الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}[محمد:10] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:11] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[محمد:12]، من سورة القتال؛ سورة محمد، بعد تلك المقدمة في بيان من الله -تبارك وتعالى- لحال الكفار وحال المؤمنين؛ وكيف يُجازي الله -تبارك وتعالى- هؤلاء وهؤلاء في الدنيا، قول الله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1]، فهم يسيرون في طريق ضال، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}[محمد:2] {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فضلوا لذلك وأصبح سعيهم إلى ضلال، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ}، ثم قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}، فمَن سار في طريق الضلال لن يجد إلا الضلال، ومَن سار في طريق الله -تبارك وتعالى- سيجد ثواب الله -تبارك وتعالى-.
ثم رتَّب الله -تبارك وتعالى- على ذلك بأن كلَّف المؤمنين بالقتال، قال {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ}، من القتل؛ كثرة القتل والجراحة، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}، الأسر، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ}، بعد هذا الأسر إما مَنًّا بعد وهو أن يمُنُّوا عليهم بأن يُطلِقوهم كما مَنَّ الله -تبارك وتعالى- على كثير ممَن وقعوا تحت الأسر، {وَإِمَّا فِدَاءً}، بمال أو بأسرى، {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، في كل قِسم ممَن تحاربوهم وفي كل الأقسام بنزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام-؛ فإن القتال والجهاد مع الكفار يظل إلى هذا الوقت، «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يُقاتِل آخرهم الدجال»، فلا تضع الحرب أوزارها بين أهل الإيمان وأهل الكفران إلا بنزول المسيح عيسى ابن مريم وقتاله للنصارى؛ وكسره للصليب، ووضعه للجزية، فلا يقبل الجزية ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل، {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، أحمال الحرب، ولا تضح الحرب في النهاية أوزارها إلا في ذلك الوقت، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ}، بدون أن يُكلِّف المؤمنين بأن يُقاتِلوا، وإنما ينتصر الله -تبارك وتعالى- من الكفار بأن يُدمِّرهم بدمار من عنده -سبحانه وتعالى-؛ بريح كما أهلك عاد، أو بغرق كما أهلك قوم فرعون، أو بصاعقة، أو بغرق كما أهلك قوم نوح وقوم فرعون، أو بصاعقة كما كانت في ثمود، فالله -تبارك وتعالى- قادر على أن ينتصر وحده من الكفار كما شاء.
وكذلك كما فعل مع المسلمين في غزوة الخندق فإن المسلمين غُزوا من كل مكان وهم في المدينة؛ جائتهم قريش، وجاء لهم غطفان، وقَلَبَ لهم بنوا قُريظة ظهر المِجَن ونقضوا العهد الذي بينهم، وأتت هذه الجنود المسلمين من كل مكان، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، فانتصر الله -تبارك وتعالى- من هؤلاء الكفار جميعًا وحده؛ لم يكن للمسلمين يد بدفع هؤلاء عنهم، وكل ما فكَّر فيه المسلمون في هذا الوقت أن يصرفوا الكفار عنهم بأن يُعطوهم ثُلث ثمار المدينة ليرجعوا، وأما القتال فلم تكن للمسلمين في هذا الوقت طاقة بهم، فتولى الله -تبارك وتعالى- في ذلك الوقت القتال عن المسلمين -سبحانه وتعالى-، وذكَرَ الله نعمته لأهل الإسلام فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9]، إذ جائوكم الجنود هذه؛ جنود الكفر، {........ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، حتى إن المنافقين أظهروا كفرهم علانية فكانوا يقولون {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}[الأحزاب:13]، الله تولَّى في هذا المقام -سبحانه وتعالى- قتال الكفار بأسباب من عنده -سبحانه وتعالى-؛ دون فعل من المؤمنين، ولذلك قال -تبارك وتعالى- بعد نهاية هذه الغزوة وأرسل -سبحانه وتعالى- جبريل والجنود؛ والريح التي أرسلها -سبحانه وتعالى- عليهم، قال -جل وعلا- {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب:27]، وأخبر –سبحانه وتعالى- قال {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}، أي بنفسه؛ بملائكته، وأسباب قوته -سبحانه وتعالى- من الريح التي أرسلها، قال {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}[الأحزاب:26] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب:27]، وأصبح هذا نشيد للمسلمين كيف أن الله -تبارك وتعالى- انتصر من الكفار وحده -سبحانه وتعالى-، فأصبح المسلمون يقولون "لا إله إلا الله وحده؛ صدق وَعْدَه، ونصر عبده، وأعز جُندَه، وهزم الأحزاب وحده"، فالله هزم الأحزاب وحده -سبحانه وتعالى-، فهو القادر -سبحانه وتعالى- على أن ينتصر من الكفار دون أن يقوم المسلمون حتى بالدفاع عن أنفسهم.
فالله -سبحانه وتعالى- هو يُنزِل نصره كما فعل مع المؤمنين السابقين، فإن الله -تبارك وتعالى- نصر المؤمنين في تلك الأمم وقد كانوا قِلَّة، نوح مع مَن معه كانوا قِلَّة؛ نصرهم الله -تبارك وتعالى-، لمَّا قال نوح لربه {........ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:10]، الله -تبارك وتعالى- نصره بسبب من عنده، قال نوح {........ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:10]، قال -جل وعلا- {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}[القمر:11] {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}[القمر:12] {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}[القمر:13] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}[القمر:14]، وهكذا كذلك في كل الرُسُل الذين كانت معهم القِلَّة المُستضعَفَة، فإن الله -تبارك وتعالى- نصرهم وحده -سبحانه وتعالى- بسبب من عنده؛ وأهلك جُندَ الكفر، فالله -تبارك وتعالى- يقول للمسلمين بعد أن حمَّلهم هذا قال {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ}، أي وحده {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}، الذين يُقتَلون بسبب هذه الحرب التي حمَّلها الله؛ القتال الذي حمَّله الله لأهل الإيمان، فالذي يُقتَل الله -تبارك وتعالى- لن يُضِل عمله، عمله ليس إلى ضلال لأنه باع نفسه لله، والذي يبيع نفسه لله فالله -تبارك وتعالى- يتلقاها ويُعطيه أعظم الثمن، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}[محمد:5] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}[محمد:6].
ثم ندَبَ الله -تبارك وتعالى- المؤمنين وأمرهم بالقتال فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]، بهذه الجملة الشرطية؛ إن تنصروا الله، بأن تُقاتِلوا في سبيله، تنصروا دينه، تعملوا لإعلاء كلمته -سبحانه وتعالى- فتُجاهدوا مع الله -جل وعلا-، هذه المعركة هي معركة الله -تبارك وتعالى-؛ هي بين جُند الله -تبارك وتعالى- وبين جُند الشيطان، فإذا قام المؤمنون بأن ينصروا الله -تبارك وتعالى- وأن يكون في هذا الصف؛ صف الله -تبارك وتعالى-، صف المؤمنين هو جُند الله؛ وحزب الله، وجماعة الله، ليقاتلوا حزب الشيطان كما قال -تبارك وتعالى- {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، هؤلاء أولياء الشيطان والمؤمنون أولياء الله -تبارك وتعالى-؛ حزب الله -جل وعلا-، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ}، بأن تقوموا بنصره بالجهاد في سبيله -سبحانه وتعالى-، {يَنصُرْكُمْ}، وهو الله -سبحانه وتعالى- فلا شك أن قوله ينصركم فينصركم، وذلك أن كل أسباب النصر والنصر بيده -سبحانه وتعالى-، فلا ينتصر إلا مَن يؤيده الله -تبارك وتعالى- بنصره، {........ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:10]، لا يمكن أن يكون نصر إلا من عنده -سبحانه وتعالى- لأي جماعة تُقاتل جماعة، {........ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم:5]، {غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}[الروم:4] {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ ........}[الروم:5]، حتى من أمم الكفر بعضهم على بعض فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي ينصر مَن يشاء -سبحانه وتعالى-، فالنصر كله له لأن القوة كلها له، الله له القوة جميعًا -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة، بل لا قوة إلا به -سبحانه وتعالى-، لا حول ولا قوة إلا بالله، القوة كلها له -سبحانه وتعالى-، فقوله ينصركم؛ ينصركم لا شك، لأنه هو الرب الإله القوي -سبحانه وتعالى-؛ الذي بيده الأمر كله، وإليه يُرجَع الأمر كله -جل وعلا-، {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، في القتال وفي الدين يُثبِّتها تثبيت القدم حتى لا تفروا، فيجعلكم ثابتين ولو كنتم قِلَّة في مقابل كثرة من الكفار فيُثبِّت أقدامكم، وهذا إليه -سبحانه وتعالى- بما يضع في قلوبكم من العزيمة الصادقة؛ ومن الرغبة في الجنة، ومن الشجاعة والقوة، ومن الاستهانة بالقتل والجراحة، فيُثبِّت أقدامكم -سبحانه وتعالى- بهذه الأسباب، {........ إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]، هذا تهييج على أن يكون المؤمن مع الله -تبارك وتعالى- لأن الله -تبارك وتعالى- يُعطيه ضمان، ضمان أنك إن نصرت الله -تبارك وتعالى- نصرك حتمًا بالشرطية {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}، فهذا شرط مشروط؛ ومَن أوفى بالشرط من الله -تبارك وتعالى-؟ إذا شرط الله -تبارك وتعالى- هذا الشرط فلا شك أن الله -تبارك وتعالى- موفيه، إن تنصروا الله وتقوموا بهذا ينصركم ويُثبِّت أقدامكم.
ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8]، هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- بالكفار الذين يحاربون الله -تبارك وتعالى-؛ ويحاربون أوليائه، قال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا}، علموا الحق وكفروه، علموا آيات الله -تبارك وتعالى- وطمسوها، وكل مَن لم يدخل في الإسلام فهو كافر؛ كل مَن لم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- ويؤمن بالنبي ويدخل فيه، بعد بعثة النبي محمد -صل الله عليه وسلم- كل مَن سمع به ولم يدخل دينه فهو كافر، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ........}[محمد:8]، التعاسة؛ الشقاوة، يعني شقاءً لهم، تعاسة في الحياة وشِقوة في الآخرة -عياذًا بالله-، {........ فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8]، أعمالهم ضالة كمَن يسير على غير هُدى، فهم يسيرون على غير هُدى فبالتالي لن يحصلوا على ثمرة من أعمالهم؛ أي عمل، أعمالهم في الدنيا فإنها تبقى في شقاوة، مهما بلغوا من أسباب الدنيا هم في شقاء، أعماله لهدم الدين وفي إزالة في شقاء لأن الله -تبارك وتعالى- مُتِم نوره، لابد أن يتم نور الله -تبارك وتعالى- وأن يُقيم الله -تبارك وتعالى- حُجَّته على عباده، يُقيم الله -تبارك وتعالى- من رُسُله وأنبيائه وأتباعه مَن يُقيم الحُجَّة وليوم القيامة، أرسل هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وحَكَم بأن يكون هذا الدين ظاهرًا على كل دين، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، وأخبر بأن هذه الأمة ستبقى طائفة منها على الحق تقاتل على دين الله -تبارك وتعالى- حتى يُقاتل آخرهم الدجال؛ وهو الذي يأتي بأعظم كفر في الأرض، هذا الدجال رجل من الناس من بني آدم؛ وهو الوقح على هذا النحو، الأعور، وكل النقص فيه، يعتقد أنه الله خالق السماوات والأرض؛ فهذا أعظم كفر وُجِد.
قد يدَّعي الإنسان النبوة؛ يدَّعي الولاية، يدَّعي ما يدَّعي، أما أن يدَّعي الربوبية والألوهية على هذا النحو؛ وأنه خالق السماوات والأرض، نعم ادَّعى فرعون قبل هذا لكن ليس على النحو الذي يدَّعيه هذا الدجال ويسيح في الأرض كلها، فقد كان فرعون على كل حال طاغوت أمة ولم يكن طاغوت العالم، كان طاغوت في بلده؛ في مصر، وقال لقومه {........ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الزخرف:51] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52]، وقال لهم {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، فهو طاغوت ناحية؛ وطاغوت أمة، وطاغوت دولة، لكن الدجال طاغوت العالم، فإنه لا تبقى قرية في الأرض إلا ودخلها إلا مكة والمدينة وهو يدعوا بدعوته أنه رب العالمين؛ وأنه رب الخلْق كلهم، والناس غلى دعوته يتسابقون زُرافاةٍ ووحدانًا، حتى أن المدينة التي هي في نهاية الأمر وفي آخر الإسلام هي جُحر الإسلام خلاص؛ آخر محضِن للدين، كما قال -صل الله عليه وسلم- «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها»، فالحية إذا خافت وهي في العراء؛ خافت ممَن يتبعها فيقتلها، فإنها على طول تبدأ تركض حتى تدخل الجُحر لتحتمي به، فشبَّه النبي -صل الله عليه وسلم- هروب أهل الإيمان في آخر الزمان إلى المدينة كهروب الحية بعد ذلك إلى جُحرها، «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها»، ومع هذا فإن في المدينة إذا جائها الدجال ووقف على أنقابها ولم يستطع الدخول؛ منعته الملائكة من أن يدخل، عند ذلك يخرج له من أهلها سبعون ألف، يقول حتى إن الرجل ليأسر زوجته وبناته؛ يربطهم بالسلاسل حتى لا يخرجوا إليه، فيحتالون لفك سلاسلهم وقيودهم ويهربون إلى الدجال من الشدة التي تكون، فهذا أعظم فتنة؛ أعظم فتنة في الأرض، لكن أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأن هذه الأمة يبقى المجاهدون فيها إلى أن يُقابلوا هذه القوة الكافر؛ التي لم توجد في الأرض قوة كافرة مثلها قط، وهي قوة الدجال؛ وسحره، وبطشه، وسياحته في الأرض على هذا النحو، ودعوته الفاجرة على هذا النحو، وقال النبي «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، يُقاتِلون على أمر الله حتى يُقاتل آخرهم الدجال»، فآخر طوائف الأمة التي تبقى قائمة بالحق هي الطائفة التي تُقاتل الدجال، والدجال هو آخر طاغوت يبقى على الأرض ويقتله عيسى ابن مريم بعد ذلك، فالقتال ماضي؛ القتال في هذه الأمة ماضٍ إلى يوم القيامة.
قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ ........}[محمد:9]، لماذا كتب الله عليهم التعاسة؟ كتابة هذه؛ هذا حُكم إلهي على الكفار، {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، جعل أعمالهم إلى ضلال مهما عملوا، يعني ما عملوه للدنيا وما عملوه لهدم الدين ومنع الناس وصد الناس عن سبيل الله لابد أن يكون إلى ضلال، قال ذلك؛ الإشارة إلى ما حكَمَ الله -تبارك وتعالى- به عليهم من التعاسة وضلال العمل، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:9]، لمَّا كرهوا ما أنزل الله هذا الوحي المُنزَل منه –سبحانه وتعالى-؛ قرآن الله المُنزَل على عبده ورسوله محمد، لمَّا أصابهم كراهية له فإن الله -تبارك وتعالى- كافأهم على هذا الكُره الذي كرهوا به هذا الدين؛ وكرهوا به هذا التنزيل بأن أحبط أعمالهم، ومعنى أنه أحبطها يعني قتلها؛ أماتها، الحَبَط هو الهلاك، وأصل الحَبَط داء يُصيب الإبل في أجوافها؛ في جوف الناقة، فتظهر كأنها سمينة مُنتفخة ولكن فيها هذه العِلَّة في داخلها، ثم لا تلبث أن تسقط وتموت؛ تنفُق وتموت، فشبَّه الله -تبارك وتعالى- أعمال الكفار على هذا النحو؛ ظاهرة، قد تكون ظاهرة للعيان؛ منتفخة في أعينهم، مُجمَّلة ومُحسَّنة في أعينهم، لكن فيها الهلاك ثم سرعان ما تسقط وتنتهي، فالكافر يُزيَّن له أنه في عمله للصد عن سبيل الله أنه بالغ أمره وبالغ مراده من صرف الناس عن هذا الدين، ثم لا يلبث أن يجد أن عمله قد انتهى وأن الله -تبارك وتعالى- ناصر دينه، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36]، هذه هي النهاية؛ يبقى هذا الدين قائم ما بقيت الأيام والليالي، كذلك عملهم في الدنيا؛ فإن عملهم في الدنيا ينتفخ ويرون زينته وزُخرفه، لكنهم لا يجدوا فيه لا طمأنينة؛ ولا سعادة، ولا يُبلِّغهم، ولا يُخلِّدهم، وإنما يشقون به، {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:55]، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، كل أعمالهم.
ثم قال -جل وعلا- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}[محمد:10]، خطاب لهؤلاء المعاندين الذين يُريدون أن يستأصلوا دين الله؛ وأن يُبعِدوه، وأن يصرفوا الناس عن الدين، الكفار، قال -جل وعلا- بسؤال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}، ألم يسير هؤلاء الكفار في الأرض؟ {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، فينظروا في الآثار التي تركها الذين من قبلهم ممَن أهلكهم الله -تبارك وتعالى-؛ كيف كانت عاقبتهم؟ قوم نوح، عاد، ثمود، قرى لوط، فرعون، ألم يروا آثار هؤلاء الغابرين وكيف دمَّرهم الله -تبارك وتعالى-؟ قال -جل وعلا- {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، دمَّر الله عليهم مساكنهم؛ أرضهم، قصورهم، دمَّرها الله -تبارك وتعالى- عليهم، فقوم نوح بالغرق الشامل ما أبقى شيء، قوم فرعون أخذهم الله -عز وجل-؛ انتشلهم كلهم وأغرقهم في البحر، عاد استأصلها الله -تبارك وتعالى-، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51]، قرى لوط دمَّرها الله -تبارك وتعالى- على رؤوس أصحابها، قال -جل وعلا- {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، ثم قال -جل وعلا- {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، يعني للكافرين ممَن يأتي أمثالها؛ أمثال هذه النوازل، والمثُلات، والهلاك الذي كان لهؤلاء، هذا ينتظر الكافرين، فهذه سُنَّة الله -تبارك وتعالى- الجارية وإلى قيام الساعة، {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}.
ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ........}[محمد:11]، ذلك؛ هذه النتيجة نتيجة إنجاء المؤمنين وإسعادهم وتثبيتهم وإهلاك الكافرين، لِما كانت سُنَّة الله -تبارك وتعالى- في المؤمنين والكافرين على هذا النحو؟ قال {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ........}[محمد:11]، الله مولاهم؛ ناصرهم، مؤيدهم، مُحِبهم، قامت علاقة بينهم وبين الله -تبارك وتعالى-؛ علاقة أهل الإيمان بالله، جعلت الله -تبارك وتعالى- يواليهم وهم يوالوا الله، هذه علاقة الإيمان فهم مؤمنون به؛ مُصدِّقون بوَعده، قائمون بأمره -سبحانه وتعالى-، مُطيعون له، مُحِبون له، ولذلك الله -تبارك وتعالى- يحبهم، أحبهم الله -تبارك وتعالى-؛ والاهم، ينصرهم -جل وعلا-، وأصل الولي في لغة العرب الولي هو كل مَن قامت بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وأنت تواليه، العرب تُطلِق الولي على الأخ وعلى الحليف؛ مَن تُحالِفه، وعلى السيد، وعلى العبد تُسميه مَولى، هؤلاء كلهم يُطلَق عليهم مولى لأن بين هؤلاء من العلائق ما يجعل كلٌ منهم يوالي الأخر، الله -تبارك وتعالى- هو ولي المؤمنين، وأهل الإيمان هم أولياء الله -تبارك وتعالى-؛ يواليهم الله -تبارك وتعالى-، فالله هو وليهم وذلك لهذا؛ للسبب الذي قام بين الله -تبارك وتعالى- وبين عباده، فالعباد والوا الله -تبارك وتعالى- بأن أحبوه؛ وأطاعوه، ونصروه -سبحانه وتعالى-، الله والاهم؛ بادلهم حبًا بحب، وينصرهم -سبحانه وتعالى-، ويرحمهم، ويُثبِّتهم، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، من ولايته قال -جل وعلا- {........ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:257]، ذلك الله يُثبِّت أهل الإيمان ويؤيدهم ويقويهم {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}، الله مولاهم -سبحانه وتعالى-، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}، الكافر لا مَولى له؛ لا ولي له، الله تخلَّى عنه، الله -سبحانه وتعالى- وهو الولي الحميد لكل العباد، فولايته للكفار أنه ربهم -سبحانه وتعالى-؛ وأنه يرزقهم ويُعطيهم، لكنه لا يؤيدهم؛ ولا ينصرهم، ولا يهديهم -سبحانه وتعالى-، وإنما يُعاقِبهم فيُضِلهم، فالله لا تقوم بينه وبين هؤلاء الكفار ولاية؛ اللي هي هذه الولاية الخاصة، لكن الولاية العامة الله ولي كل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، فإنه رب الجميع -سبحانه وتعالى-، هو خالق الجميع؛ هو بارئهم، هو متولي أمروهم، هو مُطعِمهم، هو الذي يسقيهم، هو الذي يرزقهم -سبحانه وتعالى-، الكافر لا يعتقد هذه الربوبية؛ لا يظن أن الله ربه، لم يتخذ الله ربه -سبحانه وتعالى-، ولا شك أن الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- لكنه لم يتخذ هذا، كذلك الله ولي عباده كلهم من حيث الولاية العامة، لكن الولاية الخاصة أنه -سبحانه وتعالى- بمعنى أنه الهُدى؛ أنه يهديه، ويرحمه، ويوفِّقه، ويُعينه... لا، هذا لأهل الإيمان، فالكافر لا مَولى له، لا مولى له؛ لا ولي له ينصره، يؤيده، يهديه، يوفِّقه، يُثبِّته على الحق، لأنه ترك الله -تبارك وتعالى- فالله -تبارك وتعالى- تخلَّى عنه؛ ولعنه، وأبعده، وتركه، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}، فهذا في الدنيا.
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- الشأن الذي يكون عليه الأمر في الآخرة، قال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ........}[محمد:12]، هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- وفعله بأهل طاعته، {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ}، يُدخِلهم جنات؛ بساتين، بساتين الرب -سبحانه وتعالى- جنة، هذه الجنات التي عرضها السماوات والأرض، هذه لا يعرف سِعتها وعظمتها إلا الله -تبارك وتعالى-، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، وقال {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، هذا الاتساع العظيم، فهذه جنات عظمة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحتها؛ تحت هذه الجنات، الجنات؛ البساتين، تحت أشجارها وتحت قصورها الأنهار؛ الأنهار مختلفة الأنواع، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ........}[محمد:15]، هذا صنيع الله -تبارك وتعالى- وثوابه -سبحانه وتعالى- لأهل طاعته؛ الذين قاموا بولايته في الدنيا، ثم صنيعه -سبحانه وتعالى- مع الكفار قال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ}، أما أهل الكفر فإنهم يتمتعون في هذه الدنيا بصنوف المُتَع التي يرزقهم الله -عز وجل- إياها، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ}، أكلهم كما تأكل الأنعام، شبَّههم بهذا أنه إسرافًا؛ وبطرًا، وأشرًا، وعدم تذكرة ما يُنشئ لهم أكلهم على هذا النحو أي فِكر في مَن الذي أسدى لهم هذا؟ مَن الذي خلقَه؟ لماذا كان هذا الأمر؟ فهم لا يبدأون ببسم الله؛ ولا ينتهون بالحمد لله، ولا يذكرون أن هذا طعام الله -تبارك وتعالى- ورزقه؛ رزقهم الله -تبارك وتعالى- إياه، ولكنه يأكل كما تأكل البهيمة، فإن البهيمة وهذه البهائم؛ هذه الأنعام، إذا قُدِّمَ لها الطعام والشراب تأكل وتشرب لا تُسمي الله بدءًا؛ ولا تحمَدَه نهاية، ولا تفكر في مَن خلَقَ هذا، قال -جل وعلا- {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، فهم في هذه الدنيا يأكلون بدون فِكر؛ بدون عقل، بدون فهم، بس فقط يتمتعون ليتمتعوا وكأنهم لم يوجدوا في الدنيا إلا ليأكلوا؛ ويشربوا، ويتمتعوا، ثم قال -جل وعلا- {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، المثوى؛ مكان الثواء والبقاء، النار في الآخرة هي مكان بقائهم، وشتَّان بين أهل الإيمان وأهل الكفران، اللهم أجلعنا من أهل الإيمان.
نقف هنا، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.