الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (651) - سورة الحجرات 12-13

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:12] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13] {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:14]، هذه طائفة أخرى من الآداب العظيمة التي أدَّب الله –تبارك وتعالى- بها عباده المؤمنين في هذه السورة؛ سورة الحجرات، التي اشتملت على هذه المجموعة العظيمة من الآداب التي بدأها الله –تبارك وتعالى- بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الحجرات:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، هذا نداء من الله -تبارك وتعالى-؛ نداء بعد نداء، وأمر منه -سبحانه وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، خطاب من الله -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين، بسم الإيمان يُسمِّيهم الرب -جل وعلا- تهييجًا لهم على الفعل وإلزامًا لهم بالأمر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يعني ما مَن آمنتم، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}، الاجتناب؛ الترك، يعني اجعلوه بعيدًا عنكم؛ اجعلوه في جانبكم.

{كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}، الظن من الرُجحان؛ وهو ليس عِلمًا، وإنما هو الأمر الذي يكون فيه نسبة من الشك ونسبة أخرى من العِلم؛ فهو ليس عِلمًا، فإن مبدأ الإدراك يبدأ بالشك، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الظن، ثم العِلم، ثم اليقين، والظن أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأنه أكذب الحديث، قال «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»، احذر الظن، والظن أخبر -تبارك وتعالى- وقال {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، هذا لا ينبغي التعويل عليه؛ ولا البناء عليه، ولا اتِّباعه، لأنه ليس عِلمًا وإنما هو فوق الشك، وهو الأمر الذي يحتمل الإثبات وكذلك يحتمل النفي؛ كذلك في نسبة من أن يُنفى هذا الأمر، أو نسبة من النفي ونسبة من الإثبات، نسبة من حصول هذا الأمر ومن عدم حصوله، فالله -تبارك وتعالى- أمرنا أن نجتنب الظن؛ الظن في كل شيء، والسياق هنا هو الظن بين المسلمين؛ أن يظن الإنسان في أخيه المسلم ما ليس فيه، وأن يبني على هذا الذي ترائى له منه ولم يتأكد منه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، ومن الظن طبعًا اتِّباع القرائن وعدم الحُكم بالأدلة والبراهين؛ فإن البرهان والعِلم هو الذي يُتَّبع، أما مجرد القرينة فإن القرينة تُفيد الظن ولا تُفيد العِلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، إثم إذا اتَّبَع الإنسان هذا دون بينة، وقد يكون في اتِّباعه هذا الأمر وحُكمه على الأخرين بمجرد ظن وليس بعِلم يكون قد أثِمَ في هذا؛ أنه كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36]، فستُسأل عن سمعك؛ وبصرك، وفؤادك، فإن كان بكذب فهذا بُهتان، كما في الحديث «مَن قال في أخيه المسلم ما ليس فيه لكان حقًا على الله –تبارك وتعالى- أن يحبسه يوم القيامة في رضغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال»، اللي هي عُصارة أهل النار، فهذا إذا كان الحُكم على الأخرين بالكذب الإفك، أما إذا كان بمجرد قرائن ليست بأدلة فهذه قد يكون فيها إثم أنه اتَّبَع هذا وسار هذا؛ فهو مسئول عنه بي يدي الله -تبارك وتعالى-.

{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، إذا اتَّبَعه وسار فيه دون أن يكون متأكدًا منه، وقد قال -صلوات الله والسلام عليه- «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»، فيجب على المؤمن أن يظن بإخوانه المؤمنين خيرًا، كما قال -تبارك وتعالى- في مَن جائوا بالإفك {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11] {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ........}[النور:12]، يقول الله -تبارك وتعالى- هلَّا سمعتم هذا الإفك؟ أفكَه آفِك، وافتراه مُفترٍ، قاله يُريد هدم الإسلام، فعلَّق هذا الأمر ورمى به زوجة النبي -صلوات الله والسلام عليه- ليُشين رسول الله -صل الله عليه وسلم-، الله -تبارك وتعالى- يؤدِّب المؤمن الذي جائه هذا الخبر، قال {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ........}[النور:12]، بأنفسهم يعني بإخوانهم، لِما لا يظن الإنسان بأخيه المسلم خير، كما فعل أبو أيوب الأنصاري مع زوجته قال لها أرأيتي لو أنكي مكان عائشة؛ أكنتي تفعلين هذا؟ قالت لا والله، ثم قال لها والله أنا لو كنت مكان صفوان ابن المُعطَّل ما فعلت هذا، والله إن عائشة لأفضل منكي وإن صفوان لأفضل مني، كيف يتأتى هذا من هؤلاء الذين هم أفضل مِنَّا؟ {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}، بأنفسهم، أو بأنفسهم؛ بإخوانهم، فينبغي أن يُغلِّب الإنسان جانب الخير في إخوانه المسلمين، وألا يتَّبِعَ ما يترائى له وما يُنقَل دون أن يكون هناك وبيِّنة وخاصة في هذا الأمر العظيم؛ في أمر الرمي، كما قال -تبارك وتعالى- {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور:13].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا}، التجسس والتحسس بالمعنى وهو التلصص لمعرفة أخبار وأسرار الأخرين، وهذا نهي مطلق عن التجسس، لا تتجسس على أخيك المسلم وتحاول أن تتساقط ذلَّاته وعوراته؛ وأن تعرف أسراره، سواءً كان هذا التجسس بالتنصُّت عليه، أو بالنظر إليه خِلسة، بأي صورة من صور معرفة أسرار الغير بأي طريقة؛ نظر، أو سمع، أو غير ذلك، {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، الغِيبَّة فسَّرها النبي –صل الله عليه وسلم- قال «ذِكرك أخاك بما يكره»، يعني في غيبته، أن تذكر أخاك المسلم بما يكره أن يُذكَر عنه وهو غائب عنك، «فقال رجل يا رسول الله؛ أرأيت إن كان في أخي ما يقول؟»، أرأيت يعني أخبرني، إن كان في أخي ما أقول يعني إذا كان فيه هذا العيب الذي أذكره به في حال غيبته، «فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وغن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته»، ومعنى بهته يعني قولت فيه بالبُهت، والبُهت هو الكذب، وسُمي الكذب بُهت وبُهتان لأنه يبهت سامعه، بمعنى أنه يُحيِّره ويجعله مُتحيِّر؛ لا يستطيع أن يتكلم من شدته ومن فظاعته، فهذا البُهتان؛ والبُهتان أمر عظيم، فلا تذكر أخاك المسلم بعيب في غيبته.

{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وذِكر الأخ المسلم في غيبته مُطلقًا حرام إلا في أمور جائت الشريعة باستثنائها، من هذه التحذير؛ أن يُحذِّر من شر له أو بدعة له، والتعريف؛ كما يكون مُعرِّفًا به عندما يسأل عنه، كما في الريف أن الصحابية سألت النبي -صل الله عليه وسلم- وقالت له يا رسول الله إن فلان وفلان خطباني؛ معاوية وأبا الجهم، معاوية وأبا الجهم قالت خطباني، فقال لها النبي أما معاوية فصعلوك لا أمان له، وأما أبو الجهم فإنه لا يضع عصاه عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة، فالنبي ذكرَ هؤلاء لأن هذا تعريف؛ لأن هذا من باب التعريف، فالمستشار مؤتمَن ويجب أن يُدلي بما يعرفه عن الشخص الذي يُستشار فيه؛ في زواج، أو في تجارة، أو في نحوها، كذلك المُتظلِّم فإن المُتظلِّم إلى الحاكم وغيره يقول فلان ظلمني؛ أخذ مالي، أخذ كذا، وكذلك المُستفتي في ما نسأل؛ رجل يسأل ويستفتي وقد يذكر عيب مَن يستفتي فيه، كأن تقول امرأة زوجي يظلمني؛ يفعل كذا، يفعل كذا، كما قالت امرأة أبي سفيان قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسِّيك؛ فهل لي أن أأخذ من ماله؟ يعني من ورائه لي ولأولادي، فقال لها النبي كلي وأولادكي بالمعروف، فذِكرها عن زوجها بأنه بخيل وأنه لا ينفق عليها النفقة الواجبة؛ هي وأولادها، فذِكرها هذا نعم هو كلام بالعيب فيه وهو فيه بغيبته، لكن لمَّا كان هذا في باب الإفتاء نعم، كذلك المُجاهِر؛ المجاهر بالمعصية، هذا إذا ذُكِرَ بها وهو مجاهِر فيها فهذا لا يُعَد غيبة، فهذه الأمور ليست من باب الغيبَّة، ومن هذا كما ذكَرنا اللي هو التحذير، ولذلك قام علماء الحديث؛ الذي يُسموا علماء الجرح والتعديل، بمعرفة كل مَن تصدَّى لنقل الحديث عن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وزن عقله وكذلك دينه حتى إذا كان من أهل العدالة ومن أهل الحفظ أُجيز ليؤخذ عنه حديث النبي -صل الله عليه وسلم-، وأما إذا كان مطعونًا في دينه أو في عقله فكان سيئ الحفظ مثلًا؛ يُقال فلان سيئ الحفظ، أو كان كذَّابًا، أو وضَّاعًا، فإنه يُترَك حديثه، فهذا جرح فيه وهذا الجرح إنما هو للتعريف، وكذلك من أجل معرفة حديث رسول الله -صل الله عليه وسلم- للتثبُّت ممَن ينقل حديث النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فهذه الأمور خارجة في معنى الغيبة، وإذا نظرنا إذن إلى الغيبة بعد إخراج هذه الأمور التي جائت النصوص بإخراجها؛ وفي شبه اتفاق وإجماع عليها، فتبقى الغيبة مجرد التلذذ والتشهِّي بأن يذكر المسلم عيوب إخوانه في غيبتهم، {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}.

ثم قارن الله -تبارك وتعالى- بالنهي عن الغيبة هذا المثال، قال {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، يعني شبَّه الله -تبارك وتعالى- مَن يتكلم في عِرض أخيه المسلم؛ أو يذكر عيب أخيه المسلم في غيبته، بمَن يأكل لحمه حال كونه ميت؛ لا يستطيع أن يُدافع عنه نفسه، قيل إن وجه الشبه أن الميت إذا نُهِشَ لحمه فإنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه لأنه ميت، وكذلك الغائب لا يستطيع أن يدفع عن نفسه لأنه غائب؛ وبالتالي هذا ينهش في لحمه، ثم كذلك شُبِّه الأمر هنا {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، أن هذا أمر فظيع جدًا، وأن الغيبة من الفظاعة النتانة بحيث كأن الإنسان يأكل لحم أخيه ميت، والحال أن الميت لا يؤكَل لحمه؛ ويكون أمر مُنتِن وفظيع، فشُبِّه بهذا أن الذي يفعل هذا كأنه يتعرض لهذا الأمر الشنيع الفظيع، فالشاهد أن هذا مثَل سوء جعله الله -تبارك وتعالى- للمُغتاب، قال {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، يكره الإنسان هذا، وكذلك يجب أن يكره أن يتعرض وأن يتكلم في عِرض أخيه المسلم في حال غيبته، ثم قال -جل وعلا- {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}، اتقوا الله؛ خافوه -سبحانه وتعالى-، اجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى- وهذا بمخافته؛ وبرجائه، وبالسير في طاعته، وبالإيمان به -تبارك وتعالى-، بهذا الإنسان يحفظ نفسه ويشتري نفسه من الله -تبارك وتعالى-؛ بالإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وطاعة الله -عز وجل-، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقِره، بحسب إمرئ من الشر أن يحقِر أخاه المسلم»، «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرضه، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، يُشير إلى صدره ثلاث مرات -صلوات الله والسلام عليه-»، فكأن تقوى القلب هي العاصمة والمانعة من أن يقع الإنسان في هذا الذي نهى الله –تبارك وتعالى- عنه؛ من العدوان والظلم على أخيه المسلم.

{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}، وهذا فتح لباب الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- والتوبة إليه، إن الله توَّاب؛ كثير قبول التوبة -سبحانه وتعالى-، هذا الوصف من صفة الله -تبارك وتعالى- ويوصَف به العبد؛ فيُقال فلان توَّاب، توَّاب يعني كثير الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، فالوصف بالنسبة للعبد أنه كثير الرجوع والتوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، والله هو التوَّاب؛ كثير قبول التوبة، يعني كثيرًا الله -تبارك وتعالى- يقبل توبة عباده -سبحانه وتعالى-، ومن قبوله توبة عباده أنه فتح باب التوبة على مصارعيه إلى يوم القيامة؛ لا يُقفَل إلا إذا خرجت الشمس من مغربها، وأنه يدعوا عباده أنه يتوبوا بالليل والنهار -سبحانه وتعالى-، كما جاء في الحديث «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار»، ومعنى يبسط يده يعني يدعوا عباده -سبحانه وتعالى- بالنهار ليتوب مسيء الليل، وجاء في الحديث أيضًا «إذا كان ثُلث الليل فإن الله -تبارك وتعالى- ينزل إلى السماء الدنيا ويقول ...»، من جملة ما يقول لعباده -سبحانه وتعالى-، «هل من تائب فأتوب عليه»، دعوة منه -سبحانه وتعالى- لعباده لأن يتوبوا، وكذلك جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ........}[الزمر:53]، فهذي دعوة منه -سبحانه وتعالى- لعباده حتى الذين أسرفوا بكثرة المعاصي وبأي نوع من المعاصي؛ بالكفر والشرك، أن يتوبوا وأن يرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنه توَّاب؛ يقبل التوبة عن عباده -سبحانه وتعالى-، وقد قال -صلوات الله والسلام عليه- «إن الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم بناقته؛ أضلته في أرض فلاة، ثم قام فوجدها عند رأسه، فقال من شدة الفرح ...»، من شدة فرح هذا العبد الذي ضاعت منه ناقته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة؛ ما في عنده أحد، وضياع هذه الناقة معناه ضياع عُمره؛ ضياع حياته لأن عليها طعامه وشرابه، فإذا بقي وحده في أرض فلاة؛ ليس بها أنيس، ولا جليس، ولا طعام، ولا شراب، فإنه يهلَك، فإذا قام؛ نام نومة ثم قام بعد ذلك، فوجد ناقته كما هي عند رأسه «فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، أخطأ من شدة الفرح، الله -سبحانه وتعالى- أشد فرحًا بتوبة عبده إذا رجع إليه من هذا العبد بناقته، فالله -سبحانه وتعالى- يفرح فرحًا عظيمًا بتوبة العبد ورجوعه إليه؛ فالله هو التوَّاب، إن الله توَّاب؛ كثير قبول توبة العباد -سبحانه وتعالى-، أنه يقبل توبتهم ويقبل رجوعهم إليه -سبحانه وتعالى-؛ ويُزيل ويغفر ذنبهم، رحيم بعباده -سبحانه وتعالى-، فمع سقوط مَن يسقط في الذنب وفعله وتجاوزه فإن الله -تبارك وتعالى- يُقيل عثرته ويمحوا ذنبه -سبحانه وتعالى-؛ فهذا من رحمته -جل وعلا-، رحيم بعباده.

بعد هذه جاء نداء من الله -تبارك وتعالى- ودعاء للناس كلهم، قال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13]، هذا النداء هنا الوحيد في هذه السورة بيا أيها الناس، كل نداء وكل خطاب جاء بيا أيها الذين آمنوا إلا هذا بيا أيها الناس، وذلك أن هذا بيان للناس جميعًا أنهم يرجعون إلى أصل واحد؛ أبًا واحد وأم واحدة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، كل الناس، خطاب للناس جميعًا؛ لكل أولاد آدم، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى- الذي لا إله غيره، خلقناكم؛ أيها المُخاطبين، والخلْق هنا خلْق إيجاد من العدم وتقدير، {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى}، ذكر واحد وهو آدم -عليه السلام-، فهو آدم الذي خلَقَه الله من طين هذه الأرض؛ وسوَّاه بيديه -سبحانه وتعالى-، ونفخ فيه من روحه، وأُنثى واحدة هي حوَّاء -عليها السلام-؛ والتي خلَقَها الله -تبارك وتعالى- من هذا الرجل، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، من نفس واحدة؛ آدم، وخلق منها؛ من هذه النفس، زوجها؛ حوَّاء -عليها السلام-، فإن الله -تبارك وتعالى- خلَقَها من آدم، كما جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- ألقى على آدم النوم، ثم أخذ ضِلعًا من أضلاعه وأنه سوَّى منه زوجته، فلمَّا قام من نومه وجدها بجواره؛ زوَّجه الله -تبارك وتعالى- إياها، فكل شعوب الأرض وكل الأمم كلها ترجع في النهاية إلى هذه النفس الواحدة؛ الذكر الواحد، آدم -عليه السلام-، وهذه المرأة الواحدة؛ حوَّاء -عليها السلام-، {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى}، إذن كل الناس من البيض؛ والحُمر، والصُفر، والسود، وكل الألوان، مع كل اللغات، مع كل الأشكال، كلهم يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ........}[الحجرات:13]، الشعوب اللي هي المجموعة الكبيرة من القبائل كالعرب مثلًا، يُقال العرب شعب العرب؛ والفرس شعب، والروم شعب، وهكذا شعوبًا، والقبائل هي العدد الضخم الداخل في هذه الشعوب كقبائل العرب؛ نقول مُضَر، وربيعة، وتميم، وغطَفان، هذه قبائل ضمن الشعب، قال -جل وعلا- {لِتَعَارَفُوا}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- خلَقَنا على هذا النحو؛ وهذا فيه تغايُر، يعني التغايُر هذا شعوب مختلفة وقبائل مختلفة من أجل التعارف، لأنه بالتغايُر يحصل التعارف، وأما بالتماثل يضيع التعارف؛ لا يمكن أن نتعرَّف بعضنا على بعض، فلمَّا الله -تبارك وتعالى- غاير بين الناس في الألوان؛ في الأشكال، في القبائل، في الصفات، في كل شيء حتى يبقى كل شخص بعد ذلك شخص مميز؛ معروف، أما لو جعل الله -تبارك وتعالى- الأمم والشعوب كلها أمة واحدة؛ وشعب واحد، ولون واحد، وصفات واحدة، فإنه خلاص عند ذلك لا يمكن أن يعرف بعضنا بعضًا؛ نشتبه كما الشبه في التوائم، فالتوائم الذين يكونون توائم إذا كانوا بنفس الشكل والمواصفات يصعب على الإنسان أن يُميِّز بين هذا وهذا؛ وهذا أخوه، وبعض التوائم لا يستطيع أحد التمييز بينهم إلا الآباء أحيانًا؛ الأب والأم، وأما بقية الناس فإنه قد يختلط عليهم الأمر، فكيف لو كانت الأمم كلها والشعوب كلها كأنهم توائم واحدة؟ عند ذلك يستحيل أن تقوم حياة وأن تقوم حضارة أو أن يتفاهم الناس؛ فلهذا يحصل التغايُر، فكان من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن أوجد التغايُر ليكون التعارف؛ فلا تعارف إلا بالتغايُر، هذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أحمر، وهذا أصفر، وهذا طويل، وهذا قصير، هذا ينتمي إلى هذا الشعب فانتمائه إلى هذه المجموعة، وهذا ينتمي إلى هذه المجموعة، وهذا ينتمي إلى هذه المجموعة، فعند ذلك يمكن أن يعرف الناس بعضهم بعضًا بهذا التغايُر، فالتغايُر ليس للتفاضل وإنما التغايُر للتعارف، ففي الجاهلية أن التغايُر جعلوه تفاضل، جعلوا والله هذه الشعوب البيضاء؛ الشعوب الصفراء، الشعوب السوداء، هذا الشعب أفضل من هذا الشعب، وهذه الأمة أفضل من هذه الأمة... لا، الألوان والأشكال هذه كلها ترجع إلى أصل واحد، ففي الأصل ليس هؤلاء من أرومة وجرثومة تختلف عن أرومة هؤلاء وجرثومة هؤلاء؛ وهؤلاء لهم أصل وهؤلاء لهم أصل... لا، وإنما كلهم أصل واحد، وإنما جاء هذا التغاير من أجل التعارف، فإذن لا فضل لأمة على أمة بلون؛ أو بجنس، أو بصفات، مادام أنهم أصلهم كلهم واحد وإنما هذا للتعارف، قال -تبارك وتعالى- {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، أكرمكم؛ أنفَسَكُم، الكرم هنا بمعنى النفاسة والخيرية كما نقول حجر كريم؛ وعرش كريم، كريم؛ نفيس، إن أكرمكم؛ أنفَسَكم، وأعلاكم منزلة، وأحسنكم صفات، هذا أتقاكم؛ أخوفكم إلى الله -تبارك وتعالى-، فكلما كان العبد تقيًا كلما كان هذا كريمًا عند الله -تبارك وتعالى-، فأعلى الناس منزلة هو أتقاهم كما في الحديث أن النبي سُئِل «مَن أكرم الناس؟ قال أتقاهم»، أكرم الناس أتقاهم، كلما كان أكثر تقوى كلما كان أعلى نسبة وأعظم صفة وأعلى منزلة عند الله -تبارك وتعالى-، كما في الحديث «إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا»، -صلوات الله والسلام عليه- فهو أعلم الناس بالله؛ وأتقى الناس لله، والرُسُل جعلهم الله -تبارك وتعالى- في قمة الناس بسبب تقواهم؛ وبسبب عِلمهم بالله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، أكثركم تقوى ومخافة من الله -تبارك وتعالى- هذا هو الشيء النفيس، النفيس؛ العظيم، عظيم القيمة، عظيم المنزلة هو التقي، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الآية بأنه العليم بخلْقِه كلهم؛ الخبير بهم، والخبرة هي أدق العِلم؛ العِلم الدقيق الخفي، وهذا لبيان أن الذي يُعطي كل عبد من هؤلاء العباد منزلته هو الله -سبحانه وتعالى-، والله يُعطيه بناءً على خبرته وعِلمه بعباده -سبحانه وتعالى-، وعندما يضع الله -تبارك وتعالى- هذا في منزلة وذالك في منزلة فهذا من عِلمه وخبرته بخلْقِه -سبحانه وتعالى-، وقييم الإنسان ليس بظاهره فقط وإنما بمخبَرِه وحقيقته، فإن الإنسان الداخلي هو الإنسان وليس الإنسان الخارجي، كما في الحديث «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فالقلب والعمل هم مدار التقوى ومدار النفاسة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من عباده الأتقياء.

نقف هنا -إن شاء الله- ونُكمِل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.