الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1] {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}[ق:2] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:3] {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:4] {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}[ق:5] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[ق:6] {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[ق:7] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق:8] {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}[ق:9] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق:10] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق:11]، سورة ق سورة مكية، وقد كان للنبي -صل الله عليه وسلم- عناية خاصة بهذه السورة، فقد جاء في مُسنَد الإمام أحمد وصحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، إلا من فم رسول الله -صل الله عليه وسلم-؛ مما يخطب بها في يوم الجمعة، تقول وكان تنورنا وتنور رسول الله -صل الله عليه وسلم- واحدًا سنتين أو سنة ونصف، ومعنى أن تنورهم واحد أنهم يشتركون في هذا التنور، فهي كثيرًا ما تكون في المكان وتسمع خُطبة النبي -صلوات الله والسلام عليه- في يوم الجمعة، تقول حفظت سورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، من فم النبي -صلوات الله والسلام عليه، مما كان يُكررها في الجمعة يخطب بها -صلوات الله والسلام عليه-، قد كان هناك عناية خاصة للنبي -صل الله عليه وسلم- في بعص السور يقرأ بها في المحافل كالجمعة؛ وكما كان يقرأ في الجمعة وفي العيدين {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى:1]، وبالغاشية، و{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، و{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر:1]، كان يقرأ بها كذلك في الأعياد وفي الجُمَع، وكذلك فعل النبي -صل الله عليه وسلم- في صلاة فجر يوم الجمعة؛ كان يقرأ في الركعة الأولى بــ {الم}[السجدة:1]، السجدة، وفي الركعة الثانية بــ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ........}[الإنسان:1].
اشتملت هذه السور على أصول الدين؛ حقائق الإيمان، الوعظ العظيم من الله -تبارك وتعالى-، التذكير بيوم القيامة؛ وبالميعاد، وبالجنة، وبالنار، فالتذكير بمسائل الإيمان؛ وحقائق الغيب، ووعظ الله -تبارك وتعالى- في هذه السور، هذا مما يجعل قرائته واستمراره توجيه للعباد إلى مسائل الإيمان الأساسية، والإنسان إذا آمن بالبعث؛ وآمن بالنشور، وعرف معنى حساب الله -تبارك وتعالى- والجزاء الأخروي؛ النار التي أعدها الله -تبارك وتعالى- للكافرين، والجنة التي أعدها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، استقام حاله واتخذ الطريق إلى الله -تبارك وتعالى- لأن هذه حقيقة التقوى، مخافة الله -تبارك وتعالى- مخافة من عقوبته وعذابه؛ والرجاء في ما عنده، والطمع في ما عنده -سبحانه وتعالى-، فالإيمان بالآخرة وبحقائق الآخرة الوازع الذي يزع الإنسان عن الشر والذي يُقيمه على الطريق.
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذا الحرف من حروف العربية؛ {ق}، والقَسَم {........ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، وهذا شأنه كشأن بعض سور القرآن مثل {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص:1]، ومثل {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1]، هذه حرف واحد، وفيه حرفين مثل {طس}، {طسم}[الشعراء:1]، ثلاث حروف؛ {الم}[السجدة:1]، {كهيعص}[مريم:1]، هذه الحروف المُقطعة وقد مضى أن الكلام فيها كثيرًا وبيان أنها توجيه من الله -تبارك وتعالى- إلى أن هذا القرآن هو من هذه الحروف؛ حروف العربية، وأن هذا قائم فيه من باب التحدي، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن المجيد؛ الممجَّد، العظيم، المُعظَّم، كلام الله -تبارك وتعالى-، وهذا القرآن مُمجَّد من كل الوجوه؛ فهو رِفعته في السماء {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، مكتوب في السماء، مقروء في الأرض، كلام الله -تبارك وتعالى- الذي جعله الله -تبارك وتعالى- لإخراج مَن شاء من العباد من الظلمات إلى النور، كتاب مبارك بكل معاني البركة والعظمة للتبصُّر؛ والتفكُّر، والتعلُّم، يُحرِّك الله -تبارك وتعالى- به القلوب إلى طاعته؛ ومحبته، ورضوانه -سبحانه وتعالى-، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}، أي لكان هذا القرآن، لا أعظم ولا أرفع ولا أجل من هذا القرآن الكريم؛ كلام الله -تبارك وتعالى-، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، المُمجَّد، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- به، قيل أن المُقسَم عليه هنا {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:4]، والمُقسَم عليه ما يتضمنه هذا القرآن من هذا العِلم الإلهي الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على عباده، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1].
ثم قال -جل وعلا- {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}[ق:2]، {بَلْ عَجِبُوا}، الكفار، عجِبوا مما لا يُتعجَّب منه ولا يتعجَّب منه إلا الجاهل؛ الأعمى، الغبي، {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}[ق:2]، {عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}، وهو الرسول -صلوات الله والسلام عليه- جاء ليُنذِرهم وليُخوِّفهم عذاب الله -تبارك وتعالى-؛ وعقوبته، وما ينتظر المُكذِّبين في الآخرة، وكذلك ما ينتظر أهل الطاعة في الآخرة، وهذا أمر لا يُتعجَّب منه، كيف يُتعجَّب من هذا الأمر وهو الحق البيِّن؟ وهو العِلم القائم على الحكمة العظيمة؛ حكمة الله -تبارك وتعالى-، أن يختار الله -تبارك وتعالى- من كل أمة رسول يدعوها إلى الله -تبارك وتعالى-؛ ويُبيِّن لها الطريق، ما وجه العجب من مثل هذا الأمر الحق والذي جاء بمُقتضى الحكمة الإلهية والعِلم الإلهي العظيم؟ كيف يُتعجَّب من هذا؟ لا يتعجَّب من هذا إلا الجاهل المطموس؛ الذي لم يعرف حقًا، والذي يتعجَّب مما لا يُتعجَّب منه، قال -جل وعلا- {عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}، وهو محمد -صلوات الله والسلام عليه-، مُنذِر يُنذِرهم؛ يُخوِّفهم عذاب الله -تبارك وتعالى-، وقد قال في أول خطبة له «إن نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، هذا النذير العظيم محمد -صلوات الله والسلام عليه- الذي جاء بهذا القرآن وبهذه النذارة العظيمة؛ والتخويف العظيم من الله -تبارك وتعالى-، ومنهم وكونه منهم هذا أدعى إلى معرفته؛ يعرفون بدايته، مُدخَلَه، مُخرَجَه، صِدقه، أمانته، فدليله عندهم قائم، لكن لو جائهم مُنذِر من غيرهم أو جائهم ملَك من السماء لاختلط عليهم الأمر ولم يعرفوا الطريق؛ لكن هذا مُنذِر منهم، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}، وقول الله -تبارك وتعالى- {فَقَالَ الْكَافِرُونَ}، لأنهم كافرون؛ جاحدون، فهؤلاء الذين تعجَّبوا من هذا إنما هم كفار، وإنما أظهروا العجب وهو أمر لا يُتعجَّب منه والسبب في هذا أنهم كافرون، أنهم كفروا بالله -تبارك وتعالى-؛ عرفوا الحق ولكنهم ستروه وغطوه، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}، ما يدعوا إليه هذا الرسول وما يُنذِر به.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:3]، يعني أئذا مِتنا وكُنَّا ترابًا وبليَت أجسادنا؛ لحومنا، وعظامنا، وشعورنا، أصبحنا تراب يعني تحوَّلنا إلى تراب واختلطنا بهذا التراب يعني نعود، {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}، رَجْع؛ نرجع مرة ثانية إلى الحياة، نحيا مرة ثانية وتعود أجسادنا لتُركَّب من جديد، {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}، يعني لا يمكن أن يتحقق، بعد الحصول والوقوع، أمر لا يمكن أن يتحقق، تعجَّبوا من مقالة النبي -صل الله عليه وسلم- ومن دعوته إليهم للإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ وأنهم مبعوثون في خلْق جديد، وأنهم مُحاسَبون على أعمالهم، فتعجَّبوا من هذا ورأوا أن هذا أمر غريب يُتعجَّب منه؛ ولا يمكن تصديقه، ولا يمكن تصوُّره وتخيُّله عندهم.
قال -جل وعلا- {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:4]، يُقسِم الرب -تبارك وتعالى- بأن قد علِم ما تنقص الأرض منهم، والأرض تنقُص من الإنسان في كل يوم ملايين الذرَّات، فالإنسان بأي احتكاك له كحك شيء فيه يتناثر من بدنه ما يتناثر من ملايين الخلايا الحية، والإنسان في تجدد دائم، فكل ست شهور كل جسم الإنسان هذا يصبح ليس هو هذا الإنسان الذي التقيته الآن، إذا التقيته بعد ست أشهر لا يكون في جسمه ذرَّة باقية منه، حتى ذرَّات العظام تكون قد حصل هدم كامل لها وبناء جديد، ثم إذا وضِعَ في الأرض فإن الأرض تأخذ هذه الذرَّات وتمتصها وتختلط بها، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بأنه قد علِمَ ما تنقص الأرض منه، الأرض كم تنقص من ذرَّات هذا الإنسان ومن خلاياه قد علِمَها الله -تبارك وتعالى- عِلم يقيني على التفصيل، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:4]، كذلك في عِلم الله -تبارك وتعالى- وهو مُدوَّن؛ دوَّنه الله -تبارك وتعالى-، كُتِبَ في كتاب حفيظ؛ محفوظ فيه كل شيء، محفوظ فيه وهو كتاب القدَر، كتاب القدَر الذي لا يفوته أي حركة وأي تسكينة وأي وجود على كل الدهور والعصور، {........ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، كل قد دوَّنه الله –تبارك وتعالى- وقد كتَبَه، كل المقادير؛ ليس مقادير العاقلات، بل كذلك مقادير الجمادات؛ والنباتات، وكل المخلوقات، قد أحصاها الله -تبارك وتعالى- وكتَبَها، قال -جل وعلا- {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:4]، كتاب المقادير، ومعنى حفيظ أن الله -تبارك وتعالى- قد حفظ هذا الكتاب وتضمَّن كل صغير وكبير مما هو كائن ومما هو واقع.
ثم قال -جل وعلا- {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ........}[ق:5]، يعني حقيقة أمرهم هؤلاء المتعجبين من إرسال النبي منهم وإخباره بالبعث والنشور، الله يقول {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ}، الحقيقة أنهم مُكذِّبون بالحق، الحق؛ الثابت، فإن هذا الذي يخبر الله -تبارك وتعالى- به هو الحق يعني الأمر الثابت؛ الذي قد جعله الله -تبارك وتعالى- حقًا، فهو ليس كذبًا وليس باطلًا، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ........}[ق:5]، جائهم هذا الحق وهو الرسول وما جاء به من الهُدى؛ والنور، والعِلم، والإخبار بهذه الأخبار التي تقع وستقع كما أخبر الله –تبارك وتعالى-، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}[ق:5]، أمر مَريج؛ مُختلِط، أمر مُختلِط؛ مرة يقولون ساحر، ومرة يقولون كاهن، ومرة يقولون بل {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}، ومرة يقولون كذَّاب، ومرة يقولون هذا مجنون، وفي كل يوم لهم حُكم على النبي -صل الله عليه وسلم- وقول فيه يختلف مع القول الأخر؛ فهم في قولٍ مُختلف، فهم في هذا الشأن في قول مختلف، {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9]، لا يستقرون على حال، فكونه مجنون غير اتهامه بالكذب؛ غير اتهامه بالسحر، بالكهانة، بالشعوذة، كل هذا مُتناقض بعضه بعض، ولكن في كل يوم لهم قول في هذا الأمر، فهم في أمر يعني من أمورهم مُريج؛ مُختلِط الأمر عليهم، وكل يوم يُخرجون فِرية فِرياتهم.
ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُدلل لهم بالأدلة الظاهرة القائمة على هذا الأمر الذي يخبر الله -تبارك وتعالى- به؛ أمر البعث، قال -جل وعلا- {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[ق:6]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا}، دعوة لهم وبيان، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ}، السماء؛ العلو، {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا}، كيف بناها الله -تبارك وتعالى- وشد جنباتها؛ أنها لا تتهاوى ولا تسقط عليهم، وزيناها بهذه الكواكب العظيمة؛ والنجوم، والأقمار، وهذه الشموس، هذه الزينة العظيمة ليلًا ونهارًا؛ زينة السماء نهارًا بهذه الشمس المشرقة الوضَّائة، وزينة السماء ليلًا بهذه النجوم المتلألئة الناصعة، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[ق:6]، ما لها من فروج؛ ليس فيها شقوق، ليس هناك شقوق في هذه السماء تتهاوى بمعنى أنها ليس بناء هش؛ ضعيف، يتساقط، بل هو بناء في غاية الإحكام؛ وفي غاية الجمال، وفي غاية الإبداع، وفي غاية الاتساع، لا تستطيع عقولهم أن تصل إلى نهاية وسِعة لهذا الكون البديع، فالذي بنى هذا البناء العظيم القوي المتماسك أيعجز -سبحانه وتعالى- أن يُعيد أجسادهم مرة ثانية، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[ق:6].
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[ق:7]، هذا نظر إلى السماء؛ وجَّه الله -تبارك وتعالى- أنظارهم إلى السماء للتدليل على قدرته وعظمته -سبحانه وتعالى- وآياته في الخلْق، ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- أنظاهم إلى الأرض قال {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا}، المد بمعنى التوسعة والإطالة، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}، هذه الجبال ألقاها الله -تبارك وتعالى- ووزعها في هذه الأرض لتستقر وتثبُت، وعندما تسير سيرانها تسير بمنتهى الانتظام والاعتدال دون أن تكون مائلة أو متزلزلة، {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ........}[ق:7]، الجبال لتُرسيها، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، أنبتنا في هذه الأرض من كل زوج من النبات؛ ذكر وأنثى، أو زوج يعني ألوان وأشكال يعني كل شيء له شيء من جنسه؛ فمن النباتات أزواج، ومن الفواكه أزواج، ومن الحبوب أزواج وأشكال، بهيج للنظر وللنفس؛ يعني أنه مُفرِح، يُدخِل السرور والبهجة عند النظر إليه، انظر إلى الفاكهة، انظر إلى الأشجار؛ إلى البساتين، إلى المروج الخضراء، انظر إلى المروج الخضراء في وقت خُضرتها، ثم في وقت حصادها وصفرتها وكأنها سلاسل الذهب، فمنظر النبات في كل مراحله وخاصة في وقت إزهاره وفي وقت إثماره أمر عظيم جدًا، كما قال -تبارك وتعالى- {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ........}[ق:7]، أي من النبات، بهيج؛ يُدخِل السرور والبهجة والحبور على النفس.
{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق:8]، يعني أن هذا الذي جعله الله -تبارك وتعالى- في الأرض؛ من هذه البساتين اليانعة، ومن ثمرات النخيل والأعناب، ومن هذه المروج الخضراء، ومن هذه الزروع المختلفة، هذه جعلها الله -تبارك وتعالى- تبصرة ليُبصِر الإنسان فيعلم قدرة الله -تبارك وتعالى-؛ وعظمته، وأسرار خلْقِه -سبحانه وتعالى-، وكذلك إنعامه وإفضاله -جل وعلا-، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى}، تذكرة، يتذكر الإنسان إذا رأى قدرة الله -تبارك وتعالى- في هذا الخلْق علِمَ قدرته -سبحانه وتعالى- على ما سِواه مما أخبر به -سبحانه وتعالى-؛ من إحياء الموتى، ومن الجنة، ومن النار، ومما أخبر الله -تبارك وتعالى- به في الآخرة، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق:8]، لكل عبد من عباد الله اختار العبودية لله -تبارك وتعالى- اختيار، وليس عبد بمعنى أنه هو عبد لله -تبارك وتعالى- ولكن رفض ههذ العبودية؛ وظن أن الله -تبارك وتعالى- لا يُعيده مرة ثانية، ولم يتعبَّد لله -عز وجل-، {عَبْدٍ مُنِيبٍ}، مُنيب؛ راجع إلى الله -تبارك وتعالى-، الإنابة هي الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، إنابة القلب؛ رجوع القلب، والعِلم بأنه الله -تبارك وتعالى- هو ربه وإلهه ومولاه -جل وعلا-، يعني ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض إنما هي تبصرة، ليستبصر العبد بالنظر في هذه المخلوقات البديعة العظيمة لله -تبارك وتعالى-؛ وكذلك يُنيب إلى الله -تبارك وتعالى-، فالعبد المُستبصر المنيب إلى الله -تبارك وتعالى- هو الذي يستفيد بهذا الخلْق العظيم.
ثم قال -جل وعلا- {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}[ق:9]، ونزَّلنا؛ التنزيل المرة بعد المرة، من السماء؛ من العلو، المنطقة التي فيها السُحُب، ماءً مباركًا؛ ماء المطر، والله -تبارك وتعالى- سمَّاه مبارك لكثرة بركاته، فإنه ماء ينزل ولكن الله -تبارك وتعالى- انظر ماذا يُنتج به من هذه الزروع وهذه الثمار؛ من البركات العظيمة من أثر نزول هذا الماء، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ ........}[ق:9]، بهذا الماء، {جَنَّاتٍ}، بساتين؛ بساتين الأرض، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}، الجنات هي بساتين التفت أشجارها فأصبحت جنات، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}، الحَب الذي يُحصَد؛ كالقمح، والأرز، والعدس، وسائر هذه الحبوب التي بعد أن تبلغ نمائها واستوائها تُحصَد، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}، يعني من ماء المطر الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- أنبت هذه وأنبت النخل باسقات، الباسق هو أنها مُرتفعة في السماء، {........ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق:10]، لها طلع نضيد مُنضَّد يعني مُنتظم بعضه مع بعض كما يُنضَّد العِقد، {........ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق:10].
{رِزْقًا لِلْعِبَادِ}، أن الله -تبارك وتعالى- خلَقَ هذا الخلْق، انظر من هذا الماء النازل من السماء ينزل على الأرض؛ انظر البركة، يُخرج الله -تبارك وتعالى- به هذه البساتين العظيمة بما فيها من الفواكة المختلفة الألوان؛ والطعوم، والأشكال، وحَب الحصيد؛ انظر هذه الحبوب ملايين الملايين الملايين من أطنان الغذاء يُنبتها الله -تبارك وتعالى- بإنزال هذا المطر، ثم انظر هذا النخيل؛ ملايين الملايين من النخيل في جنبات الأرض كلها بإنزال الله -تبارك وتعالى- هذا المطر المبارك، {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق:10]، كل هذا فعله الله -تبارك وتعالى- {رِزْقًا لِلْعِبَادِ}، رزق من الله -تبارك وتعالى- يُرزَقوه طعام لهم، للعباد؛ عباد الله -تبارك وتعالى-، والعباد هنا الخلْق كلهم عبيد الله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}، بهذا الماء النازل من السماء أحيا الله -تبارك وتعالى- به بلدة ميتًا، بلدة؛ أرض، ميتًا؛ كانت جافة، جلدة، ليس فيها حياة ولا نبات، فإذا بإنزال هذا المطر عليها انظر كيف حيت وأنبتت هذه البساتين العظيمة؛ الجِنان العظيمة، وحب الحصيد، المروج الخضراء الممتلئة بهذه الحبوب وأخرجت هذا النخل، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، يعني كما أحيا الله -تبارك وتعالى- هذه البلاد وهذه الأرض الميتة بإنزال هذا المطر؛ وإخراج هذه البساتين وهذه الخيرات العظيمة، كذلك {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، خروج الناس من قبورهم يوم القيامة هذا هو نفس الأمر، يعني كما أحيا الله -تبارك وتعالى- الأرض الميتة بهذه الزروع والثمار؛ وأحيا فيها هذا، وين النُقلة الهائلة من أرض ميتة؛ ليس فيها أي حياة، إلى هذه البساتين؛ وهذه الأشجار، وهذه الحبوب، وهذه الحياة بنُضرتها؛ وخُضرتها، وبهجتها، كذلك الأمر فإن الله -تبارك وتعالى- يُخرج العباد من قبورهم يوم القيامة أحياء لأن هذه الحياة هي نفس هذه الحياة، كما أحيا الله -تبارك وتعالى- هذه الأرض بالزروع والثمار، فإن الله -تبارك وتعالى- يُحيي الأجساد مرة ثانية من القبور، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، خروج الناس من قبورهم، فنفس الأمس قياس هذا على هذا؛ هذه حياة بعد موت، وهذه حياة بعد موت، ففيما التعجَّب إذن؟ كأن الله يقول للكفار مما التعجُّب إذن؟ مما التعجُّب من أمر هم يرونه؟ أولًا هذا الخلْق العظيم على هذا النحو، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ........}[غافر:57]، ثم عجلة هذه الحياة؛ الماء الذي يُنزِله الله -تبارك وتعالى- من السماء، فيُحيي به هذه الأرض، وينتج به هذا النتاج العظيم من الزروع ومن الثمار، {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، فهذا الأمر أمر واحد؛ فمما التعجُّب إذن أيها الكفار؟ {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}[ق:2] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:3]، والحال أنهم يرون هذه الحياة ماثلة أمام أعينهم ولكن الكافر لا يتعظ ولا يرعوي.
قال -جل وعلا- {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}[ق:12] {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:13] {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}[ق:14]، يعني ليس شأن هؤلاء المُكذِّبين من مشركي العرب؛ من قريش ومَن حولها من العرب، الذين كذَّبوا النبي -صل الله عليه وسلم-، ورأوا أن قوله بأن الناس يعودون إلى الحياة مرة ثانية في يوم القيامة هذا أمر بعيد؛ ولا يمكن تصديقه، وكان العرب قد أجمعوا بكُليتهم على رفض قضية الإيمان بالبعث؛ ورأوا أنها من المستحيلات، وأن الله -سبحانه وتعالى- وإن كان هو خالق هذا الخلْق؛ يؤمنون به بأنه خالق الخلْق كله ومُدبِّره، لكنهم يُحيلون كل الإحالة أن يُعيد الله -تبارك وتعالى- أجسادهم مرة ثانية، فأخبر -سبحانه وتعالى- أن شأن هؤلاء المُكذِّبين كشأن إخوانهم من الأمم الذين كذَّبوا قبل ذلك، قال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}، قبل قريش والعرب، {........ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}[ق:12] {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:13] {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ........}[ق:14]، كل هؤلاء قد كذَّبوا رُسُلَهم، قال -جل وعلا- {فَحَقَّ وَعِيدِ}، أصبح وعيد الله -تبارك وتعالى- فيهم بالعذاب؛ والخلود في النار، وأنه سيبعثهم رغمًا عنهم ويدخلهم النار، أمر حق لابد أن يكون.
نقف هنا وسنُعود إلى هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.