الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:29]، هذه هي الآية الأخيرة من سورة الفتح، وفيها شهادة الله -تبارك وتعالى- لرسوله محمد -صل الله عليه وسلم- بأنه رسول الله، والثناء على الذين آمنوا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- بهذه الأمور العظيمة؛ أنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، وأن الله -تبارك وتعالى- قد وصَفَهم بهذه الصفات في الكتب السابقة؛ في التوراة والإنجيل، وأنهم كالزرع يبدأ شيئًا فشيئًا، ثم يستوي على سوقه؛ ويغلُظ، ويشتد، وأن الله -تبارك وتعالى- أنشأهم على هذا النحو ليغيظ الله بهم الكفار، وبيَّن الله موعدته لهم -سبحانه وتعالى-، جائت هذه الآية بعد هذا الحُكم الإلهي {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، وجاء هذا الإعلان الإلهي عن إرادة الرب -سبحانه وتعالى- في هذا النبي في سياق صد الكفار للنبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ومنعه من مكة، وإملائهم هذه الشروط التي قبلها النبي وقبلها المسلمون على مضض، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- فيه الفتح المبين والأمر العظيم، أقول جاء هذا بعد هذا الأمر لبيان أن إرادة الله -تبارك وتعالى- في إرسال هذا النبي أنه قد أرسله إلى العالمين؛ ليُظهِره على الدين كله.
قال {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى}، دين الإسلام، {وَدِينِ الْحَقِّ}، دين الحق؛ هذا الدين الحق من الله -تبارك وتعالى-، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، ليجعله ظاهرًا على كل دين؛ يعني يعلوا ويغلب كل الأديان، وهذه قد تحققت إرادة الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، شهادة الله هنا يعني أن الله -تبارك وتعالى- هذه إرادته التي أظهرها؛ وعِلمه -سبحانه وتعالى- في هذا الأمر، وبيان أن هذه الإرادة وهذه الشهادة التي يقولها الله -تبارك وتعالى- هنا من أنه أرسل محمدًا لهذه المهمة كفى به شهيدًا -سبحانه وتعالى-، فهو العليم -سبحانه وتعالى- الذي لا يقول إلا حقًا؛ القادر على أن يُنفِذ وَعدَه -سبحانه وتعالى-؛ فهذ وعْد الله -تبارك وتعالى-، وهذه مشيئته، وهذه إرادته لابد أن تكون، وهذا فيه لكل ذي عقل وذي لُب من الكفار في هذا الوقت أن يعلموا أن هذه مشيئة الله وإرادته؛ وأن هذا أمر لابد أن يكون، وقد كان الأمر كما أخبر -سبحانه وتعالى-، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- باسمه ليُدلِّل عليه، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، وأن هذه صفته؛ أنه رسول من الله -تبارك وتعالى-، اختار الله ليكون رسوله وإلى العالمين؛ والرسول الخاتم، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، المُرسَل لكل الإنس ولكل الجِن، لكل الإنس على اختلاف أجناسهم؛ وألوانهم، وأشكالهم، فهو رسول الله إليهم جميعًا، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، شهادة من الله -تبارك وتعالى- وثناء عليه.
ثم ثناء من الله -تبارك وتعالى- على الذين معه، قال {وَالَّذِينَ مَعَهُ}، معه على الإيمان، ومعه هنا في النُصرة؛ معه -صلوات الله والسلام عليه-، وقد كان من أعظم الذين معه أبو بكر الصِدِّيق -رضي الله تعالى عنه-، فإن أبو بكر لم يُفارِق النبي -صل الله عليه وسلم- قط منذ أسلم؛ في كل مدخل ومخرج، ما خرج النبي خروجًا إلا وكان أبو بكر معه، وما دخل دخولًا إلا وكان أبو بكر معه، ولم يتخلَّف عنه في غزوة غزاها قط؛ ولا في خرجة خرجها قط، ثم قد كان معه -رضي الله تعالى عنه- في الموقف الذي لم يكن معه غيره من أهل الإيمان؛ وهو خروجه للهجرة، فإن أبو بكر كان الوحيد الذي كان مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال -جل وعلا- {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ........}[التوبة:40]، ثم قد كان معه بعد ذلك أصحابه الذين آمنوا به؛ وصحبوه -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يتخلَّفوا عنه، ما تخلَّفوا عنه في غزواته وإنما كانوا معه فيه خرجاته ودخلاته، وحاربوا معه ووقفوا معه في الشدائد التي تعرَّض لها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قد كانوا يُحيطون به إحاطة السوار بالمِعصَم؛ رجال حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، لم يُسلِموه لشيء قط -صلوات الله والسلام عليه-، وإنما قاموا معه ونصروه، {وَالَّذِينَ مَعَهُ}، من أصحابه؛ من المهاجرين والأنصار.
{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، هذا أول وصف وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- به؛ بأنهم أهل شدة على الكفار كما أمرهم الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ........}[التوبة:123]، ومن شدتهم على الكفار بُغضهم لهم؛ وحربهم لهم، ولو كانوا آباؤهم كما وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- قال {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، وقد أظهر الصحابة من الشدة على الكفار في هذا أمر عظيم؛ فمنهم مَن قتل أباه في سبيل الله، وهذا مصعب ابن عُمير يقول أشدد على يديه فإن له أمًا تفديه؛ هذا في بدر، فقد كانوا في غاية الشدة على الكفار ولو كانوا من أعز الناس عليهم في الجاهلية ومن أقربائهم، أشداء على الكفار في الحروب وغير الحروب؛ لم يوادوهم، وقاطعوهم، وكانت موالاتهم في الله -تبارك وتعالى- ومعاداتهم في الله، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، رحماء بينهم؛ أهل تراحم في ما بينهم ولو كانوا من أفنار الناس ومن أبعد الناس، وكانوا في الجاهلية تُفرِّق بينهم تلك الطبقية والتفريق بين القبائل، لكن لمَّا اجتمع أهل الإسلام فإنهم كانوا في غاية التراحم بعضهم على بعض، كما وصَفَهم النبي -صل الله عليه وسلم- فقال «مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر»، فقد كانوا أهل رحمة قال {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وهذه شهادة من الله -تبارك وتعالى-، وصف لحالهم وشهادة من الله -تبارك وتعالى- لأحوال هؤلاء الصحابة.
الوصف الثاني قال {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، يعني لا تراهم إلا كذلك لأن هذا حال، {رُكَّعًا سُجَّدًا}، راكعين ساجدين؛ فإنك لا تراهم إلا كذلك، إذا وقعت أعينك عليهم فإنك إما أن تراهم راكعين أو ساجدين، وهذا من أن الصلاة هي خير أعمالهم وهي خير موضوع لهم؛ فهم في النهار وفي الليل من أهل الصلاة، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، هذا هو الوصف الثالث الذي وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- به؛ إخلاصهم لله -تبارك وتعالى-، وأنهم لم يُريدوا بهذا الدين إلا وجه الله -تبارك وتعالى-، يبتغون؛ يطلبون، فضلًا من الله ورضوانًا في الدنيا والآخرة، وفضل الله -تبارك وتعالى- في الآخرة جنته ورضوانه -سبحانه وتعالى-، وفضله -سبحانه وتعالى- في الدنيا هدايته للمؤمنين؛ وتثبيته لهم، وحسنة هذه الدنيا، فهم يطلبون حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، فغايتهم وعملهم أنه لله -تبارك وتعالى-، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}، ثم الوصف الرابع قال -جل وعلا- {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، سيماهم؛ علاماتهم، قيل هذه العلامة الظاهرة من أثر السجود عندما يسجد الإنسان على الأرض وغيرها من المواضع الخشنة؛ فإنها تترك مثل السَفَن في جبهته وفي مواضع السجود، أي أنهم من كثرة سجودهم تظهر هذه الخشونة التي تظهر في وجوههم، وقال ابن عباس أن السيمة هنا إنما هي ملاحة الوجه وإشراقه، وأثر الصلاة في السكينة وفي النور الذي ينبعث من وجوههم يعلمها كل مَن له عِلمٌ بمعنى الهداية والضلال، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:75]، لِمَن يعرفون بالسيمة والعلامة، فهذه {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}، يعني هذا الحُسن؛ وهذا البهاء، وهذا الإشراق، وهذا النور الذي يكون بالصلاة كما جاء في قول ابن شُعبة ((مَن صلَّى أضاء وجهه بالنهار))، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، فمن أثر سجودهم لله الصلاة نور كما قال النبي «والصلاة نور»، نور في الدنيا والآخرة؛ نور في القلب وكذلك نور في الوجه.
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ}، ذلك؛ هذه الأوصاف الجميلة الحسنة التي وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- بها، هي الأوصاف التي وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- بها في التوراة والإنجيل قبل يوجِدَهم، كما جاء في التوراة يعني أن الله -تبارك وتعالى- سيُرسِل هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ وأن أصحابه بأيديهم سيوف ذات حدَّين يدينون بها الأمم، تسجد لهم الأمم ويُدين لهم العالم من البحر إلى البحر، فهذا بمعنى يعني شدتهم على الكفار؛ وأنهم رحماء بينهم يُهللون الله، جاء أيضًا في التوراة يُكبِّرون الله -تبارك وتعالى- بأصوات مرتفعة، وهذا ليس لأحد إلا لهذه الأمة التي شُرِعَ لها التكبير؛ الأذان والتكبير، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- في سفر المسلمون في أسفارهم كانوا إذا علوا شرفًا كبَّروا؛ وإذا هبطوا واديًا سبَّحوا، شُرِعَ لهم هذا؛ التكبير عند كل شرف، عند كل شرف يعني عند كل مرتفع، والتسبيح؛ عند كل مُنخفَض يُسبِّحون، فهذا كونهم مُسبِّحون لله؛ مُهللون له، راكعون له، ساجدون له -سبحانه وتعالى-، أشداء على الكفار، وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الأوصاف في التوراة المُنزَلة على موسى -عليه السلام-، وفي الأسفار؛ أسفار التوراة، مجموعة من الأسفار منها ما نزل على موسى؛ اللي هي الخمس أسفار الأولى، وما جاء عن الأنبياء بعد موسى، وكذلك إلى آخر سِفر من هذه الأسفار في الكتاب المقدس كله؛ الإنجيل، المُنزَل على عيسى -عليه السلام-، فوصَفَهم الله -تبارك وتعالى- ومدحهم بهذا، كما قال الله لعبده موسى -عليه السلام- {........ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156] {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157]، فهؤلاء الذين آمنوا بالرسول وعزَّروه ونصروه هم هؤلاء الذين مدحهم الله -تبارك وتعالى- في ما أنزل على موسى والأنبياء من بعد إلى عيسى -عليه السلام-؛ في التوراة والإنجيل.
ثم وصف الله -تبارك وتعالى- بداية أمرهم ونهايته، قال {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}، الزرع أول ما يبدأ؛ يبدأ ضعيف، الشجرة الباثقة العظيمة أول ما تبدأ؛ تبدأ من بذرة صغيرة، ربنا تكون مثل حبة الخردل، وهي شجرة عظيمة فرعها في السماء، ثم هذا الزرع {أَخْرَجَ شَطْأَهُ}، شطأه يعني فروخه، يُخرج الفروخ والأغصان حوله، {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ}، إذا طلعت هذه تكون آزرته؛ قوته، تُقوِّي أصل الزرع؛ الساق الأولى، {فَاسْتَغْلَظَ}، استغلظ يعني توسَّع ومَتُنَ الساق، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}، استوى؛ اعتدل، على سوقه؛ على سيقانه، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}، إذا كان الزرع على هذا النحو ويبدأ هكذا؛ يُخرج شُطآنه، ثم يستغلظ، ثم يستوي بعد ذلك على سوقه فإنه يُعجب الزرَّاع، الزرَّاع الذين زرعوا هذا الزرع إذا نظروا إليه أعجبهم هذا، وهذا المثَل ضربه الله -تبارك وتعالى- لأصحاب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن النبي بدأ وحده -صل الله عليه وسلم- لمَّا حمَّله الله -تبارك وتعالى- هذه الرسالة؛ وأنزل عليه قوله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}[المدثر:7]، ثم إن النبي -صل الله عليه وسلم- بدأ يدعوا، فكان أول مَن آمن له -صل الله عليه وسلم- وآمن به صديقه أبو بكر الصدِّيق -رضي الله تعالى عنه-، ثم آمن بعد ذلك علي ابن أبي طالب؛ وزيد ابن حارثة، وبلال ابن رباح، ثم بعد ذلك دعى أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- فآمن له سعد ابن أبي وقَّاص من بني زُهرة؛ من أخوال النبي -صل الله عليه وسلم-، وعثمان ابن عفان، وعبد الرحمن ابن عوف، وبدأ المسلمون يتكاثرون حول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، إلى أن أصبح هذا الإسلام بعد ذلك عندما انتقل بعد ذلك من مكة إلى المدينة؛ وآمن الأَوس، وآمن الخزرج، بعد ذلك أصبح الإسلام في النهاية كالشجرة الباثقة، لم يمضِ على المسلمون نحو خمسة عشر سنة من دعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم في ختام العشرين سنة التي هي عُمر النبي الرسالي أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، نزلت هذه الآية في حجة الوداع على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}، ومعنى أنهم يئسوا يعني قنطوا أن يوقِفوا سير الإسلام؛ وأن يستطيعوا أن يقضوا على الإسلام، وقد كان هذا حُلمهم وأملهم بل قد كان هذا أمر مثل البديهي عندهم؛ أنهم سيستأصلون الإسلام وينهوا وجوده، ثم إن الله -تبارك وتعالى- قوَّاه، قوَّاه، قوَّاه ...، على هذا النحو حتى أن الكفار بعد ذلك أُسقِط في أيديهم، وعلموا أنه لا مجال لهم بعد ذلك لإسقاط الإسلام، {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}.
{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}، قال -جل وعلا- {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- نقلهم من هذا الحال الضعيف شيئًا فشيئًا؛ قوَّاهم وربَّاهم، وأصبحوا على هذا النحو ليغتاظ الكفار من نشوئهم على هذا النحو؛ ومن قوتهم على هذا النحو، هذه إرادة لله -تبارك وتعالى- أن الله أخرجهم على هذا النحو ليجعلهم غيظ لِمَن يكفر بالله -تبارك وتعالى-، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، والكفار مُطلَق الكفار؛ كفار العرب، وكذلك كفار العالم، كفار العالم بعد ذلك فإن الله -تبارك وتعالى- أغاظ كفار العالم بتقوية هذه الأمة؛ وبالمدى الذي وصلت إليه من من فتح العالم كله، ويئس الكفار من أن ينالوا من هذا الدين الذي علا على الأرض كلها، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، يعني كأن هذا صنيع الله –تبارك وتعالى- بأهل الإيمان في الدنيا، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- ما ادخر لهم في الآخرة فقال -جل وعلا- {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، هذا وَعْد من الله ووعْد الله -تبارك وتعالى- صادق لا يسقط، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ}، جمعوا بين هذين الأمرين؛ الإيمان والعمل الصالح، ودائمًا لا يأتي جزاء الآخرة إلا على اجتماع هذين الأمرين؛ الإيمان والعمل الصالح، وإذا اجتمع الإيمان والعمل الصالح فالإيمان ينصرف إلى أعمال القلوب، والأعمال الصالحة تنصرف إلى أعمال الجوارح، فأعمال القلوب؛ تصديق الله -تبارك وتعالى-، ومخافته، ومحبته، ورجائه، والتوكُّل عليه، كل ما هو داخل في أعمال القلوب من مُسمَّى الإيمان، والعمل الصالح اللي هو أعمال الجوارح، أشرف العمل؛ الصلاة، ثم بعد ذلك الزكاة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصدق الحديث، وسائر ما جعله الله -تبارك وتعالى- من شرائع هذا الدين، «الإيمان بِضع وستون شُعبة أعلاها قول لا إله إلا الله؛ وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان»، فهؤلاء الذين وَعَدَهم الله من الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء الذين آمنوا بالنبي؛ وعزَّروه، ونصروه، وقاموا معه، {مَغْفِرَةً}، لذنوبهم، أن يغفر الله -تبارك وتعالى- ذنوبهم، {وَأَجْرًا عَظِيمًا}، وصف الله هذا الأجر اللي هو الأجر الذي يُعطَوه على عملهم بأنه عظيم، وذلك أنه هو الجنة والخلود؛ جنة الله -تبارك وتعالى-، بستان الرب الذي لا ينفد رزقهم فيه؛ ولا يفنى شبابهم، ولا تنقضي مدتهم فيه، وإنما هم ماكثون فيه مُكثًا عظيمًا أبدًا، ولا شك أن وَعْد الله -تبارك وتعالى- حق، فهذه الآية الأخيرة التي تضمنت هذا الثناء العظيم من الله -تبارك وتعالى- على رسوله وعلى المؤمنين.
في ختام هذه السورة نستعرض بعض ما جاء في هذه السورة من الدلائل العظيمة ومن الإفضال العظيم من الله -تبارك وتعالى- على رسوله وعلى المؤمنين، فأول شيء تضمنت هذه السورة بُشرى الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه قد غفر له ذنبه كله؛ ما تقدَّم منه وما تأخر، قال {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2]، فأول آية من هذه السوة حملت هذه البُشرى العظيمة، أولًا بالفتح المبين الذي تحقق بهذا العهد الذي كان بين النبي وبين قريش؛ والذي كان في ظاهره أنه هزيمة، وأنه إملاء لشروط جائرة أملاها الكفار على النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وقبل بها النبي يعني أنه لم يكن أفضل من هذا في هذا الوقت، وأنه أراد أن يُعظِّم بيت الله -تبارك وتعالى-، واستجاب النبي لهذا مع ما في هذه الشروط من التي أُمليَت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- من الشدة؛ ومن ما وصَفَ به بعض الصحابة كيف نرضى الدنية في ديننا؟ وهي أن يردوا إلى الكفار مَن جائهم مؤمنًا، ولكنه قال إنه ربي ولن يُضيِّعني؛ سأقبل، وكان هذا أعظم فتح في الإسلام، هذه الشروط بما كان فيها من هذا الظاهر لكن الله -تبارك وتعالى- جعلها أعظم فتح في الإسلام، فهذه بِشارة بأن هذا فتح عظيم، وبشارة من الله -تبارك وتعالى- بأن الله باستجابة النبي لأمره -سبحانه وتعالى- وإزعانه له قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؛ وقد أتم نعمته عليه بالفتح المبين، وأن هذه مهَّدت إلى النصر وفتح مكة بعد سنتين؛ وإلى إدانة العرب كلهم ودخولهم في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجًا، فكان هذا عظيم؛ بُشرى عظيمة من الله -تبارك وتعالى- لرسوله في الدنيا والآخرة، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3].
ثم تضمنت هذه السورة كذلك بُشرى الله -تبارك وتعالى- بالنسبة لهؤلاء المؤمنين، وثناء الله -تبارك وتعالى- عليهم لاستجابتهم لأمر الله -تبارك وتعالى-، فقال {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ........}[الفتح:4]، السكينة؛ الهدوء، والطمأنينة، والراحة، والاستسلام لأمر الله -تبارك وتعالى- مع ما في هذه الشروط التي كانت من الأمر الصعب عليهم، لكنهم استجابوا واستكانوا لأمر الله -تبارك وتعالى-؛ فبيَّن أن هذا فعله، أثنى الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين بالمواقف العظيمة التي وقفوها في هذه الغزوة، ومن أعظم هذه المواقف أنهم عاهدوا النبي على الموت، لمَّا ندبهم النبي وقال لهم بايعوني؛ قال لا نمضى حتى نُناجز القوم، لمَّا أُشيع بأن عثمان ابن عفان -رضي الله تعالى عنه- قد قتله المشركون، وقد أرسله النبي رسوله إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأتي لحرب، وإنما أتى مُعظِّمًا لهذا البيت وأتى مُعتمِرًا، وأن فقط اعطونا الطريق لنُعظِّم هذا البيت ونعتمر ونعود، لكن قريش أخذتها الحَمِيَّة وقالت والله لا يدخلها علينا محمد عنوة أبدًا، ولمَّا أشاعوا هذا عند ذلك النبي قال لا نمضى حتى نُناجز القوم؛ وقال بايعوني، وأراد النبي أن يأخذ بيعة من أصحابه على ألا يفروا، فقَبِلوا وبايعوا النبي على أنهم لا يفروا وعلى أن يموتوا، كما قال سَلَمَة ابن الأكوع بايعنا النبي -صل الله عليه وسلم- على أن نموت؛ على الموت، وعلى ألا نفر، وسَلَمة بايع النبي في هذه الغزوة ثلاث مرات؛ في أول الناس، وفي وسط الناس، وفي آخر الناس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، فهذا أولًا ثناء من الله -تبارك وتعالى- عليهم في هذا فقال {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ........}[الفتح:18]، عَلِمَ الله -تبارك وتعالى- ما في قلوبهم من الإيمان فثبَّتهم على هذا، {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، وأثابهم الله -تبارك وتعالى- فتحًا قريبًا، وكان هذا الفتح كان قريبًا في أن المسلمين دخلوا مكة بعد ذلك فاتحين؛ بعد سنتين.
تضمنت هذه السورة كذلك من أدلة إثبات نبوة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أمور عظيمة، منها أولًا أنها أخبرت بغيوب كثيرة؛ أنه هذا فتح وكان الكل يقول ما هو فتح، كانت قريش تعتبر أن هذا نصر لهم؛ وأنهم قد أملوا شروطهم على النبي وردوه دون أن يدخل مكة عليهم عنوة، وأنهم يسمحون له من العام القادم، وأن مَن جائه منهم رده، فكانوا يظنون أنهم مُنتصرون، وكذلك ظن المسلمون بأن هذا إنما هو هزيمة؛ وأنهم قبلوا بالهزيمة والانكسار، ولكن الله أخبرهم أن هذا فتح وقد كان فتح بالفعل، فهذا أول شيء مما يدل على أن هذا من عند الله -تبارك وتعالى-؛ علَّام الغيوب -سبحانه وتعالى-، ثم الإخبار بأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، قال {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، ثم أن المسلمين سيدخلوا من العام القادم كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، قال {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ........}[الفتح:27]، وقد كان بنفسه، ثم أيضًا من الإخبار بالغيوب أن الله -تبارك وتعالى- وَعَدَهم غنيمة خيبر؛ وقد كان، فإن النبي بعد هذا ذهب إلى خيبر وفتحها وغنم هؤلاء الذين كانوا مع النبي -صل الله عليه وسلم-، {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ........}[الفتح:20]، فقد تضمنت هذه السورة هذه الغيوب الكثيرة التي وقعت كما أخبر الله -تبارك وتعالى- بها، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- وليس من عند رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، هذه سورة الفتح سورة عظيمة من الله -تبارك وتعالى-، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الآيات العظيمة والذِّكر الحكيم، أن يُدخِلنا في سلك هؤلاء الأصحاب الذين قاموا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {........ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر:10]، والحمد لله رب العالمين.