الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الفتح:24] {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:25] {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الفتح:26]، يخبر -سبحانه وتعالى- مُعددًا نِعَمَه على نبيه وعلى المؤمنين وما وقع في هذه الغزوة؛ غزوة الحديبية التي كانت الفتح الأكبر، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، فمن أحداث هذه الغزوة أن الله -تبارك وتعالى- منع المؤمنين من أن يبطشوا ويأسروا الكفار بعد أن أظفر الله -تبارك وتعالى- المؤمنين عليهم، فقد جاء في سبب نزول الآيات أن النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا وصل الحديبية أطلعه الله -تبارك وتعالى- على مجموعة من المشركين، جاء خالد ابن الوليد ومعه خمسين فارس فأحاط بهم المسلمون وأسروهم؛ فعفا عنهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبعد توقيع العهد كذلك جاء ثلاثون من المشركين وأرادوا أن يغزوا المسلمين، إما أنهم كانوا جاهلين بالعقد الذي تم بين النبي -صل الله عليه وسلم- وبين المشركين، أو أنهم أرادوا الخيانة ونقض العهد، فظفر بهم المسلمون ثم عفا عنهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقال أطلقوهم يكن لهم بدء الإثم ونهايته؛ فأطلقهم المسلمون.
امتنَّ الله -تبارك وتعالى- بهذا على المؤمنين أنه لم يحصل للمؤمنين قتل بهؤلاء، ولا أنه تمكَّن هؤلاء كذلك الذين أرادوا أن يأخذوا المؤمنين على غِرَّة وأن يقتلوا منهم، قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}، كف أيديهم؛ أيدي هؤلاء الكفار عنكم عندما أرادوا أن يُباغتوا المسلمين وأن يقتلوا منهم، {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}، يعني من بعد أن ظفر المؤمنون بهم؛ وأحاطوا بهم، وأسروهم، فإن النبي أطلقهم -صل الله عليه وسلم-، وأن هذا الذي فعله المسلمون وأمر به النبي -صلوات الله والسلام عليه- هو قضاء الله؛ ومشيئته، وما فعله للمؤمنين، وكان هذا خير للمؤمنين، {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ........}[الفتح:24]، من بعد أن ظفرتم بهم وقبضتم عليهم عفوتم عنهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}، كان الله -سبحانه وتعالى- بما تعملون بصيرًا؛ أي إن الله -تبارك وتعالى- مُبصِر لكل عملكم، وأن هذا العمل الذي عملتموه إنما كان بتوفيق الله -تبارك وتعالى-؛ فهو الذي فعل هذا، فإن الفعل كله لله -تبارك وتعالى-؛ والتدبير كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا القضاء الذي قضاه لعباده المؤمنين هو الخير لهم، {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}، وجائت هذه الآيات في معرض امتنان الله -تبارك وتعالى- على رسوله والمؤمنين، {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الفتح:24]، وفي هذا التعقيب بعد هذه الآية بيان أن الله -تبارك وتعالى- مُطلِع على عباده -سبحانه وتعالى-؛ وبصير بهم، وهذا فيه بالنسبة لأهل الإيمان تثبيت؛ تثبيت لأهل الإيمان، وكذلك توجيه إلى إخلاص العمل لله -تبارك وتعالى-، وكذلك مراقبة فإن العبد إذا عَلِم أن الله -تبارك وتعالى- مُراقِب له في كل أعماله؛ وفي كل تصرفاته، وأن الله مُبصِر بعمله، فإنه يُتقِن عمله ويجعله لله -تبارك وتعالى-، فاعلموا أيها العباد هذا {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}.
ثم قال -جل وعلا- {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}، هذا تعداد من الله -تبارك وتعالى- بأن هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل من المشركين فيهم هذه الصفات الخسيسة؛ ووقع منهم هذه الأفعال القبيحة الكبيرة، فأولًا هم الذين كفروا؛ هم هؤلاء أعدائكم، أهل مكة الذين تحزَّبوا فيها ضد النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ومنعوه من أن يدخلها، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فجمعوا بين الكفر بالله -تبارك وتعالى- وصد النبي وهو أهل هذا البيت، بل هذا البيت أصلًا هذا مكانه، مكان البيت وعمارته بالعُمرة؛ والحج، والصلاة، إنما هي لأهل الإيمان وليس لهؤلاء المشركين الذين تمكَّنوا فيه هذا الوقت؛ وصدوا أهله عنه، فأهل المسجد الحرام إنما هم المؤمنون؛ النبي -صل الله عليه وسلم- والمؤمنون، لكنهم صدوهم عن المسجد الحرام، قال {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فجمعوا بين الكفر بالله -تبارك وتعالى- وصد المؤمنين؛ صد النبي -صل الله عليه وسلم- والمؤمنين عن المسجد الحرام، وقول الله -تبارك وتعالى- وتسميته بالمسجد الحرام أن الله هو الذي حرَّمه -سبحانه وتعالى-، ومما حرَّم على الناس من حُرمة هذا البيت ألا يُمنَع عنه قاصد، فكل قاصد له لا يُمنَع لأنه قصد الله -تبارك وتعالى-، وأعظم قاصد لهذا البيت هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-؛ رسول الله -صل الله عليه وسلم-، ولكن هؤلاء المجرمين صدوا هذا النبي وصدوا المؤمنين الذين جائوا مُعظِّمين لهذا البيت، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، ثم {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}، الهَدي وهو ما يُهدى لبيت الله -تبارك وتعالى- ليُذبَح في مكة قربانًا لله -تبارك وتعالى-، هذا الهَدي من الإبل معكوفًا؛ العكف هو اللي والثني إلى الجهة الأخرى، يعني أنهم ردوا هذه الإبل التي أرسلها النبي -صل الله عليه وسلم-، وقد ساق النبي الهَدي معه وساقوا الهَدي معهم من المدينة وأتوا به ليذبحوه هناك، فكذلك رد الهَدي أن يُذبَح في محله؛ ومحل الهَدي إنما هو المسجد الحرام، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن ذبحت ها هنا أو نحرت ها هنا وكان هذا في مِنى، قال ومِنى كلها منحر وشِعاب مكة كلها منحر»، فمحل ذبح الهَدي هو المسجد الحرام؛ مِنى في المسجد الحرام، في مِنى وفي كل المسجد الحرام، كل شِعاب مكة وكل ما هو من دائرة المسجد الحرام هذا مكان ذبح الهَدي، فهؤلاء كذلك صدوا النبي والمؤمنين وكذلك منعوا الهَدي أن يصل ليُذبَح في المسجد الحرام؛ والهَدي لله -سبحانه وتعالى-، الهَدي مُهدى لله -تبارك وتعالى- وهذا مكان ذبحه في هذا المكان؛ فكذلك منعوه من أن يُذبَح في المسجد الحرام، فمنعوا الرسول، كفروا بالله -تبارك وتعالى-، منعوا الرسول والمؤمنين من أن يصلوا المسجد الحرام، منعوا الهَدي كذلك من أن يصل المسجد الحرام والهَدي لله -سبحانه وتعالى-، فجمعوا كل هذه الجرائم، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}.
ثم قال -جل وعلا- {........ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:25]، بيَّن -سبحانه وتعالى- أن الذي جعل الله -تبارك وتعالى- لا يُمكِّن النبي ولا يُدخِله مكة في هذا الوقت وجود طائفة مؤمنة؛ مُستخفية بدينهم في أهل مكة، قال -جل وعلا- {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}، هؤلاء من أهل مكة ولكنهم مُستخفون بإسلامهم ودينهم؛ لا يستطيعون إظهار هذا لشدة الكفار وبطشهم عليهم، فلولا وجود هؤلاء {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ}، قال -جل وعلا- {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ}، يعني أنكم لم تعلموهم لأنهم لم يُظهِروا دينهم، ولم يُعلِموا الرسول بهم والؤمنين مخافة على أنفسهم من أهل مكة، لولا هؤلاء {أَنْ تَطَئُوهُمْ}، يعني لولا أن تطئوهم إلى دخلتم مكة عنوة وأخذتموها عنوة فإن هؤلاء ستُعاملونهم معاملة الكفار، سيُعامل هؤلاء المؤمنين المُستَخفين بدينهم؛ الذين لم يُظهِروه، ولا يعلمه النبي، ولم يعلمه المؤمنون، فإنهم سيطئوهم بكل أنواع الوطء في الحرب؛ من القتل، من السبي، من أخذ أموالهم، كما هو الشأن في الكفار، {أَنْ تَطَئُوهُمْ}، قال –جل وعلا- {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، تُصيبكم من هؤلاء أنتم أيها المؤمنين مَعرَّة؛ أن تُعيَّروا بهذا من الكفار، أنكم وظئتم وضربتم وقتلتم ناس مؤمنين كانوا على دينكم، {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، أي بغير عِلم منكم أن هؤلاء مؤمنون، قال -جل وعلا- {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أخَّر دخولكم مكة عنوة وأخَّرها في عِلم الله لسنتين، ليُدخِل الله -تبارك وتعالى- في رحمته مَن يشاء من كل هؤلاء؛ من هؤلاء وهؤلاء، فيُظهِر المستضعفين دينهم وكذلك يستطيعوا أن يُهاجِروا، وكذلك من أهل مكة هؤلاء الذين هم كفار الآن لعل الله -تبارك وتعالى- أن يشرح صدورهم للإسلام فيدخلوا في الإسلام؛ وقد كان، فإنه قد دخل في هذه المدة التي مادَّ النبي -صل الله عليه وسلم- فيها قريش وهي هذه المُهلة التي كانت عشر سنوات، ثم لمَّا نقضت قريش العهد دخل النبي بعد سنتين مكة فاتحًا -صلوات الله والسلام عليه-، دخل الإسلام في هاتين السنتين جمع غفير من أهل مكة من الذين كانوا على الشرك؛ منهم عمرو ابن العاص، وخالد ابن الوليد، وغيرهم من أهل مكة الذين كانوا على الشرك، قال -جل وعلا- {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
ثم قال -جل وعلا- {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، لو تزيَّلوا يعني لو أن هؤلاء المؤمنين خرجوا من مكة؛ وتزيَّلوا، وانحازوا إلى مكان بعيد، أو إنحازوا إلى المؤمنين، وبقيت مكة فقط ليس فيها إلى الكفار المعاندون فإن الله -تبارك وتعالى- يقول {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، وذلك بتسليط النبي -صل الله عليه وسلم- عليهم؛ وبدخوله مكة عنوة في هذه السنة، لكن الله -تبارك وتعالى- جعل رحمة من عنده -سبحانه وتعالى- أن أخَّر دخول النبي إلى مكة سنتين، ليُنقِذ الله -تبارك وتعالى- حتى لا يقع قتل وبطش من المؤمنين على إخوانهم المؤمنين المستخفين بدينهم، هذي رحمة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- وعناية بعباده المؤمنين؛ حتى مَن استتر منهم بالإيمان، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:25]، يعني حتى لا تطئوهم، {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا}، يعني انحازوا وابتعدوا، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
ثم قال -جل وعلا- {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الفتح:26]، {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ}، يعني اذكر إذ جعل الذين كفروا؛ اللي هم من أهل مكة هؤلاء، {فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ}، الحَمِيَّة؛ الحمو هو الحرارة، هذا من الغضب؛ والانتصار للنفس، والعِزَّة الكافرة الفاجرة التي أخذتهم وقالوا جميعًا والله لا يدخلها محمد علينا عنوة أبدًا، قالوا لبُدَيل ابن ورقاء الخُزاعي روح أخبر محمد أنه لن يدخل علينا مكة عنوة أبدًا، وجاء بُدَيل الخُزاعي إلى النبي -صل الله عليه وسلم- وقال له إن بني كعب ابن لؤي وعامر ابن لؤي قد جمعوا لك العوذ المطافيل، يعني كل ما عندهم من الإبل جمعوها؛ جنَّدوها للمعركة، قد جنَّدوا للمعركة وأقسموا ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، فهؤلاء الكفار جعلوا في قلوبهم الحَمِيَّة؛ الحَمِيَّة لجاهليتهم وكفرهم، وأنه لا تتحدث العرب أن محمد دخل عليهم مكة عنوة فلابد أن يُمنَع؛ ولا يمكن أن يسمحوا له بالدخول، {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ}، قال -جل وعلا- {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}، هذا الحمو الذين عندهم والغضب الذي عندهم الجاهلية؛ أنهم قريش وكيف تستجيب وتستكين؟ وكيف يدخل محمد عليهم مدينتهم مكة؛ عنوة، وقوة، ورغمًا عنهم؟ لا؛ لا يدخلها، فأقسموا أنه لا يدخلها وأنهم سيُحاربوه لو حاول دخولها.
قال -جل وعلا- {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، في مقابل هذه الحَمِيَّة الجاهلية فإن الله -تبارك وتعالى- أنزل سكينته؛ الإيمان، والهدوء، والسكون، والطمأنينة، والرضا بأمر الله -تبارك وتعالى-، والمفاوضة لهذا الصُلح الذي كان والقبول به على ما كان في هذا الصُلح من ظاهره؛ من الشروط القاسية والتي قبلها المسلمون واستجابوا لها، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- هو ربي؛ لن يُضيِّعَني، لمَا قيل له يا رسول الله كيف نرضى الدنية منهم؟ حتى يقول له عمر ألست برسول الله؟ ألسنا بالمؤمنين؟ أليسوا بالكافرين؟ ثم لمَّا يقول له النبي بلى، فيقول فعلامَ نرضى الدنية من ديننا؟ كيف نرضى بالدنية من ديننا؟ يعني بالدناوة ونحن في ديننا في الإسلام نرضى بأن مَن أتانا مؤمنًا رددناه إلى هؤلاء الكفار، فيقول له النبي هو ربي؛ ولن يُضيِّعَني، يقول له ألم تعِدنا أننا سندخل مكة ونعتمِر؟ فيقول هل قُلت لك في هذا العام؟ قال له أنت داخله وأنت مُعتمِره؛ ستدخل وتعتمِر؛ ويقول له النبي هذا، فأنزَل الله -تبارك وتعالى- سكينته في قلب النبي؛ ثبَّته، وثبَّت المؤمنين، هذا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- يأتيه عمر نفسه كذلك يقول له أليس برسول الله؟ قال له بلى، يقول ألسنا بالمؤمنين؟ يقول له بلى، يقول فعلامَ نرضى الدنية من ديننا؟ فيقول له يا رجل إنه رسول الله؛ وإن ربه لن يُضيِّعه، يقول له يا رجل أنت إيش فيك؟ هذا رسول الله وإنه ربه؛ لن يُضيِّعَه، فيقول ألم يقل لنا بأننا سندخل مكة؟ قال هل قال لك هذه السنة؟ فيُجيب أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- نفس الاجابة التي أجاب بها الرسول -صل الله عليه وسلم- وهذا من ثباته؛ وقوة يقينه، وقوة إيمانه.
وهذا الأحنف ابن قيس أكبر الناس حِلمًا؛ أُشتُهِرَ به في العرب، يقول أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فوالله لقد كِدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندل، يقول أنا كِدت أني أذهب إلى النبي ويقول له أعفني من أمر الإسلام؛ أنا خارج منه، يوم حادثة أبي جندل لِما كان ومن وقعِها الشديد، الله -تبارك وتعالى- مع شدة الأمر لكنه أنزَل السكينة في قلوب المؤمنين، فاستجابوا لأمر الله -تبارك وتعالى- وقبلوا أمره، كان في هذا الفتح والنصر المبين من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ}، ونسبها إليه -سبحانه وتعالى- أن هذا فعله -سبحانه وتعالى-؛ الهدوء، والطمأنينة، والرضا، والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وما سكبه الله -تبارك وتعالى- في قلب رسوله وفي قلب المؤمنين، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، سمعنا وأطعنا، {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، كلمة التقوى؛ السمع والطاعة لله -تبارك وتعالى-، أن يسمعوا لله وأن يُطيعوه -سبحانه وتعالى-؛ وألا يُجاوِزوا حدوده، ولذلك لمَّا خرج النبي -صل الله عليه وسلم- ونحر هَديه وحلق رأسه، فعلوا كما فعل النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ولم يُجاوِزوا أمره، واستجابوا لأمر الله وأمر رسوله، ووافقوا على هذا الأمر، ولم يحصل لهم أنفة وغضب وحَمِيَّة كما كان الكفار يتفصُّوا ويخرجوا من هذا الأمر، بل استجابوا واستكانوا لأمر الله -تبارك وتعالى-، {وَأَلْزَمَهُمْ}، ألزم الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين كلمة التقوى.
قال -جل وعلا- {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}، وكانوا هؤلاء المؤمنين أحق بها؛ أحق بكلمة التقوى، فهم الأتقياء؛ الأوفياء، الذين التفوا حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبايعوه على الموت وعلى ألا يفروا، وكانوا معه -صلوات الله والسلام عليه- ناصرين له، حوله في كل مكان؛ يُقاتلون أمامه، ويُقاتلون خلفه، وعن يمينه، وعن شِماله، ويحموه، كلٌ يقول يا رسول الله روحي قبل روحك؛ نحري بنحرك، ففدوا رسول الله -صل الله عليه وسلم- وكانوا معه -صل الله عليه وسلم-، فكانوا أحق بها؛ أحق بكلمة التقوى وأهلها، فهم أهل لهذا، وهذا ثناء عظيم من الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، هذه السورة اشتملت على ثناء عظيم جدًا على هؤلاء المؤمنين حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ سنعرض هذا في آخر هذه السورة، هذا من مواضع الثناء من ثناء الله -تبارك وتعالى-، قال {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، أيضًا تعقيب لهذه الآية لبيان أنه -سبحانه وتعالى- عليم بكل شئون خلْقِه -سبحانه وتعالى-؛ وأنه مع عباده المؤمنين، وأنه كان معهم ويعرف ما فيه أنفسهم، وأنه هو الذي ثبَّتهم بما ثبَّتهم به من السكينة؛ والتزام الحق، وأن يكونوا عند كلمة التقوى ولا يُجاوزونها، كل هذا من عطاء الله -تبارك وتعالى- لهم، وكان الله -تبارك وتعالى- عليمًا بكل أحوالهم وبكل شئونهم -سبحانه وتعالى-، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.
ثم بشَّرهم الله -تبارك وتعالى- في ختام هذه السورة بأنه سيتحقق ما أرادوا تمامًا؛ وأكثر مما أرادوا، قال -جل وعلا- {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:27]، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}، قد رأى النبي قبل أن يخرج إلى الحديبية بأنه يطوف بالبيت؛ وبأنه يعتمر، وأخبر أصحابه بهذا، ولمَّا أمر أصحابه بالتجهُّز والخروج لهذا الأمر كان على أساس من هذه الرؤيا التي أخبر بها النبي أصحابه، وحصل ما حصل من قيام الكفار في وجه النبي -صلوات الله عليه وسلم- ومنعه من الدخول؛ وأنه لن يدخل إلا على جثثهم، لابد هيُقاتلوا وما هيدخل عليهم مكة عنوة أبدًا؛ وأنهم سيُقاتلوه وسيردوه، ثم كان الشأن بعد ذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد هيأ لرسوله -صل الله عليه وسلم- هذا الصُلح الذي تم، فيخبر -سبحانه وتعالى- والمسلمين راجعين؛ لم يعتمر، ولم يدخلوا البيت الحرام، وأصبحم مُحصَرين، ونحروا هَديَهم، وحلقوا وقصَّروا في أماكنهم في الحِل؛ قبل ما يدخلوا مكة، ودعى النبي -صل الله عليه وسلم- للمُحلِّقين ثلاثًا وللمُقصِّرين واحدة، فقال اللهم أغفر للمُحلِّقين، اللهم أغفر للمُحلِّقين، اللهم أغفر للمُحلِّقين، وفي كل مرة والمُقصِّرين يا رسول الله فقال والمُقصِّرين، المهم أن المسلمين عادوا من الحديبية ولم يعتمروا، ووعِدوا على حسب الشروط أن يعودوا من قابِل من السنة التي تأتي لتترك لهم قريش مكة ثلاث أيام فقط؛ يعتمروا في الثلاث أيام وليس معهم إلا سيوفهم فقط، ثم يعودوا أدراجهم إلى المدينة ولا يبقى منهم أحد في مكة.
السورة نزلت على النبي وهو قافل من الحديبية إلى المدينة، هنا يخبر الله -تبارك وتعالى- رسوله بأن المسلمين سيدخلوا المسجد الحرام كما وعَدَهم الله -تبارك وتعالى-، قال {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}، وجاء هنا صدق بالتعبير بالماضي عن أمر مستقبل وأنه سيقع لتحقق الوقوع؛ لأن هذا لابد أن يقع، فهذا وَعْد الله -تبارك وتعالى- ووعْد الله لا يسقط، وأن هذا وعْد لابد أن يتحقق، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا}، التي أراها النبي بالحق؛ أنها رؤيا حق، وأن الله -تبارك وتعالى- مُصدِّقها لرسوله -صل الله عليه وسلم-، {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، بلام التوكيد ونون التوكيد المُثقَّلة؛ أن هذا أمر حتمي سيكون، لتدخلُنَّ أي أيها المُخاطَبون؛ المسلمين الذين كانوا مع النبي، {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}، علَّق الله -تبارك وتعالى- الأمر على مشيئته، وكل أمر مُستقبَل إنما هو مُعلَّق على مشيئة الله -تبارك وتعالى-؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولكن إن شاء الله هنا تحقيقًا؛ تحقيق لأن هذا أمر قد شاء الله والله يخبر به، فهذه مشيئة تحقيقية وليست فيها أمر أنه يكون أو لا يكون... لا، هذا خبر من الله -تبارك وتعالى-؛ وأخبار الله -تبارك وتعالى- يقينية، النسخ لا يدخل الأخبار، مادام أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه يكون فسيكون، لا يمكن أن يُبدِّل الله -تبارك وتعالى- خبره لأن النسخ في الأخبار يعني الكذب، فلو أن الله لم يوفي وعْدَه لكان هذا كذبًا، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك، وإنما إن شاء الله لأن هذا أمر مُتحقق الوقوع، وكل هذا تعليم أن كل أمر مستقبلي يجب تعليقه بمشيئة الرب -تبارك وتعالى-.
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، آمنين من عدوكم؛ لن يمسَّكم، وتدخلوا آمنين بمعنى أنكم ستدخلوا دخولًا كاملًا لأداء عُمرتكم آمنين، ثم {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ}، يعني أنه ستتم العُمرة وآخر عمل من أعمال العُمرة الحلق أو التقصير، يعني هي إحرام، وطواف، وسعي، ثم حلق أو تقصير، الله -تبارك وتعالى- ذكَرَ هنا آخر أعمال العُمرة فإنكم ستتمكنوا إلى آخر العُمرة من الحلق والتقصير، {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ}، لا تخافون أن ينقصكم شيء من العُمرة أو يعتدي عليكم عدم، وإنما سيتم هذا الأمر بهذا الأمن والطمأنينة، نفى الله -تبارك وتعالى- وذكر أنهم آمنين وكذلك أنهم لا يخافون، قال -جل وعلا- {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}، جعل هذا الصُلح؛ يعني الفتح القريب هذا قبل هذه فيتحقق لكم الأمرين، لأنه لو أن الله -تبارك وتعالى- سمح لهم وجعل قريش تسمح لهم -تعالى خذ عُمرة وارجع- لَما تحقق هذا الفتح والنصر العظيم؛ وهو إيقاع بنود هذه الاتفاقية، التي كان منها بعد ذلك هذا الخير العظيم الذي تحقق بها، ثم دخول النبي مكة بعد ذلك فاتحًا منتصرًا، فإن النبي ما دخل مكة إلا بعد أن نقضت قريش العهد، فهم عاهدوا ولمَّا نقضوا العهد دخل النبي مكة على إثر ذلك؛ فكان هذا تدبير عظيم من الله -تبارك وتعالى-.
سنعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.