الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[محمد:12] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}[محمد:13] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:14] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد:15]، هذا بيان من الله -تبارك وتعالى- لسُنَّته لعباده -سبحانه وتعالى- المؤمنين والكافرين؛ والمآل الذي سيئول إليه كلًا في الآخرة، قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ}، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يُدخِلهم، فهو ربهم وقد كان وليّهم ومولاهم في هذه الدنيا، وهم الذين نصروه وقاموا لإعلاء كلمته -سبحانه وتعالى-، هذه الآيات في سورة القتال؛ سورة محمد، والتي فيها أمر الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المؤمنين بأن يحملوا هذه الرسالة وينصروا الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8]، فهنا الله -تبارك وتعالى- يخبر هؤلاء المؤمنين الذين قاموا بأعلى الأمور في الإسلام؛ وأشرفها، وأثقلها على النفوس، وهو القتال في سبيل الله الذي حمَّلهم الله -عز وجل- إياه، فقال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ}، بساتين، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحت أشجارها وقصورها الأنهار، ثم قال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ}، هذه متعتهم في الدنيا؛ حياتهم للدنيا.
{يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ}، دون فِكر، دون عقل، دون فهم، يأكل فقط، يأكل ليأكل، يعيش كأنه يعيش ليأكل كالبهيمة، لم يذكر الله -تبارك وتعالى- أن هذا الطعام خلْقُهُ، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[عبس:24] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}[عبس:25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}[عبس:26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا}[عبس:27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا}[عبس:28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا}[عبس:29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا}[عبس:30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}[عبس:31] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}[عبس:32]، لابد للإنسان أن يتذكر هذا؛ أن هذا رزق الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا لو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يخلقوا حبة أرز واحدة أو حبة قمح واحدة ما استطاعوا أن يفعلوا هذا؛ هذا فعل الله -تبارك وتعالى-، فهذا الطعام ما يُسِّر هذا التيسير ولا قُدِّم لك إلا بسُنن إلهية كبيرة وعظيمة جدًا كانت حتى كان هذا، خلْق عظيم من الله -تبارك وتعالى-؛ إنزال المطر من السماء، شق الأرض بالنبات، إخراج هذا النبات آية من آيات الله -عز وجل-؛ إذ بذرة تُبذَر في الأرض فيُنميها الله -عز وجل-، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}[الواقعة:63] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:64] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}[الواقعة:65]، ألا تنظروا هذا؟ هذه الأنعام التي سخَّرها الله -تبارك وتعالى- لكم؛ تذبحون منها، تأكلون لحومها، تشربون ألبانها، تكتسون بأصوافها؛ وأوبارها، وأشعارها، المؤمن يعلم هذا ويشكر الله -تبارك وتعالى-، يشرب الشربة فيحمَدَهُ عليها، ويأكل اللقمة فيحمَدَهُ عليها، وينظر في خلْق الله -تبارك وتعالى- ويشكر الله -تبارك وتعالى- على هذه النِعَم لكن الكافر لا، الكافر كالبهيمة يجمع من هذا ويأكل دون أي فِكر؛ ودون أي نظر، ودون أي اعتبار، ودون نظر إلى أن مَن خلَقَ هذا؛ ومَن يسَّره، وإلى أين يسير، {كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ}، قال -جل وعلا- {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}، هذه في الآخرة هؤلاء يُجمَعون إلى النار -عياذًا بالله-؛ حطب جهنم هؤلاء.
ثم قال -جل وعلا- {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}[محمد:13]، كأيِّن؛ كثيرًا، يعني كثير من القرى، هذا إخبار الله -تبارك وتعالى- لنبيه محمد -صل الله عليه وسلم-، من قرية؛ القرية هي المدينة العظيمة التي يُقرى فيها الضيف إذا نزلها من كثرة مساكنها، أو المجموعة التي تُجمَع فيها المساكن الكثيرة، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ ........}[محمد:13]، كانت أكثر قوة يعني أهلها، من قريتك يعني من مكة، التي أخرجتك؛ قريتك التي أخرجتك أهل مكة، فإنهم أخروجوا النبي -صل الله عليه وسلم- عندما تآمروا على قتله، وقالوا خلاص؛ النبي لا حل لنا معه لأن دينه هيبدأ ينتشر في العرب، الأول قالوا نُقيده في مكة ونُثبِته فيها فلا يخرج، فنأسره فيها ونُغلِق عليه؛ لا يصل إلى أحد ولا يصل إليه أحد، أو نُخرِجه منها طردًا، أو أن نقتله واتفقوا على قتله، لمَّا كان بهذا الأمر إضطُر النبي -صل الله عليه وسلم- إلى أن يخرج من مكة اختيارًا سِرًا -صلوات الله والسلام عليه-؛ ويهاجر إلى المدينة، فقريته التي أخرجته مكة، الله -تبارك وتعالى- يخبره ويقول له كم من القرى السابقة أشد من أهل مكة؟ وين أهل مكة وقوتهم من قوم فرعون وقوتهم؟! من عاد القبية العاتية القوية؟! وهنا من ثمود؟ قريش لم تكن كثمود، وقريش لم تكن كعاد؛ ولم تكن كقوم فرعون، وكذلك ما كانوا كقوم نوح، فكم من القرى كان أهلها وكفارها أشد قوة من الكفار الذين عاندوا النبي -صل الله عليه وسلم- في مكة، {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}[محمد:13]، أهلكهم الله -تبارك وتعالى- إهلاك إبادة، أبادهم الله -تبارك وتعالى- واستأصل شأفتهم وكانوا أعظم قوة من هؤلاء، {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}، لم يكن هناك يستطيع أحد أن ينصرهم من دون الله -تبارك وتعالى-؛ ويمنع عنهم هلاك الله -تبارك وتعالى-، هذا تثبيت لأهل الإيمان وتطمين لهم؛ وبيان أنهم مع الله -تبارك وتعالى-، وأنه مهما قابلتهم من قوة من القوى فالله أكبر من هذه القوى، وهذا صنيع الله -تبارك وتعالى- في مَن كان أكبر وأطغى وأكثر ظُلمًا من القرى السابقة؛ انظروا كيف أهلكهم الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:14]، مقارنة بين النبي -صلوات الله والسلام عليه- الذي على الدين وبين هؤلاء الكفار من أمثال أبي جهل؛ وأميَّة ابن خلف، وأُبي، وغيره، والعاص ابن أبي السهمي، وغيرهم من أهل الكفر، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}، بيِّنة؛ برهان ثابت، بيِّن، واضح، من ربه؛ النبي وأهل الإيمان، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ}، وهذه البيِّنة من ربه؛ برهان ثابت من الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا كتابه المُنزَل، وهذا وحيه، وهذا جبريل -عليه السلام-، وهذ صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم، والنبي على ثبات من هذا؛ وأن هذا طريقه، وأنه لابد أن ينتصر في نهاية المطاف على كل قوة تناوئه، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ........}[محمد:14]، زُيِّن؛ جُمِّل، أصبح عمله السيئ جميل في نظره، والكفار أعمالهم كلها سيئة، اعتقادهم في الله سيئ؛ أن له بنات، واعتقادهم في آلهتهم اعتقاد سيئ؛ الآلهة هذه يعبدونها، يألهونها، يظنون أنها تُقرِّبهم إلى الله -تبارك وتعالى-، والحال أنها سراب خادع؛ ليست لها أي حقيقة، ما لها أي حقيقة في النصر؛ لا تستطيع أن تدفع عن نفسها فضلًا عن تدفع عن غيرها، زُيِّن لهم أن دينهم هذا الباطل هو الذي ينتصر على الحق؛ وأن محمد على الباطل، وأن دينه هو الباطل، وأن ما هم عليه هو الحق، وأن الباطل هذا سيغلب هذا الحق، {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}[ص:7]، فنظروا إلى الدين الحق بأنه أمر مُختلَق؛ مكذوب، ونظروا إلى دينهم الباطل؛ المُختلَق، المكذوب، الذي افتروه بأهوائهم، أنه هو الحق؛ وأن هذا هو الثابت، وأن هذا هو الجميل، وأن هذا هو الذي يجب أن يُنصَر، سبحان الله؛ فالله -تبارك وتعالى- يُعطينا هذه المقارنة بين دينه -سبحانه وتعالى- وبين هذا الدين الباطل، بين رسوله المؤيد بالوحي من عنده -سبحانه وتعالى-؛ الذي على الحق المُبين، وبين هؤلاء الذين على هذا الباطل، وقد جُمِّل هذا الباطل في نظرهم؛ وحُسِّن، وأصبح هذا عندهم هو الشيء المستقر الثابت؛ وما عند النبي -صل الله عليه وسلم- هو الباطل الذاهب، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}، محمد -صل الله عليه وسلم- وأصحابه، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}، أبو جهل وأبو لهب وهؤلاء الكفار حُسِّنَت لهم أعمالهم السيئة، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، إمامهم وقائدهم هو الهوى؛ ما تهواه النفس، أي شيء يلمع في الذهن ويُحبب إلى النفس يقولوه، أما أن هذا اختبروه وهو حق أو ما هو حق فلا، فالتمع في أذهانهم أن الملائكة بنات الله إذن خلاص، التمع في أذهانهم أن لا بعث ولا نشور وأن هذه هي الحياة الدنيا فقط، أنهم يعيشون ليعيشوا ويأكلوا ليتمتعوا وتنتهي الحفلة، ما يُبيحون ويُحرِّمون بأهوائهم؛ هذه للآلهة؛ هذه لكذا، هذا لكذا ...، بدون أن يكون لهم برهان في كل ما يأخذونه وما يدعونه إلا مجرد اتِّباع الهوى، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:14]، سؤال يُراد به التقرير، والنظر والاعتبار في حال أهل الإيمان وحال أهل الكفران؛ في مَن هو على الحق المبين ومَن هو في الضلال المُستَبين، لكن هذا الذي في الضلال المُستَبين قد ظهر له ضلاله بأنه الحق المبين؛ سبحان الله العظيم، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:14].
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- المآل لهؤلاء وهؤلاء، وذكَرَه الله -تبارك وتعالى- بصيغة المقارنة؛ أن يعرض هذه الصفحة وهذه الصفحة في آية واحدة أمام النظر، قال –جل وعلا- {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد:15]، انظر هذه المقابلة والتي يعرضها الله -تبارك وتعالى- في آية واحدة من كتابه العظيم هذا؛ الجليل، ويعرض الله -تبارك وتعالى- أمامنا الصورتين مكتملتين هنا وهنا؛ فلينظر الإنسان، سؤال يُراد به التقرير؛ والنظر، والاعتبار؛ اعتبار حال هذا الفريق وحال هذا الفريق، محمد -صل الله عليه وسلم-؛ وأصحابه، ومَن اتَّبَعه، وهذا أبو جهل على رأس هذا الفريق الثاني؛ وأصحابه، ومَن اتَّبَعه في الضلال، قال –جل وعلا- {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، الجنة التي وَعَدَها الله -تبارك وتعالى- للمتقين، المتقين الذين خافوه -سبحانه وتعالى- من عباده؛ وجعلوا بينه وبين غضبه -سبحانه وتعالى- حماية ووقاية، حموا أنفسهم -سبحانه وتعالى- ووقوا أنفسهم من عذاب الله -تبارك وتعالى-، اتقوا عذاب الله -تبارك وتعالى- بأن أطاعوه؛ آمنوا به -سبحانه وتعالى-، ونصروه، وقاموا بالدين الذي أمرهم الله -عز وجل- القيام به، فهؤلاء المتقون الذين خافوه وساروا في طريقه، مثَلُها أي صورتها؛ هذه صورتها وهذه حقيقتها، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وهنا جاء وُعِدَ بالبناء لِما لم يُسمى فاعله وواعِدهم هو الله -تبارك وتعالى-؛ والله لا يُخلِف وَعْدَه.
فيها؛ في هذه الجنة، {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، أنهار تجري من ماء غير آسِن، آسِن؛ مُتغيِّر، فالماء في الدنيا وخاصة العزب فإنه بعد مدة إذا مكث فإنه يتغير؛ تظهر فيه طحالبه، يتغير طعمه وريحه، لا؛ ماء الجنة ماءٌ ماء، ماءٌ خالص لا يدخله أي فساد ولا أي تغيُّر، {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}، لبن يظل لبن على طول؛ لا يحمض، ولا يتلف، وإنما هو لبن كأنه حُلِب، وهو أنهار؛ أنهار تجري كذلك، وأنهار الجنة بغير أخاديد وبغير شقوق، أنهار الجنة إنما تجري على سطحة أرضها دون أُخدود ودون شقوق في الأرض، فأنهار تجري من لبن لم يتغير طعمه، ولا يتغير طعمه؛ يبقى على طعمه هو هو، فلا يحمض ولا يدخل إليه فساد، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، أنهار تجري كذلك من خمر؛ خمر الآخرة، لذَّة للشاربين؛ يلتذون بها التذاذًا، تحصل بها اللذَّة والنشوى ولا يحصل بها سُكْر، {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}[الصافات:47]، لا يحصل بها سُكْر وضياع للعقل، ولا يحصل بها ما يحصل من خمر الدنيا من الانتهاء؛ فهي أنهار، والنزف؛ امتلاء البطن بها، فإن شارب الخمر في الدنيا إذا أكثر من الشراب فسد عنده كل شيء؛ فسدت معدته واضطر إلى أن يقذف ويُخرِج هذا، وفسد عقله، هناك لا فساد فيها وإنما خمر للالتذاذ؛ لا تُشرَب إلا للذَّة؛ والنشوى، واجتماع الصحب عليها؛ صحب الجنة، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18]، مَعِين؛ الخمر، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ}[الواقعة:19]، فما تصدُّع عنها، أنه يتصدَّع عنها بمعنى أنه خلاص؛ يصل إلى حد التُخمة والقرف من الشرب والامتلاء... لا، فمهما شرب منها لا يشعر بثِقَلٍ بها، {وَلا يُنزِفُونَ}، يُنزِفون ما في بطونهم فيُخرِجونه، وكذلك لا تنتهي خمرهم بل هم في التذاذ دائم، وقال -جل وعلا- {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ}[الطور:23]، كما يحصل للشَرْب في الدنيا، فإنهم بعد أن تلعب الخمر برؤوسهم لابد أن يسُب بعضهم بعضًا؛ وقد يقتل بعضهم بعضًا، فيحصل التنازع... لا، شراب أهل الجنة مختلف عن هذا، قال -جل وعلا- {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، تُشرَب للالتذاذ والتمتع.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، أنهار كذلك تجري بلا أخاديد من عسل مُصفَّى، العسل في الدنيا إذا أُخِذ من خلاياه لابد من تصفيته لأنه يأتي مع الحصى؛ مع الشمع، مع حبوب اللقاح، مع غيرها، لابد من أن يُصفَّى حتي يكون خالصًا، أما عسل الجنة فإنه يجري أنهارًا ولا يؤخذ مُشتارًا، إنما يجري أنهارًا في الجنة وهو مُصفَّى؛ خالص، ثم {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، لهم في الجنة من كل الثمرات، مما رُزِقوا شبهًا له في الدنيا ليأنسوا له في الآخرة، رمان؛ في الجنة في رمان، أعناب؛ في الجنة في أعناب، تين؛ في الجنة في تين، لكن هناك ثمرات وفواكه ما رأوها قط ولا كانت لها مثيل مما رُزِقوا في الدنيا؛ ففيها هذا وهذا، فيها الأول {........ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25]، فيؤتوا به مُتشابهًا بثمار الجنة عن ثمار الدنيا تشابه، قد يكون ثمر رمان الجنة متشابه معه لكن الحقيقة أن الطعوم مختلفة تمام الاختلاف، كما يقول ابن عباس "ليس في الجنة مما ذُكِرَ لكم إلا الأسماء"، في إسم؛ رمان ورمان، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68]، فالفاكهة فاكهة، والنخل نخل، والرمان رمان، لكن أسماء وأما الحقائق فمختلفة، مختلفة الحقائق في هذا؛ طعومًا، وحلاوة، وأشكالًا، وبقاءً، {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، مما عرفوه ومما لم يعرفوه، «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت؛ ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، ثم {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، أكمل وأعلى وأفضل من كل هذا، مغفرة من ربهم؛ مُسامحة، مُسامحة من الله -تبارك وتعالى- لهم ومغفرة لذنبوهم؛ هذا يكفي، هذا فوق كل هذه المُتع شعورهم بأن الله -تبارك وتعالى- قد سامحهم؛ وعفا عنهم، وأزال معاصيهم، وبالتالي يحصل منه -سبحانه وتعالى- الرضوان لهم، فهذا أعلى وأكمل من متعهم الحسية هذه التي يتمتعون بها، {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، فهذا حال أهل الإيمان.
هل هذا الحال كحال أهل الكفران؟ {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ}، هل يكون حال هؤلاء كحال مَن هو خالد في النار؟ والخالد هو الباقي فيها بقاءً لا ينقطع، وفين؟ في النار، وأي نار؟ نار الآخرة، {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6] {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7]، التي تخترق جسم الكافر إلى فؤاده؛ إلى قلبه، وتخترق جسم الكافر والحال أن هذا الكافر جلده مسيرة ثلاث أيام، وهي نار موقدة تشتعل في الأجساد وتشتعل بالأحجار؛ الأحجار وقود لها، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، يقول النبي «ناركم هذه»، ناركم هذه يعني نار الدنيا، «جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة»، قال رسول الله «إن كانت لكافية»، يعني لو أن العذاب في الآخرة بهذه النار الشبيهة بنار الدنيا لتكفي في الإيلام وفي العذاب، قال النبي «ولكنها فُضِّلَت عليها بتسع وستين جزءًا؛ كل جزء مثل حرها»، يعني اضرب بعد ذلك ضرب مُضاعَف على طول في سبعين مرة، تُضرَب في نفسها سبعين مرة لتكون تلك حرارة نار الآخرة -عياذًا بالله-، {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ}، النار؛ هذه النار نار الآخرة، وهو خالد؛ باقٍ فيها بقاء لا ينقطع، فإن النار لا تقتله؛ لا تُميته، يبقى فيها على هذا النحو، وهي كافية لو كان هناك سبب للموت لكانت هي أعظم أسبابه؛ ولانتهى الإنسان فيها في لحظة واحدة، لكنها لا تقتل؛ لا تُميته، لا هي ولا الأسباب الأخرى من أسباب العذاب التي هي في مثل هذا السبب؛ من الماء الحميم، من الضرب بالمقامع، المقمعة التي لو نزلت على جبل من جبال الدنيا لهدته، لكن يبقى هذا الكافر باقي، {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، عياذًا بالله ماء لكنه ليس كماء الدنيا، فماء الدنيا رقيق؛ شفاف، لا رائحة مُنتِنة له، صافي، لكن الماء هذا الذي يشربونه -عياذًا بالله- ماء حميم، حميم؛ بلغ حدَّه من الحرارة، وهذا الماء ماءً غليظ كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، فهو ماء كالمُهل؛ كالمعدن المُذاب، إذن هو غليظ؛ ثقيل، فانظر الحديد إذا أُذيب أو الرصاص إذا أُذيب فإنه يكون كثيف؛ كثافته عالية، فهذا ماء الآخرة بهذه الكثافة، يقول الله {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، يعني قبل أن يشربه يشوي وجهه من الحرارة المنبعثة منه -عياذًا بالله-، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، عندما يصل إلى الأمعاء فيُقطِّع هذه الأمعاء، انظر مَن يُعذَّب بهذا العذاب وهو خالد في هذا، وكما قال -تبارك وتعالى- {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}.
إذن هاتان صورتان؛ هذه صورة أهل الإيمان، وهذه صورة أهل الكفران، هذا المآل الذي يكونون عليه، انظر المآل للذين خيَّبهم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا بأن أضل أعمالهم، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:1]، في الدنيا، فيعملوا ويجتهدوا وكذا وكذا لهدم الإسلام ثم ينتصر الإسلام ويُهدَمون هم؛ فأعمالهم إلى ضلال، يعمل في الدنيا ويكِد وكذا وكذا ليسعد وتكون بهذا له الشقاوة، فهو في الدنيا حاله حال شِقوة وحال ضلال؛ ماشي بالضلال، وهذا حاله في الآخرة، وانظر أهل الإيمان فإن الله -تبارك وتعالى- ينصرهم في الدنيا؛ يؤيدهم، الله وليُّهم، يُثبِّتهم، تكون العاقبة الحسنة لهم في الدنيا وهذه عاقبتهم الحسنة في الآخرة، فأهل الإيمان في حُسْن دائم وفي نعيم دائم في الدنيا والآخرة، وأهل الكفران في تعس كما قال الله -تبارك وتعالى- {........ فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8]، تعاسة هنا في الدنيا وتعاسة الآخرة أكبر، ولنكن على ذِكر من هذه الآية دائمًا {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد:15].
ثم قال بعد ذلك مُصوِّر ومُبيِّن حال هؤلاء الصادين عن سبيل الله أنه أهل غفلة؛ وأهل جهل، وأهل عمه، قال -جل وعلا- {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:16]، منهم؛ بعض من هؤلاء الكفار والمنافقون، يُظهِروا الإيمان لكنهم مُبطِنون للكفر، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}، أحيانًا يستمع إلى الرسول ويستمع إلى هذا القرآن، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا}، ما فقهوا والنبي -صل الله عليه وسلم- ببيانه قد أوتي جوامع الكَلِم؛ ولا أفصح منه، ولا أعلم منه بالعربية، ولا أبلغ منه في ما يُريد أن يُبلِّغه عن ربه -سبحانه وتعالى-، والكتاب المُنزَل إليه كتاب مُيسَّر للذِّكر؛ واضح، بيِّن، رسالة الله -تبارك وتعالى- واضحة؛ بيِّنة، لا يمكن أن يكون هناك أي تعقيد يقف فيها، لكن هؤلاء يأتون إلى مجلس النبي -صل الله عليه وسلم- يسمعون منه؛ ويسمعون بيانه المبين، وهذا الكتاب المُستَبين يسمعونه، ثم يخرجون ويقولون {مَاذَا قَالَ آنِفًا}، لا يفقهون ولا يفهمون ما الذي قاله النبي -صل الله عليه وسلم-، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ........}[محمد:16]، يسألوا أهل العِلم، {مَاذَا قَالَ آنِفًا}، سؤال إما ماذا قال آنفًا للاستهزاء والاحتقار، ماذا قال محمد -صلوات الله والسلام عليه-؟ أو للاستهانة أنهم ما فهموا هذا الكلام الذي يقوله، قال –جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، الطبع يعني أغلقها وقفلها فلا يدخل إليها نور الإيمان، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، واتَّبَعوا أهوائهم؛ يعني ما في هواه هو الحق، فأي شيء يُقدَّم له بعد ذلك لا يتناسب معه؛ لا يرى أن هذا مناسب له، فلذلك يرفض كل ما يُقدَّم حتى لو كان هو الحق الذي يُقدَّم لأنه تابع لهواه.
سنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.