الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات:13] {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:14] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15] {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحجرات:16] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات:17] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحجرات:18]، الآيات من سورة الحجرات، وقد مضى أن هذه السورة قد جمع الله -تبارك وتعالى- فيها ووجَّه عباده المؤمنين فيها إلى مجموعة عظيمة من الآداب والأخلاق؛ التي يجب أن يتخلَّقوا بها، بدءًا بأخلاقهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- ونهاية بأخلاقهم بعضهم مع بعض، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، هذا خطاب للناس كلهم، {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ}، الله -سبحانه وتعالى-، {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى}، آدم وحوَّاء -عليهما السلام-، {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ومن هذا الرجل الواحد؛ الذَكَر الواحد، ومن هذه الأنثى الواحدة فرَّع الله -تبارك وتعالى- وأخرج هذه الأمم التي غطت الأرض كلها مختلفة الألوان؛ منهم الأسود، والأبيض، والأصفر، والأحمر، كل الألوان بداية من الأبيض إلى الأسود مرورًا بكل الألوان؛ وهذه الشعوب الكثيرة، ولكنها كلها ترجع إلى أصل واحد في النهاية، وهذا تذكير إلى أن أصل الناس واحد، إذن ما في أصول مختلفة كما قال مَن قال من أهل الجاهلية؛ أن أصولهم تختلف عن أصول غيرهم، وقال مَن قال من المشركين بأن الطائفة الفلانية هذه خلَقَها الإله من عنصر ما؛ والأخرين المنبوذين خُلِقوا من قدم الإله، عندهم من الجهل والكفر أمر عظيم جدًا، فهذا تعليم من الله -سبحانه وتعالى- أن أصل البشر كلهم يرجعون إلى رجل واحد؛ أصل واحد، وأم واحدة.
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}، أي مختلفين على هذا النحو، {لِتَعَارَفُوا}، يعني تناكرتم واختلفتم شكلًا ونسبةً حتى يعرف بعضكم بعضًا، وإلا لو كنتم جميعًا مخلوقين أمة واحدة؛ وشعب واحد، وصفات واحدة، وشكل واحد، لتعذَّر على أحد أن يعرف الأخرين وبالتالي ينهار مجتمع الناس؛ وحضارة الناس، وقيام الناس، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، أنفَسَكم وأعلاكم منزلة، {أَتْقَاكُمْ}، «سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- يا رسول الله؛ مَن أكرم الناس؟ قال أتقاهم»، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، أعلاكم عند الله -تبارك وتعالى- أتقاكم والله هو العليم الخبير -سبحانه وتعالى-، وتصنيف العباد الله هو الذي يُصنفه -سبحانه وتعالى- بناءً على عِلمه وخبرته بهم، فكلما كان العبد تقيًا؛ خائفًا من الله -تبارك وتعالى-، كلما علَت منزلته عند الله -تبارك وتعالى-، كذلك وإن كان الله -تبارك وتعالى- خلَقَ الأمم والشعوب على هذا النحو لكن لا شك أن بعض الأمم والشعوب أفضل من بعضها من حيث الأرومة والجرثومة، كما في قول النبي -صل الله عليه وسلم- «لمَّا سُئِلَ النبي مَن أكرم الناس؟ قال أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال أتسألوني عن معادن العرب؟ ثم قال لهم النبي الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، فالناس معادن مثل ما هي المعادن مختلفة؛ ذهب، وفضة، ونحاس ورصاص، وغيره، فكذلك الناس معادن كالذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية؛ الذين يتصفون بصفات معينة في الجاهلية، يعني قبل الإسلام من الشجاعة؛ والكرم، والمروئة، والشهامة، غير مَن يتصف بالجُبن؛ والبُخل، وغيرها من الصفات الخسيسة، «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «تجدون خير الناس في هذا الأمر اللي هو أمر الدين أشد كراهية له قبل أن يدخل فيه، وتجدون شر الناس ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه»، فهذا بيان أن الرجل الشجاع؛ القوي، الذي يقول ما يعتقد، هذا الذي يكون في كفره على هذا النحو إذا أسلم يكون كذلك؛ رجل صادق، يقول ما يعتقده، فإذا دخل هذا الكافر الذي كان صادقًا في كفره؛ وبعيد عن الإسلام، وكاره له، فإذا شرح الله -تبارك وتعالى- صدره للإسلام كان خير الناس فيه، أما الضعيف؛ الذليل، ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، فإنه يبقى أشر الناس، قال «وتجدون شر الناس ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه».
وكذلك يتفاضل الناس بالنسبة لمنازل الكرم، كما في الحديث «سُئِلَ رسول الله؛ مَن أكرم الناس؟ قال أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال النبي فأكرم الناس يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم»، ككرم أصل؛ فإن هذا أجداده الثلاثة أنبياء، ما تحصَّل إلا مثل هذا فقال هذا أكرم الناس كأرومة أصل ونسبة، «قالوا ليس عن هذا نسألك، قال أتسألوني عن معادن العرب؟ قالوا نعم، قال فالناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ........}[الحجرات:13]، تناكرتم لتعارفوا، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فهذا الذي يجب أن يُتنافَس فيه، بلوغ القمة والعلو والنفاسة إنما يكون بالتقوى، كلما كنت تقيًا كلما كنت عاليًا عند الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ}، بخلْقِه -سبحانه وتعالى-، {خَبِيرٌ}، الخبرة؛ أدق العِلم، يعني عليم بأسرارهم -سبحانه وتعالى- وخبايا نفوسهم.
ثم قال -جل وعلا- {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:14]، الأعراب؛ سكان البادية من العرب يسمون أعراب، وغالبًا ما يكون مَن يسكن البادية بعيدًا عن التعلُّم والتحضُّر يكون فيه عجلة؛ وفيه جلافة، وفيه عدم معرفة بالأمور، فالله -تبارك وتعالى- هنا يقول {قَالَتِ الأَعْرَابُ}، بعض الوفود جائت إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- من البادية، وبمجرد ما جائوا ودخلوا في الإسلام أعلنوا مباشر وقالوا آمَنَّا؛ طووا المراحل، والحال أن هذا الدين مراحل لابد من دخولها والترقي مرحلة مرحلة، لا يمكن أن تحرق المراحل وتصل إلى الغاية بهذه السرعة، فإسلام؛ ثم إيمان، ثم إحسان، هذه الدرجة الأولى هي دخول الإنسان في الإسلام، ثم بعد ذلك يترقَّى من الإسلام فيعبر من الإسلام إلى الإيمان، ثم بعد ذلك من الإيمان إلى الإحسان الذي هو أعلى درجات هذا الدين، كما جاء في الحديث «أن جبريل لمَّا أتى النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال أخبرني عن الإسلام، قال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله؛ وأن محمد رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإيمان، قال أن تؤمن بالله؛ وملائكته، وكتبه، ورُسُله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيره وشره من الله -تعالى-، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكُ تراه فإنه يراك، قال صدقت، فأخبرني عن الساعة»، ثم في تمام هذا الحديث قال النبي لعمر «قال يا عمر أتدري مَن السائل؟ قال قُلت الله ورسوله أعلم»، وذلك أنه جاء في صورة رجل شديد سواد الشعر؛ شديد بياض الثياب، في تمام الهيئة والخِلْقَة الكاملة؛ والهِندام، واللباس النظيف الكامل، وجلس بأدب إلى النبي -صل الله عليه وسلم-؛ أسند رُكبتيه إلى رُكبيته، ووضع كفيه على فخذي نفسه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام؛ عن الإيمان، عن الإحسان، عن الساعة؛ عن أماراتها، ثم قال النبي «أتدري مَن السائل؟ قال قُلت الله ورسوله أعلم، قال كأنه دخل وخرج دون أن يعلمه أحد، فقال له فهذا جبريل؛ أتاكم يُعلِّمكم دينكم»، فهذا الدين إسلام؛ ثم إيمان، ثم إحسان، درجات.
فهؤلاء الأعراب لمَّا جائوا إلى النبي -صل الله عليه وسلم- قالوا على طول مباشرة؛ قالوا يا محمد آمَنَّا آمَنَّا، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- لهم أن الإيمان مرحة متقدمة؛ يجب الأول أن يدخلوا الإسلام، دخلوا الإسلام فتعلَّموا فيه، وعند ذلك لابد من ممارسة أعمال الإسلام حتى يدخل الإيمان في القلب لأن الإيمان من عمل القلب؛ وعمل القلب أعلى وأكبر من عمل الجوارح، فإن عمل القلب من العِلم اليقيني ومخافة الله -تبارك وتعالى-؛ ورجاء ثوابه، والتصديق الجازم بموعوده في الآخرة؛ والعمل لذلك، والحذر من عقوبة الله -تبارك وتعالى-، هذا أمر يحتاج درَبَة ويحتاج وقت لتحصيله، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، والصحيح أن هؤلاء كانوا صادقين ولكنهم كانوا جاهلين بحقيقة الإيمان، لم يكونوا منافقين لأنهم لو كانوا منافقين لا يُقال لهم ولكن قولوا أسلمنا، فإنهم كانوا يُكذَّبون في مقالتهم كما الشأن في تكذيب الله -تبارك وتعالى- مقالة المنافقين، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المنافقون:2]، فهذا حال المنافقين كذَّبهم الله -تبارك وتعالى- في مقالتهم؛ وإن كان قد حلفوا عليها وأقسموا عليها، لكن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنهم كاذبون في هذا القَسَم، قال {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، حماية لهم من العقوبة وأخفوا كفرهم، أما هؤلاء الأعراب فقد كانوا صادقين ولكنهم جاهلين بحقيقة الإيمان، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}،أي بعد، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، في البداية الدخول إلى الإسلام، ثم العبور بعد ذلك من الإسلام إلى الدخول في الإيمان.
{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، يعني لم يدخل بعد، إن دخول الإيمان في القلب يحتاج إلى عمل أخر طويل، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، ثم {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}، وإن تُطيعوا الله ورسوله فإن الله -تبارك وتعالى- لا يلتكم؛ لا يُنقِصكم من عملكم شيء، ليس بأن تحسب عملك على الله وإنما الله -تبارك وتعالى- يُحصي لك عملك -سبحانه وتعالى-؛ ولن يبخسك من حقك شيء، فليس أن تقول لا يحسب الله -تبارك وتعالى- لك العمل الذي حفظته؛ تقول أنا فعلت كذا وفعلت كذا، يا ربي فعلت كذا؛ وفعلت كذا، وفعلت كذا ...، حتى يُعطيك ثوابك وأجرك على هذا... لا، الله يُحصي عملك -سبحانه وتعالى- ولا يُنقِصك من عملك شيء؛ فاعمل أنت، ولعل من هذا قول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- لمَّا وجد أُناسًا يعدون التسبيح بالحصى في مسجد الكوفة، فقال لهم يا أمة محمد؛ ما أعظم هلكتكم! عُدوا خطاياكم وأنا ضامن ألا يُضيِّع الله من حسناتكم شيئًا، قال لهم عُدوا خطاياكم وأنا ضامن ألا يُضيِّع الله من حسناتكم شيئًا، فإن الله لا يُضيِّح من حسنات العبد شيئًا؛ لا تحسبها على الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- مُحصي لأعمال عباده؛ ولا يُضيِّع لهم شيئًا، فهؤلاء الذين أرادوا أن يُثبِتوا إيمانهم ويمتنوا به كما سيأتي من خطاب الله -تبارك وتعالى- لهم ويحسبوه، وجَّههم الله -تبارك وتعالى- بأن أعمالهم مكتوبة عند الله -تبارك وتعالى-؛ وأن الله لن يُنقِصهم من عملهم شيئًا، قال {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، أي في ما يأمركم به؛ في كل ما يأمركم به، {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}، يلتكم؛ يُنقِصكم، ما يُنقِصك يا أيها المؤمن من عملك شيء، بل سيُعطيك عملك كاملًا؛ سيوفِّي لك عملك، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وهذا من فضله؛ وإحسانه، وبره -سبحانه وتعالى-، أنه غفور لذنوب عباده -سبحانه وتعالى-؛ رحيم بهم، وهذا فيه توجيه لهؤلاء أن مقالتهم هذه وهي مبنية على الجهل فإن الله يغفرها -سبحانه وتعالى-، وهو رحيم بعباده -سبحانه وتعالى-؛ لا يؤاخذهم بها، وكذلك في بيان بأن العبد يُقابَل من الله -تبارك وتعالى- بأن الله لا يُنقِصه عمله الصالح، ثم كذلك يتجاوز -سبحانه وتعالى- عن عمله السيئ؛ عن ذنوبه، وهذه مُقابلة الله -تبارك وتعالى- للعباد بهذه الرحمة العظيمة؛ أن ما عمله من الخير يُعطاه، وما عمله من الشر يُغفَر له ويُسامِحه -سبحانه وتعالى-، فهذه مقابلة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، إذا كنتم مُطيعين لله ورسوله فإن الله يُقابِلكم بهذين الأمرين؛ ما يُنقِصك من عملك الصالح شيء، ثم يتجاوز -سبحانه وتعالى- عن عملك السيئ، {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ثم بيَّن لهم الله -تبارك وتعالى- مَن المؤمن؟ مَن الذي ينبغي أن يُقال عنه هو مؤمن؟ قال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}، بالحصر، الذين يستحقوا أن يُوصَفوا بهذا الوصف العظيم؛ وصف الإيمان، {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، إيمان تصديق، علموا أن الله -سبحانه وتعالى- هو خالق السماوات والأرض؛ وآمنوا بذلك، وصدَّقوا بذلك، كما وصف نفسه -سبحانه وتعالى- وكما وصَفَه رسوله، وآمنوا بأن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصِدقًا، صدَّقوا هذا وعلِموا هذا بالدليل والبرهان، وعملوا بمُقتضى هذا التصديق في القلب؛ عمل قلبي وعمل جوارح، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، لم يشكُّوا؛ يعني لم يأتيهم ريب وشك في إيمانهم وتصديقهم بالله -تبارك وتعالى- وبرسوله، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، ثم {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، هذا من مُقتضى هذا التصديق ومُقتضى هذا الإيمان، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}، الجهاد هو بذل الجُهد لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-، ويدخل فيه هنا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، يعني بذل الطاقة والجُهد بالمال؛ إنفاقه وإخراجه، والنفس يدخل فيها القتال في سبيل الله؛ فالقيام بالنفس في هذا، وكذلك يدخل فيها أن يقاتل بنفسه بالسيف والسِنان؛ وكذلك القلم واللسان، كما قال النبي «جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم وأنفسكم»، فجهاد المسلمين باللسان كذلك جهاد، وجاء في الجهاد بالكلمة قول الله -تبارك وتعالى- {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]، {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:51] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]، فجعل هذا، وقال النبي «أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، فذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هنا الجهاد بالمال والنفس، والنفس يدخل فيها جهاد السيف؛ والسِنان، وجهاد القلم واللسان.
{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني أن جهادهم هذا في سبيل الله، سبيل الله؛ طريق الله -تبارك وتعالى-، ومن سبيل الله -تبارك وتعالى- كل ما شُرِعَ له القتال في الإسلام؛ كالدفاع عن المسلمين، استنقاذ المسلمين من الكافرين، جهاد الطلب للكفار لدعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29]، القتال لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ........}[البقرة:193]، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة؛ شرك، ويكون الدين كله لله؛ الخضوع كله لله، أو حتى لا تكون فتنة يعني حتى لا يُفتَن مؤمن عن دينه، يعني يتسلَّط كافر على مسلم فيفتنه عن دينه؛ يرده عن دينه، ويكون الدين كله لله؛ خضوع الجميع لله -تبارك وتعالى-، وهذه الغاية هي الغاية العظمى والغاية القصوى من الجهاد في سبيل الله، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ........}[البقرة:193]، وهذا يدخل فيه كل قتال لكل الأمم وكل الشعوب الكافرة كما قال -تبارك وتعالى- {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، جميعًا يعني، {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، مثلما هم كلهم يجتمعوا على قتالكم فقاتلوهم كلهم؛ فهذا في سبيل الله.
فالله يقول هؤلاء هم المؤمنون {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، أولئك؛ المُشار له هنا هؤلاء المؤمنين، {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، وهذا الآية مما يؤيدها قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3] {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال:4]، فهؤلاء هم أهل الإيمان على الحقيقة، الذين يعملون أعمال هذه القلوب؛ وأعمال هذه القلوب داخلة في الإيمان الله وعدم الريبة، وكذلك {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3]، فهؤلاء هم أهل الإيمان حقيقةً؛ الذين جمعوا بين عمل القلب وعمل الجوارح، وفعلوا كل هذا إيمانًا بالله -تبارك وتعالى- وإعلاءًا لكلمته في الأرض، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15]، وفي الآية الأخرى قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، المؤمنون على الحقيقة، وهنا قال الله -تبارك وتعالى- {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، أي في دعوى الإيمان، وبالتالي طبعًا هؤلاء الأعراب الذين قالوا آمَنَّا وقد قالوا هذا في أول يوم دخلوا فيه الإسلام، يعني أعلنوا إسلامهم من هنا ولكنهم بدل من أن يُعلِنوا إسلامهم أعلنوا إيمانهم، والحال أنه لابد من دخول الإسلام، ثم العبور بعد دخول الإسلام إلى الإيمان، فمن الإسلام إلى الإيمان ثم من الإيمان إلى الإحسان، والإحسان هو أن يؤدي المؤمن كل عمله على أتم الوجوه مراقبًا لله -تبارك وتعالى-، كما وصف النبي الإحسان فقال «أن تعبد الله كأنك تراه»، ومعنى تعبد الله في كل العبادة إنما هي إسم جامع لِما يُحبه الله -تبارك وتعالى- ويرتضيه من العمل؛ فيدخل فيها الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وكل تصرُّف يتصرَّفه الإنسان يجب أن يكون مُراقبًا لله -تبارك وتعالى- في كل حركاته وسكناته، «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُ تراه اعلم أنه يراك»، هذا الإحسان؛ اللي هي الدرجة العليا من درجات الدين، فينبغي الإسلام؛ ثم الإيمان، ثم الإحسان، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:14] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15].
ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى- {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحجرات:16]، قُل لهم أتعلِّمون الله بدينكم؟ يعني هل تُريد أن تخبر الله -تبارك وتعالى- بدينك؛ حقيقة إيمانك؟ وهذا سؤال يُراد به الإنكار على هؤلاء، يعني الله -سبحانه وتعالى- العليم بكل خلْقِه؛ هل ستُعلِّمه بدينك؟ وهل يخفى على الله -تبارك وتعالى- خافية في الأرض ولا في السماء حتى تُعلِّمه مَن أنت؛ وأين موقعك من هذا الدين؟ {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحجرات:16]، والحال يعني أن الله -سبحانه وتعالى- يعلم ما في السماوات وما في الأرض عِلم على التفصيل؛ لا يعزب عنه مثقال ذرَّة مما في السماوات ولا في الأرض -سبحانه وتعالى-، يعلم ما في السماوات من كل ما خلَقَه الله -تبارك وتعالى-؛ من كل السماوات، إلى الكرسي، إلى العرش، إلى كل المخلوقات التي خلَقَها الله، لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- منها شيء، يقول النبي «أُذِنَ لي أن أُحدِّث عن ملَك من حملة العرش؛ ما بين شحمة أُذُنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام»، فالله -تبارك وتعالى- عليم بكل خلْقِه، هذا الخلْق العظيم لا يفوت الله -تبارك وتعالى- منه شيء، {........ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحجرات:16]، بكل شيء؛ كل شيء مما سوى الله -تبارك وتعالى- فالله يعلمه على الحقيقة، ولا يعلم الله على الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
ثم قال -جل وعلا- {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات:17]، يمنُّون؛ المَن هنا بمعنى أنهم يذكرون كأنه لهم فضل ولهم إحسان ولهم يد على النبي -صل الله عليه وسلم-، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ}، يعني أن أنهم أسلموا؛ أن دخلوا في هذا الدين، والحال أن هذا أيضًا من الجهل؟ كيف تمنُّوا على النبي؟ يعني أنك دخلت في الدين وأسلمت كأنك لك فضل على الله وعلى رسوله بأن دخلت في هذا الدين... لا، المِنَّة إنما هي لله وللرسول أنه هداك إلى هذا الدين وأدخلك فيه، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ}، لا تمُنُّوا علي أن دخلتم؛ وأصبحنا معك، وسنُقوِّيك، ونحن يا رسول معك... لا، بل المِنَّة لله -تبارك وتعالى- عليكم، {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ}، هو المُتفضِّل عليكم وهو الذي له الجميل؛ والإحسان، والفضل، المِنَّة -سبحانه وتعالى-، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ}، وفَّقَكم لطريق الإيمان هذا الذي ظننتم أنكم بلغتموه والحال أنكم مازلتم في الطريق إليه، {........ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات:17]، إن كنتم صادقين في دعوى إيمانكم فاعلموا أن المِنَّة والفضل لله -تبارك وتعالى- أن هداكم لهذا الطريق.
ثم قال -جل وعلا- في ختام هذه السورة العيظمة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الحجرات:18]، كل ما يغيب عن الخْلق اللي هو الغيب الإضافي، ما في خلْق من خلْق الله -تبارك وتعالى- إلا وقد يعلم شيء ويغيب عنه شيء، فالملائكة يعلمون ما علَّمهم الله -تبارك وتعالى- وما غاب عنهم لا يعلمونه، وكل البشر وكل الخلْق يعلم شيء ويغيب عنه شيء، لكن كل هذا الغيب الإضافي بالنسبة للخلْق هو عند الله شهادة، الله لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى-، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}، فما غاب عن الملائكة يعلمه الله، وما غاب عن البشر يعلمه الله، وما يغيب عن كل أحد فالله يعلمه -سبحانه وتعالى-، فكل غيب السماوات والأرض بالنسبة إلى مخلوقات الله يعلمه الله، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحجرات:18]، بصير بصر لا يحُد بصره شيء -سبحانه وتعالى-، وبصر عِلم؛ عليم العِلم الكامل بكل أعمال خلْقِه -سبحانه وتعالى-، فلا يغيب شيء عن بصر الله -تبارك وتعالى- وعن عِلمه -جل وعلا-، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، كل عملكم إنما هو معلوم ومكشوف عند الله -تبارك وتعالى-، لا يوجد شيء من العمل صغير ولا كبير إلا وهو تحت سمع وبصر الله -سبحانه وتعالى-، سورة عظيمة فيها هذا التوجيه الإلهي لهذه الفضائل العظيمة، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الآداب والحِكَم، وأن يؤدِّبنا الله -تبارك وتعالى- بهذه الأخلاق والآداب التي يحبها ويرتضيها.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.