الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الفتح:4] {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}[الفتح:5] {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:7]، ذكرنا في الحلقة الماضية أن هذه السورة سورة الفتح، نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- حال قفوله من غزوة الحديبية؛ والتي وقعت في السنة السادسة من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والتي انتهت بأن النبي كان خارجًا مع ألف وأربعمائة من أصحابه يُريدون البيت لأداء العمُرة؛ كان هذا في ذي القِعدة من السنة السادسة، ثم إن قريش صدتهم ومنعتهم عن الدخول وقالوا "والله لا يدخل علينا محمدًا عنوة أبدًا"، ما يدخل علينا مكة، وجائوا بكل حدهم وحديدهم حتى بالعوز المطافيل أتوا بها؛ جندوها لمنع النبي، وانتهى الأمر بأن قبِلَ الشروط، وكان غالب هذه الشروط التي أملتها قريش على النبي -صل الله عليه وسلم- مع ما في ظاهرها من الأمر الشديد على المسلمين، ومن أشد ذلك أن يُرجِع النبي كل مَن أتاه مسلمًا من مكة؛ أن يُرجِعه إليهم مرة ثانية، وكان هذا الأمر هو الذي أثار المسلمين وأغضبهم الغضب الشديد، حتى يقول الأحنف ابن قيس"كِدت أن أرِدَّ على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندل"، يوم جاء أبو جندل يرسف في قيوده بعد أن أنتهى النبي من كتابة العقد مع سُهيل ابن عمرو أبيه؛ أبو أبو جندل، وقبل التوقيع جاء أبو جندل فقال سُهيل "يرجع وإلا فلا عهد"، فقبِلَ النبي هذا وحصل للمسلمين الأمر العظيم، ثم إن المسلمين استكانوا واستجابوا لأمر الله -تبارك وتعالى-.
قولنا أن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هذا الصُلح في هذه الغزوة كان فتحًا عظيمًا، من هذا أن فُتِحَت مكة كأنها فُتِحَت سِلمًا، فبدأ المسلمون يسافرون إلى مكة ويعودون منها ويأتون، فكان هذا باب يُسمِع الناس عن الإسلام ودخل الناس في دين الله -تبارك وتعالى-، كذلك أصبح عند العرب كلها أن النبي -صل الله عليه وسلم- على الأقل في نظر الناس على قدم المساواة مع قريش وقد عقد عقدًا معهم؛ فهم أصبحم سواء، وقريش كانت أعظم قوة ضاربة في الجزيرة؛ يُقدِّسها الناس كلهم، فكونهم يعقِدوا عقد مع النبي -صل الله عليه وسلم- فهذا ظهور لأمر الإسلام ورِفعة للمسلمين؛ وبهذا كان لذلك سُمعة لأهل الإسلام، أما بالنسبة لذلك الشرط المُذِل فإن النبي -صل الله عليه وسلم- قال في إرجاع هؤلاء "الله سيجعل لهم فرجًا ومخرجًا"، وكان هذا الفرج والمخرج أتى على هذا النحو؛ أنه أتى رجل من أهل مكة وهو أبو بصير -رضي الله تعالى عنه- مسلمًا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقال له "يا رسول الله أنا فررت من القوم وجئتك"، فقال له النبي "لابد من ردِّك حسب الشروط التي معهم"، ثم لم يلبث المشركين أن أرسلوا رجلين لأخذ أبي بصير، فجاء الرجلين وطلبا من النبي -صل الله عليه وسلم- أن يردَّ أبي بصير؛ فأمرهم بأن يأخذوه، أخذوا معهم أبو بصير لرده إلى مكة مرة ثانية وهو مسلم؛ جاء فار بدينه، فلمَّا خرجوا إلى ذي الحُليفة واستراحوا في مكان وجلسوا فقال أبو بصير لواحد منهم "ما أجمل سيفك"، مدح سيفه، وقال "نعم لقد اشتريته بكذا، وكذا، وكذا ...،"، فقال له "أرينيه فأراه"، أعطاه السيف فأخترطه فقتل صاحب السيف هذا، ثم إن الأخر فر؛ لمَّا رأى أنه قد قُتِلَ صاحبه فر ركضًا ورجع إلى المدينة حتى دخل على النبي -صل الله عليه وسلم-، فقال له "قُتِلَ صاحبي"، النبي لمَّا شافه وهو قادم قال "لقد رأى هذا فزعًا"، فقال "قُتِلَ صاحبي"، فما لبث أبو بصير إلا وهو داخل على النبي -صل الله عليه وسلم- وقال له "يا رسول الله لقد أوفيت ذمتك"، يعني عهدك أنت أوفيته؛ أنت أرسلتني إليهم، وأنا قتلتهم وهذا تصرُّف مني بنفسي وأنت قد أوفيت ذمتك معي، فقال النبي "ويل أمه؛ مِسعَر حرب لو كان معه أحد".
فبعد ذلك علِمَ أبو بصير بأنه سيُرسِله إلى مكة؛ فعند ذلك فر، لم يذهب إلى مكة حيث الأسر وإنما ذهب إلى ساحل البحر؛ إلى جهة ينبع في ساحل البحر، وأرسل مَن يخبر ضعفاء المسلمين والذين في مكة يُستذلون؛ أنه إذا فررتم فأتوا إلي، لا تذهبوا إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، ففر إليه مجموعة كذلك ممَن كانو يُستضعَفون في مكة؛ فروا إلى أبي بصير على ساحل البحر، وكانوا يكمنون نهارًا ويقومون ليلًا وقطعوا طريق قريش؛ فقطعوا طريق تجارتهم إلى الشام، فهؤلاء طبعًا أصبحوا جماعة خارجة؛ ليسوا تحت إمرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، لا يأتمرون بأمره وهم كذلك خرجوا على أهل مكة وأصبحوا قيادة مستقلة؛ تعمل بعمل مستقل، فعند ذلك مَن الذي يستطيع أن يحميهم منهم؟ النبي -صل الله عليه وسلم-، فعند ذلك ذهبوا إلى النبي -صل الله عليه وسلم- وقالوا له "ضع هذا الشرط الذي بيننا وبينك في أن مَن أتاك مِنَّا فخذه إليك"، فوضوعوا هذا الشرط وأرسل النبي إلى أبي بصير وإلى مَن معه أن يأتوا إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، فكان هذا الفرج والمخرج الذي جعله الله -تبارك وتعالى-، أصبح كل مَن يفر بعد ذلك من المسلمين المستضعفين في مكة يأتي النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم إن هذه الغزوة هي قد مهَّدَت لفتح مكة؛ فإن قريش لم تصبر، بل نقضت عهدها وذلك بأن قام حلفاؤها من بني بكر فأغاروا وانتهكوا حُرمة خلفاء النبي خزاعة، فعند ذلك جاء وفد خزاعة يستنصر النبي -صل الله عليه وسلم-، فالنبي ندب المسلمين إلى الخروج لفتح مكة وخرج معه عشرة آلاف، ودعى النبي -صل الله عليه وسلم- ربه -سبحانه وتعالى- ألا يتسامع أهل مكة بمخرجهم، فأصبحت قريش ما تسمع أي خبر ما الذي سيفعله النبي -صل الله عليه وسلم- بعد أن نقضت عهدها مع الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، حتى إن أبا سفيان أتى بنفسه ليستطلع الخبر فلم يستطع أن يخبره أحد بأي شيء، ورجع كما جاء؛ لم يستطع أن يعرف نية النبي -صل الله عليه وسلم-، إلا أن أحد فضلاء الصحابة وأجلَّائهم حاطب ابن أبي بلتعة -رضي الله تعالى عنه- ذهب وكتب كتاب؛ هذا بدري، وكتب كتاب من حاطب انب أبي بلتعة إلى بعض الناس في قريش، وأخبرهم فيه بأن النبي يُريد أن يغزوهم؛ وأنه آتٍ لغزو مكة.
وجاء حاطب وأرسل هذا الكتاب مع امرأة وأخذت هذه المرأة الكتاب وأخفته في ثيابها، بل في عقاس شعرها وسافرت به، فأُخبر النبي -صل الله عليه وسلم-؛ أتاه الوحي فأخبره، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- يعني ندب النبي -صل الله عليه وسلم- علي ابن أبي طالب والمقداد ابن الأسود فارسين، وقال لهم "اذهبا إلى روضة تُسمى روضة خاخ"؛ هذي في الطريق بين مكة والمدينة، "فإن فيها ظعينة معها كتاب؛ إإتوني به"، فسابقا الريح علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- والمقداد حتى أتيا هذه الروضة التي أخبر عنها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم بحثا وإلا هذه هي الظعينة؛ امرأة مسافرة وحدها، فقالا لها "أخرجي الكتاب"، قالت "ما عندي كتاب"، فقالا "ما كذب رسول الله، قالا لها أخرجي الكتاب وإلا نزعنا الثياب"، فلمَّا وجدت أنه لا سبيل لها إلا أن تخرج الكتاب عند ذلك أخرجت الكتاب من عقاس شعرها، كانت واضعة الكتاب في جديلة شعرها؛ أخرجته، فأخذاه وأتيا إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، فإذا في الكتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى بعض الناس من قريش، فلمَّا عرف المسلمون بهذا كان عمر ابن الخطاب قال "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، هذا منافق ودعني أضرب عنقه، فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- ...، جاء طبعًا حاطب وقال له "يا رسول الله لا تعجل علي"، يعني لا تعجل بالحُكم علي، "والله ما فعلت هذا كفرًا؛ ولا رِدَّة عن الدين، ولا رغبة في أن ينتصر الكفار، ولكني أنا رجل لست من قريش وإنما أنا لصيق بهم، وأردت أن أكتب لهم هذا الكتاب لتكون لي يدٌ عندهم يحمون به قرابتي، وما من أحد من أصحابك إلى وله عصَبَة هناك يحمون قرابته"، أنا ما لي أحد في مكة يحمي قرابتي فأردت لي يد عند المشركين بذلك، فقال النبي "أنه قد صدق"، وقال عمر "يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فوالله لقد خان الله ورسوله"، فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- "وما يُدريك يا عمر أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم"، فسامحه النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
المسلمين بعد ذلك خرجوا أيضًا في ذي القِعدة والتفوا بمكة من كل أماكنها؛ دخلوا من سبع مواقع بجيوش متعددة، كان خالد ابن الوليد على رأس جيش من هذه الجيوش، سعد ابن عُبادة، دخل النبي في الكتيبة الخضراء؛ كتيبة من المهاجرين، الأنصار معهم لوائهم، الأَوس معهم لوائهم، الخزرج معهم لوائهم، وأمر النبي أن يُنادى أن مَن بقي في بيته فهو آمن؛ مَن دخل المسجد الحرام فهو آمن، وقيل له اجعل لأبي سفيان شيء فقال "مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، ودخل المسلمون مكة بغير قتال، حتى إن سعد ابن عُبادة -رضي الله تعالى عنه- قال "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَل الحُرمة"، فالنبي لمَّا سمع بمقالته ناداه ووضع ابنه محِله؛ قيس ابن سعد مكانه، قال "بل اليوم يوم المرحمة"؛ وليس يوم ملحمة، دخل المسلمون وكان القتل قليل جدًا، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا دخل قال "إن مكة لم تحِل لأحدٍ قبلي"، مكة حرام منذ أن خلَقَها الله -تبارك وتعالى-، ولم يُحِلها الله -تبارك وتعالى-؛ لم يحِل القتال فيها لأحدٍ قبلي، "وإنها أُحِلَت لي ساعة من نهار"، أحلَّها الله فقط للقتال فقط ساعة من نهار، "وأنها عادت في الحُرمة كما كانت يوم خلَقَها الله -تبارك وتعالى- على أنها حرام"، وأنه لا يُستحَل فيها القتال إلى يوم القيامة، دخل النبي -صل الله عليه وسلم-، وبعد ذلك لمَّا دخل عفا عن أهل مكة، وكل حروبهم السابقة للنبي -صل الله عليه وسلم-، وأطلقهم النبي -صل الله عليه وسلم- ولم يأخذ أحد منهم إلا بعض الشعراء الذين كانوا يؤذون الله -تبارك وتعالى- ورسوله، بعضهم كان له أذى فأمر النبي -صل الله عليه وسلم- بقتلهم؛ قال "وإن كان مُعلَّقًا بأستار الكعبة"، وكان هذا الفتح المبين، عند ذلك بعد فتح مكة وضعت الحرب أوزارها بين النبي وبين قريش، ثم ثارت طبعًا هوازن وقالوا لنأخذ النبي في غفلته وفي نشوة النصر؛ فجمعوا جموعهم لقتال النبي، خرج النبي لهم ثم كانت الغزوة المشهورة؛ اللي هي غزوة حُنين، والتي انتهت بنصر المسلمين بعد ذلك، وكانت هذه بعد شهرين فقط من فتح مكة، ثم كان حصار الطائف، ثم عاد النبي عن الطائف بعد حصارها شهرًا وعاد أهل الطائف مسلمين، ودخل الناس بهذا في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجًا.
هنا طبعًا بعض أهل العِلم قال {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، المقصود به فتح مكة، ولكن الصحيح بــ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، إنما هو الحديبية؛ فهذا هو الفتح المبين، ويكون هنا فتحنا بالفعل الماضي على ظاهره لبيان تحقق وقوع الفعل في المستقبل وكان بالفعل؛ تم الفتح بعد صُلح الحديبية، أما الذين قالوا بأن المقصود هو فتح مكة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، وهذه السورة نزلت في السنة السادسة وفتح مكة كان في السنة الثامنة، فإنما قالوا إنَّا فتحنا هنا بمعنى سنفتح فتحًا مبينًا، ويكون هذا من باب الإخبار عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقق الوقوع؛ أنه أمر واقع لا محالة، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، فتح الحديبية أو فتح مكة على القول الثاني، {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، هذه مجموعة من المِنن العظيمة والعطايا العظيمة للنبي -صل الله عليه وسلم- من الرب -جل وعلا-، هذا الفتح المبين الذي يسَّره الله، إنَّا؛ الله -جل وعلا-، يؤكد الله -سبحانه وتعالى- أنه هو الذي فتح لنبيه هذا الفتح المبين؛ البيِّن، الواضح، قال {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ........}[الفتح:2]، هذا كذلك من مِنَّة الله العظيمة أن يغفر الله -تبارك وتعالى- لنبيه ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؛ وهذه لم تحصل لأحد قط، ما في أحد من عباد الله -تبارك وتعالى- بشَّره الله -تبارك وتعالى- في الدنيا بأنه قد غفر له ما سبق من ذنبه؛ ويغفر له كذلك ما تقدَّم من ذنبه، هذه لم ينلها إلا رسول الله -صل الله عليه وسلم- من كل رُسُل الله؛ وأنبيائه، وعباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين، ولذلك جاء في حديث الشفاعة أن عيسى -عليه السلام- يقول لمَّا يأتيه الناس للشفاعة بعد سلسلة ذهابهم إلى كل الأنبياء، يقول عيسى «اذهبوا إلى محمد؛ عبد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر»، فهذا العبد الوحيد من عباد الله -تبارك وتعالى- الذي بشَّره الله في حياته بأنه قد غفر له كل سيئاته؛ ما سبق منها وما تأخر منها.
{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}، نعمته هذه أي نِعَمَهُ لأن النكرة إذا أُضيف إلى معرفة فإنها تعُم، يعني ليُتِم الله -تبارك وتعالى- نعمائه -سبحانه وتعالى- وأنعمه العظيمة على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، {عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، يهديه الله -تبارك وتعالى- صراطًا مستقيمًا؛ صراط هذا الإسلام الذي هدى الله عبده ورسوله إليه، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، ينصرك الله -تبارك وتعالى- على أعدائك نصرًا عزيزًا، وقد نصره الله -تبارك وتعالى- نصر عزيز، فهذا النبي قد خرج يوم خرج منها والطلب في إثره، وقد جُعِلَت مائة ناقة لِمَن يأتي بالنبي حيًا أو ميتًا؛ ومن يأتي بصاحبه أبا بكر حيًا أو ميتًا، فكان مطلوب رأسه في مكة والطلب حوله من كل مكان، ويظن أهل مكة أن أمره إنما هو إلى زوال ونهاية، ثم لا تلبث ست سنوات فقط إلى أن يدخل النبي ويُعاقِدهم هذا العقد؛ والذي يُمهِّد بعد ذلك أن يفتح مكة، ويدخلها بهذا القدْر القليل جدًا؛ يعني ما قُتِل في دخول مكة أحد من المسلمين، وينتصر النبي -صل الله عليه وسلم- هذا النصر العظيم والذي تضرب أخباره كل أفق من آفاق العرب لأن مكة أم القرى؛ أم قرى الجزيرة، وكل العرب يأتوها من كل مكان مُعتمِرين وحاجين، وأهلها هم أهلها؛ هم صفوة العرب، وهم المُعظَّمون عندهم، فكون النبي يدخل بعد ذلك مكة -ثماني سنوات فقط- فاتحًا منتصرًا -صلوات الله عليه وسلم- فيُنصَر هذا النصر العزيز، يعني النصر الذي لا يستطيع أحد أن يُغالِبَه، {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3].
ثم قال -جل وعلا- هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، فالله هو الذي فتح لك هذا الفتح وهو الذي أعطاك هذه العطايا، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}، السكينة؛ الأمن، والطمأنينة، والسكون، والرضا بأمر الله -تبارك وتعالى- وقضائه وقَدَره، ومن هذا لمَّا وقعت شروط هذه الغزوة ثبَّت الله -تبارك وتعالى- قلوبهم؛ وأسكن الله -تبارك وتعالى- السكينة فيها، واعتصموا بحبل الله ولم تأخذهم حمية الجاهلية، وإنما سكنوا لأمر الله -تبارك وتعالى-، وعلموا أن الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يُضيِّعَ رسوله -صل الله عليه وسلم-، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ}، القلب محِل القرار ومحِل العقل، قال -جل وعلا- {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، يزدادوا إيمانًا؛ تصديق ويقين، وكذلك عمل بمُقتضى هذا الإيمان في القلوب؛ كمحبة لله -تبارك وتعالى-، ورغبة إليه، ورهبة منه -سبحانه وتعالى-، هذا من زيادة الإيمان بعمل القلب، وكذلك زيادة الإيمان بعمل الجوارح، فإن الاستسلام لأمر الله -تبارك وتعالى- وطاعته زيادة للإيمان، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}، إيمان في القلب وإيمان بعمل الجوارح، ثم قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، ولله؛ وحده -سبحانه وتعالى-، {جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، السماوات والأرض كلها جنود لله -تبارك وتعالى- لأن الله -تبارك وتعالى- خالقها، وكل جزئية فيها ممكن أن تكون جُند يُرسِله الله -تبارك وتعالى- على أعدائه، فالأرض بجُندها كلها؛ إذا اهتزت تُزلزل مَن فوقها من الكفار وقد تُخسَف بهم، السماء بما فيها؛ لو شهاب أرسله الله -تبارك وتعالى- إليهم لقتلهم، فجنود السماوات والأرض كلها مُجنَّدة لله -تبارك وتعالى-، ومَن كانت السماوات والأرض كلها جنوده؛ فكيف يُهزَم؟ وكيف يُغلَب؟ وكيف يُغالَب -سبحانه وتعالى-؟ {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، وهذا بيان أنه حتى ولو ذُباب هذه الأرض، حشراتها، حرها، {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}، عذاب يوم الظُّلَّة؛ أظلتهم سحابة من العذاب فأهلكتهم، فكل خلْق الله -تبارك وتعالى- الذي خلَقَهم في السماوات والأرض يمكن أن يُجنَّد على الكفار وأعداء الله -تبارك وتعالى-، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، عليم بكل خلْقِه -سبحانه وتعالى-، حكيم؛ يضع كل أمر في نِصابه -سبحانه وتعالى-، الإيمان في محِله، الكفر في محِله، كل قضاء الله -تبارك وتعالى- وكل أمر قضاه الله وقدَّره فإنما يقع في المحل الصحيح واللائق حسب عِلم الله -تبارك وتعالى-، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
ثم قال -جل وعلا- {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}[الفتح:5]، فهذا من حكمته ورحمته -سبحانه وتعالى- وإفضاله وإنعامه على عباده المؤمنين، قال {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- فتح هذا الفتح ونزَّل هذا العطاء وهذه حكمته وهذا عِلمه -سبحانه وتعالى- {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ}، المؤمنين والمؤمنات للنص على الذكور والإناث منهم، جنات؛ بساتين، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحتها؛ من تحت هذه الأشجار وهذه البساتين ومن تحت قصورها الأنهار، {خَالِدِينَ فِيهَا}، ماكثين فيها مُكث طويل، وهذا المُكث الطويل أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه لا نهاية له؛ ولا حدَّ له، ولا ينقطع، وإنما هو خلود دائم؛ بقاء لا انقطاع له، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، لا يُقطَع ولا ينتهي، {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، تكفيرها؛ سترها، وتغطيتها، ومحوها عنهم، وسيئاتهم؛ ذنوبهم، السيئة هي الذنب، وسُمي سيئة لأنه يسوء صاحبه، فهذا كله يُكفِّره الله -تبارك وتعالى-، {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}، وكان ذلك عند الله هذا الفوز العظيم الذي لا أعظم منه ولا أجَّل منه بالنسبة للعبد المؤمن؛ أن يُكفِّر الله -تبارك وتعالى- سيئات هذا العبد، ويُدخِله الجنة فيجعله في إقامة دائمة، هذه الإقامة سرور دائم؛ فرح دائم، ونعيم دائم بكل أنواع النعيم التي لا مثيل لها، «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت؛ ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، كل ما تشتهيه أنفسهم موجود، كل ما يرُيدونه بل كل ما يدَّعونه كله موجود، فهذا الفوز العظيم؛ أن ينالوا رضوان الله -تبارك وتعالى-، أن يكونوا في هذه الجنة، أن يصرف الله -تبارك وتعالى- عنهم عذاب النار فيُكفِّر عنهم سيئاتهم، قال {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، أي أن من فعله -سبحانه وتعالى- وكذلك من مُقتضى عِلمه وحِكمته أن يُعذِّب المنافقين والمنافقات؛ جمع منافق ومنافقة، المنافق هو الذي يُظهِر الإيمان والإسلام ولكنه يُبطِن في قلبه الكفر؛ ويُغلِّف نفسه بهذا الغلاف الظاهري، قد يعمل أعمال الإسلام؛ من صلاة، من زكاة، من حج، من غيره، يعمل هذه الأعمال وفي قلبه أنه غير مؤمن بذلك؛ هذا النفاق الاعتقادي، وهذا كافر ويزداد على الكفر بالكذب وإظهار الإسلام، ولذلك كان عذابه عند الله -تبارك وتعالى- أشد من عذاب الكافر لأن الكافر مُظهِر للكفر، وبالتالي ضرره يكون معروف للمسلمين، وأما المنافق لا؛ يُبطِن الكفر وهو بين المسلمين فيكون ضرره أشد وأخفى، يطلع على عورات المسلمين ويعيش معهم فضرره على الإسلام أعظم، فهؤلاء يقول الله -عز وجل- {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، قدَّم الله -تبارك وتعالى- المنافقين والمنافقات في العذاب على المشركين والمشركات لأن ضرر هؤلاء أعظم، فهم يشتركون مع المشركين ومع الكفار في الشرك والكفر، ينفردون عنهم بالكذب على المسلمين والدخول إليهم، وقد إذا كان مع المسلمين يتزوج منهم ويطلع على عوراتهم فيكون ضرره أعظم؛ فلذلك قُدِّموا في العذاب، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، قال -جل وعلا- {........ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6]، {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}، من ظنهم السوء بالله -تبارك وتعالى- أنه لا ينصر دينه؛ ولا يؤيده، وأنه هم الذين سينتصرون، وأن هذا سيضمحل وسينتهي، فهذا من الظن السيئ بالله -تبارك وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- يتخلَّى عن أوليائه وعن رُسُله؛ وأن الكفار هم الذين سيكون لهم الغلبة في نهاية الأمر، فيظنوا بالله -تبارك وتعالى- الظن السيئ، كذلك ظنهم بأنهم بمكرهم وحيلهم وخداعهم سيغلبوا الرب -تبارك وتعالى-؛ وسيكون لهم هم النصر على الإسلام والمسلمين، {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}، قال -جل وعلا- {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}، الدائرة وهي نهاية المطاف يعني أن الأمر سيدور بعد ذلك وتكون دائرة السوء عليهم، بمعنى أن الهزيمة والنِكاية والنكال ستكون عليهم، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، هذه مجموعة من العقوبات العظيمة جعلها الله للمنافقين؛ والمنافقات، والمشركين، والمشركات، سنأتي لها -إن شاء الله- في الحلقة الآتية بشيء من التفصيل.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.