الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (654) - سورة ق 14-30

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}[ق:12] {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:13] {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}[ق:14] {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق:15]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن الكفار؛ كفار مكة، قريش ومَن حولها، كذَّبوا رسولهم؛ كذَّبوا نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وأن شأنهم في تكذيب ما أخبرهم النبي به من البعث والنشور؛ وأنهم مُحاسَبون، وأنه هناك يوم قيامة، وأن هناك جنة ونار، هذه كذَّبوا بها وكان العرب يُحيلون أن يُعيد الله -تبارك وتعالى- أجسادهم مرة ثانية؛ وأن يخلقهم الله -تبارك وتعالى- خلْق أخر، وأن هناك يوم قيامة، وكانوا يعتقدون بأنها هي الحياة الدنيا فقط؛ وأنه لا بعث ولا نشور بعد ذلك، فيخبر -سبحانه وتعالى- أن الشأن في تكذيبهم كالأمم التي كذَّبَت قبلهم، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}[ق:12] {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:13] {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ........}[ق:14]، كل هؤلاء المذكورين كذَّبوا الرُسُل، قال -جل وعلا- {فَحَقَّ وَعِيدِ}، هذه الآيات من سورة ق، وسورة ق كان للنبي -صلوات الله والسلام عليه- عناية بها، فقد جاء في حديث أم هشام بنت الحارث الأنصارية تقول كان تنورنا وتنور رسول الله -صل الله عليه وسلم- واحدًا سنتين أو سنة ونصف، وتقول ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، إلا من فم النبي -صل الله عليه وسلم- مما يخطب بها كل جمعة؛ كان النبي يخطب بها كل جمعة، تقول حفظت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، من فم النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

مضى أن الله -تبارك وتعالى- بدأ هذه السورة؛ ق، بهذا الحرف المقطع وأقسَم بالقرآن  فقال {........ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، ثم أخبر عن حال هؤلاء الكفار قال {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ........}[ق:2]، عجِبوا مما لا يُتعجَّب منه، أن جائهم منذر منهم وهو محمد -صلوات الله والسلام عليه-، يُنذِرهم ويُخوِّفهم بما ينتظرهم من العقوبة إن كذَّبوا بالله -تبارك وتعالى-؛ ويخبرهم بالبعث والنشور، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:3]، هذا بعيد؛ لا يمكن أن يتحقق، قال -جل وعلا- {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ ........}[ق:4]، مَن يموت كم تأخذ من ذرَّاتهم؟ كم خلية من الخلايا تكون؟ هذا قد عَلِمَه الله -تبارك وتعالى-، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:4]، مُدوَّن فيه كل ذلك؛ كتاب المقادير، قال -جل وعلا- {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ........}[ق:5]، هذه الحقيقة؛ أنهم كذَّبوا بالحق لمَّا جائهم، {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}، أمر مَريج؛ مُختلِط، كل يوم يحكمون على النبي بحُكم؛ أنه ساحر، وأنه كذَّاب، وأنه افترى هذا القرآن، وأنه مجنون، قال -جل وعلا- {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[ق:6] {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[ق:7]، من النبات يُسِر النظر والخاطر، {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[ق:8] {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ........}[ق:9]، ماء المطر، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ}، بساتين، {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}، الحَب الذي يُحصَد كالأرز؛ والقمح، وغيره، {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}، يخرج الله -تبارك وتعالى- منه، انظر يُخرِج الزروع ويُخرِج النخل التي أصلها في الأرض وفرعها في السماء، {........ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}[ق:10]، منتظم.

{رِزْقًا لِلْعِبَادِ}، هذا وهذا، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ}، أي بهذا المطر، {بَلْدَةً مَيْتًا}، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}، كما أحيا الله -تبارك وتعالى- الأرض بهذا الماء النازل من السماء وأخرج به هذه الزروع؛ وهذه الثمار، وهذه البساتين اليانعة التي تسُر الخاطر، فكذلك الخروج يوم القيامة؛ القادر على هذا قادر على أن يُحيي الأجساد -سبحانه وتعالى- يوم القيامة، ثم قال -جل وعلا- {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ}، قبل العرب، {قَوْمُ نُوحٍ}، النبي وأول رسول إلى أهل الأرض، {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ}، قبيلة ثمود، {وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:13] {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ}، وهم قوم شُعيب، {وَقَوْمُ تُبَّعٍ}، من التبابعة في اليمن، {........ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}[ق:14]، حق وعيد الله -تبارك وتعالى- فيهم بالهلاك في هذه الدنيا كما أهلكهم الله -تبارك وتعالى-؛ وبما ينتظرهم من العقوبة في الآخرة، كما قال الله -تبارك وتعالى- في قوم نوح {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25]، فهذا وعيد الله -تبارك وتعالى- لهم، وكما قال -تبارك وتعالى- في قوم فرعون الذي أُغرِقوا كذلك وأُدخِلوا النار؛ قال -جل وعلا- {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:46]، فحق وعيد الله -تبارك وتعالى- فيهم بتكذيبهم للرُسُل.

ثم قال -جل وعلا- سؤال لينظروا وليتفكَّروا، قال {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ}، يعني هل أتعبنا وشق علينا وأعجزنا الخلْق الأول لكم؟ ألم يخلُقكم الله -تبارك وتعالى- خلْق أول؟ لم يكونوا شيئًا وخلَقَهم الله -تبارك وتعالى-؛ فهل عييَ الله -تبارك وتعالى- بهذا وعجز عن أن يخلقهم أولًا؟ ثم قال -جل وعلا- {........ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق:15]، بل هم في لبس؛ شك، والتباس الأمر هو اختلاطه وعماوته، {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وكيف يكون؟ كيف يلتبس على مَن عنده نظر وبصيرة أن الذي خلَقَه أولًا يستطيع أن يُعيده؟ فإن الإعادة أهون من البداة؛ الإعادة أهون من البداة في كل أمر، فمَن بدأ الأمر يستطيع أن يُعيده، قال -تبارك وتعالى- لهم {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ}، أتعبنا؛ وشق علينا، وأعجزنا أن نخلُقكم أولًا، ثم قال -جل وعلا- {........ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق:15]، وهذا يدل على أن الذي تعجبوا منه لا يُتعجَّب منه، وإنما تعجُّب الكافر الجاهل من أمر لا يُتعجَّب منه، بل العجب كل العجب هو من حالهم، يعني مَن أراد أن يتعجَّب فعلًا يتعجَّب من حال هؤلاء المُكذِّبين الذين يروا آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلْق على هذا النحو، يُنزِل المطر يُحيي الله -تبارك وتعالى- بها الأرض بعد موتها؛ ويُخرج بها هذه الزروع والثمار، وأن الله -تبارك وتعالى- خلَقَهم ولم يكونوا شيئًا، ثم بعد ذلك يُنكِرون أن يُعيدهم الله -تبارك وتعالى- إلى الحياة؛ ويخلقهم من جديد، ويُحاسِبهم على أعمالهم، هذا الذي يُتعجَّب منه.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ........}[ق:16]، هذا أخفى الأمور، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ}، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- ويؤكِّد بأنه هو الذي خلَقَ الإنسان؛ جنس الإنسان كله، أولاد آدم، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، أخفى شيء هو وسواس النفس؛ ما يتحرَّك في قلب الإنسان وفي نفسه، وهذه الحركة، والتصورات، والتخيلات، وهذه الوسوسة التي هي الوارد الذي يرِد على القلب؛ في كل لحظة والقلب يتقلَّب، القلب ما سُميَ قلبًا إلا من تقلُّبه، وسواس النفس الذي يأتي ويذهب؛ ويأتي ويذهب، ولو جمع الإنسان وساوسه في يوم وكتَبَها لأخرج مجموعة من المجلدات من هذه الوساوس التي تمر؛ وهذه الخواطر التي تخطر بقلبه، فالله -سبحانه وتعالى- يخبر هؤلاء العباد بأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي خلَقَ الإنسان وهو عالم بكل وسواس وكل طارئ يطروء على نفسه؛ وقد أحصاه الله -تبارك وتعالى-؛ وكتَبَه -جل وعلا-، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]، نحن؛ الله -سبحانه وتعالى-، أقرب إلى هذا الإنسان من حبل وريده، وحبل الوريد اللي هو عِرق الوريد؛ دمه الذي يخرج من قلبه ويُغذي كل بدنه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الأول؛ والآخر، والظاهر، والباطن، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»، وقال النبي -صلوات الله والسلام عليه- وقد رأى الصحابة في سفر يرفعون أصواتهم بالدعاء فقال «أيها الناس اربعوا على أنفسكم»، واربعوا على انفسكم يعني اهدأوا عليها؛ لا ترفعوا أصواتكم، «فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميعًا بصيرًا»، الذي تدعونه الرب السميع البصير، «هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، فالرب -تبارك وتعالى- هو مع كل أحد -سبحانه وتعالى-، مع قلب الإنسان؛ ومع سمعه، ومع بصره، وأقرب إليه من كل أحد -سبحانه وتعالى-، لا يخفى عليه شيء من أعمال خلْقِه -سبحانه وتعالى-، فهو الرب العظيم المستوي على عرشه، ولكنه هو كذلك -سبحانه وتعالى- مع كل أحد بسمعه؛ وبصره، وعِلمه -سبحانه وتعالى-، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17]، كذلك قد وكَّل الله -تبارك وتعالى- بكل إنسان ملَكَين، إذ يتلقَّى؛ يأخذ، المُتلقيان؛ الملَكان الموكَّلان بإحصاء عمل هذ الإنسان وحِفظه، {........ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17]، قعيد؛ قاعد، موجود، حاضر، لا يُفارق هذا الإنسان؛ لا في نومه، ولا في يقظته، ولا في سفره، ولا في إقامته، بل هم ملازمان لهذا الإنسان ملازمة، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، يلفظ مجرد لفظ من قول؛ ولو حرف واحد، {........ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، رقيب؛ مُراقب لأعماله، عتيد؛ حاضر له يكتب هذا ويُحصي هذا، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، مُحصي لها، فالله -تبارك وتعالى- من فوق سبع سماوات عليم بما يعمله؛ بوسواس النفس، عليم بذات الصدور، وما يُخفيه العبد، وما يوسوس به؛ يعني يتقلَّب في نفسه، الله معه -سبحانه وتعالى- وكذلك قد وكَّل به -سبحانه وتعالى- ملَكَين يُحصيان كل أعماله، {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ ........}[ق:17]، عن يمين هذا الإنسان وعن شِماله قعيد، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ}، بمجرد ما يلفظ من قول إلا ويكتبه الملَكان، {........ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، فهل هذا الرب -سبحانه وتعالى- الذي أحكم خلْقَه على هذا النحو، والعليم بكل أعمال خلْقِه على هذا النحو ظاهرها وباطنها؛ والذي يُحصيها ويكتبها، ويُقيم على الإنسان ما يُقيمه من هذا الحفظ والتعهد، غير قادر -سبحانه وتعالى- على أن يُحيي الإنسان؟ وأنه لا حياة بعد ذلك؛ ولا موت، ولا نشور، الكافر في ضلال بعيد، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18].

قال -جل وعلا- {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:19]، متى يخرج هذا الإنسان من غفلته ومن عماه؟ عندما تأتيه سكرة الموت، وسكرة الموت هي هذه الغشية والذهول الذي يأتي الإنسان عند نزع الروح، السكرة تأتي بالفكرة وتأتي باليقظة، فعند سكرة الموت يُطالِع هذا الكافر الحقائق التي كان نسيها؛ وأنكرها، وجحدها، ودفعها بكل ما أوتي وهو في حال يقظته وحال عنفوانه وجبروته في الأرض؛ مُكذِّب، دافع لهذا، لمَّا جائت سكرة الموت يفيق؛ وهذا من الأعاجيب، وهذا من الأمر العجيب أنه عندما تأتيه السكرة تأتيه الفكرة، تأتي الفكرة عند ذلك؛ ويتبين الأمر، وتُفتَح العين، وتتحقق له الحقائق، ويظهر له ما كان خافيًا عنه، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ........}[ق:19]، جائت بالحق لأنه خلاص؛ يُطالِع ملَك الموت، وينظر هذه ملائكة العذاب وقد أتوا به فيُبشَّر بيومه السيئ الذي نسيه ويُضرَب على وجهه، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ........}[الأنفال:50]، فيدخل في الحقائق التي كان قد نسيها؛ وجحدها، وأنكرها بكله، بدأت الحقائق تظهر هنا عند الموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ........}[ق:19]، سكرة الموت لهذا المخلوق المُكذِّب؛ الكافر، جائت له بالحق؛ ظهر له وتبدَّى له، قال -جل وعلا- {........ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:19]، ذلك؛ هذا الحق، رؤيته لملائكة العذاب، ورؤيته لملائكة الموت، ونزع الروح على هذا النحو، وهو يُشاهِد بعد ذلك مكانه في النار، ذلك ما كنت منه أيها الإنسان الكافر تحيد، والحيد؛ الميل، يعني كنت تُذكَّر بهذا ويأتيك الرسول ويُذكِّرك بأن في يوم قيامة؛ بأن في بعث، بأن في نشور، في جنة، في نار، كان يُذكَّر بهذا ويحيد عنه، هذا لا يُريد أن يسمعه ويحيد عنه، يُقال له هذا الذي كنت منه تحيد هو أمامك الآن؛ هذا هو الذي أمامك الآن، {........ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:19]، في الدنيا تميل ويشمئز قلبك ولا تُريد أن تسمع عن حقائق الآخرة شيئًا.

ثم قال -جل وعلا- {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}[ق:20]، ونُفِخَ بالفعل الماضي؛ والنفخ سيأتي، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن هذا الأمر المستقبلي بالفعل الماضي لأنه مُتحقق الوقوع؛ لتحقق وقوعه، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ........}[ق:20]، الصور؛ القرن، وهذا من حقائق الآخرة التي لا نعلمها؛ هذا من الغيب الذي يعلمه الله -تبارك وتعالى-، قد وكَّل الله -تبارك وتعالى- بالنفخ في الصور ملَك من ملائكته وهو إسرافيل، {........ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}[ق:20]، أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا النفخ يكون نفختان، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، وقال {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، يُنفَخ نفخة لإنهاء هذا الوجود الظاهري على هذا النحو، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، هذي النفخة الأولى والحقائق التي تكون بعدها، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1] {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2] {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3] {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}[الحاقة:18]، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ........}[ق:20]، هذي النفخة الثانية، {........ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ}[ق:20]، ذلك يوم الوعيد؛ اليوم الذي توعَّد الله –تبارك وتعالى- الكافرين به ليأخذوا عقوبتهم عند الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال –جل وعلا- {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}[ق:21]، وجائت كل نفسه خلَقَها الله -تبارك وتعالى- معها سائق؛ يسوقها إلى المشهد، وشهيد؛ يشهد عليها، فهؤلاء الملائكة الذين كلانوا ملازمي الإنسان يأتون؛ كل مَن وكِّل بأحد يأتوا به، {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}[ق:21]، قال -جل وعلا- {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}[ق:22]، {لَقَدْ كُنْتَ}، أيها الإنسان المُكذِّب؛ الكافر، {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}، غفلة؛ نسيان، الغافل هو شأنه شأن النائم؛ الناسي، الذي لا ذِكر له لهذا الأمر، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ}، بسكرة الموت عندما رأى الحقائق، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}، حاد البصر، يعني بصرك الآن تُبصِر كل شيء، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}، يعني ما أسمعهم وأبصرهم في يوم القيامة خلاص؛ شايف الآن الحقائق أنه هذا نعم هو يوم البعث، هذا النشور، هؤلاء ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، هذه النار موجودة، كل شيء والحقائق هذه وكان الكافر في عماية عنها؛ ما كان يراها، هذه الآن أصبحت يراها ببصر حديد؛ حاد، {لَقَدْ كُنْتَ}، أيها الكافر، {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ}، غطائك الذي كان على أعينك يجعلك لا ترى، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.

قال -جل وعلا- {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}[ق:23]، {وَقَالَ قَرِينُهُ}، المُقارِن له من الملائكة الذين كانوا معه وكانوا يُحصون عليه، {........ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}[ق:23]، يعني يا رب هذا ما لدي مما وكَّلتني به عتيد؛ حاضر كل شيء، {........ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}[ق:23]، أحضره، وعند ذلك يُقال {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}[ق:24] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ}[ق:25] {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}[ق:26]، {أَلْقِيَا}، للملَكين الموكَّلين بهذا الإنسان؛ اللذان وكِّلا به، وكانوا يُحصون عليه كل لفظ قاله قد أحصياه وكتباه، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ ........}[ق:24]، كفَّار؛ كثير الكفر، عنيد لآيات الله -تبارك وتعالى-؛ معاند لآيات الله، معاند لرُسُل الله -تبارك وتعالى-، مُصِر على ما هو عليه من الكفر مع ظهور أدلة الإيمان، إلا أنه كان من أهل العناد والإصرار على ما هو فيه من الكفر، {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ........}[ق:25]، منَّاع؛ كثير المنع، للخير؛ أي خير، سواء كان مما أمره الله -تبارك وتعالى- به من الإحسان إلى الوالدين؛ من الإحسان إلى الناس، {مُعْتَدٍ}، بالظلم والتعدي على غيره، {مُرِيبٍ}، شاك؛ في يوم القيامة كان فيه شك وريب، هذه كلها صفات أهل الكفر، صفات الكافر أنه كان على هذا النحو؛ كفَّار، عنيد، منَّاع للخير، مُعتدٍ، مُريب، {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ........}[ق:26]، فشأنه كذلك جعل إله مع الله؛ إما نفسه التي اتخذها إله، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ........}[الفرقان:43]، وإما هؤلاء المعبودات التي زعمها أنها آلهة مع الله -تبارك وتعالى-؛ قد عُبِدَت الملائكة، وعُبِدَ الجِن، وعُبِدَت الأصنام والأوثان، فاتخذوا مع الله آلهة شتَّى، {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ........}[ق:26]، والحال أنه لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ لا معبود بحق إلا هو، الذي يستحق الألوهة، والألوهة؛ العبادة، هو الله وحده -سبحانه وتعالى-، الذي جعل؛ وجعل هنا بمعنى اعتقد، جعل بمعنى اعتقد يعني اعتقد بأن مع الله إلهًا أخر، قال -جل وعلا- {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}، ألقياه في العذاب الشديد فيؤخذ بالنواصي والأقدام، يعني اقذفاه في العذاب الشديد، والعذاب الشديد؛ عذاب النار -عياذًا بالله-، لا أشد من النار في التعذيب والله -تبارك وتعالى- قد جعلها هي العقوبة لأعدائه -سبحانه وتعالى-، {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ}.

{قَالَ قَرِينُهُ}، من الشياطين والجِن الذين أضلوه، {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}[ق:27]، {قَالَ قَرِينُهُ}، هذا القرين المجرم الذي كان معه يوسوس له بالشر؛ وكان معه مقترن فيه، وأحبه هذا الإنسان؛ واقترن به، وطاوعه في ما يدعوه إليه من الكفر، {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ}، ربنا؛ يا ربنا، يدعوا الله -عز وجل-، ما أطغيته؛ ما أطغيت هذا الإنسان، ما كنت أنا الذي تسببت في طغيانه، {........ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}[ق:27]، قد كان هو الضال، فهنا يتبرَّأ الشيطان المُقارِن لهذا الإنسان؛ والذي كان السبب في إضلاله، يتبرَّأ من إضلال هذا الإنسان، وهذا أيضًا زيادة في نكده وفي عذابه، كما يفعل رأس الشياطين يوم القيامة؛ فإنه يوم القيامة يصعد على منبر من نار أمام أتباعه جميعًا، ويقول لهم اسمعوا {........ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22]، فيتبرَّأ منهم ويُحمِّلهم مسئولية الضلال؛ يقول لهم المسئولية ليست علي، أنا فقط مجرد أن دعوتكم، {دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، أنتم الضالين، فهنا هذا الشيطان كذلك المُقارِن لهذا الإنسان والذي وسوس له بالكفر يتبرَّأ منه؛ يقول هو اللي كان ضال، أنا ما أطغيته، {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا}، يا ربنا، {........ مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}[ق:27]، هو اللي كان ضال وكان في الضلال البعيد؛ وهو الذي سار فيه.

قال -جل وعلا- {قَالَ}، الرب -جل وعلا-، {........ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق:28]، كلاهما مجرم؛ هذا مجرم وهذا مجرم، هذا الشيطان الموسوس مجرم؛ والذين اتَّبَعه كذلك مجرم، {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}، الاختصام الآن بين الإنسان الضال وبين الشيطان المُضِل، {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق:28]، {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ}، أي أيها الشيطان المُضِل والإنسان الضال، {قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}، جائكم وعيد الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أنذرهم جميعًا؛ وخوَّفهم عقوبته -سبحانه وتعالى-، وأمرهم جميعًا بالإيمان به، {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}[الأنعام:130] {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}[الأنعام:131]، فهذا قد قدَّم الله -تبارك وتعالى- بالوعيد للجميع؛ للجن وللإنس، قد أرسل الله -تبارك وتعالى- لهم رُسُل منهم يُنذِرونهم ويُخوِّفونهم عقوبة الله -تبارك وتعالى-، {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق:28].

{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29]، {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ........}[ق:29]، يُغيَّر، فإن ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به لابد أن يكون؛ فوعْدُه حق -سبحانه وتعالى- لأهل طاعته، ووعيده حق -سبحانه وتعالى- لأهل معصيته، الجنة حق، والنار حق، والبعث والنشور حق، وكذلك أنه لن يُعيد أحد إلى الدنيا مرة ثانية هذا حق؛ قد أخبر الله -تبارك وتعالى- بهذا، وكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به لا يتغير ولا يتبدَّل، {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ........}[ق:29]، فقول الله -تبارك وتعالى- وإخباره -سبحانه وتعالى- لا يتغير ولا يتبدَّل، ما قاله الله -جل وعلا-، وما توعَّد به، وتهدد به، وكذلك ما وعَدَ به -سبحانه وتعالى-؛ كله سيكون، قال {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}[ق:28] {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29]، ليس الله -تبارك وتعالى- بظلَّام لعبيده، عندما يحكُم على أحد بالنار فإن الله لا يظلمه -سبحانه وتعالى- وإنما يأخذ عقوبته التي يستحقها، {جَزَاءً وِفَاقًا}[النبأ:26]، جزاء من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذِّبين وفاق؛ موافق لعملهم الخبيث الذي عملوه، ولإجرامهم، ولتكذيبهم، فلا ظُلم {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ}، لا يظلم الله -تبارك وتعالى- أحد، لا يظلم العبد المؤمن في أن يبخثه شيء من حقه -سبحانه وتعالى- مما عمِلَ من الخير، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ........}[النساء:40]، ولا يظلم الكافر في أن يُحمِّله إثم لم يرتكبه؛ أو إثم غيره، أو أن يُعاقِبه بعقوبة لا يستحقها، وإنما يُعاقَب بالعقوبة التي يستحقها تمامًا، {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[ق:29] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30].

سنعود -إن شاء الله- لهذه الآية في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.