شاء الله -تبارك وتعالى- أن ينتصر منهم بزلازل؛ ببراكين، بقتل من عنده، بصاعقة، بأن يُهلِكهم الله -تبارك وتعالى- كما أهلك الأمم السابقة بأنواع من المهالِك، فقد أهلك قوم نوح لمَّا كفروا بالغرق، ثمود بصاعقة، قوم فرعون بغرق؛ جمعهم الله -تبارك وتعالى- جميعهم في البحر وأغرقهم، عاد بالريح العقيم، ينتصر بهم بما شاء -سبحانه وتعالى-، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ}، دون أن يُكلِّف المؤمنين هذا القتال.

{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، ولكن أراد الله -تبارك وتعالى- أن يبلوا بعضكم ببعض؛ يعني يختبركم بهم ويختبرهم بكم، فاختبار المؤمنين هو أن يُكلَّف المؤمنين هذا القتال وفيه ما في من مشقات القتال، وينظر الله -تبارك وتعالى- هل يقومون بأمر الله -تبارك وتعالى- أم لا؟ أم يكعون ويتأخرون؟ وإذا كعوا وتأخروا عن أمر الله -تبارك وتعالى- يكون في هذا خسارة لهم، وإذا قاموا بهذا الأمر يكون هذا بلاء حسَن، فإنه لمَّا هبَّ المسلمون وساروا مع النبي في بدر الله -تبارك وتعالى- ابتلاهم بلاء حسَن ونصرهم؛ وهيأ لهم أسباب النصر من عنده -سبحانه وتعالى-، فقد كانوا أقل من الكفار عددًا وعُدَّة ولم يكونوا مستعدين للقتال كما خرج الكفار مستعدين للقتال، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- هيأ لهم أسباب النصر من عنده ليُعطيهم هذا الأجر العظيم، ويصبح كل من شَهِدَ بدر وين؛ هذا بدري، يقول النبي «ما يدريك يا عمر أن الله اطلع على أهل بدر؛ فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، عِلمًا أن الله هو الذي هيأ لهم كل الأسباب، قال {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}[الأنفال:5]، فالله هو الذي أخرج النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم قال {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}[الأنفال:11]، مطر من السماء لهذه المنافع؛ تطهير، غسل، تنشيط، تلبيد لهذه الأرض وتثبيت لأقدام المسلمين فيها، ثم على طول بمجرد ما يلتقي المسلمين بالكفار فالكفار يوَلوا الأدبار، فعند ذلك ينطلق المسلمون ورائهم قتلًا وأسرًا، ولذلك قال -تبارك وتعالى- {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا ........}[الأنفال:17]، ليُبلي الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بلاءً حسنًا من عنده -سبحانه وتعالى-، بلاء حسَن بأنه يجعلهم يتشجعون لقتال الكفار، ثم يُهيئ الله لهم النصر على هذا النحو، ثم يُثيبهم بهذا الجزاء العظيم عنده -سبحانه وتعالى-.

فهذا اختبار من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين بقتال الكفار ليكون فيه هذه المنافع العظيمة والمصالح العظيمة لهم؛ وليُظهِر الله -تبارك وتعالى- دينهم على هذا النحو، ولو كانت الهزيمة فكذلك فيها أمور عظيمة، فإن المسلمين لمَّا التقوا مع الكفار في أُحُد والنبي معهم -صلوات الله والسلام عليه- لكن الأمر بالنسبة للمسلمين كانت فيه نتائج شديدة سيئة؛ وهو أنهم كُسِروا من العدو، خالف الرماة أمر النبي -صل الله عليه وسلم-، التف جيش الكفار بهم، صار في جرحى وقتل في المسلمين، قُتِلَ من المسلمين سبعون، فرَّ المسلمون، وقع أمر عظيم جدًا، أخبر -سبحانه وتعالى- أن في هذه الغزوة التي فيها هذه النتائج فيها كذلك نتائج باهر بالنسبة للمنافع التي فيها، أولًا من توحيد صف المسلمين ظهر المنافقين عن المؤمنين، اتخاذ الشهداء قال -تبارك وتعالى- {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}، فاتخذ الله -تبارك وتعالى- الشهداء، وكذلك يُربيهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر ويُحمِّلهم هذه المشقة ليكون لهم هذه المنافع، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:166] {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ........}[آل عمران:167]، فكان في هذه الغزوة من المنافع لأهل الإيمان أكثر كثيرًا مما كان في بدر التي انتصر فيها المسلمون، فالشاهد أن القتال بما كلَّف الله -تبارك وتعالى- به المؤمنين فيه منافع عظيمة لأهل الإيمان، قال {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، في أن يُكلِّفكم بهذا الأمر العظيم لتكون فيه هذه الفوائد لكم، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:216]، فهذا فيه منافع عظيمة لأهل الإسلام.

بالنسبة للكفار يبتليهم الله -تبارك وتعالى- بالمؤمنين، إما أنه لمَّا يقع فيهم ما يقع ربما يكون هذا خير للكافر، فإن كثير من الكفار يدخلون إلى الجنة بالسلاسل، يُقاد إلى الجنة قيادًا؛ يؤخذ به، قال النبي -صل الله عليه وسلم- «أنتم أنفع الناس للناس؛ تقودهم إلى الجنة بالسلاسل»، عندما يُحارب المسلمين الكفار ويأسروهم ثم إذا أسروهم وعرفوا الإسلام؛ وانتبهوا له، ورجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- دخلوا الجنة، فيكون هذا وسيلة من الوسائل نفع الله -تبارك وتعالى- بها هؤلاء الكفار، أدخلهم الجنة بالسلسلة؛ بالسلسلة التي سحبهم بها المؤمن أدخلهم الجنة، وهذا الفوز المبين؛ هذا الفوز المبين، مَن لا يُريد أن يدخل الجنة ولو بالسلاسل؟ لا شك أن هذا أمر عظيم جدًا، كذلك ليكون في هذا كسر لشوكتهم في الدنيا، {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}[آل عمران:127]، فهذا ابتلاء لهم؛ عذاب مُعجَّل لهم في الدنيا، كما قال -تبارك وتعالى- {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:14] {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}، فهو عذاب مُعجَّل للكفار؛ القتال، أمَر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يُقاتلوا الكفار هذا عقوبة مُعجَّلة للكفار بأيدي المؤمنين، فهذه كذلك مصلحة وفائدة من هذه الفوائد، فإذن لهذا قال -جل وعلا- بأنه شرَعَ القتال لعباده المؤمنين لِما فيه من الخيرات العظيمة لهم، قال ولو أراد الله -تبارك وتعالى- أن ينتصر بنفسه من الكفار لفعل -سبحانه وتعالى-؛ لا يُعجِزونه، لا يُعجِزه الكفار أن يستأصلهم؛ أن يخضض شوكتهم، أن يُنزِل قارعة عليهم، هذا باستطاعته -سبحانه وتعالى-، ولكن الله -تبارك وتعالى- شرَعَ القتال لِما فيه من هذه المنافع العظيمة، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6]، قد يقول القائل بأن القتال فيه منافع للأحياء؛ فكيف بالذين قُتِلوا؟ فذكر الله الذين قُتِلوا وبيَّن أن أعظم مَن نال الجائزة في القتال من المؤمنين هو الذين قُتِلوا في سبيل الله، قال {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}، أعمالهم ليست إلى ضلال بل إن أعمالهم إلى الخير، قال -جل وعلا- {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6]، سيهديهم الله -تبارك وتعالى- ويصلح بالهم، إصلاح البال؛ إصلاح نفوسهم، {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6]، ذلك أنه عندما يدخلون الجنة فأولًا مَن يُقتَل في سببيل الله فهذا هو الذي فاز الفوز الأكبر، وهذا لا يمكن أن يبقى ميت إلى يوم القيامة بل هو حي كما قال -جل وعلا- {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169] {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:170] {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:171]، فالذين قُتِلوا في سبيل الله قال -جل وعلا- {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}، سيهديهم إليه -سبحانه وتعالى- ويصلح بالهم، {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6]،عرَّفها لهم من التعريف والعِلم وذلك كما جاء في قول النبي -صل الله عليه وسلم- أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول «فإن أحدهم أعرف ببيته في الجنة من بيته في الدنيا»، أيش لون الإنسان يذهب إلى بيته في الدنيا؟ يعرفه من الطريق الفلاني إلى الحارة الفلانية إلى المكان الفلاني، فهناك يذهب إلى بيته يعرفه، عرَّفها لهم أي عرَّف كل مَن يدخلها إلى مملكته في الجنة، قصوره ودوره في الجنة يعرفها كأنه يعرفها من قبل، أو عرَّفها من العَرْف، عرَّفها لهم من العَرْف والعَرْف هو الرائحة الجميلة؛ يعني جعل رائحتها جميلة، الجنة كل ما فيها ينفح طِيبًا، ما فيها شيء إلا وينفح طِيبًا؛ أرضها المسك الأزفر، هذا ترابها؛ ترابها المسك، أحسن أنواع المسك الذي يُسمى في الدنيا ولكن هذا مسك الآخرة فكلها تنفع طِيب، ريح الجنة النبي -صل الله عليه وسلم- يقول «وإن ريحها لتوجد على مسيرة كذا وكذا»، جاء في بعض الأحاديث مسيرة مائة عام، من مسيرة مائة عام تُشَم ريح الجنة، يشُم مَن يشُم ريح الجنة من على بُعد مسيرة مائة عام مما ينفع من طِيبها.

وهذا أنس ابن النضر يقول لسعد ابن مُعاذ في أُحُد لمَّا انكشف المسلمون وفروا بعد أن غشيهم الكفار قال "يا سعد إلى أين؟ قال قُتِلَ رسول الله، قال وما تصنع بالحياة بعده؟"، ثم قال له "الجنة يا سعد ورب الكعبة إني لأجد ريحها من دون أُحُد"، يقول له أنا أشم ريح الجنة من دون أُحُد، يُقسم بالله ويقول له "ورب الكعبة"، وهذا يُقسِم قسَم صادق لأنه هنا ما هو قاعد يُضلل غيره؛ هو يُريد أن يستقبل الكفار، يقول له "الجنة ورب الكعبة إني لأجد ريحها من دون أُحُد"، ثم واجه الكفار فقُتِلَ شهيدًا -رضي الله تعالى عنه-.

نقف هنا، قد أدركنا الوقت، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.