الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19] {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}[محمد:20] {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[محمد:21] {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}[محمد:22] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:23]، بعد تلك الموعظة العظيمة التي وعظ الله -تبارك وتعالى- بها عباده؛ وجَّه الخطاب إلى هؤلاء المُكذِّبين المعاندين بدعوة النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}[محمد:18]، أنَّى لهم الذِّكرى إذا جائتهم الساعة؟ لا يُفيدهم بعد ذلك أن يتذكروا وأن يرجعوا إلى الدين لأن الله -تبارك وتعالى- لن يُعطيهم وقتًا أخر يُعيدون فيه الإيمان؛ خلاص انتهى، إذا ماتوا فإنه لا مجال لأن يعودوا مرة ثانية؛ وأن يستغفروا، وأن يتوبوا، وأن يُقالوا من خطيئتهم الكبرى التي وقعوا فيها وهي الكفر بالله -تبارك وتعالى-، يقول الله -عز وجل- عن يوم القيامة {........ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23]، لا تُفيده الذِّكرى.
قال -جل وعلا- بعد ذلك {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، خطاب موجَّه للرسول -صلوات الله والسلام عليه- وهذا الخطاب للجميع، وذلك من تشريف الخطاب أن يوجَّه الخطاب للنبي -صل الله عليه وسلم-، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، العِلم هو تصوُّر المعلوم قلبًا؛ ورؤية، وعِلم، وهو بعد الدرجات الألى من الشك، ثم يأتي بعده الظن؛ والحُسبان، والرجحان، ثم يأتي العِلم، والعِلم هو الذي يجب أن يُتَّبَع، ثم يأتي بعد ذلك اليقين، فاليقين هو الدرجة الثالثة من درجات المعرفة، والعِلم يكون بتصوُّر المعلوم بصورة صحيحة؛ إما برؤيته، وإما بتصوُّر المعقول تصوُّر صحيح ومعرفة الأمر على ما هو عليه، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، وهذا الحق هو أكبر حق أنه لا إله إلا الله؛ فإن هذا الأمر تقوم عليه كل الأدلة، لا يمكن حصر الأدلة والبراهين على أنه لا إله إلا الله، فأولًا كل هذه الموجودات شاهدة على ذلك بلسان حالها، أولًا هذا الوجود بقيامه على هذا النحو هو شاهد أنه له موجِد، وأن هذا الموجِد قادر؛ قوي، عليم، قد أحكم صنع هذا العالم، وأنه لم يشركه أحد لأنه ما في شريك له، ما في إله معه؛ ما في شريك، لأن لو كان في شريك لكان هناك فساد في هذا الخلْق، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ........}[الأنبياء:22].
أيضًا من الشواهد كذلك على أن الله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى- الخبر، إخبار الله -تبارك وتعالى- بهذا الخبر عن نفسه -سبحانه وتعالى- في ما أرسله إلى رُسُله، فإن أخبار الرُسُل كلها جائت وكل رسول أُرسِل من الله -تبارك وتعالى- إنما هو بهذه الحقيقة، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، تعريف العباد بأن خالقهم وخالق هذا الكون هو إله واحد؛ لا إله إلا هو، وأنه هو الرب الرحمن؛ الرحيم، مالك يوم الدين، العزيز، الجبار، المتكبر، المصوِّر، بكل أسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى- قد عرَّفوا العباد بربهم -سبحانه وتعالى-، وكان من آخر ذلك ما نزل على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كل القرآن وثيقة لتعريف العباد بربهم، القرآن كله حديث عن الله -تبارك وتعالى-، إما حديث مباشر عن أسمائه وصفاته، أو حديث عن أعماله، حديث عن سُنَّته -سبحانه وتعالى- في خلْقِه وفي عباده، حديث عن مخلوقاته وموجوداته؛ ما نراه، ما لا نراه، حديث عن تشريعه -سبحانه وتعالى-، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ}، نقل الله لنا هذه الشهادة، {........ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18]، فهذه أكبر حقيقة، ثم أن كل ما تُدَّعى له الألوهية غير الله ادِّعاء باطل، ما ادَّعى البشر كلهم في كل تاريخهم الألوهية في غير الله إلا كان ادِّعائهم باطل، ما أحد يستطيع أن يُقيم دليل وحُجَّة على أن الذي عَبَدَه من دون الله إله، هل يستطيع الذين قالوا بأن الشمس إلهًا يُقيموا دليل على هذا؟ الشمس مخلوقة؛ مجبورة، مقهورة، هي جزء من هذا الكون الذي يسير وفق ما خلَقَه وما دبَّره له مولاه -سبحانه وتعالى-، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37].
ما دون الشمس والقمر مما عبَدَه البشر؛ من هذه الأصنام وغيرها، كل صنم ينصبونه له وقت ثم بعد ذلك يذهب، يذهب كما يُقال إلى مزبلة التاريخ، والله -تبارك وتعالى- هو الذي له الدين واصبًا -سبحانه وتعالى-، وأما هذه الأصنام كل صنم منها يأخذ وقتًا وينتهي، البشر الذين عُبِدوا من دون الله كفرعون وغيره والنمروذ له وقت يتجبر فيه على الناس؛ ويدَّعي فيه هذه الألوهية، ثم بعد ذلك يُركَل وينتهي أمره ويذهب، ويتحقق الناس بأن هذا ليس إلهًا وإنما هو معبود، ما افتراه البشر من عبادة الملائكة الله -تبارك وتعالى- أقام الدليل على أنهم عبيده؛ وليسوا بناته كما زعم مَن يزعم من الكفار، لا دليل عندهم ولا برهان لِمَن قال بأن الملائكة بنات الله، الذين عبدوا عيسى ابن مريم ما عندهم دليل على إنه إله مع الله -تبارك وتعالى-، بل كل الأدلة والشواهد قائمة على أنه عبد لله -تبارك وتعالى-، {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ........}[المائدة:75]، كيف للذي يأكل الطعام هذا يمكن أن يكون إله؟ يكون هو رب السماوات والأرض؛ وخالقها، وبارئها، والحال أن هذه السماوات والأرض كل ذرَّة فيها لا تسعها الكتب، لا يمكن أن تسعها الكتب في بناء هذه الذرَّة، مَن هذا الإنسان الذي يسع عقله ويسع عِلمه هذا الخلْق كله؟ هذا عيسى ابن مريم قد رويَ من الموجود في الإنجيل عندهم أنه أتى إلى شجرة تين؛ وظن أن فيها تين، وكان لا يعلم بأن هذا وقت تين، فإذا كان عيسى -عليه السلام- لا يعلم أن وقت التين في الوقت هذا أو ليس هذا الوقت؛ فكيف يكون إلهًا مع الله -تبارك وتعالى-؟ قد خلَقَ هذا الخلْق الذي يتخصص المتخصصون في ورقة واحدة من أوراق النبات، يُفني عُمره في معرفة ما فيها من الأسرار والحِكَم؛ ولا يستطيع أن يصل إلى هذا، ورقة من أوراق الشجر؛ فكيف يكون هذا؟.
هذا نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- وهو مَن هو عِلمًا بالأمور إلا أنه لم يكن يعلم النخل إذا لم يؤبَّر؛ هل يضره هذا أو لا يضره؟ فقد جاء إلى أهل المدينة ورآهم يأخذون من طلع الذَّكَر فحل نخل ويضعونه على طلع الأنثى، فقال "لِما تصنعونه؟" قالوا نأخذ من هذا ونضع على هذا، قال "لو تركتموه؟" يعني ماذا يكون لو تركتموه؟ فتركوه، فجاء النبي -صل الله عليه وسلم- ورأى الثمرة فقال "ما لنخلكم هذا العام شيصًا؟" والشيص هو صغار التمر الذي يخرج لمَّا يكون فيه بذر إذا لم تُلقَّح، فقالوا يا رسول الله قلت ما قلت، يعني قلت ما قلت؛ قلت هلا تركتموه، فقال "إنما أنا بشر، فما حدَّثتكم عن الله فلا أكذب على الله"، فلم يكن النبي -صل الله عليه وسلم- محمد يعلم بأن ترك تأبير النخل وتلقيحه يُفسِد الثمرة ولا يُصلحها؛ وهذا أمر في الزراعة، فهؤلاء مهما كان البشر فلا شك أن علومهم تعجز عن أن تُحيط بشيء من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- فضلًا عن هذه المخلوقات، فما البشر الذي يُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى- ويسع عِلمه هذا الكون العظيم؟ لا يسع الآن عقل البشر أن يعرفوا أبعاد لهذا الكون؛ أين ينتهي بُعدُه؟ وكيف تم بنائه على هذا البناء المُحكَم؟ وما وراء هذا البناء؟ فكيف يكون هناك إله مع الله -تبارك وتعالى-؟ فالشاهد أن كل مَن أقام له إلهًا يعبده من دون الله -تبارك وتعالى- لا يستطيع أن يُقيم برهانًا ما ولا دليل واحد على أن ما يعبده إله.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، على الحقيقة، الذي يجب أن يؤله وحده هو الله -سبحانه وتعالى- لأنه هو المستحق لهذه العبادة، وقد جاء في الحديث أن النبي -صل الله عليه وسلم- يقول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- «كنت رديف النبي -صل الله عليه وسلم- على حمار فقال لي يا عبد الله؛ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ فقلت الله ورسوله أعلم، فقال حق الله على العباد أن يعبدون لا يشركوا به شيئًا»، هذا حق الله عليهم لأنه خالقهم؛ رازقهم، متولي شئونهم، هو الذي خلَقَ لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا ما أشركه أحد وهو المُتفضِّل عليهم، إذن هو الذي يستحق العبادة وحده، حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، «ثم قال له أتدري ما حق العباد على الله؟ قال قلت الله ورسوله أعلم، قال حق العباد على الله ألا يُعذِّب مَن لا يشرك به شيئًا»، وهذا حق أحقه الله على نفسه -سبحانه وتعالى-، جعله على نفسه حقًا بأن مَن عبَدَه لا يشرك به شيئًا أدخله الجنة، فهذا أمر رتَّبه الله -تبارك وتعالى- وجعله حقًا عليه -جل وعلا-؛ أن مَن مات لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، وأن مَن عبَدَه لا يشرك به شيئًا أدخله الله -تبارك وتعالى- الجنة، كما أن الله أوجب على عباده أن يعبدوه وحده -سبحانه وتعالى- لأنه ربهم؛ رب العالمين، خالقهم، متولي شئونهم، الذي لا نِد له؛ ولا شبيه له، ولا نظير له، فكل ما منهم من الله، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، نفسه وكيانه كله من الله، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8]، فهذا الذي ركَّبك؛ وصوَّرك، وأعطاك ما أعطاك، كل كيانك منه؛ عيناك، أُذُنك، شفتاك، لسانك، يداك، رجلاك، كلها منه، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ}[البلد:8] {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}[البلد:9] {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10]، فهذا كله من الله -تبارك وتعالى-، فالذي يستحق أن يُعبَد هو الذي أعطاك هاتين العينين التي تُبصِر بهما؛ وأعطاك السمع الذي تسمع به، وأعطاك الفؤاد الذي تفقه به وتعلم به، فهذا كله هذا الرب الذي أعطاك هذا؛ ووهبك هذا، وأقام كيانك، ورزقك، وخلَقَ لك كل ما حولك على هذا النحو، وسخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض، هو وحده الذي يستحق العبادة -سبحانه وتعالى-.
أكبر قضية من القضايا وأكبر معلوم وأشرف معلوم أن تعلم أنه لا إله إلا الله؛ هذا أشرف معلوم، هذا المعلوم يتوقف عليه السعادة في الدنيا والآخرة؛ والجهل به يتوقف عليه الشقوة في الدنيا والآخرة، مَن وجد الله وعبَدَه -سبحانه وتعالى- وجد كل شيء، مَن فقد الله -تبارك وتعالى- ولم يعلمه فقد كل شيء، خسر كل شيء؛ خسر حتى نفسه التي بين جنبيه، {........ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15]، فالخسران المبين أن يخسر الإنسان نفسه التي بين جنبيه، فهذي أعظم قضية؛ أعظم قضية من قضايا العِلم هي هذه، ولكن للأسف أن أكثر الناس في عماية عن هذه القضية، فالمشركون والظالمون والجاحدون بالله -تبارك وتعالى- أكثر كثيرًا من المؤمنون الموحِّدون؛ الذي علِموا أن لا إله إلا الله، والأمر له -سبحانه وتعالى- وحده، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، بعد هذا العِلم استغفر لذنبك، الذنب؛ كل معصية، كل معصية ذنب، كل مخالفة للأمر الإلهي ذنب، ولا شك أن العبد مهما كان من الطاعة لله -تبارك وتعالى- إلا لابد أن يكون هناك شيء من التقصير، لأن حق الله -تبارك وتعالى- على العباد حق عظيم جدًا، حقه أن يذكروه لا ينسوه أبدًا؛ أن يشكروه ولا يكفروه -سبحانه وتعالى-، أن يُطيعوه فلا يعصوه قط -سبحانه وتعالى-، حقه أن يُطاع فلا يُعصى؛ وأن يُذكَر فلا يُنسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر -سبحانه وتعالى-، فهذا الحق اللي هو واجب على العبد نحو ربه -سبحانه وتعالى- إذا وقع فيه تقصير هذا ذنب، كل تقصير في هذا فهو ذنب وهو معصية لله -تبارك وتعالى-، والأمر بالاستغفار أن يطلب الإنسان المغفرة من الله -تبارك وتعالى-، المغفرة عن أي تقصير في هذا؛ تقصير في أنه نسيه، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، نسي ربه ولو لحظة، لو نسي ربه ولو لحظة قصَّر في هذا، لو لم يشكره على نعمة من نِعَمه -سبحانه وتعالى- هذا تقصير، لو خالف أمره أي مخالفة ولو خالفه حتى بقلبه فهذه مخالفة لأمر الله -تبارك وتعالى-، فينبغي أن تكون العودة الدائمة والاستغفار الدائم لله -تبارك وتعالى-، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، اطلب من الله -تبارك وتعالى- المغفرة لذنوبك.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، اطلب المغفرة كذلك للمؤمنين والمؤمنات، وقد قام النبي -صلوات الله والسلام عليه- أولًا بالنسبة للاستغفار لذنبه كان أعظم الناس استغفارًا -صلوات الله والسلام عليه-، يقول ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- "كنا نعُد للنبي -صل الله عليه وسلم- في المجلس الواحد أكثر من مائة استغفار"، جلسة واحدة يجلسها النبي يسمع منه الصحابة أنه استغفر الله -تبارك وتعالى- مائة مرة، يقول النبي «يا عباد الله توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة »، -صلوات الله والسلام عليه- يتوب إلى الله ويرجع إلى الله في اليوم الواحد أكثر من هذا، عِلمًا أنه كان في المجلس الواحد يقول مثل هذا -صلوات الله والسلام عليه-، وقد كان دائم الاستغفار -صلوات الله والسلام عليه- عِلمًا أنه كان أبعد الناس عن الذنب وعن نسيان الرب -تبارك وتعالى-، بل كان يذكر الله -تبارك وتعالى- نائمًا ويقظان -صل الله عليه وسلم-، تنام عيناه عندما ينام ولا ينام قلبه -صل الله عليه وسلم-، قلبه دائمًا ذاكر لله -تبارك وتعالى-، فالنبي في يقظته وفي منامه قد كان ذاكرًا لله -تبارك وتعالى-، ولكنه مع هذا قد كان دائم الاستغفار -صل الله عليه وسلم-، ويقول «إنه ليُغان على قلبي وإني لأتوب إلى الله واستغفر لله -تبارك وتعالى- في اليوم أكثر من مائة مرة»، والغَين يعني أخف من الرَين، يُغان على قلبه كشيء من الغشاوة القليلة، «إنه ليُغان على قلبي وإني لأتوب إلى الله -تبارك وتعالى- في اليوم أكثر من مائة مرة»، -صلوات الله والسلام عليه- الاستغفار الدائم والتوبة الدائمة لله -تبارك وتعالى-.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، كان النبي دائم الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات أولًا بالمناسبات وفي غير المناسبات؛ في الدعاء العام، بمناسبات الموت؛ إذا مات كان يُصلي على ميتهم -صلوات الله والسلام عليه-، ويستغفر لهم، ويطلب لهم المغفرة -صلوات الله والسلام عليه-، فكان النبي لا يدع أحدًا من أصحابه مات إلا ويُصلي عليه -صلوات الله والسلام عليه-، وماتت في يوم من الأيام امرأة سوداء كانت تقوم المسجد، لمَّا ماتت في الليل قام أصحاب النبي -صل الله عليه وسلم- فجهزوها؛ وصلوا عليها، ودفنوها ليلًا، فالنبي لمَّا سأل عنها قالوا يا رسول الله ماتت ليلًا ولم نحب أن نُزعجك ونُخرجك، فقال دلوني على قبرها، فذهب النبي -صل الله عليه وسلم- إلى قبرها في البقيع وصلى عليها -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها فقدت النبي ليلة، النبي كان عندها في ليلتها فتقول خرج في الليل، تقول فأخذت ثيابي علي بسرعة واتَّبعته؛ أشوف وين الرسول خارج، وأنها ظلت تسير ورائه في سواد الليل حتى وجدته ذهب إلى البقيع وقام يستغفر الله -تبارك وتعالى-، ثم لمَّا مكث النبي مكوثًا طويلًا عاد النبي -صل الله عليه وسلم- تقول فعُدت سريعًا، وعادت سريعًا حتى دخلت البيت قبل دخوله -صل الله عليه وسلم-، كل هذا كان في ظلمة الليل؛ لم يرها النبي -صل الله عليه وسلم-، ولكنه حسَّ بشيء أمامه وخلفه، فلمَّا جاء النبي -صل الله عليه وسلم- وجاء إلى فراشه وجد صدرها يعلوا وينخفض من ركضها، فقال غرَّ سرابي؛ وقال لها أنتي التي كنتي خلفي في ظل القمر؟ فأخبرته نعم أنها كانت، الشاهد أنها رأته، قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الله أمرني أن أخرج إلى أهل البقيع فاستغفر لهم»، فكان أمر بوحي من الله -تبارك وتعالى-، أخرجه الله -تبارك وتعالى- في ظلمة الليل ليذهب إلى أهل البقيع ويطلب المغفرة لهم -صل الله عليه وسلم-، فيستغفر للأحياء وللأموات -صلوات الله والسلام عليه-، ويقول النبي -صل الله عليه وسلم- «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم»، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، «وإن الله ينوِّرها بصلاتي عليهم».
كذلك كان من صفة النبي -صل الله عليه وسلم- امتثالًا لهذا الأمر أنه ما كان أحدًا يأتي بصدقته إلا ويدعوا النبي له، ويقول ابن أبي أوفة "أتيت بصدقة للنبي -صل الله عليه وسلم-، فقال النبي اللهم صلي على آل أبي أوفة"، وكذلك قال الله -تبارك وتعالى- له {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ........}[التوبة:103]، فكان النبي يصلي على المؤمنين ويدعوا لهم -صلوات الله والسلام عليه- كذلك في صلاته وفي دعائه -صل الله عليه وسلم-، فدعاء النبي -صل الله عليه وسلم- مقبول لأمته، وأعظم دعاءً لأمته وللمؤمنين والمؤمنات هو محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ الذي ادخر الدعوة الخاص التي يُعطيها الله -تبارك وتعالى- لكل نبي، لكل نبي دعوة مستجابة ونبينا ادخر دعوته شفاعة لأمته -صل الله عليه وسلم-، فهذا نبي عظيم؛ رؤوف، رحيم -صلوات الله والسلام عليه-، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128]، -صلوات الله والسلام عليه-، فكان دائم الاستغفار لنفسه -صل الله عليه وسلم- وكذلك للمؤمنين والمؤمنات.
قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}، إخبار منه -سبحانه وتعالى- أنه عليم بأحوال عباده -سبحانه وتعالى-؛ عليم بكل أحوالهم، مُتقلَّبكم يعني مُتنقَّلكم، أين تنتقل من مكان إلى مكان فالله -سبحانه وتعالى- عليم بك، ومثواكم؛ مكان الثواء اللي هو مكان الإقامة، يعني في الوقت الذي تكون فيه نائمًا فيه باقيًا فيه في بيتك وفي مكان فالله عليم بك، وكذلك في الوقت الذي تكون منتقل فيه من مكان إلى مكان؛ ذاهب إلى هنا، ذاهب إلى هنا، الله -سبحانه وتعالى- كذلك عليم بك، ففي كل أحوالك الله -جل وعلا- عليم بك، فهذا وعظ عظيم للعباد أي اعلموا أيها العباد أن الله -تبارك وتعالى- معكم حيثما تكونون، أينما تكونون فالله -تبارك وتعالى- معكم، فهذه الآية اشتملت على هذه المعاني العظيمة، أولًا {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، أشرف معلوم، وأعظم معلوم، وأثمن معلوم، أن تعلم بأنه لا إله إلا الله وتعمل بمُقتضى هذا العِلم، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، كُن دائم الاستغفار لذنوبك، وأنت أيها العبد مهما كنت إلا أنت دائمًا محل التقصير فكُن دائم الاستغفار، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وقد علَّمنا الله -تبارك وتعالى- أن نستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ وكذلك أن ندعوا ونُسلِّم على المؤمنين والمؤمنات، فإن في صلاتنا جزء من الصلاة التي نُصلِّيها أن نحن نقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أخبر النبي أن هذا السلام يصل كل عبد لله صالح في السماء وفي الأرض، كل عبد صالح لله -تبارك وتعالى- هذا الدعاء له في السماء كالملائكة؛ وفي الأرض يصله هذا، والسلام على العبد هو دعوة له بالسلامة من كل الآفات، ومن السلامة؛ السلامة من الذنوب والمعاصي، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}[محمد:19].
ثم قال -تبارك وتعالى- {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}[محمد:20] {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[محمد:21]، {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ}، لولا نُزِّلَت سورة؛ هلَّا نُزِّلَت سورة، بعض أهل الإيمان ممَن كانوا يشتقاون إلى القتال وإلى دفع الشر عن المسلمين كان يتمنون أن تُنزَّل سورة لتأمرهم بالقتال؛ وتُحتِّم عليهم الجهاد في سبيل الله، {........ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}[محمد:20] {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}، يعني أن بعض هؤلاء عندما يُنزِل الله -تبارك وتعالى- سورة مُحكَمة؛ وكل القرآن مُحكَم، ولكن مُحكَمة بمعنى أنها مُفصِّلَة ومبيِّنة للقتال تفصيلًا وأمرًا لا مجال للتأول فيه، {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- فيها القتال وأوجبه على المؤمنين، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، مرض الخوف من لقاء العدو، مرض الجُبن، مرض الركون إلى هذه الدنيا وعدم الرجاء في ما عند الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا من أمراض القلوب، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، يعني يصبحون من الخوف كأنهم قد غُشي عليهم، والذي يُغشى عليه من الموت إذا نظر تكون عيناه زائغتان؛ ما تقدر تستقر من الذهول، يعني أنهم يكونون في حالة من الخوف بحيث أن يكونوا ذاهلين، وينظرون إلى النبي -صل الله عليه وسلم- نظر الذاهل الذي يُغشى عليه، والذي يُغشى عليه من الموت لا ينظر مَن أمامه، وهذه الآية كقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:77]، فهؤلاء كانوا يتحرقون إلى القتال وهم في مكة، وقيل لهم في مكة كفوا أيديكم؛ لا تُقاتلوا الآن، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ}، في المدينة، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، من هؤلاء الذين كانوا يتحرقون للقتال، {يَخْشَوْنَ النَّاسَ}، الكفار، {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}، سؤال يعني لا يُريدون أن يكون هذا الوقت، {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}.
نقف هنا -إن شاء الله-، نعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.