الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:18] {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:19] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:20] {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الفتح:21] {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[الفتح:22] {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الفتح:23]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد رضي عن المؤمنين الذين قد بايعوا نبيه -صل الله عليه وسلم- تحت الشجرة؛ في الحديبية، وقد سبق أن هؤلاء قد كانوا أربعمائة وألف من المسلمين، وقد خرجوا عندما ندبهم النبي -صل الله عليه وسلم- في السنة السادسة من هجرته إلى المدينة؛ وكان هذا في ذي القِعدة، أن يخرجوا إلى مكة مُعتمِرين، وندب الناس للخروج وخشي أن يلقى كيدًا من الكفار في أن يمنعوه، فخرج كذلك وهو مستعد أن يُقاتِل في ما لو رده وصده الكفار عن البيت الحرام.
خرج المسلمون وكان في هذا الشأن ما ذكَرَه أصحاب السيَّر ودواوين الإسلام في البخاري ومسلم، أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- لمَّا وصل إلى ممر الزهران على بُعد مرحلة من مكة أرسل عين له من خُزاعة وهو بُدَيل ابن وُرقاء الخُزاعي، وأنه جاء النبي -صل الله عليه وسلم- وقال له أن قريش ...، قال له تركت بني كعب ابن لؤي وبني عامر ابن لؤي اجتمعوا جميعًا على أن يُقاتلوك؛ وألا يسمحوا لك بأن تدخل مكة عليهم، وقال له خلاص؛ أتوا بالعوذ المطافيل، والمطافيل من الإبل التي لها أطفال؛ يعني الناقة التي مازال ابنها يرضع منها، طفل عندها، فأتوا بها وهذا كناية عن أنهم جنَّدوا كل عزيز عندهم للحرب؛ لحرب النبي -صل الله عليه وسلم-، وقال أقسموا ألا تدخل عليهم مكة، فالنبي -صل الله عليه وسلم- قال له لأُرسِلك لهم برسالة، النبي -صل الله عليه وسلم- قال له أعرض عليهم خطة؛ أن يدعوني أنا والعرب إن أظفر فهذا لهم، فإن شائوا بعد ذلك أن يدخلوا في هذا الدين دخلوا، وإن تكن الأخرى يكون قد كُفوا، وقال مال قريش أنها تحارب الله -تبارك وتعالى- ورسوله، والله لأُقاتلنَّ الناس حتى يُظهِر الله -تبارك وتعالى- هذا الدين أو تنفرد مني هذه السالفة، فقال اذهب؛ فذهب إلى قريش، وقال لهم ألا أعرض لكم أمرًا؟، فسفاؤهم قاموا في وجهه وقالوا ما نَبي نسمع منك شيء؛ لا نُريد أن نسمع شيئًا من هذا الرجل، وأما عُقلاء قريش فإنهم قالوا قُل؛ هات ما عندك، فقال والله يعرض النبي عليكم هذا؛ لِما لا تُخلُّوه؟ خلُّوا بينه وبين العرب، إن انتصر عليهم فهذا نصره نصركم، ويكون لكم بعد ذلك الخيار في أن تدخلوا في هذا الدين؛ وتدخلوا وأنت موفَّرين، وإن تكن أخرى فقد كُفيتموه، وقال يخبركم بأنه سيقاتل عن هذا الدين حتى تنفرد هذه السالفة، يعني أنه ماضٍ في هذا الأمر الذي حمَّله الله -تبارك وتعالى- ولو قُتِل في هذا الشأن.
عند ذلك قام عروة ابن مسعود الثقفي وقال لقريش ألستم بالوالد وألست بالولد؟ يعني أنا من أولادكم، أنت لا تعرفوني؛ تركت ثقيف وجئت إليكم، واخترت البقاء عندكم، وكان رجل من أهل السفارة؛ وافد الملوك، فأتى النبي -صلوات الله والسلام عليه- يستطلع الأمر، وقال له أنه لم يأتِ أحدٌ قومه بمثل ما جئت به؛ فرَّقت جماعتهم، وسفَّهت أحلامهم، وقال للنبي -صل الله عليه وسلم- لِما لا تترك هذا الأمر؟ قال له أنا ما أرى حولك إلى أوباش الناس؛ إن جَد الجِد تفرَّقوا عنك، فقال له أبو بكر أنحن ننفض عنه؟ أُنصُف بذر اللات، قال للنبي -صل الله عليه وسلم- مَن هذا؟ قال له هذا أبو بكر، فقال له لولا أن لك يدًا علي لأجبتك، ثم وهو يخاطب النبي ويحاول أن يُثني النبي -صل الله عليه وسلم- عن دخول مكة كان على رأس النبي -صلوات الله والسلام عليه- المُغيرة ابن شُعبة –رضي الله تعالى عنه-، كان كلما قدَّم عروة ابن مسعود يده إلى لِحية النبي ضربه بقائم السيف؛ نعل السيف، وقال له ابعد يدك عن لِحية رسول الله -صل الله عليه وسلم-، فقال للنبي مَن هذا؟ فقال النبي هذا المُغيرة ابن شُعبة، المُغيرة ابن شُعبة هذا ثقفي، فقال له أي غُدَر مازلت أسعى في غدرتك، وكان المُغيرة ابن شُعبة -رضي الله تعالى عنه- قد صحُبَ أُناس في الجاهلية، ثم أنه غافلهم فقتلهم وأخذ أموالهم، ولمَّا جاء المُغيرة إلى النبي فقال له أما إسلامك فأقبل، وأما ما أخذته فأنا في حِل منه؛ بعيد منه، أنا لا أقبل هذا المال الذي أخذته بهذه الطريقة؛ بطريقة الغدر، لكن إسلامك؛ أقبل إسلامك.
الشاهد بعد ذلك أن عروة ابن مسعود بعد أن فاوض النبي وكلَّمه وعرَفَ مَن حول النبي -صل الله عليه وسلم-؛ رجع إلى قريش، فقال لهم يا معشر قريش ألا تقبلون مني؟ خلُّوا بين هذا الرجل وبين العرب؛ لا تقفوا في وجهه، قال لهم أنا أتيت الملوك؛ أتيت كِسرى، أتيت قيصر، أتيت النجاشي، قال والله ما رأيت أصحاب ملِكٍ يُعظِّمونه كما رأيت أن أصحاب محمد يُعظِّمونه، قال والله لا تبدر منه نُخامة إلى ووقعت في يد أحدهم فدلَكَ بها وجهه وجِلده، ولا يتوضأ وضوءًا إلى تقاتلوا عليه، ولا يأمرهم أمر إلا سارعوا إلى تنفيذه، قال ما رأيت ناس تُعظِّم صاحبها كما يُعظِّم أصحاب محمد محمد، وقال والله لو أنكم قاتلتموه فإن مَن حوله لن يُسلِموه أبدًا، قال لن يتفرَّقوا عنه ولن يُسلِموه، ثم قام بعد ذلك أُناث منهم وتقاطروا ليأتوا النبي -صل الله عليه وسلم-، جائه رجل من كِنانة؛ قال رجل من كِنانة دعوني أنا أذهب إليه فذهب، فقال النبي أن هذا الرجل ممَن يُعظِّم البيت فصدِّروا له البُدن، فصدَّروا له البُدن وهي مُشعَرَة، وإشعار البُدن هي أن تُضرَب في سنامها أو نحو فينزل الدم فتُلبَّد عليه؛ وهذه علامة على أنها للبيت، وكان هذا طبعًا تعظيم البُدن عند العرب المُعظِّمين للبيت شيء عظيم جدًا؛ لا يمسها لا يركبها وهو في الجاهلية لأن هذا شيء لله، فلمَّا رأى البُدن من بعيد رجع ولم يأتِ النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقال لقريش ما أرى أن يُصَد هذا عن البيت، لا يحِل أن يُصَد محمد عن البيت وقد جاء وقد ساق الهَدي أمامه، قالوا اجلس؛ أنت أعرابي لا عِلم لك، ثم بعد ذلك قام سُهيل ابن عمرو قال أنا آتيه، فجاء سُهيل ابن عمرو وهو الذي أخذ يُفاوض النبي -صلوات الله والسلام عليه- في شأن الصُلح، قال له إني عارض عليك صُلح إن قبلته، ثم قال له أول شيء نضع الحرب عشر سنوات؛ قَبِلَ النبي -صل الله عليه وسلم-، قال مَن أتاك مِنَّا رددته ومَن أتانا منك لا نردَّه؛ وقَبِلَ النبي، وقَبِلَ هذا من باب أن النبي قال والله لا يأمرون بشيء يُعظِّمون به حُرمة هذا البيت إلا أجبتهم له، وكان هذا عندما بركت ناقة النبي -صل الله عليه وسلم- عندما أتى الحديبية، قال لا يحِل إن لم تقم، فقالوا خلأت القصواء، فقال النبي ما خلأت القصواء؛ ولا هو لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش إلى شيء تُعظِّم به هذا البيت إلا أجبتهم له، فكان هذا الشرط قاسي على المسلمين؛ قَبِلَه النبي -صل الله عليه وسلم-، كذلك قال له ما تدخلوا هذه السنة؛ يعني لا نُخلِّي لكم مكة لتدخلوها الآن، قال لا تتسامع العرب أن محمد دخل مكة عنوة عن أهلها، ولكن ندعك تأتي في مثل هذا الشهر من العام القادم تأتي ونترك لكم ثلاث أيام فقط، تدخلون ثلاث أيام فقط تؤدون عُمرتكم وليس معكم إلا السيوف في قُرُبها، ما معكم سلاح أخر غير السيوف كالنبل؛ والنبل لأنه يُقاتل به عن بُعد، والرماح كذلك؛ لأن صاحب الرمح يغلب صاحب السيف في أول الأمر لأن الرمح أطول، بس السيوف التي يُسمَح لهم فقط بها، ولا يأتي معك إلا هؤلاء؛ فقط الجيش الذي مع النبي -صل الله عليه وسلم- لا يأتي بجيش أخر.
فاشترطوا هذه الشروط وقُبِلَها النبي -صل الله عليه وسلم- وهو يكتب هذه الشروط، طبعًا عند الكتاب اشترط سُهيل ابن عمرو على النبي شروط شديدة، كقوله لمَّا أمر النبي علي أن يكتب قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ولكن اكتب كما كنت تكتب؛ بسمك اللهم، فقال النبي اكتب بسمك اللهم، وكتب هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال لو نعلم أنك رسول الله ما حاربناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك في العهد، فقال النبي لعلي امحوا، امحوا يعني محمد رسول الله؛ اكتب محمد ابن عبد الله، فقال والله لا أمحوك من الكتاب؛ قال له ما استطيع أمحي اسمك، فقال النبي أرينيه، فأراه ومحاه النبي -صل الله عليه وسلم-، وكتب الكتاب على هذا النحو وقبل أن يوقَّع الكتاب إذا بابن سُهيل ابن عمرو وهو أبو جندل يأتي وهو يرسف في أغلاله ويستجير بالمسلمين، فر من أسفل مكة إلى المكان الذي فيه المسلمون، فعندما رأى سُهيل ابن عمرو أن ابنه جاء فارًا فقال للنبي -صل الله عليه وسلم- لقد اتفقت معك قبل أن يأتي هذا، فقال النبي صدقت، فقال له أرجِعه، فقال له النبي دعه لي، قال لا، قال ستفعل، قال لا أفعل، قال له إن لم تُرجِعه فلا عهد بيني وبينك، فالنبي -صل الله عليه وسلم- أمر بأن يُرجَع، صرخ وقال يا معشر المسلمين أتتركوني للكفار يفتنوني عن ديني ويُعذِّبوني، فاشتد الأمر والكرب على المسلمين جدًا وقال النبي يا أبا جندل اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك فرجًا ومخرجًا، وكان هذا أمر من الأمور الشديدة.
استكان المسلمون لأمر الله -تبارك وتعالى-، وكانت هذه البيعة هي قبل توقيع هذا العهد، النبي لمَّا نزل الحديبية ورأى هذا الأمر أرسل عثمان ابن عفان إلى قريش وقال لهم إننا لم نأتي لقتال وإنما أتينا مُعظِّمين لهذا البيت، ثم إنهم بعد ذلك حبسوا عثمان عندهم ولم يُرسلوه للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأُشيع بأن عثمان قُتِل فقال النبي بايعوني، قال لا نذهب حتى نُناجِز القوم، فقال لهم بايعوني فبايعه المسلمون؛ بايعوه كل الذين كانوا من المسلمين، جاء في رواية جابر أن جَد ابن قيس فقط كان من بني سَلَمَة هو الذي لم يُبايع النبي؛ واختبأ بين رجلي ناقته، وبايع النبي المسلمين على ألا يفروا، قال سلَمَة ابن الأكوع بايعنا النبي -صل الله عليه وسلم- على الموت وألا نفر، وسلَمَة من الذين بايعوا النبي ثلاث مرات؛ بايع النبي في أول مَن بايعه سلَمَة ابن الأكوع -رضي الله تعالى عنه-، وفي وسط البيعة نادي النبي وقال يا سلَمَة بايعني، قال بايعت يا رسول الله، قال بايع؛ فبايعه، وفي آخر الناس كذلك بايع، فقال بايعتك يا رسول الله مرتين؛ بايعتك في أول الناس، وفي أوسط الناس، قال له بايع؛ فبايع، فهذا من الذين بايعوا النبي ثلاث مرات، والبيعة صفقة؛ أن يثبت المسلمون في هذه الغزوة وألا يفروا، الله -تبارك وتعالى- يخبر هنا أنه قد رضي قال {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وتحت الشجرة علامة وليس لسر في هذه الشجرة أو نحو ذلك، وإلا فإن هذه الشجرة سَمُرة من السَمُر الموجود ولم تُخلَّد؛ ولم يكن لها شأن، حتى إن عبد الله ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- يقول ذهبت من السنة الثانية حتى أعرف موضع الشجرة هذه، وكان حريصًا على تتبع آثار النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يقول فلم أهتدي إليها، يقول فما أهتدين وين هذه الشجر أي شجرة بعينها من هذا السَمُر الذي ينتشر في هذا المكان التي بايعنا عندها النبي -صل الله عليه وسلم-، عِلمًا أن عبد الله ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان من أكثر الصحابة اتِّباعًا لآثار النبي -صلوات الله والسلام عليه-، بل أنه كان من شدته أنه لا يترك مكان يبيت فيه النبي في سفره؛ مكان يذهب فيه النبي لقضاء حاجته يذهب هو ليقضي حاجته فيه، بل كان وهو مسافر مع النبي يحاول أن أقدام ناقته تقع في مكان أقدام ناقة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولكنه يقول ذهبت من العام الثاني بعد الحديبية لأهتدي إلى مكان الشجرة فلم أهتدي إليه، ثم أن الناس يبدوا أنهم في شجرة من الأشجار عظَّموها في خلافة عمر ابن الخطاب أمر بقطعها؛ أمر بقطع هذه الشجرة، شجرة من الشجرة يبدوا أنه توهَّم الناس بعد ذلك أن هذه الشجرة، على كل حال ذِكر الله -تبارك وتعالى- للشجرة ليس لم تنزل بركة الله -تبارك وتعالى- ونعمائه ورضوانه على المؤمنين لخصوص هذه الشجرة؛ لا شأن لها، وإنما هذا من الله -تبارك وتعالى- علامة على كيف تمت هذه البيعة.
{إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وكانت شجرة سَمُرة كما ذكرنا، {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، ما في قلوب المؤمنين من الصدق وأنهم بالفعل عند العهد الذي بايعوا الله -تبارك وتعالى- عليه، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}، السكينة لأن إنسان سيُعطي نفسه لله، هذه المعركة معركة الموت؛ سيموت فيها، سيُقاتل حتى الموت فيها، ولكن كانت قلوبهم في وقت هذا الفزع والخوف بهذا الإيمان؛ هذا من إنزال الله -تبارك وتعالى- السكينة في القلوب، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، هذا الفتح الذي تحقق بهذا العهد، البيعة إنما وقعت قبل أن يوقِّع النبي هذا العهد، وهذا العهد الذي وقِّع في الحديبية كان هو الفتح المبين، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا}، وَعَدَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء بمغانم كثيرة يأخذونها، {........ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:19]، هذه المغانم بدأت بغنيمة خيبر والتي جعها الله -تبارك وتعالى- خاصة لأهل هذه الغزوة؛ الألف وأربعمائة، {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا}، وهذا في كل ما يغنم المسلمون إلى آخر الدنيا، {........ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:19]، عزيزًا؛ غالبًا، لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، حكيمًا؛ يضع الأمور في نِصابها، انظر كيف رتَّب الله -تبارك وتعالى- ودبَّر هذا الأمر للمؤمنين ليكون الأمر على هذا النحو؛ وهذا من حِكمة الله -تبارك وتعالى-، {........ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:19].
ثم قال -جل وعلا- {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}، تكرير لهذا الأمر ووعْد الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين؛ لكل المؤمنين بعد ذلك، وعَدَكم الله يعني أيها المؤمنون مغانم كثيرة تأخذونها، والمغانم هي ما هي ما يؤخذ من الكفار غنيمة منهم، وقد غنَّم الله -تبارك وتعالى- من الكفار أرضهم؛ وديارهم، وأموالهم، وأولادهم، ونسائهم، جعل الله -تبارك وتعالى- كل هذا في باب الغنائم للمسلمين وفيه تفصيل في ما يأخذونه وما يهبونه وما يدعونه؛ في تفصيل فيه وفي تقسيمه، {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}، إلى مستقبل الزمان، إلى آخر الدنيا، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ}، فعجَّل الله -تبارك وتعالى- لكم هذه، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}، هذه التي عجَّلها الله -تبارك وتعالى- هي فتح خيبر وعجَّلها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء؛ يعني غنيمة مُعجَّلة لهم، يعني هؤلاء اللي هم الألف وأربعمائة، وذكرنا بأن النبي -صل الله عليه وسلم- ندب هؤلاء الصحابة الذين خرجوا معه في الحديبية في صَفَر من السنة السابعة إلى أن يخرجوا إلى خيبر، وأخبر أنها ستكون لهم غنيمة من الله -تبارك وتعالى-، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}، الكف؛ المنع، {أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}، الناس الذين يُريدون حرب المسلمين كف الله -تبارك وتعالى- أيديهم، ومن هؤلاء الذين كف الله -تبارك وتعالى- أيديهم عنكم أيدي الكفار، فإن كفار مكة لم يستطيعوا في هذه الغزوة أن يُقاتلوا المسلمين، كف الله -تبارك وتعالى- يديهم وقَبِلوا الصُلح الذي عرضه النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك هناك مجموعة أرادت أن تأخذ غِرَّة من المسلمين، خالد ابن الوليد خرج في طليعة؛ في خمسين فارس، فدعى النبي -صل الله عليه وسلم- عليهم وأحاط بهم المسلمون وأخذوهم؛ ثم أمر النبي بتخليتهم، كذلك ثلاثين بعد كتابة العهد والمسلمون موجودون وقد أمِنوا فإذا بثلاثين من الكفار يبدوا أنهم لم يعرفوا هذا العهد؛ وأتوا إلى المسلمين غُزاة، فكذلك أحاط بهم المسلمون وأخذوهم؛ مسكوهم مسك اليد دون قتال، وكف الله -تبارك وتعالى- أيديهم عن المسلمين، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، تكون هذه آية للمؤمنين، آية؛ علامة على صدق وَعْد الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، وهي هذه الغنيمة التي وعدهم الله -تبارك وتعالى- بها وأنها ستكون خيبر، وقد وقع الأمر كما أخبر الله -تبارك وتعالى- به.
{وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، هذا فضله -سبحانه وتعالى-، ويهديكم صراطًا مستقيمًا إلى الجنة؛ طريق الله -تبارك وتعالى-، انظر هذه البركات والمنح الربانية والعطايا الإلهية لهؤلاء الذين استجابوا لأمر الله -تبارك وتعالى-، لمَّا كانوا صادقين مع الله وعاهدوا الله -تبارك وتعالى- على الموت وصدقوا في هذا؛ فانظر كيف كافأهم الله -تبارك وتعالى- هذه المكافآت العظيمة، أولًا بدأها الله بالرضا؛ قال {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}، فهذا رضاه، {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}، فهذا أول شيء أنه أنزل السكينة عليهم؛ ثبَّتهم في مقام الخوف، ومقام هذه الصفقة الشديدة عليهم لكن الله ثبَّت قلوبهم، ثم {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، فتح خيبر، {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا}، بعد ذلك، {........ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[الفتح:19] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ........}[الفتح:20]، انظر هذا كذلك، {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}، ثم مع هذا {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، هداية توفيق وإرشاد، هداية توفيق من الله -تبارك وتعالى- وتمسيك؛ أن يُمسِّكهم الله -تبارك وتعالى- بالطريق ويُثبِّتهم عليه بعد هداية الإرشاد والبيان، {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الفتح:21]، فتوح أخرى من الفتوح التي وعدهم الله -تبارك وتعالى- لم يقدروا عليها في هذا الوقت، لكن الله -تبارك وتعالى- يخبر بأنه {........ قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الفتح:21]، وقد ملَّكهم الله -تبارك وتعالى- كنوز كِسرى وكنوز قيصر؛ مما لم يلحقه بعض هؤلاء، لكن الله -تبارك وتعالى- كل هذا قد أحاط الله –جل وعلا- به، والله مُنجِز وَعدَه لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «أُوتيت خزائن مفاتح الأرض»، فخزائن مفاتيح الأرض أُوتيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقال -صل الله عليه وسلم- «والله ليُتمَّنَّ الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر، ولن يترك الله بيت حجر ولا مدر إلى أدخله الله الإسلام، وبعِز عزيز؛ يُعز الله -تبارك وتعالى- به الإسلام وأهله، وبذِل ذليل؛ يُذِل الله -تبارك وتعالى- به الشرك وأهله»، فخزائن السماوات والأرض بيد الله -تبارك وتعالى- وقد أُعطي النبي مفاتيح الأرض كلها -صلوات الله والسلام عليه-، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، في مستقبل الأيام وإلى قيام الساعة تبقى هذه الأمة هي الأمة العزيزة التي أُعطيت هذا العطاء الإلهي الربَّاني، {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا}، أي في ذلك الوقت، {........ قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الفتح:21].
ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ........}[الفتح:22]، يعني لو حصل قتال كما كان الكفار يتحرقون إليه؛ ويشتاقون إلى أن يُقاتلوكم، ولو قاتلكم الذين كفروا في هذه الغزوة لولَّوا الأدبار؛ لم يثبتوا في أماكنهم، وولَّوا يعني أعطوكم أدبارهم وهربوا، {........ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[الفتح:22]، ولي يواليهم من دون الله -تبارك وتعالى-، أو نصير ينصرهم من دون الله -عز وجل-، لن يجدوا لهم نصير من دون الله ولا ولي يواليهم من دون الله -تبارك وتعالى-، لأن مَن يتخلَّى الله -عز وجل- عنه ومَن يهزمه؛ مَن ينصره؟ مَن الذي يستطيع أن ينصره؟ ومَن يكون وليَّا له؟ فالله -تبارك وتعالى- هو ولي الذين آمنوا والكافري لا مولى لهم؛ الكافر لا مولى له، فأخبر -تبارك وتعالى- بأن هؤلاء الكفار الذين كانوا يرون في أنفسهم الحَمِيَّة والقوة والشجاعة؛ وأنهم أقوى من هؤلاء المؤمنين، وأنهم يحاربونهم، يخبر -سبحانه وتعالى- بأنهم لو حاربوهم في هذا المقام وفي هذه الغزوة؛ غزوة الحديبية لولَّوا الأدبار، {........ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[الفتح:22].
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ........}[الفتح:23]، {سُنَّةَ اللَّهِ}، هذه طريقته، هذه عادة الله -تبارك وتعالى- في عباده المؤمنين، هذه سُنَّة يعني أنه أمر دائم متصل لا يتخلَّف، هذه طريقة الله -تبارك وتعالى- وعادته -سبحانه وتعالى- في أهل طاعته وأهل معصيته، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ........}[الفتح:23]، أنه لابد أن يجعل الغلبة في النهاية لأهل الإيمان؛ وأن الكفر لا ينتصر نصر نهائي على أهل الإيمان... لا، بل إن الله -تبارك وتعالى- في كل الذين خلوا من قبل الله -تبارك وتعالى- قد جعل الغلبة لهم، كما قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء:105]، انظر الأرض مَن يرثها بعد هلاك الظالمين؟ العباد الصالحين، فقوم نوح لمَّا استكبروا في الأرض وأرسل لهم الله -تبارك وتعالى- رسوله؛ ودعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- واستكبروا، وكانت المعركة الفاصلة بين الله -سبحانه وتعالى- وبينهم؛ بماذا انتهت؟ انتهت بإغراقهم وجعل الله -تبارك وتعالى- الصالحين هم الذين يرثوا الأرض، فلم يرث الأرض بعد ذلك إلا الذريَّة الطيبة؛ نوح والذين آمنوا معه، ها دول هم اللي كانوا باقين وهم الذين ورثوا الأرض بعد إهلاك هؤلاء الظالمين، وكذلك عاد وكذلك ثمود؛ كل هذه أبقى الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان ودمَّر -سبحانه وتعالى- أهل الكفران، فهذه سُنَّة الله -تبارك وتعالى- الجارية في عباده؛ أن الأرض يرثها عباد الله الصالحين، فسُنَّته أن يُديل الكفار للمسلمين ويجعل الدولة في نهاية الأمر لهم، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الفتح:23]، يعني هذا في الماضي وكذلك في مستقبل الأمر لن يكون هناك مُبدِّل لسُنَّة الله، بل طريقة الله -تبارك وتعالى- باقية على هذا النحو وهي أن يجعل الله -تبارك وتعالى- النصر؛ والتكمين، ووراثة الأرض بعد ذلك لعباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين، هذه سُنَّة الله -تبارك وتعالى- يُعلِمها لعباده المؤمنين؛ وأن هؤلاء الكفار لو قاتلوا النبي في الحديبية سيُهزَموا، كانت الهزيمة لابد أن تكون للكفار والنصر للمؤمنين؛ وأن هذه سُنَّة الله، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[الفتح:23].
نقف هنا والحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على عبده ورسوله الأمين.