الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد:16] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17] {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}[محمد:18] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن من هؤلاء الكافرين المُكذِّبين؛ الكافرين مُعلِني الكفر، والكافرين المستترين بكفرهم والمعلنين للإيمان، منهم من يستمع إليك؛ يستمع إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- في حديثه وفي قرائته للقرآن، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا}، سأل هؤلاء المُكذِّبون الكفار؛ المطموس على قلوبهم، سألوا أهل العِلم ماذا قال آنفًا أي النبي، آنفًا؛ سابقًا في جسلتهم وفي استماعهم إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، إما قالوا هذا استكبارًا وعلوًا وأنهم لم يفهموا ما قاله النبي -صل الله عليه وسلم-، وإما جهلًا وطمس بصيرة لِما يغشى على قلوبهم من الرَين والكفر فيمنع هذه القلوب من الفهم، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، أولئك؛ هؤلاء الذين لم يفقهوا ولم يفهموا، وعندما سمعوا كلام النبي -صل الله عليه وسلم- لم يفقهوه ولم يفهموه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، يعني أنها قفلها ووضع عليها الطابع بحيث أنه لا تنفذ الهداية والعِلم إلى هذه القلوب، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، أن هؤلاء لا اتِّباع عنده وإلههم هو الهوى، فكل ما يهونه ويشتهونه بأنفسهم من عقيدة؛ من قول، من فعل، إنما اتبعوه، ولذلك لم تُفتَح قلوبهم ولم تُفتَح بصائرهم إلى اتِّباع الحق.
قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}[محمد:17]، والذين اهتدوا بهذا الدين وسماع النبي -صل الله عليه وسلم- بهذا القرآن الهادي؛ البيِّن، الذي هو هُدىً للناس، قد جعله الله -تبارك وتعالى- هداية للمؤمنين، {زَادَهُمْ هُدًى}، زادهم الله -تبارك وتعالى- هُدى؛ توفيق، زادهم توفيق من الله -تبارك وتعالى- ورؤية للحق؛ وتمسُّك به، والتزام به، {زَادَهُمْ هُدًى}، من الله -تبارك وتعالى-، {وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}، آتاهم؛ أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، تقواهم؛ هذه الملَكَة القائمة في النفس التي تدعوا صاحبها إلى خوف الله -تبارك وتعالى- وتقواه واتِّباع أمره، فتصبح أعمال العبادة سهلة عليهم؛ فهي من التقوى، الصلاة من التقوى، والصوم من التقوى، وكل هذا العمل من التقوى، فلذلك يصبح هذا الأمر محبب إليهم وسهل عليهم كما قال -تبارك وتعالى- في الصلاة {........ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45] {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:46]، فيُسهِّل الله -تبارك وتعالى- عليهم ويُيسِّر لهم بل ويُحبب لهم فعل الطاعة، {وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}، جعل تقواهم في قلوبهم فساروا فيها؛ وذُلِّلوا لها، ويُسِّروا لها، كما قال -جل وعلا- {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7]، يصبح طريق التقوى مُيسَّر له؛ سهل عليه، محبب إليه.
ثم جائهم وعيد الله -تبارك وتعالى- فقال -جل وعلا- {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}[محمد:18]، آية عظيمة جدًا في الوعظ؛ والزجر، والبيان، قال -جل وعلا- {فَهَلْ يَنْظُرُونَ}، يعني هل ينتظر هؤلاء المكُذِّبون بهذا الدين؟ {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}، الساعة؛ يوم القيامة، سمَّاه الله -تبارك وتعالى- بالساعة لأن له ساعة محددة لابد أن يكون فيها، هذا يوم القيامة الذي حدد الله -تبارك وتعالى- له وقتًا عنده -سبحانه وتعالى- احتفظ به؛ لم يطلع عليه أحدًا من خلْقِه، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]، وقال -جل وعلا- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، لا يُجلِّيها؛ يُظهِرها لوقتها المُحدد إلا هو -سبحانه وتعالى-، {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، بغتة؛ فجأة، فهي تفجأ الناس بحيث أنه لا يكون عند أحد انتظار لها؛ ولا استعداد لها، ولا معرفة أن هذا أو أن هذه الساعة هي التي تقوم فيها الساعة... لا، بل يكون الناس جميعًا عندما تأتيهم هذه الساعة كلٌ في عمله وكلٌ لاهٍ في ما هو فيه، قال -جل وعلا- {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}، وبالتالي لا يكون منهم استعداد لهذا الأمر، لأنهم لو كانوا على عِلم ويقين بوقت مجيئها كان قبلها يستعدوا، يستعد مَن يستعد بالتوبة؛ والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، وعمل الصالحات، وغير ذلك، يستعد لملاقاتها، لكن الله -تبارك وتعالى- جعل الساعة لا تأتي الناس إلا بغتة، قال {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، أي فجأة تفجأ الناس.
ثم قال -جل وعلا- {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}، أشراطها جمع شرط، والشرط هو العلامة، يعني قد جائت علامات الساعة، جاء أشراطها؛ جاء جائت بالفعل الماضي، وإما أن يكون جاء بالفعل الماضي أنه قد جاء بالفعل ومضى، وإما أن يكون جاء بالفعل الماضي الذي يُراد به المستقبل بمعنى أنه سيأتي أشراطها؛ أي العلامات الدالة على مجيئها، أما بالفعل الماضي فقد جاء ومرَّت أشراط من الساعة، فأعظم شرط من أشراط الساعة هو بعثة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ أعظم عَلَم على مجيئ الساعة، فهو الحدَث الأكبر؛ أكبر الأحداث التي حدثت في هذا الوجود على أن الساعة قائمة، وذلك أنه النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- الذي ختم الله به الرسالات، فلا رسول بعد ولا نبي بعده وقد أعلن النبي هذا منذ أن جاء؛ قال «أنا النبي الخاتم»، قال {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وأخبر أنه لا نبي بعده، وقال {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، وأخبر النبي من أول دعوته أنه قد خُتِمَ به النبيون؛ فلا نبي بعده، ومعنى أنه خاتم النبيين أن انتهت النبوة؛ إذن انتهى التاريخ، إذن هذه نهاية هذا التاريخ؛ تاريخ الإنسان انتهى، بدأ بآدم -عليه السلام- عندما أهبطه الله -تبارك وتعالى- إلى الأرض، هذا تاريخ الإنسان في هذه الأرض بدأ بنزول آدم في الأرض، ثم تعاقب بعد ذلك؛ عاقب الله -تبارك وتعالى- الأنبياء، من نوح -عليه السلام- أول رسول إلى أهل الأرض ثم جائت الرُسُل بعده، ثم كما قال الله -تبارك وتعالى- {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}، كثيرين، {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}، تاريخ النبوات سار صفحة إثر صفحة؛ إثر صفحة، إثر صفحة ...، إلى أن كان النبي الخاتم محمد -صلوات الله والسلام عليه- بعد النبي عيسى -عليه السلام-، وبين عيسى وبين النبي ستمائة سنة؛ ستة قرون، ستمائة سنة ليس بينهم أيضًا نبي، والله -تبارك وتعالى- جعل عيسى عَلَم للساعة كذلك، وذلك أنه النبي المُبشِّر بالنبي الخاتم، كما قال -تبارك وتعالى- عن عيسى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[الزخرف:61]، على قراءة هذه الآية؛ لعَلَم للساعة، وفي القراءة الأخرى {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[الزخرف:61]، فعيسى كان عَلَم وأخبر أنه قد قَرُبَ زمان نبي يأتي بعده؛ النبي الخاتم، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، نبينا الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- الذي ختم الله -تبارك وتعالى- به الرسالات، وأعظم عَلَم على مجيئ الساعة لأنه أكبر مُنذِر بها؛ المُنذِر الأكبر بها.
ثم أخبر -صلوات الله والسلام عليه- بأشراط للساعة تأتي؛ أشراط صُغرى وأشراط كبرى أنها ستأتي، فأما الأشراط الصغرى عشرات بل مئات العلامات الصغرى، أخبر النبي أنه لا تقوم الساعة حتى يكون كذا وكذا، منها مثلًا قوله بفتح الفتوح على المسلمين بأن يبلغ هذا الإسلام كل مبلغ، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار»، وين يبلغ الليل ووين يبلغ النهار لابد أن يبلغ هذا الدين، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[ص:87]، وعِز أمته، ثم ما بيَّن بعد من الافتراق ووقوع السيف بين المسلمين، ثم ما أخبر من الأحداث كقوله -صل الله عليه وسلم- «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تُضيء لها أعناق الإبل ببُصرى»، ووقع هذا في القرن السادس من بعد بعثته -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك قوله «صِنفان من أمتي من أهل النار لم أراهما؛ رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات؛ عاريات، مميلات، مائلات، رؤوسهُنَّ كأسنمة البُخت، لا يرين الجنة ولا يُرِحن ريحها»، وكذلك قوله -صل الله عليه وسلم- لِمَن سأله عن الساعة فقال «ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال أخبرني عن أماراتها أو علاماتها، فقال أن تلِد الأمة ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العراة رِعاة الشاه يتطالون في البنيان»، وهذا كله من العلامات الصغرى التي أخبر بها النبي -صل الله عليه وسلم-، وجائه أخر فقال له «يا رسول الله؛ متى الساعة؟ فقال له إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة، قال له وما إضاعتها؟ قال له إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
الشاهد من كل هذا أن النبي أخبر بعلامات كثيرة هي العلامات الصغرى، وأخبر بعلامات كبرى ستأتي؛ لن تأتي الساعة حتى تخرج هذه العلامات، فقد قال -صل الله عليه وسلم- «لن تأتي الساعة حتى تروا عشر آيات»، ثم ذكَرَ النبي -صل الله عليه وسلم- قال «الدخان، ونار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى محشرهم؛ تبيت معهم وتقوم معهم، ونزول المسيح عيسى ابن مريم -عليه السلام- من السماء، والمسيح الدجال، والدابة»، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ}[النمل:82]، «وخروج الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج»، هذه سبع ثم الثلاث الأخرى؛ اللي هي العشر آيات، قال «خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب»، والخسف هو هبوط قشرة الأرض إلى داخل الأرض، هذه عشر آيات وهذه الآيات الكبرى التي لابد أن تكون قبل قيام الساعة؛ فهذه كذلك من أشراطها، فقول الله -تبارك وتعالى- {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}، جاء أشراطها بالفعل الماضي جاء من أشراطها نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- والدخان، على ما يقوله ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن الدخان من الآيات التي وقعت، كذلك منها انشقاق القمر كقول الله -تبارك وتعالى- {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}[القمر:2] {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}[القمر:3]، فانشقاق القمر وقع في عهد النبي -صلوات الله والسلام عليه- وذلك في مكة، عندما طلب الكفار من النبي آية فأراهم الله -تبارك وتعالى- القمر، قال لهم انظروا القمر وكان في تمامه، ثم رأوا أن هذا القمر ينفصل فيذهب فِلقة على يمين الجبل وفِلقة أخرى على يسار الجبل المقابل، ورأوه هكذا عيانًا بيانًا ثم رجع كما كان، وقد قال -تبارك وتعالى- {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}[القمر:2] {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}[القمر:3]، فهذا من الآيات التي جائت ومرت، {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}.
وأما الآيات الأخر {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}، بمعنى تجيئ، والله -تبارك وتعالى- يُعبِّر عن الأمر المستقبلي بالأمر الماضي لتحقق الوقوع؛ هذا أسلوب من أساليب العرب، وقد نزل القرآن بلسان العرب، فأقول لِمَن أُأكِّد عزمي على زياته غدًا؛ أقول له أتيتك -إن شاء الله-، أتيتك -إن شاء الله- يعني عندما يقول أن سآتيك -إن شاء الله-، ومن هذا قول الله -تبارك وتعالى- {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68] {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الزمر:69]، كل هذه أحداث الساعة أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها بصيغة الماضي؛ نُفِخَ، أشرقت الأرض، وضِعَ الكتاب، وكل هذا سيُنفَخ في الصور، ستُشرِق الأرض بنور ربها في هذا اليوم، سيوضَع الكتاب، ولكن هذا الأمر متحقق الوقوع؛ لابد أن يكون، فيُعبَّر عنه بالماضي كناية وهو في المستقبل؛ أن هذا أمر سيكون، {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}، جاء أشراطها؛ سيأتي أشراطها، يعني علاماتها الدالة عليها ستأتي، جاء في الماضي أشراطها الماضية التي وقعت، وستأتي أشراطها؛ علاماتها الدالة عليها التي أخبر عنها النبي -صل الله عليه وسلم- إخبارًا تفصيليًا في الأحداث الصغرى التي نعيشها الآن، وقد عشنا وعاش المسلمون من هذا القرن الخامس عشر إلى ما قبله عاشوا هذه الأحداث؛ أحداث الساعة، وإخبار النبي -صل الله عليه وسلم- بأحداثها الصغرى التي تتوالى شيئًا فشيئًا، فقد جاء من هذا أمور عظيمة جدًا؛ منها أمور من أمور البِشارات والفتوح، وأمور من أمور التحذير والفِتَن التي تقع، ومنها أحداث كونية كالنار التي تخرج من قعر عدن، وقد جاء في حديث حذيفة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى بالمسلمين يومًا صلاة الصبح، ثم صعد المنبر فجلس يخطبهم -صل الله عليه وسلم- ويُحدِّثهم إلى صلاة الظهر ثم نزل، أُذِّن لصلاة الظهر، صلى النبي الظهر ثم صعد المنبر وجلس يُحدِّثهم إلى صلاة العصر، ثم أُذَّن لصلاة العصر وصلى النبي العصر بهم ، ثم صعد النبي المنبر وجلس يُحدِّثهم -صل الله عليه وسلم- إلى قُرب غروب الشمس، يقول حذيفة "فحدَّثنا ما سيكون من وقته إلى يوم القيامة"، من وقت النبي -صل الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة حدَّثهم بالأحداث التي تقع في الأمة، يقول حذيفة "فأعلمنا أحفظنا"، يعني أعلم القوم هو الذي حفظ، الذي استطاع أن يحفظ ما قاله النبي هو أعلم الناس في هذا اليوم، "فأعلمنا أحفظنا"، يقول "كان يقع الأمر بعد ذلك مما حدَّثنا به النبي -صل الله عليه وسلم- فأتذكَّره؛ أتذكَّر ما قال النبي فيه كنت قد نسيته، يقول كالرجل تعرفه"، صديق لك تعرفه، "ثم يغيب عنك فتنساه، ثم إذا لقيته تذكَّرته"، يقول كان الأمر على هذا النحو مما يدل على أن النبي حدَّثهم حديثًا تفصيليًا، فإن حديث يستغرق يوم كامل بكلام النبي -صل الله عليه وسلم-؛ من الفجر إلى قُرب غروب الشمس، في يوم واحد يُحدِّث ما كان من وقته وإلى قيام الساعة، حدَّثهم كل الأحداث التي ستكون بينه وبين مجيئ الساعة -صلوات الله والسلام عليه-، ثم حدَّث كذلك النبي بهذه الأحداث الكبرى والعلامات العظمى التي تكون.
فالله -تبارك وتعالى- يُنذِر العباد ويقول {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}[محمد:18]، {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}، يعني أنَّى لهم إذا جائتهم ذِكراهم إذا جائتهم الساعة، يعني ماذا تنفعهم؟ ماذا ينفعهم التذكُّر عندما تأتي الساعة ويموت الإنسان؟ ومَن مات فقد قامت قيامته، مَن مات خلاص قامت قيامته ودخل في السؤال وفي بدايات الحساب، أنَّى لهم؛ كيف لهم، كما قال -تبارك وتعالى- عن يوم القيامة {........ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23]، ماذا تُفيده الذِّكرى؟ ما عاد تُفيده الذِّكرى ثانية لأن الله -تبارك وتعالى- قد حَكَم أن الفرصة الوحيدة ليتذكر الإنسان طريق الرب؛ وليعمل، وليؤمن، هي فترة الحياة الدنيا فقط، وأنها لا تتكرر لإنسان؛ لا يكررها الله -تبارك وتعالى- لأحدٍ أبدًا فيُعيده إلى الدنيا مرة ثانية، يُعيده إلى الحياة ليُختبَر وليسير في الطريق؛ يستحيل، إذا مات الميت انتهى؛ لن يصبح عنده أي فرصة ثانية ليُصحح ما كان، فإذا كان مات على الكفر فلا مجال؛ لا مجال للرد مرة ثانية وأن يؤمن من جديد، وهذا يتمناه الكفار ويستغيثون الله -تبارك وتعالى- ويتمنون، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107] {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108]، وفي الآية الأخرى {........ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:37]، أولم نُعمِّركم أي في الدنيا، ما يتذكر فيه مَن تذكر يعني ما يكفي لأن يتذكر الذي يُريد أن يتذكر هي كافية؛ أربعين سنة، خمسين سنة، ستين سنة، عاش هذه السنين الطوال، أولم نُعمِّركم في الدنيا، {........ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:37]، فلا عودة، ومهما تذكَّر الإنسان وأراد أن يتذكَّر؛ تذكَّر ربه، تذكَّر الآخرة، تذكَّر أن هذا كان حق، فإن هذا لن يُفيده.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ........}[محمد:18]، أي جائتهم الساعة، {ذِكْرَاهُمْ}، ماذا يُفيدهم تذكُّرهم بعد ذلك أنهم كانوا على الباطل؛ وكانوا مُكذِّبين، وكانوا مُعاندين، وليتهم آمنوا، فإذا جاء الأمر خلاص؛ فلا تحين مناص، ولا عودة، ولا إقالة، لا إقالة من الذنب ولا عودة إلى الحياة لتصحيح هذا الخطأ مرة ثانية، هذا بالنسبة للكافر وكذلك بالنسبة للمؤمن الذي مات على معصية لم يتب منها، لا مجال للتوبة لا في القبر ولا في الموقف، وإنما يصبح هذا صاحب الكبيرة أو صاحب المعصية أمره إلى الله -تبارك وتعالى-؛ إن شاء عذَّبه بها وإن شاء غفرها له، فالمؤمن إذا جاء لله -تبارك وتعالى- بذنب مادام أنه دون الشرك والكفر فهذا تحت المشيئة؛ يصبح تحت المشيئة الإلهية، إن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يغفرها له غفرها له، وإن شاء أن يُعذِّبه عليها عذابًا دون العذاب الأكبر؛ عذاب ليس عذاب الخلود، وإنما عذاب في النار؛ عذاب في القبر، عذاب في الموقف، فهذا قد يُعذِّبه الله -تبارك وتعالى- بها ثم يكون مآله إلى الجنة بعد ذلك مادام أنه من أهل لا إله إلا الله وأهل الإيمان، فإن أهل الإيمان الذين ماتوا على الإيمان؛ وعلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لا يُخلَّدون في النار خلود الكفار، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ........}[النساء:48]، ويغفر ما دون ذلك؛ ما دون الشرك، لِمَن يشاء؛ لِمَن يشاء الله -تبارك وتعالى- أن يغفر له هذا الذنب الذي هو دون الشرك، كزنا أو سرقة أو قتل على الصحيح من أقوال أهل العِلم حتى القتل كذلك، وهو من أكبر الذنوب بعد الشرك بالله، أو عقوق، أو غير ذلك، ففاعل هذا الذي لم يتب منه ومات على هذا ولم يتب منه فإن هذا يكون أمره إلى الله، إن شاء الله -تبارك وتعالى- عذَّبه وإن شاء غفر له -سبحانه وتعالى-، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يغفر لنا ذنوبنا وإخواننا المؤمنين، فالله -تبارك وتعالى- يُذكِّر هؤلاء، يقول {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}[محمد:18].
ثم قال -جل وعلا- {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19]، بعد هذا الفاصل من السورة وفيه هذا الختام من هذه الموعظة العظيمة؛ التي يعظ الله -تبارك وتعالى- بها عباده، ويزجرهم فيها عن الكفر وعن المعاصي، وأن يتوجَّهوا إلى الله -تبارك وتعالى- قبل أن يأتي الوقت الذي لا مجال لتصحيح الخطأ فيه، خلاص ما عاد في مجال وهو بالنسبة لِمَن يموت موته؛ وبالنسبة لِمَن يكون الساعة التي تفجأ مَن يكونون على هذه الأرض، قال -جل وعلا- بعد ذلك مُبيِّن الطريق إليه، قال {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19]، الخطاب موجَّه إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو خطاب للجميع، وإذا وجِّه الخطاب للنبي وأُمِرَ النبي بهذا فهذا لتشريف الخطاب، لتشريف الخطاب وبيان أنه إذا النبي أُمِرَ بهذا -صلوات الله والسلام عليه- فلا شك أن غيره بطريق الأَولى، غيره بطريق الأَولى خاصة إذا كان فيه تحذير من المعاصي والذنوب، فأولًا قال -تبارك وتعالى- {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، هذه الحقيقة الكبرى التي لا حق أكبر منها، فاعلم أيها المُخاطَب؛ كل المُخاطَبين، {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، هذي الحقيقة الكبرى؛ لا إله إلا الله، الإله؛ المعبود، الإله في لغة العرب هو المعبود، كل ما يُعبَد عند العرب يُسمونه إله ولو كان جُعْل؛ فأر، حجر، شجر، نجم، صنم، أي شيء يُعبَد يُعطى له صفة الأُلوهة، بمعنى أنه مألوه؛ محبوب، مُقدَّس، يُطلَب منه النفع، يُطلَب منه دفع الضُّر، فهذا المألوه؛ كل ما يؤله فهذا يُسمونه إله مهما كانت صفته؛ مهما كانت صفته وكان هو، فقد سمَّى العرب الشمس لأنهم يعبدونها الإلهة؛ لأنها تُعبَد، وسموا الأصنام والأحجار التي يعبدونها ويألهونها قالوا آلهتنا، الله يقول {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، وقبله قال قوم إبراهيم {........ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:59]، بآلهتنا؛ معبوداتنا، مألوهاتنا التي نألهها وقد كانت الأصنام.
فالإله في لغة العرب هو كل ما يُعبَد، لكن الإله يكون حق وباطل، لا إله على الحقيقة إلا الله، فالله -تبارك وتعالى- هو المعبود بحق وذلك أنه يستحق وحده العبادة، فحقه على الخلْق أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ لأنه خالقهم، بارئهم، مُصوِّرهم، متوَلي شئونهم، مُتصرِّف فيهم، مالِكهم -سبحانه وتعالى-، فالله مالِك المُلك وكل مَن سِواه لا يملك لِمَن يعبده لا نفع ولا ضر، كل مَن يعبده ما يملك نفع ولا ضر إلا بمشيئة الله -تبارك وتعالى-؛ إلا إذا شاء ربه وخالقه، فالملائكة لا تملك لِمَن يعبدها نفع ولا ضر، والشمس لا تملك نفع ولا ضر لِمَن يعبدها إلا ما شاء الله؛ إلا ما شاء خالقها -سبحانه وتعالى-، والأصنام والأوثان لا تملك لِمَن يعبدها نفع ولا ضر، فهي لا تستحق العبادة؛ هذه لا تستحق العبادة، فالله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-، الإله الحق هو الله وحده -سبحانه وتعالى- وما يُعبَد من دونه فباطل.
نقف هنا -إن شاء الله-، سنعود إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.