الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح:27] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:29]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن الرؤيا التي رآها النبي -صل الله عليه وسلم- قبل أن يتوجَّه إلى مكة في العُمرة سنة ستة من هجرته -صل الله عليه وسلم-؛ والتي تم فيا ما عُرِفَ بصُلح الحديبية، وأن النبي كان قد رأى أنه يدخل المسجد الحرام وأخبر أصحابه بهذا وأمرهم وندبهم إلى الخروج، فخرج معه ألف وأربعمائة من أصحابه -صلوات الله والسلام عليه-، ثم كان من شأنهم أن صدَّهم الكفار عن المسجد الحرام، وتم بعد مفاوضات بين النبي وبينهم الصُلح الذي عُرِفَ بصُلح الحديبية، ورجع المسلمون في تلك السنة لم يعتمروا وذلك أن قريش قالت لا يمكن أن تدخلها علينا عنوة، قال سُهيل ابن عمرو وهو يتفق مع النبي في هذا النبي يطلب دعونا نعتمر؛ أدخل البيت، قال والله لا يتحدث العرب أن محمد قد دخل مكة على قريش عنوة أبدًا، قال العرب ما يتحدثوا بهذا ونُفضَح في شئون العرب أنه أُرغِمنا على إدخال النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلى مكة.
المسلمين لمَّا رجعوا ولم يعتمروا كان من ضمن شروط الصُلح أن يُسمَح لهم في السنة التي بعدها ليعتمروا لمدة ثلاث أيام فقط في مكة ثم يعودوا، وسُميَت هذه العُمرة التي ذهب إليها النبي -صل الله عليه وسلم- في السنة التي بعدها بعُمرة القضاء، القضاء اللي هو قضاء هذه العُمرة التي لزمتهم بأنهم أُحصروا، لأن المُحصَر يذبح هَديه ثم عليه إذا أُحصَر عن العُمرة أن يعتمِر من قابِل، وإن كان حج فعليه أن يحج من قابِل إذا أُحصِر، فهذه العُمرة التي أخذها النبي في السنة السابعة بعد ذلك سُميَت عُمرة القضية أو القضاء؛ أنها قضاء لهذه العُمرة السابقة، أخبر الله -تبارك وتعالى- رسوله وهم عائدون بأنه سيعود؛ سيدخل مكة هو وأصحابه كما أخبره الله -تبارك وتعالى-، وجاء هذا في رؤيا النبي؛ ورؤيا النبي حق، {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}، قد دخله النبي هو والألف وأربعمائة الذين كانوا معه، {آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ}، وكان من هذا الأمن أن كبراء قريش لم يُطيقوا أن يجلسوا في مكة ليروا النبي -صل الله عليه وسلم-؛ خرجوا منها، وبقي النساء والأطفال وهم جالسون حول البيت في الشُرُفات وعلى أسطح المنازل يُطالعون المؤمنين، وأشاعت قريش قبل مجيء النبي -صل الله عليه وسلم- والمؤمنون قالت أتاكم محمد والمسلمون معه ممَن أكلتهم وأنهكتهم حُمَّى يثرب، فلمَّا عَلِمَ النبي بمقالتهم أمر المسلمين أن يطَّبعوا، والانطباع هو أن يجعل رداء الإحرام يأتي بطرفه من تحت إبطه ويُظهِر الكتف الأيمن، وأن يرمولوا في الأشواط الثلاث الأُوَّل ليُظهِروا قوتهم أمام قريش والعدو، حتى أنهم قالوا والله ما بهم بأس؛ وين الحُمَّى هذه التي قيل أنها أكلتهم؟.
فدخلوا مكة آمنين ومكثوا فيها الثلاث أيام وأتموا عُمرتهم، طبعًا بعد الثلاث أيام جائت قريش إلى علي ابن أبي طالب وقالت له أخبر صاحبك أن عليه أن يرتحل؛ حسب الشروط التي بيننا وبينه عليه أن يرتحل، على كل حال قد دخل النبي -صل الله عليه وسلم- والؤمنون معه مكة كما وَعَدَهم الله -تبارك وتعالى-، قال {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ........}[الفتح:27]، ذُكِرَ الحلق والتقصير هنا لأنه آخر العُمرة؛ يعني أنه ستتم العُمرة إلى آخر أعمالها، ثم قال {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} وهذا على التخيير، والحلق أفضل كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- اللهم أغفر للمُحلِّقين، اللهم أغفر للمُحلِّقين، اللهم أغفر للمُحلِّقين، قال هذا عندما أُحصِرَ النبي وذبحوا وحلقوا في الحديبية، ثم قيل له والمُقصِّرين يا رسول الله فكان كل مرة يقول اللهم أغفر للمُحلِّقين، ثم قال في الرابعة والمُقصِّرين، فالحلق أفضل من التقصير في العُمرة والحج، {لا تَخَافُونَ}، الأمن وعدم الخوف لتأكيد الأمر، {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}، من الأمور العظيمة، {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}، هيأ لكم فتحًا قريبًا، فتح قريب؛ هذا الفتح القريب هو هذا الصُلح الذي تم به بعد ذلك فتح مكة، فتح مكة أولًا بالصُلح؛ أنها فُتِحَت أمام المسلمين يذهبوا ويأتوا، فكان يذهب المسلمين ويأتوا وأمِنَ الناس وانتشرت الدعوة فعاد كثير من الكفار إلى الإسلام، {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ}، من دول ذلك؛ من دون أدائكم للعُمرة، {فَتْحًا قَرِيبًا}، هو هذا الصُلح الذي تم وكان فيه هذا الفتح العظيم.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- إرادته -سبحانه وتعالى- ومِنَّته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنه أرسل الرسول ليس لمجرد فترة مُحددة... لا، إنما هو أرسل رسوله ليجعل دينه فوق كل الأديان في الأرض كلها، قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، الذي أرسل رسوله؛ محمدًا -صل الله عليه وسلم-، بالهُدى؛ الهداية العامة إلى صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم، بدين الحق؛ الدين الحق، الذي لا دين حق إلا هو، كل ما سِواه فدين باطل، فهذا الدين الحق الذي يجب أن يدين به الجميع لله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، ليُظهِره؛ يجعله ظاهرًا على الأديان كلها، الظهور ليس ظهور الإعلام وإنما ظهور الغلبة، ظهر عليه بمعنى غلبه، يعني ليجعله غالبًا على كل دين ليس دين المشركين فقط من قريش؛ وإنما دين النصارى، ودين اليهود، وكل دين في الأرض، يجعل الإسلام فوق كل دين، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ ........}[الفتح:28]، يعني ليجعل هذا الدين غالبًا على كل دين، ثم قال {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، كفى بالله شهيدًا على هذا العقد؛ وهذا العهد، وهذا الوعْد الذي يعِد الله –تبارك وتعالى- به المؤمنين أن الله شاهد على هذا الأمر؛ وقد حقق الله -تبارك وتعالى- هذا، نحن الآن نعيش بعد ههذ القرون؛ أربعة عشر قرن، ومازال هناك من وعْد الله -تبارك وتعالى- بظهور الإسلام ما فيه إلى أن يتم أمر الله -تبارك وتعالى-؛ وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، كما قال النبي «والله ليبلغنَّ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار»، وين الليل يصل إلى أرض ووين الشمس تُشرِق على أرض لابد أن يبلغ الدين هذه الأرض؛ الأرض التي فيها ليل وفيها نهار، والأرض كلها ليل ونهار، فالنبي قال «والله ليبلغنَّ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولن يدع الله -تبارك وتعالى- بيت حجر ولا مَدَر إلى أدخله الله الإسلام»، لا بيت من بيوت البر البادية ولا بيت من بيوت الحاضر حجر إلا أدخل الله -تبارك وتعالى- فيه الإسلام، «بعِز عزيز؛ يُعِز الله به الإسلام وأهله، وبذل ذليل؛ يُذِل الله به الكفر وأهله»، يعني إدخال حقيقي وليس إدخال إعلام؛ أن يدخل البيت هذا إعلام، بصورة من صور الإعلام؛ كتاب، أو شبكة انترنت، أو تليفزيون... لا، وإنما بمؤمن يؤمن من هذا البيت وبكافر يكفر، فالمؤمن يُعِزه الله -تبارك وتعالى- والكافر يُذِله الله -تبارك وتعالى-، «بعِز عزيز؛ يُعِز الله به الإسلام وأهله، وبذل ذليل؛ يُذِل الله به الكفر وأهله».
نحن في وسط هذا الوعد وقد تحقق من هذا الوعد أمور عظيمة جدًا، فإن النبي لم يمت -صلوات الله والسلام عليه- إلا وقد دانت العرب كلها بدين الإسلام، ودخلت الجزيرة بكليتها في دين الإسلام ولم يبقَ بعد ذلك شرك فيها، وقال النبي -في تتمة هذا- قال «إن الشيطان يئس أن يُعبَد في جزيرتكم هذه»، أن يُعبَد يعني الشيطان بهذه الجزيرة، «وقد رضي بالتحريش بينكم»، ولكن ما يفعله الشيطان بينكم إنما هو بالتحريش، والتحريش بينهم هو تهييج وإثارة بعضهم على بعض؛ من الحروب، والقتل، ونحو ذلك، والخصومات بين المسلمين، لكن بأن يرتدُّوا كفارًا في هذا؛ لا، لكن في آخر الزمان أخبر النبي أن الجزيرة تعود إلى الجاهلية ولكن في آخر الزمان؛ بعد أن يأذن الله -تبارك وتعالى- برفع هذا الدين من الأرض، كما قال النبي «لن تقوم الساعة حتى تضطرب أليات داووس حول ذي الخلَصَة»، فترجع داووس وهي قبيلة عربية ترجع ثانية تطوف نسائها بذي الخلَصَة؛ صنم لهم، يُعيدون تجديده من جديد، كأنه تراث قديم يُعيدونه، يقولوا نعيد تراثنا؛ تراثهم الجاهلي الذي كان قبل الإسلام، يُعيدون تراث الشرك مرة ثانية ويرجعون إليه، وهذا لن يكون إلى بعد أن تُرفَع الكعبة؛ وأن يُرفَع القرآن من الأرض، وألا يبقى مَن يقول لا إله إلا الله، أما في هذه الفترة كلها فإن النبي قال «إن الشيطان يئس أن يُعبَد في جزيرتكم هذه»، فالنبي لم يمت إلا والجزيرة العربية كلها دانت بالإسلام، ثم توجَّهت بعد ذلك جيوش المسلمين لقتال الروم؛ قاتلوا الروم في عهد النبي -صل الله عليه وسلم-، الروم في عهد النبي كان هناك غزوتين والثالثة عقد لها النبي لوائه -صل الله عليه وسلم-؛ اللي هو بعث أسامة، لكن غزوة تبوك وغزوة مؤتة تمت في وقت النبي -صلوات الله والسلام عليه-، النبي خرج بتبوك بنفسه وفي مؤتة -صلوات الله والسلام عليه- أمَّر ثلاثة أمراء قُتِلوا جميعًا في هذه الغزوة؛ عبد الله ابن رواحة، وجعفر ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- كان الأمير الأول، وزيد ابن حارثة بعده وعبد الله ابن رواحة الأمير الثالث، قُتِلوا جميعًا ثم حاذ خالد ابن الوليد -رضي الله تعالى عنه- اللواء وعاد بالمسلمين.
ثم بعد ذلك كان بعث أسامة والنبي خرج في غزوة تبوك -صلوات الله والسلام عليه-، ثم أن المسلمين بعد ذلك حاربوا في عهد الصِدِّيق -رضي الله تعالى عنه- وفتحوا الفتوح؛ فكسروا كِسرى، وكسروا قيصر، ثم قُضي على الكنيسة، الكنيسة كانت تفرَّقت كنيستين؛ كنيسة شرقية وعاصمتها القسطنطينية، والكنيسة الغربية وعاصمتها روما، وقد أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- أن كلتا الكنيستين ستُفتَح؛ وأن كنيسة القسطنطينية ستُفتَح أولًا، فقول الله –تبارك وتعالى- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ........}[الفتح:28]، ليُظهِره على كل دين، النبي ظهر على دين المشركين، وكذلك على اليهود طهَّر الله -تبارك وتعالى- الجزيرة منهم؛ ولم يكن لليهود في وقتهم راية، ما قامت رايتهم إلا في هذا القرن الأخير؛ ولم تكن لهم راية قبل هذا، فكان الإسلام ظاهرًا على الجميع ثم راية النصارى، سقطت راية وبقيت راية في طريقها للسقوط حتمًا لخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهنا خبر الله -تبارك وتعالى- وخبر الله لا يسقط، وقد قال -تبارك وتعالى- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29]، ولكن في آخر الزمان ينزل عيسى ابن مريم -عليه السلام- ولا يقبل الجِزية، ويكون هذا تتمة ظهور الإسلام في آخر الزمان على كل دين كما قال -صل الله عليه وسلم- «والذي نفس محمد بيده لينزلن فيكم عيسى ابن مريم حَكَمًا؛ عدلًا، مُقسِطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجِزية، ويؤذِّن بالصلاة»، فيؤذِّن بالصلاة مع المسلمين، يقتل الخنزير، يكسر الصليب، ولا يقبل الجِزية ولا يقبل إلا الإسلام.
فهذا إخبار الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الدين الذي بعث به عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- هذا الدين الخاتم هو ليس دين لمجرد فترة من الزمان؛ وليست معركته مع قريش وانتهى الأمر، قريش التي كانت بحدِّها؛ وحديدها، عنجهيتها، وحمُّوها، وغضبها، تظن أن المعركة هي بس فقط مع النبي وأنها قادرة على إنهائه، وقد يظن ظان أن فقط معركة الإسلام إنما هي مع قريش... لا، يخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا الدين مُرسَل للعالمين؛ وأنه أرسله الله –تبارك وتعالى-، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}، هذا الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، ليُظهِره على كل دين، ثم قال الله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، أي شاهد غير الله -تبارك وتعالى- يُحتاج إليه ليشهد هذا العقد ويُتِمه؟ لا شاهد أعظم من الله -تبارك وتعالى-، فكفى به شهيدًا أن يعِد هذا الوعد ويُحققه -سبحانه وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- مُحقق وعْدَه وناصره حتمًا لابد، الحمد لله وحده؛ صدق وعْدَه، ونصر عبده، وأعز جُندَه، وهزم الأحزاب وحده، هذا قد تحقق عندما أحاط الكفار بالنبي؛ وأرادوا أن يستأصلوه؛ وينتهوا من أمره، الله -تبارك وتعالى- الله -تبارك وتعالى- أرسل الجنود والريح التي كشفت هؤلاء الكفار؛ وبقي النبي -صل الله عليه وسلم- مُنتصِرًا بأمر الله -تبارك وتعالى-، هذا لابد أن يكون فالله له جنود السماوات والأرض وهو الذي يخبر هذا الخبر؛ والله مُحقق وَعْدَه -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ........}[الفتح:28]، يعني على كل دين، على الدين كله يعني على كل دين غير الإسلام، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخيرة التي هي ختام هذه السورة العظيمة؛ سورة الفتح، يُثني الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد وعلى هذه الطائة؛ التي آمنت بالله -تبارك وتعالى-، والتفت حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فقال -جل وعلا- {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، خبر عظيم، إخبار من الله -تبارك وتعالى- أن بإسم النبي -صل الله عليه وسلم- محمد، بهذا الإسم المعلوم؛ المشهور للجميع، رسول الله؛ هذا رسول الله، هذه صفة هذا النبي الكريم -صل الله عليه وسلم- هو رسول الله؛ رسول جاء من الله، رسول الله لكم أيها الناس، وهذه شهادة الله -تبارك وتعالى- وكفى بالله شهيدًا؛ أن يشهد لرسول الله -صل الله عليه وسلم-، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والذين معه؛ مع هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا به والتفوا حوله -صل الله عليه وسلم-، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وصفهم بوصفين مُتابينين حسب الجهة، فهم أهل شدة لكن على الكفار، وأهل رحمة لكن مع المؤمنين، وهذه أعظم أوصاف يستحق بها أصحابها النصر والتمكين، إذا كانوا في مقابل الكفار؛ أهل شدة، وفي مقابل بعضهم بعض؛ أهل رحمة، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، هذا الوصف الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- من عباده المؤمنين ويرضاه لهم، كما قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ........}[المائدة:54]، فوصَفَهم أولًا بأنهم يحبون الله ويحبهم الله، وقال {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، يعني مع إخوانه المؤمنين ذليل، ذليل لهم بمعنى التواضع؛ والخشوع، ومنها الصفح عن سيئاته؛ وذلَّاته، والمغفرة له، والقيام بحقه، ومطاوعته، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، أهل عِزَّة؛ أنفة، وغلبة، وشموخ أمام الكفار، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}، ما يهمهم مَن يلومهم لجهادهم في سبيل الله.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، أهل شدة على الكفار وهذا الذي يطلبه الله -تبارك وتعالى- من عباده المؤمنين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ........}[التوبة:123]، ومعنى ليجدوا فيكم غِلظة يعني أن تكونوا غِلاظ مع أعداء الله -تبارك وتعالى- الكفار، وأما بالنسبة أهل الإيمان فإن الله يحب من المؤمنين أن يكونوا رحماء بينهم، كما وصف النبي -صل الله عليه وسلم- أهل الإيمان فقال «مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثَل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر»، فوصَفَهم النبي هذا الوصف العظيم البليغ بأنهم في تداعيهم لإخوانهم المؤمنين؛ ومحبتهم بعضهم البعض، وعطف بعضهم لبعض، كأنهم جسد واحد، فإن الجسد الواحد إذا تألَّم عضو؛ الجسد لا يترك العضو المتألِّم هذا ليتألَّم وحده، وإنما الجسم كله يكون في حالة حركة ونشاط لمجابهة الخطر الذي يتعرض له جزء من هذا الجسم، فنجد في الحمُّو يحمى الجسم؛ وحمُّو الجسم هذا قد عُلِم بعد ذلك بأنه عبارة عن حركة شديدة في الدم لمقابلة هذا الوباء أو هذا الألم، وكذلك أنه يتداعى؛ يُفرز الجسم مادة مُخدِّرة للألم الذي يكون في هذا المكان، ثم الجسم كله يكون في حالة يقظة؛ سهران للألم الذي يُصيب عضو منه، فالنبي -صل الله عليه وسلم- شبَّه المؤمنين بهذا التشبيه، «مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم»، المودة؛ المحبة، التراحم؛ أن يرحم بعضهم بعض، التعاطف؛ يعطف بعضهم على بعض، «كمثَل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر»، وقال «المسلم للمسلم كالبُنيان يشد بعضه بعضًا»، فكلٌ منهم يؤازر الأخر، فالله شبَّههم هنا يعني وصَف هذا الوصف لأصحاب النبي قال {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، رُكَّعًا وسُجَّدًا حال؛ يعني راكين ساجدين، والحال يقولون بأنها وصف لصاحبها؛ قيد لعاملها، العامل هنا تراهم، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، يعني كأنك لا تراهم إلى هكذا، يعني كلما وقع نظرك عليهم فتراهم إما راكعين وإما ساجدين، فكأن الصلاة هي عملهم الدائم؛ ما كأن لهم عمل غير الصلاة، فأنت لا تراهم إلى هكذا، كما تقول لا ترى مثلًا زيد إلا باسمًا، لا تراه إلى باسمًا يعني أبدًا، كلما رأيته تراه يتبسَّم، فهؤلاء لا تراهم إلا راكعين ساجدين كأن الصلاة صفتهم؛ عملهم الدائم الذي هم فيه، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، الركوع ركن من أركان الصلاة، والسجود ركن من أركان الصلاة، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، تراهم راكعين ساجدين.
{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، هذا إخلاص؛ شهادة من الله -تبارك وتعالى- بإخلاص نيَّاتهم، وأنهم بعملهم بكل عملهم هذا في الدين؛ من ركوعهم، وسجودهم، وتراحمهم، وغِلظتهم على الكفار وشدتهم، أنهم كل هذا يبتغون به فضل الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، وفضل الله -تبارك وتعالى- يعني عطائه ومِنَّته -سبحانه وتعالى- لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة؛ من الحياة الطيبة، من الأجر الجميل عندالله -تبارك وتعالى- في الآخرة، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، فضله؛ عطائه وإحسانه في الدنيا والآخرة، ومن فضله جنته -سبحانه وتعالى-، ورضوانه؛ رضاه -سبحانه وتعالى-، رضا نفسه عن عباده المؤمنين وهذا أعظم شيء؛ أعظم من كل أمر حسي يُعطيهم الله -تبارك وتعالى- أن يحصل لهم رضا الله -تبارك وتعالى-، أن يستشعروا أن الله -تبارك وتعالى- هو راضٍ عنهم -سبحانه وتعالى-، فمجرد إحساسهم وإيمانهم بأن الرب -تبارك وتعالى- راضٍ عنهم، وأن يكون الله بالفعل راضٍ عنهم؛ فهذا أعظم النعيم، أعظم نعيم ممكن أن يتنعَّمه الإنسان المؤمن أن أن يكون الله -تبارك وتعالى- راضٍ عنه؛ وأن يعيش في هذا الرضوان لله -جل وعلا-، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}.
ثم قال -جل وعلا- {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، السيمة؛ العلامة، {فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، يعني أثر السجود يكون علامة في وجوههم، وذلك أن السجود يجعل الله -تبارك وتعالى- به علامة في وجه صاحبه؛ علامة الإيمان، والخشوع، والذل لله -تبارك وتعالى-، والإيمان به، إشراق وجهه بهذا الرضا الذي يكون من الله -تبارك وتعالى- عليه، غير وجه الكافر والمنافق الذي يتجلله غضب الله -تبارك وتعالى- وسَخَطه، وهذا يظهر لأهل الإيمان؛ فإن أهل الإيمان يعفرون هذا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:75]، يعرفون مَن يُشرِق وجهه بنور الإيمان وبنور الصلاة؛ ومَن يطمس الله -تبارك وتعالى- على هذا الوجه ويُغلِّفه ويُجلله بالغضب، فهذا يظهر في الوجوه، سيماهم يعني علاماتهم ولكن لا تظهر هذه العلامات إلا لأهل البصيرة؛ وأهل الإيمان، وأهل الفراسة، كما جاء رجل في حلقة الحسَن أو غيره فقال ((مَن صلى بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار))، يعني صلاة الليل تؤدي إلى حُسن الوجه وإشراق الوجه بالنهار، فهذا الإشراق إشراق الرضا من الله -تبارك وتعالى- والإيمان، الصدقة ضياء، الصلاة نور، فالصلاة نور ينوِّر الله -تبارك وتعالى- بها قلب المؤمن؛ وكذلك يُنير الله -تبارك وتعالى- بها وجهه، قال {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، أثر السجود وخاصة على الحصير وعلى الأرض يقوم تترك أثر؛ سوادة أو نحوها في الجبهة، ليس المقصود بالسيمة هذه فإن هذه ممكن تكون للمؤمن الذي يُكثِر السجود ولغير المؤمن، لكن السيمة هنا والعلامة {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}، ليس هي هذه البقعة السوداء التي تكون من أثر وجود الجبهة في الأرض؛ أو على الحصير، أو غيره، وإنما السيمة هي هذه علامة الإيمان وإشراقة الصلاة، وحُسن الوجه؛ ما يُجلله الله -تبارك وتعالى- به من رضوانه لعباده المؤمنين، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ}، أن الله -تبارك وتعالى- وصَفَهم بهذه الصفات الحسنة في التوراة والإنجيل، ثم قال -جل وعلا- {........ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:29].
تتمة هذه الآيات نُرجئها -إن شاء الله- إلى الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.