السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (64) - سورة البقرة 221-225

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله –تبارك وتعالى- {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[البقرة:221] ينهى -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين أن يتزوجوا المشركات ولا تنكحوا} أي تتزوجوا ..المشركات} ..جمع مشركة،  والمشركة من تعبد إلها آخر مع الله -تبارك وتعالى-،  وهذا يشمل جميع المشركات سواء كنّ كتابيات أو غير كتابيات كمشركات العرب اللاتي  هنّ على دين العرب،  ودين العرب كان الشرك، فقد وقع فيهم الشرك قبل الإسلام وكانت أُمّة  مشركة تعبد مع الله-تبارك وتعالى – غيره، وكذلك النصارى مشركون، فلا أعظم في الشرك من قولهم أن عيسى هو الله أو ابن الله، واليهود كذلك أشركوا بقولهم أن عزير هو ابن الله.

قال –جل وعلا- {حتى يؤمنّ }إلا إذا آمنت هذه المشركة،  وهذا النص العام قد جاء ما يخصصه من جواز نكاح الكتابية وإن كانت مشركة لقول الله –جل وعلا- كما جاء في سوره المائدة {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ .........}[المائدة:5] {المحصنات }..أي العفيفات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أحل الله تبارك وتعالى للمؤمنين أن يتزوجوا باليهودية والنصرانية مع أنهنَ من جملة المشركات إلا أنهنّ مستثنيات هنا استثنين من هذا النص { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وهذا الأمر قد قام عليه الإجماع في حل الكتابية وتحريم سائر المشركات.

 ثم قال –جل وعلا- {........وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }[البقرة:221] ولأن تتزوجوا أَمة وهي العبدة المملوكة مع ما في الزواج من الإيماء من  المشقة والعنت، وكونها مشتركة بين الزوج وبين السيد في أمر وليست مشتركة في التسري،  ولكن هذا يملكها وهذا يتزوجها فتصبح ثم بعد ذلك ما يحصل في الولد، فإن الأولاد يتبعون الأم فمع ما في زواج الأمة من التبعات إلا أن الله –تبارك وتعالى- أخبر بأن الزواج من هذه الأَمة ولو  كانت دميمة أو لو كان وراءها هذه التابعات هو خير من أن يتزوج مشركة ولو كانت هذه المشركة تعجبكم في جمالها ومالها ونحو ذلك مما يرغب فيه. {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَة }لكن إذا كانت هذه الأمة مع الإيمان، { خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ }وهذا تزهيد منه –سبحانه وتعالى- وتكريه في الزواج بالمشركة وهي ليست تزهيد هنا والكريه يعنى من باب الكراهة الفقهية وإنما لا شك أنه محرم لقول الله {ولا تنكحوا المشركات. }

 ثم قال: -جل وعلا- {........ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] {تُنكِحُوا}: تُزوجوا يعني لا تزوجوا المشركين لبناتكم وأولياءكم حتى يؤمنوا،  إلا إذا آمن هذا المشرك وهذا عام في كل المشركين، فلا يجوز تزويج المشرك سواء كان من أهل الكتاب ومن غير أهل الكتاب هذا نصٌّ قطعي وكذلك قد قام عليه إجماع الأمة في أنه لا يجوز لمؤمنة أن تتزوج مشركًا أيا كانت صفته.

 ثم قال: -جل وعلا- {........وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] فلأن تتزوج المؤمنة بعبد مملوك يعني مؤمن خيرٌ من أن تتزوج مشركا ولو أعجبكم هذا المشرك لماله أو جاهه أو سلطانه أو نحو ذلك.

 قال: -جل وعلا- معللًا ومبينا الحكمة في تشريعه هذا لعباده –سبحانه وتعالى-قال: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أُوْلَئِكَ. يعني هؤلاء المشركين يدعون إلى النار، لأقوالهم وأفعالهم،  فأفعالهم وحياتهم دعوة إلى الجحيم لأنهم لا يحلون ولا يحرمون إلا بأهوائهم ولا يسعون إلا بمقتضى اعتقادهم،  كذلك هم يدعون بألسنتهم إلى النار فالدعوى إلى الشرك دعوة إلى النار والنار هنا نار الآخرة عياذا بالله.

{..........وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221] أما الرب –سبحانه وتعالى- فإنه يدعو عباده إلي الجنة ذلك البستان العظيم الذي أعده –سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين، وهذا البستان هو الجنة الجنة لأنه مأخوذ يعني من التفاف أغصانها تجن وتستر من يدخلها جنة الآخرة،{ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} يعني دعوة الله –تبارك وتعالى- كذلك يدعو إلي جنته ويدعو للمغفرة عنده –سبحانه وتعالى- بإذنه بمشيئته وعفوه –سبحانه وتعالى- لمن يسعى في هذا السبيل.

{ ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} أي على هذه الصورة كذلك يبين الله –تبارك وتعالى- آياته بمعنى  التبين يعني الإظهار والإيضاح، آياته هذه المقروءة للناس {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون } يتذكرون يقوم في أنفسهم التذكر واستحضار هذه المعاني التي يرشد الله –تبارك وتعالى- إليها ويبينها،  ومن استحضر هذه المعاني على الوجه الصحيح وتذكرها،  إذا كان من أهل الذكرى تذكر ومن كان أصم أعمى لا يفقه ذلك ولا يتذكر ذلك،  ولذلك لعل إنما هي للرجاء  بحسب العبد وليس بحسب الرب –سبحانه وتعالى-،  فإن الله تبارك وتعالى يعني لا يرجو شيئًا يكون أو لا يكون بل الأمر أمره والفعل فعله –سبحانه وتعالى- وإنما {لعلهم يتذكرون} يعني لعلهم يستفيدوا من هذا البيان فيتذكروا ومن تذكر تذكر ومن بُيِن له الأمر ولم يتذكر لا يكون من أهل الذكرى .

ثم قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222] { وَيَسْأَلُونَكَ} هذا هو السؤال السابع هنا في هذه السورة وكلها بيان عن أحكام يسأل عنها أصحاب النبي -صلوات الله وسلامه عليه-  فيأتي الله –تبارك وتعالى- بحكمه أو يفصلها.

{عن المحيض} و هو مكان الحيض ماذا يصنع المؤمن في حال أن تحيض المرأة؟ هل يصنع كما يصنع اليهود من أنهم لا يؤاكلوها  ولا يشاربوها ولا يساكنوها؟ أم تُخالط المرأة وتعاشر وتجامع في وقت الحيض؟  فبين الله -تبارك وتعالى-حكمه هنا وشريعته لعباده المؤمنين المسلمين.

 فقال: -جل وعلا- {قُلْ هُوَ أَذًى} يعني أن الحيض أذى والأذى القذر والنجس،  {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} : هذا أمر منه –سبحانه وتعالى- باعتزال النساء في المحيض والمحيض: هو مكان الحيض في الآية نص لا يجوز جماع المرأة في وقت الحيض،  وقد بين النبي معنى هذا الاعتزال ليس اعتزال المرأة اعتزالا كليا لا تؤاكل  ولا تشارب ولا تجالس ولا تساكن كما كان الشأن في اليهود وإنما الاعتزال:  إنما هو اعتزال الجماع فقط وقول الله في المحيض وهو مكان الحيض.

 قال: -جل وعلا-{ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ولا تقربوهن بالجماع حتى الطهر}،  والطهر هنا هو انقطاع الدم النجس عنهن . {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ: وذلك بالغسل الاغتسال.

{....... فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} فَأْتُوهُنَّ} في الجماع مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي في موضع الحرف، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222]  بيَن الله في إثر ذلك أنه يحب التوابين، والتواب هو كثير التوبة والرجوع إلي الله –تبارك وتعالى-، والتوبة والرجوع إلي الله –تبارك وتعالى-  طهارة من الإثم، { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والتطهر هو البعد عن النجاسات وإزالة النجاسات، وبهذا يحب الله –تبارك وتعالى المتطهر بكل معنى الطهارة الباطنية والظاهرية،  فالباطنية: الطهارة من الإثم والفواحش والظاهرية: الطهارة من النجس و الأذى والرجس كل أنواع النجاسة الظاهرية. فالله يحب هؤلاء  التوابين ويحب المتطهرين فيحب عبده أن يكون طاهرًا من المعاصي و القذارة : تقذر النفس والقلب،  وأعلى  هذه القذارة هي  الشرك كما قال: الله-تبارك وتعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }[التوبة:28] نجاسة حكم نجاسة قلب نجاسة اعتقاد،  والمعاصي دون الشرك قاذورات كما قال صلى الله عليه وسلم "من ابتُلي بشيءٍ من هذه القاذورات فليستتر بستر الله"  من هذه  القاذورات والمعاصي هذا لأنها تقذر النفس وتقذر القلب فالتوبة تطهر من هذه النجاسات المعنوية والاغتسال والتنظف هذا تطهيرًا للظاهر.

ثم قال: –جل وعلا- {.نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة:223] هذه إباحة من الله –تبارك وتعالى- وإخبار أن المرأة  هي موضع الحرث {حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} هذا في الجماع لكن في مكان الحرث { أَنَّى شِئْتُمْ} يعني مقبلات ومدبرات ومتلقيات أي صورة من صور الوقاع، ولم يحتم الله يوجب صورة  من هذه الصور بل جعل هذا الأمر مباحًا على أي وجه يشاؤه الزوجين غير أنه  لابد أن يكون الجماع في مكان الحرث والحرث هو الولد.

ثم قال: -جل وعلا- {وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم} و ممكن أن تكون التقدمة  في الجماع بالولد،  فالإنسان إذا ابتغى بجماعه الولد هذا فقدم لنفسه لأن  الولد امتداد لحياة الأب خير له، فإذا مات الإنسان فإن ولده إذا دعا  له يكون هذا مدًا له في عمره وفي أجله " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" يقول: النبي ومن ضمن هذه الثلاث ولد صالح يدعو له {وقدموا لأنفسكم} كذلك بالنية الصالحة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بضع  أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله  أيأتي أحدنا شهوته ويكون فيها أجر قال : أريتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في حلال كان له بها أجر، فهي كذلك إذا كانت بالنية نية أن يستعف وأن يستمتع بما أحل الله –تبارك وتعالى- له وأن يبتعد عن الحرام فهذا قد قدم لنفسه الأجر قال: وقدموا لأنفسكم أي من  الأجر عند الله –تبارك وتعالى- الأجر بالنية الصالحة أو الولد إذا نويتموه وابتغيتموه.

 {واتقوا الله}خاف الله –تبارك وتعالى- خاف الله –عز وجل- وخوف الله ومراقبته في هذا الأمر تأتي بأمور كثيرة  منها مثلا الإتيان في غير موعد الحرث،  وقد جاءت الأحاديث التي تبين عظم هذا الأمر انه من الفواحش العظيمة كقول: النبي "من أتي امرأة في دبرها فقد كفر"،  كذلك الوطء في حال الحيض فهذا إثم عظيم  و هنا الآيات تنهى عنه،  كذلك {اتقوا الله} ممكن هنا يعني خاف الله –تبارك وتعالى- يعني كذلك من الوطء  في وقت الحيض.  فالأمر في تقوى الله –تبارك وتعالى- إنما هو المحافظة على هذه الحدود وعدم الوقوع فيما حرم الله تبارك وتعالى.

 {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} تحذير إثر تحذير وهذا وعظ منه –سبحانه وتعالى- اعلموا  أيها المؤمنون  أنكم ملاقوه للحساب،  كل عبد سيلاقي ربه –سبحانه وتعالى- ويحاسبه،  إذن نستحيي من الله –تبارك وتعالى- ونقدر هذا الموقف؛ لأن هذه الأمور التي ينهى الله –عز وجل- عنها أمور سر قد لا يطلع عليها إلا الله –تبارك وتعالى- والزوجان فاتقوا الله –تبارك وتعالى- وخافوا وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وان عملكم لا يخفى عليه –سبحانه وتعالى – وسيحاسبكم عليه.  

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] بالأجر العظيم و الثواب الجزيل كذلك بأن ما أباحه الله –تبارك وتعالى- لعباده إذا ناله الإنسان بالطريق الشرعي ونوى فيه النية الصالحة ففيه له الأجر والمثوبة عند الله –تبارك وتعالى- فكل هذه داخلة في تبشير ما أُمر به النبي أن يبشر المؤمنين بفضل الله –تبارك وتعالى-وإحسانه ومغفرته –جل وعلا-

 

 ثم قال: -جل وعلا-{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224] حكم آخر من أحكام هذه الشريعة يأتي متواليًا في هذه السورة العظيمة سورة البقرة

 {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُم} أي لا تجعلوا حَلفكم بالله –تبارك وتعالى- على الخير يمين هذا اليمين لا تجعلوا معترضا بينكم وبين الخير. { أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاس}إذا كنت قد حلفت على يمين فيها بر أو خير أو إصلاح بين الناس، وأنت الآن حلفت بالله –سبحانه وتعالى- ألا  تفعل هذا الخير وأصبح يمينك معترضا بينك لأنك حلفت وبين هذا الخير الله يقول:  {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أي من سماحه –سبحانه وتعالى- أنه يقول : وإن كنت حالفًا معظمًا لله أنك لا تفعل هذا الأمر فإن الله لا  يلزمك بأن تلتزم بهذا.

  علمًا بأنه إن  ألزمك إن  أنت حلفت فقد منعت  عن نفسك خيرا  كمن حلف ألا  يزور أخاه أو أن لا يعطي ابنه  هذا ولا يعطي زوجته هذا الأمر وألا  يساعد هذا الإنسان وألا  يرحم هذا النبيل والا  يستجيب لهذا السائل أمور كلها قد تكون من الخير،  فإذا إنسان دعاك مثلا وهو مدين وأن تحط عنه  من دينه فقلت  لا والله ما أحط عنك شيئا من دينك لابد أن تؤدي هذا الدين كاملًا،  ونحو هذا مما قد يحلف عليه الإنسان وقد يكون حلفه في وقت غضب ويحلف ألا  يفعل أي شيء من الخير،  أصبح يمينه معترضا بينه وبين فعل هذا الخير؛ لأنه حلف معظما لله –تبارك وتعالى- ألا  يفعل هذا الخير الله –سبحانه وتعالى- من رحمته وإحسانه  بعباده -سبحانه وتعالى- قال لا تجعل يمين الرب معترضا بينك وبين الخير وكفر عن يمينك وأتي بالذي هو خير.  {.........وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُو}[البقرة:224] {تَبَرُّوا} تفعلوا البر ... { وَتَتَّقُوا} أي شيء من التقوى ككلامك لأخيك المؤمن كإحسانك لمن يستحق الإحسان.

 وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاس} أمر كذلك من الإصلاح بين الناس حلفت ألا تفعل هذا وفيه صلاح، {والله سميع عليم} بمعنى الله سميع عليم فهو  سامع لأقوالكم عليم بأفعالكم لا يخفى عليه شيء –سبحانه وتعالى- من شئون عباده.

 وقد قال صلى الله عليه وسلم والله "  اني لا أحلف علي يمين فأرى غيرها خير منها إلا كفرت عن يمينه وأتيته الذي هو خير"، فهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه كان أحيانا يحلف على يمين ثم يرى أن غيرها خير منها أي  أن الذي حلف عليه أفضل أن يأتيه فيكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير -صلوات الله وسلامه عليه -.

 وقد حلف أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه عندما وقع من مسطح بن أثاثة  وهو من أقربائه،  مسطح ابن أثاثة  كان من الذين خاضوا في عرض أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها فقال-  لما سمع أبو بكر بهذا قال: والله لا أنفعه بنافعة   أبدا  أي  لا أنفع مسطح وكان ينفق عليه، فأنزل الله –تبارك وتعالى- قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:22] فعند ذلك كفر أبو بكر عن يمينه وأرجع نفقته التي كان ينفقها على مسطح وقال والله لا أنزعها عنه بعد أبدا؛   لأني أحب أن يغفر الله ألا { تحبون أن يغفر الله لكم }

. كذلك سمع النبي رجلًا وهو في غرفته سمع رجلًا في المسجد يقول له حط عني فقال: والله لا أحط عنك ابدأ كان يناشده أن  يحط عنه شيء في الدين فقال والله لا أحط عنك منه شيء أبدا  فقاما فخرج النبي : من الذي يتألى على الله ألا  يفعل الخير فانتبه هذا الصحابي إلى  فعله وكلام النبي هنا في غايه الحكمة والوعظ،  من هذا الذي يتألى ويحلف بالله –عز وجل- أن ما يفعل الخير فقال: أنا يا رسول الله وله ما يطلبه قال: أنا الذى فعلت هذا وله ما يطلبه فقال: النبي لذلك الرجل حط عنه يعني قال له حط الشطر قال حطه فقال قم فأوفيه ، فالشاهد من كل هذا من حلف على يمين خير ألا  يفعل الخير وجد الذى حلف عنه رجع وأنه  خير ألا يجعل اليمين معترضا بينه وبين هذا الخير فيكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير .  {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أي معترضا بينك وبين الخير {....... أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:224]

 ثم قال: -جل وعلا- {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[البقرة:225] هذا من أحكام اليمين كذلك.

 قال: -جل وعلا- {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أصل اللغو هو الكلام الذي يقوله شخص ولا يعني معناه الحقيقي وأصله من لغو الطير يقول العرب لغا الطير وذلك لأنه يتكلم مالم يفهمه السامع،  واللغو هو الكلام الذي لا فائدة منه {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3] قالوا: الذى لا يفيد لا في الدين ولا في الدنيا فهذا لغو،  أما اللغو في اليمين فهو من حلف وهو لا يقصد الحلف ولا يقصد أن  يعقد اليمين وإنما قال" لا والله نعم  والله"  نفيًا وإثباتا دون مقصد دون أن يكون قاصداً لهذا،  وقد فُسِّر بأنه  كأيمان  الطعام والشراب كأن  تعزم على أخيك تقول:  "والله تفضل عندي والله كل هذا والله اشرب هذا الشراب" ونحو ذلك, فهذه الأيمان التي لا يقصد صاحبها أن يعقدها فهذا يمين لغو هذا يمين لغو, الله –تبارك وتعالى- أخبرنا أنه  لا يؤاخذه عباده المؤمنين بها بمعنى أنه  إن حنث فيها فقال لصاحبه "والله تأكل هذا ثم قال أنا والله آكل  ولا أستطيع  أن آكل الآن"  لا يكون حنث بيمينه وبالتالي وجبت عليه كفارة أن يكفر عن هذه اليمين والإثم.

  قال: -جل وعلا- {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] وإنما يؤاخذكم الله –تبارك وتعالى- بما كسبت قلوبكم أي بكسب القلب ما عقد الإنسان قلبه عليه وقصده،  وأما ما خرج من لسانه دون أن يكون قد عقد هذا بقلبه ونواه وأكده فإن الله –تبارك وتعالى – من رحمته وإحسانه يتجاوز عن أيمان  اللسان هذه  التي تخرج من اللسان دون أن يكون قد عقدها وعزمها ونواها وقصده بقلبه.

{ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[البقرة:225] هنا  سماح  من الله –تبارك وتعالى- وإذنه هذا لعباده أن لا يكفروا عن اليمين التي قالوها غير قاصدين لها هذا من صفاته أنه غفور كثير المغفرة –سبحانه وتعالى- وإلا  فلو شاء الله أن يلزم كل عبد بما تفوّه به بلسانه لازمه -سبحانه تعالى-, حليم، و الحِلم: هو الصفح والمغفرة للمسيء وعدم تعجيل العقوبة له والله –تبارك وتعالى- هو الحليم –سبحانه وتعالى- ، ممكن أن يسمى العبد حليما والله حليم، لكن الفرق بين حلم الله -سبحانه وتعالى- وبين حلم المخلوق كالفرق بين الله -سبحانه وتعالى- وبين عباده –سبحانه وتعالى-.  قد وصف الله عباده بالحلم,  قال : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}[الصافات:101] لكن حِلم ما في المخلوقين كلهم من حلم إنما هو أثر من صفة الرب -سبحانه وتعالى-،  فحلمه لائق بذاته -سبحانه وتعالى-،  ولا أحد  أصبر على أذى منه –سبحانه وتعالى فمن مسامحته ومن مغفرته ومن سماحه أنه  يعفو عن عباده المؤمنين وفي هذا الباب أنهم  إذا حلفوا يمينًا خرجت بلسانهم لم يقصدوها ولم يعقلوها.

فالحمد لله رب العالمين اكتفي بهذا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله.