الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الفتح:4] {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}[الفتح:5] {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:7]، سورة الفتح سورة مدنية، نزلت هذه السورة على النبي -صلوات الله والسلام عليه- بعد مرجِعه من غزوة الحديبية؛ وكان هذا في السنة السادسة من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقعت غزوة الخندق في السنة الخامسة وفي السنة السادسة في ذي القِعدة ندب النبي -صل الله عليه وسلم- أصحابه أن يذهبوا إلى مكة للعُمرة، فخرج مع النبي -صل الله عليه وسلم- ألفًا وأربعمائة من أصحابه؛ أحرموا من ذو الحُليفة وذهبوا مكة، فلمَّا وصل النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلى الحُديبية؛ مكان في الحِّل قريب من مكة، بركت ناقة النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكلما وجهوها إلى مكة لا تتوجه، إذا وجهوها إلى غير مكة تتوجه، فلمَّا بركت قالوا "خلأت القسواء"، فقال النبي "ما خلأت ولا هو لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة"، يعني الذي حبس الفيل في جيش أبرهة عن مكة هو الذي حبس ناقة النبي -صل الله عليه وسلم- عن الدخول إلى مكة، وقال "لا تدعوني قريش إلى خُطة تُعظِّم بها هذا البيت إلا أجبتهم لها".
مشركوا مكة لمَّا تسامعوا بمجيء النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وأنه داخل إلى مكة مُعتمِر ومعه هذا الجيش، تعاقدوا على ألا يدخل عليهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- مكة عنوة أبدًا، وندبوا أنفسهم وأنصارهم والأحابيش للخروج للقاء النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وأن يُقاتِلوه، وأن يُناجِزوه، وأن يمنعوه من دخول مكة بكل سبيل، أراد النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن يُرسِل رسولًا من عنده لأهل مكة يخبرهم أنه قد جاء إلى البيت مُعظِّمًا له؛ وأنه يُريد العُمرة، وأنه ما قد جاء لقتال، وأن هذه هي حالهم؛ كلهم مُحرِمين، وأنهم قد ساقوا الهَدي وأشعروه، فأراد النبي أن يُرسِل عمر، فقال له "يا رسول الله ليس لي مَن يحميني في مكة"، كل بني عدي ابن كعب ...، يعني ليس لي قرابة تحميني، "ولكن أدلك على مَن يقوم بهذه المهمة؛ هو عثمان ابن عفان -رضي الله تعالى عنه-، فإن بني عبد شمس متوافرون ويستطيعون حمايته"، وأرسل النبي عثمان لهم وحمل رسالة النبي -صل الله عليه وسلم-، وقال لهم "إنني جئت وإن النبي قد جاء والمسلمين قد جائوا؛ لم يأتوا غُزاة، وإنما أتوا مُعتمِرين ومُعظِّمين لهذا البيت"، يُريدون أن يعتمِروا وأن يخرجوا، فقالوا "لن يدخلها علينا"؛ لا يدخلها علينا، وقالوا له "إن شئت أنت أن تطوف بالبيت سمحنا لك أن تطوف"، فقال "ما كنت لأطوف دون رسول الله -صل الله عليه وسلم-"، فاحتبسوه عندهم ولم يُرسِلوه إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبعد ذلك انتشر خبر بأن قريش قتلت عثمان ابن عفان -رضي الله تعالى عنه-، فلمَّا وصل الخبر على هذا النحو قال النبي "لا نمضي حتى نُناجِز القوم"؛ ما نرجع إلا أن نُناجِز القوم، ثم أن النبي -صل الله عليه وسلم- دعى أصحابه إلى البيعة، وتقاطر أصحاب النبي -صل الله عليه وسلم- ليُبايعوه على ألا يفروا.
قال جمع من الصحابة أن النبي قد بايعهم في هذه البيعة؛ وهي التي تُسمى بيعة الرضوان، وسيأتي تفصيل ذلك عند قول الله -تبارك وتعالى- {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ........}[الفتح:18]، قال جمع بأن النبي بايعهم على ألا يفروا، وقال جمع كسلمة ابن الأكبع وغيره الذي بايعه النبي ثلاث مرات؛ في أول الناس، وفي وسط الناس، وفي آخر الناس، قال "بايعنا على الموت"، ولا مُنافاة بين هذا وهذا فإن الذي يُبايع على ألا يفر هو بالضرورة يُبايع على الموت، بمعنى أنه لا يفر حتى لو قُتِلَ فإنه لا يفر، بايعنا رسول الله على ألا نفر؛ لا تفروا، ومَن قال بأن النبي بايعهم على الموت هو على مُقتضى عدم الفرار، فإن عدم الفرار أن يثبُتَ في مكان وأن يُقاتِل حتى لو قُتِلَ في سبيل الله، فكان مجموع البيعة على ألا يفروا هذا في الأساس؛ هذا نصها، ولكن مضمونها لا شك أنها كانت بيعة على الموت، وأظهر المسلمون في هذا الشجاعة؛ وكلهم بايعوه، ولم يتخلَّف عن البيعة إلا الجَد ابن قيس أخو بني سلَمَة، وهذا اختلى بين فخذي ناقته وضم إليها؛ فهذا الوحيد، وأما الباقون -الألف وأربعمائة- فإنهم بايعوا النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
بدأت قريش تُرسِل أولًا للنبي -صل الله عليه وسلم- مَن يحاول إرهاب المسلمين وتخويفهم، فمن جملة الذين أرسلوهم عروة ابن مسعود الثقفي أتى النبي -صل الله عليه وسلم- رسولًا من قريش وحذَّرَه؛ وبدا كأنه يُريد أن يفُتَّ في عضد المسلمين، وقال له "يا محمد جئت قومك بهذا الأمر، وما في أحد جر على قومه البلاء مثل ما جررت أنت" ونحو من هذا الكلام، ثم قال له "ما أرى حولك إلا أوباش الناس؛ وأنه لو جَدَّ الجِد فروا عنك"، فرد عليه أبو بكر الصدِّيق بكلمة شديدة وقال له "امصص بذر اللات؛ أنحن نفر عنه؟" فنظر إليه وكان أبو بكر مُقنَّعًا في الحديد عندما قال هذا، قال له "لولا أن لك يد عندي لم أقضها لك لرددت عليك"، ثم كان وهو يُكلِّمه كانت تطول يده حتى تأتي إلى لِحية النبي -صل الله عليه وسلم- ويُكلِّمه، فكان ثمَّة رجل واقف على رأس النبي -صل الله عليه وسلم- والسيف معه؛ فكان يضربه بقائم السيف، كلما مدَّ يده إلى لِحية النبي وهو يُكلِّمه ضربه على يده بقائم السيف، فقال له "مَن هذا؟ فقال له هذا المُغيرة ابن شُعبة، فقال أي غُدَر"، يعني مازلت أنفِق في غُدرتك التي غدرت، وكانت له قصة مع مجموعة من أصحابه في الجاهلية ثم غدر بهم فقتلهم واستاق مالهم، وكان عروة يدفع عنه هذا الأمر الذي قد تسبب فيه، هذا عروة ابن مسعود الثقفي؛ من ثقيف، والمُغيرة ابن شُعبة ثقفي كذلك، ثم بعد ذلك عروة رجع ولمَّا رجع كان يُريد فقط أن يحزُر الناس الذين حول النبي ويرى مقدار وقوفهم مع النبي؛ هل يقفوا؟ هل سيقاتلوا أم لا؟ فلمَّا ذهب إلى قريش قال لهم يا معشر قريش "تبوا نصيحتي"؛ هل تُريدون نُصحي؟ قال لهم "والله لقد أتيت كِسرى وقيصر"؛ كان سفير لقومه، قال "فلم أرى أصحاب رجل يُعظِّمونه كما يُعظِّم أصحاب محمدٍ محمدًا"، قال لهم ما رأيت في مَن نزلت عندهم من الملوك والعظماء أصحاب رجل منهم يُعظِّمونه كما يُعظِّم أصحاب محمدٍ محمدًا، "والله لا يتوضأ وضوءًا إلى تقاطروا عليه"، يعني أنهم ليأخذوا من هذا الماء؛ ماء الوضوء، "والله لا تبدر منه نُخامة إلا وقعت في يد أحدهم؛ فدلك بها وجهه وجِلده، والله لا يُسلِمونه لشيء أبدًا".
قال لا يمكن أن يُسلِموه؛ وأن يتخلوا عنه، وأن يتفرقوا عنه، لأن قريش ظنت أن الذين حول النبي -صل الله عليه وسلم- لا عصَبَة لهم؛ ما هم أهل عصَبَة، في ناس من الأنصار؛ أوس وخزرج، وكانوا مقاتلين، ناس من أفناء القبائل؛ متجمعين من قبائل شتَّى، فكان العرب يُقاتلوا عصبية؛ يقاتل أبناء القبيلة، كلٌ ينصر قبيلته، أما أن يكون أوشاب وأخلاط من الناس يجتمعون اجتماع واحد ثم تكون لهم حميَّة وقتال؛ ما كان هذا معهودًا، لكن عروة ابن مسعود الثقفي رأى أن هؤلاء الذين حول النبي -صلوات الله والسلام عليه- عُصبَة واحدة، وعُصبَة الإيمان التي تجمعهم ومحبة النبي -صل الله عليه وسلم- واجتماعهم عليه لا يمكن، قال لهم "لا يمكن أن يُسلِموه ليشيء أبدًا"، فقالوا اجلس؛ يعني لم يأخذوا بمشورته وظل الأمر على هذا النحو، ثم أرسلوا وافِدًا إثر وافد وآخر بعد ذلك أرسلوا أبو جندل ليُفاوض النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فدخل مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- في مفاوضة للصُلح، والنبي -صل الله عليه وسلم- لمَّ بركت ناقته في هذا المكان قال "والله لا تدعوني قريش إلى شيء تُعظِّم فيه هذا البيت إلا أجبتهم له"، سُهيل ابن عمرو؛ أبو جندل، بدأ يُفاوض النبي -صل الله عليه وسلم- في شأن أن يُعقَد صُلح بين القوم، فاتفق هو والنبي -صل الله عليه وسلم- على بنود للصُلح، من هذه البنود أن توضَع الحرب بين النبي -صل الله عليه وسلم- وبين قريش عشر سنوات؛ يأمن فيها الناس ويذهب بعضهم لبعض، بالنسبة للعُمرة حيث أن النبي أتى مُعتمِرًا هو ومَن معه؛ قال له "لقد عزمت قريش وأقسمت على أن لا تدخلها هذه السنة على قريش عنوة أبدًا، وإنما نسمع لك أنت تأتي من قابل"، مثل هذا في الشهر هذا في السنة الآتية تأتي، "ويأتي مَن معك فقط؛ لا يأتي غيرهم، وتأتون وليس معكم إلا السيوف في قُرُبها"، كل سيف في غِمده، وما تأتوا بسلاح أخر؛ من النبل، ومن الرماح، فقط بس السيوف فقط، يعني كلٌ يحمل سيفه؛ وسيفه مُغمَد، ولا يكون أحد سالٌ سيفه، وهؤلاء فقط دون غيرهم هم الذين سنسمح لهم، "وتمكثون في مكة ثلاث أيام فقط ثم تعودون"، نسمح لكم بثلاث أيام تؤدون العُمرة ثم تخرجون.
الأمر الأخر "أن مَن أتاك مِنَّا ترده"، كل مَن أتاك مِنَّا ترده إلينا، "وأما مَن أتانا من عندك"، يعني مسلم ارتد ورجع إلى أهل مكة، "فلا نرده"، وكان هذا أصعب شرط من الشروط، قال "وأما بالنسبة لقبائل العرب مَن أراد أن يدخل في حِلفك ويُحالفك فليدخل في حِلفك، ومَن أراد أن يدخل في حِلفنا فليدخل"، يعني كلٌ مع حلفائه، كانت هذه البنود التي اتفق النبي -صل الله عليه وسلم- مع سُهيل ابن عمرو اللي هو أبو جندل عليها، ثم أمر النبي -صل الله عليهم وسلم- أن يؤتى بالكتاب ليُكتَب بهذا، فحصل غم شديد جدًا على المسلمين لمَّا رأوا أن النبي -صل الله عليه وسلم- وافق على هذه الشروط التي رأوها مُذِلة، كيف نرضى الدنيء في هذا؟ كيف نرجع ولم نعتمِر وقد نوينا العُمرة؟ وأتينا هذا المكان؛ ما بيننا وبيت البيت الآن إلا هذه، الحديبية على شاطئ المسجد الحرام؛ ما يفصل بينها وبين أرض الحرم إلا مسافة قصيرة، فكيف نعود ولم نعتمِر؟ وكيف مَن يأتينا لائذًا بنا وعائذًا بنا مسلمًا نرده إلى الكفار؟ كيف نُسلِّم المسلم إلى الكافر ليستذله؟ وهذا من الذل والرضا بالهوان والمذلة، ومن العار أن يجيئك المستجير ثم تُسلمِه؛ هذا أي مستجير، فكيف وأن تُسلِم أخاك المسلم إلى الكفار؟ رأوا أن هذا أمر عظيم جدًا فأصابهم غم شديد، والنبي -صل الله عليه وسلم- جائه سُهيل وبدأ الكتاب، ولمَّا بدأ الكتابة أيضًا ظهرت في أثناء الكتابة أمور عظيمة من تنازل النبي -صل الله عليه وسلم- لقريش، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- وكان الذي يكتب العهد هو علي ابن أبي طالب؛ قال له "اكتب؛ بسم الله الرحمن الرحيم".
أول ما بدأ يكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سُهيل ابن عمرو "ما نعرف الرحمن ولا الرحيم"، قال له ما نعرف هذا، "وإنما نعرف بسمك اللهم؛ اكتب بسمك اللهم"، فقال النبي لعلي "اكتب بسمك اللهم"، فكتب بسمك اللهم وبعدين كتب ...؛ ملَّاه النبي، "هذا ما عَاهدَ عليه محمد رسول الله سُهيل ابن عمرو"، فقال سُهيل "لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك"، ما نقبل أن نوقِّع على عقد وأنت مكتوب فيه محمد رسول الله، قال "لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك"، فقال النبي لعلي "امحوا رسول الله"، فقال علي "والله لا أمحوها"، أنا أمحوا إسمك من هذه أنك رسول الله؛ قال لا أستطيع أن أمحوها، فقال له النبي "أرينيها"، والنبي أمي؛ لا يقرأ ولا يكتب، قال "أرينيها"، فأراه إياها فمسحها النبي -صل الله عليه وسلم- بيده، وكُتِب الكتاب بهذه الشروط؛ وضع الحرب عشر سنوات، يعود النبي هذه السنة على أن يعود مِن قابل، ألا يُسمَح لهم إلا بثلاث أيام فقط، ليس معهم إلا السيوف في قُرُبها، مَن أراد أن يدخل في حِلف محمد فليفعل، مَن أراد أن يدخل في حِلف قريش فليفعل، مَن أتى محمدًا من قريش ردَّه، ومَن أتى قريشًا من محمد لن يردوه.
لمَّا كُتِبَ هذا وأراد أن يوقِّع سُهيل ابن عمرو ويوقِّع النبي -صل الله عليه وسلم- وإذا بأبي جند ابن سُهيل ابن عمرو يأتي وهو يرسف في أغلاله؛ يهرب من سجنه وجاء، فاطلع المسلمون إذا أبو جندل طالع عليهم؛ فار من مكة، فلمَّا نظر سُهيل ابن عمرو إذا ابنه؛ هذا أبو جندل ابنه قادم، فقال للنبي -صل الله عليه وسلم- "لقد اتفقنا قبل أن يأتي هذا"، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- "دعه لي"، قال له يعني نحن ما وقعنا الكتاب، قال له "ما وقعنا الكتاب ودعه لي"، فقال له "لا؛ لا أدعه، هذا أول الشروط، إن لم آخذه وتردوه فلا عهد بيننا"، كل ما اتفقنا عليه لا يمضي منه شيء، فالنبي وافق -صلوات الله والسلام عليه- على أن يرد أبي جندل إلى قريش، أبو جندل صرخ وقال "يا معشر المسلمين كيف تتركوني؟"، كيف تتركوني يعني إليهم يهونوني ويُعذِّبوني؟ وكان هذا كما يُقال هو الأمر الذي أثار المسلمين جدًا وغلى الدم في عروقهم؛ ورأوا أن هذا أمر عظيم، كيف نُسلِم مسلم أتانا لائذًا وعائذًا وفارًا من الكفار؛ نُسلِمه مرة ثانية إلى الكفار؟ فأصاب المسلمين غم شديد حتى إن عمر ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يذهب إلى أبو بكر ويقول له "أليس برسول الله؟"، الأول ذهب عمر إلى النبي -صل الله عليه وسلم- فقال له "ألست برسول الله؟ فقال بلى، قال ألسنا بالمؤمنين؟ قال بلى، قال فاعلم أن لن نرضى الدنيَّة من ديننا"، لأي شيء نرضى بالدنيَّة ونحن في ديننا؟ فقال النبي -صل الله عليه وسلم- "إنه ربي ولن يُضيِّعني"، يعني إن الله -تبارك وتعالى- أمرني، هو الله -تبارك وتعالى- ربي ولن يُضيِّعني، فذهب عمر ابن الخطاب كذلك إلى أبي بكر الصدِّيق وقال له "يا أبا بكر ألسنا بالمؤمنين؟ أليس برسول الله؟ قال بلى، قال فعلى ما نرضى الدنيَّة من ديننا؟ فقال له إنه ربه؛ لن يُضيِّعه"، هذا رسول الله لا يُضيِّعه ربه، قال له "ألم يقل لنا أننا سندخل مكة؟"، عندما خرجنا من المدينة وأتينا إلى هنا ما قال النبي -صل الله عليه وسلم- إننا سندخل مكة؟ "قال هل قال لك هذه السنة؟".
هذا كذلك الأحنف ابن قيس -رضي الله تعالى عنه- أحلم الناس؛ وأعظمهم حِلم ورسوخ، يقول "أيها الناس اتهموا الرأي في الدين، فوالله لقد كِدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حدِث أبي جندل"، يقول أنا كِدت؛ قاربت، أني أذهب إلى النبي وأقول له أنا أرد لك أمرك؛ أمر الإسلام، وأعفني منه، يوم حدِث أبي جندل؛ يوم جاء أبو جندل يرسف في قيوده للمسلمين، يقول "يا معشر المسلمين كيف تتركوني؟"، فيقول كِدت على هذا، المسلمون كان قد أصابهم غم شديد جدًا بهذا الأمر سلَّموا لأمر الله -تبارك وتعالى-، فهذا رسول الله وقد اختار هذا الأمر ووقَّع هذه الشروط، ثم أن النبي بعد ما وقِّعَ الأمر وبعد أن تم على هذا النحو والمسلمون في همهم وغمهم قال لهم "انحروا هنا"، ما هيدخلوا وقد ساقوا الهَدي فقال لهم "انحروا هنا"، ونحروا في الحِّل، "واحلقوا"، خلاص فكوا اللي هو المُحصَر اللي هو حُكم مَن أُحصِرَ ومُنِع عن دخول البيت، وهذا لأول مرة يسمع المسلمون أمر النبي ولا يُطيعوه فلم يقم أحد، ما قام أحد ليُنفِّذ ما أمر النبي -صل الله عليه وسلم- من أن يذبحوا هَديَهم؛ وأن يحلقوا رؤوسهم، وأن يحِلُّوا من عُمرتهم، الحِّل حِل المُحصَر، ما أطاع أحد فالنبي -صل الله عليه وسلم- دخل بيته مُغضَبًا، وقالت له أم سلَمَة -رضي الله تعالى عنها- ...، كانت معهم أم سلَمَة فقالة له "ماذا يُغضِبُك؟ قال ومالي لا أغضب وأنا أأمر بالأمر ولا يُطاع؟ فقالت له يا رسول الله اذهب أنت فانحر هَديك؛ وأحلق رأسك، وسيفعل المسلمون"، ما خيار لهم، فخرج النبي -صل الله عليه وسلم- ولم يُكلِّم أحدًا بالأمر، وإنما ذهب فذبح هَديَه وأمر الحلاق أن يحلق شعره، فلمَّا فعل النبي هذا في الجيش ورأى الصحابة رسول الله بنفسه وهو يذبح هَديَه وهو يحلق رأسه فعلوا كما فعل، ولكنهم كانوا يحلقوا رؤوس بعضهم ويكاد يقتل بعضهم بعضًا من الغم، يعني يكاد الحلاق الذي يحلق الرأس من ذهوله أن يذبح أخاه المسلم وهو ذاهل من الغم الذي أصابه.
عاد المسلمون بعد هذا الأمر؛ بعد توقيع هذا الأمر على هذا النحو، وقد استسلموا لأمر الله -تبارك وتعالى- ونزلت هذه السورة، نزلت هذه السورة لتُبيِّن أن هذا الذي وقع إنما قد كان فتحًا عظيمًا، قال -جل وعلا- {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الفتح:4]، كانت هذه الغزوة هي الفتح المبين الذي امتنَّ الله -تبارك وتعالى- به على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وكان الأمر في ظاهره أنه ذِلة وهزيمة عظيمة للمسلمين، وأنهم رضوا بالذل والهوان في قبولهم هذه الشروط المُذِلة، لكن قد جعل الله -تبارك وتعالى- هذا أعظم النصر، وكان من هذا النصر أولًا أنه لمَّا وضِعَت الحرب بين المسلمين وبين قريش أمِنَ، وبدأ الناس يذهب بعضهم لبعض فيسمع؛ فبدأ دخول الناس إلى الإسلام، ودخل من كبار قريش في الإسلام في هذه الفترة الجمع الغفير؛ دخل خالد ابن الوليد، وعمرو ابن العاص، ومجموعة من رؤوس قريش وصناديدها، وكذلك قبائل العرب دخلوا في دين الله -تبارك وتعالى-؛ فكان هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني أن هذه الغزوة مهَّدَت إلى الفتح المبين؛ فتح مكة، وكان هذا بعد سنتين من وقوع صُلح الحديبية؛ هذا أمر أخر، دخل المسلمون عُمرة القضاء وتحقق أمر الله -تبارك وتعالى-، وفي هذه العُمرة دخل المسلمون مكة آمنين وصدق فيهم وَعْد الله -تبارك وتعالى-، وكان هذا بالنسبة لأهل مكة أن يدخل الرسول ومعه هذا العدد ويؤدي العُمرة على هذا النحو وأهل مكة ينظرون إليهم؛ فكان هذا أمر عظيمة جدًا، حتى أن قريش لمَّا دخل النبي خلُّوا لهم البيوت داخل مكة وجلسوا من بعيد على شرفات بيوتهم وعلى الجبال ينظرون إلى المسلمين، وقالوا وأشاعوا إشاعة "أتاكم محمد والمسلمون معه ممَن أكلتهم حمَّى يثرب"، فقال النبي "أروهم منكم قوة"، وأمر بالاطِّباع والرَمَل في الثلاث أشواط الأولى وإظهار قوة، فقالوا "والله ما بهم بأس"، ما بهم أثر من آثار حُمَّى يثرب ولا نحوها، فكان هذا أعظم دعاية للمسلمين وقوتهم، أما بالنسبة لتلك الشروط المُذِلة وهي أن يردَّ المسلمون إلى الكفار مَن يأتيهم فارًا؛ فإنه قد وقع كما أخبر النبي -صل الله عليه وسلم-، قال "إن الله جاعل لهم فرجًا ومخرجًا"، الله سيجعل لهم فرجًا ومخرجًا، وسنشرح إن شاء الله في الحلقات الآتية صورة الفرج والمخرج التي جعلها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين المستضعفين؛ الذين كان النبي حسب الشرط يُرجِعهم إلى قريش.
وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد، الحمد لله رب العالمين.