الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (656) - سورة ق 37-45

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}[ق:36] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق:40] {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}[ق:41] {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:42] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}[ق:43] {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}[ق:44] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}[ق:45]، هذه الآيات آخر سورة ق، هذه السورة التي كان فيها هذه المواعظ البليغة؛ والتي كان النبي يحرص -صلوات الله والسلام عليه- على أن يخطب بها في كل جمعة، كما جاء في حديث أم هشام بن حارثة -رضي الله تعالى عنها- تقول ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، يعني ما حفظتها إلا من فم رسول الله -صل الله عليه وسلم- مما يخطب بها كل جمعة، وكان تنورنا وتنور رسول الله واحدًا سنتان أو سنة ونصف، يعني أنهم كانوا يشتركون في التنور فكانت تسمع خُطبة النبي وهي بيتها، تقول أنا حفظت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1]، من فم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فهذه السورة هي التي اشتملت على هذه المواعظ العظيمة.

في آخر هذه السورة الله يُذكِّر هؤلاء المعاندي المُكذِّبين، قال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}، كم؛ كثيرًا ما أهلك الله -تبارك وتعالى- قرون ذكرها، الأمم التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- قبلهم؛ قبل قريش، قبل العرب، {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا}، كانوا أقوى منهم، وأشد بطش يعني بأعدائهم، والذي له بطش بعدوه هذا دليل على قوته ومنعته؛ جيشه، وعدده، وعُدَده، {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}، يعني هل كان لهؤلاء محيص؟ كانوا نقَّبوا في البلاد؛ دخلوا في أطرافها، وحفروا في الأرض، وأشادوا، وبنوا، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ}، هل كان لهؤلاء حَيصة؟ استطاع هؤلاء أن يحيصوا وأن يبتعدوا عن العذاب عندما جائهم عذاب الله -تبارك وتعالى-؟ أم أن الله جمعهم في هذا العذاب واستأصلهم ودمَّرهم -سبحانه وتعالى-؟ {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ........}[ق:37]، إن في ذلك؛ في ما ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة، من التذكير بمصارع الغابرين هؤلاء، وكذلك ما ذكَرَه عن المصير والمؤدى الذي سيصله الكافر والمؤمن، هذا ذِكرى لِمَن كان له قلب؛ قلب يعي، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، أو ألقى سمعه وهو حاضر، ليس يُلقي سمعه وقلبه شارد بعيد... لا، بل لابد أن يكون حاضرًا للسمع؛ فهذا الذي قد يستفيد.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38]، هذا يقوله الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الذين يستبعدون البعث والنشور؛ أن الله قد خلَقَ أعظم من البعث والنشور، إذا كان البعث والنشور هذا أمر يرون أنه صعب وكبير فلينظروا إلى خلْق الله -تبارك وتعالى- للسماوات والأرض؛ وأن الله -تبارك وتعالى- خلَقَها وهي أعظم من خلْق الإنسان ولم يُتعِبه هذا ولم يُثقِله، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، يُقسِم -سبحانه وتعالى- ويؤكِّد بأنه قد خلَقَ السماوات والأرض؛ خلَقَها من العدم، وخلَقَها تقديرًا، الخلْق يشمل معنيين؛ المعنى اللي هو الإيجاد من العدم، وكذلك تقديرها؛ وضع كل جزء من هذه أجزاء السماوات والأرض في مكانه، وأعطاه قدْرَه؛ ونظامه، وإحكامه، ومساره، فهذا كله في خلْق الله، ولقد خلقنا السماوات العُلا؛ السبع وما فوقها، والأرض؛ التي نحن عليها، وما بينهما؛ من نجوم، شموس، أقمار، كواكب، مجرات، خلْق، {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، من أيام الله -تبارك وتعالى-، ستة أيام من أيامه -جل وعلا-، {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}، المس يعني أدنى اللمس، {مِنْ لُغُوبٍ}، اللغوب؛ التعب والمشقة، فإن الله -تبارك وتعالى- خلَقَ هذا الخلْق العظيم؛ الذي لا يستطيع البشر ولا غير البشر أن يُدرِكوا أبعادًا له، ويدركوا نهاية، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76]، لليوم البشر لا يعرفون -مع تقدُّم علومهم- نهاية لهذا الكون، فهذا الكون العظيم والبناء الهائل العظيم يقول الله -تبارك وتعالى- لقد خلقناه {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}، هذا أولًا إثبات قدرة الرب -تبارك وتعالى- على الخلْق؛ وأنه لا يُتعبه ولا يُثقله الخلْق، كما قال -سبحانه وتعالى- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ........}[البقرة:255]، كرسي يسع كل السماوات والأرض، والسماوات والأرض في الكرسي كحلقة في فلاة، {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، يئوده؛ يُتعبه، يُثقِله، يُكرِثه، حفظهما؛ حفظ السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، -جل وعلا-.

فمَن يعلم هذا والعرب كانت تعلم بأن الله هو خالق السماوات والأرض، إذن مادمتم أنكم تُقِرون بأن الله هو خالق السماوات والأرض وهي بهذه الفخامة؛ والضخامة، والبناء، والإحكام، والقوة، وهي لا شك أكبر من خلْق الناس، خلْق الله -تبارك وتعالى- للناس؛ ما الناس؟ الناس ذرَّة في مقابل هذا المحيط اللانهائي من الخلْق؛ هذا الإنسان ذرَّة، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ........}[غافر:57]، فإذن لماذا تستصعبون على الله -تبارك وتعالى- وتستعظمون عليه -جل وعلا- أن يُعيدكم مرة ثانية؟ وتقولون أن هذا صعب؛ لا يمكن إعادته، والحال أن الله -تبارك وتعالى- هذا خلْقه، كذلك في قول الله -تبارك وتعالى- بأنه خلَقَ السماوات والأرض في ستة أيام وأنه -سبحانه وتعالى- لم يُصبه تعب من هذا؛ {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}، رد على اليهود الذين كذبوا على الله وافتروا على الله -تبارك وتعالى-، وقالوا أن الله خلَقَ الخلْق في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع الذي عَمِلَ خالقه؛ كما ذكروا هذا ودوَّنوه في أسفار التوراة التي بين أيديهم لليوم بل في أول أسفارها، أول سِفر من سِفر التكوين ثم استراح الخالق يوم السبت من عمله الذي عَمِلَ خالقه؛ وبارك هذا اليوم، وأنه من أجل ذلك أمر اليهود أن يسبتوا في هذا اليوم اللي هو يوم السبت، يسبتوا فيه؛ ما يعملوا فيه عمل الدنيا وينقطعوا لعمل العبادة، وذلك لأن الله عظَّم هذا اليوم وجعله يوم راحته، فيوم راحة عند الله فينبغي أن يكون يوم راحة للناس، ليستريحوا من عمل الدنيا ويتفرغوا لعمل الآخرة، كذبوا على الله؛ هذا من كذبهم على الله -تبارك وتعالى- وافتراء عليه -سبحانه وتعالى-، فإن الله لا يُتعِبه الخلْق -سبحانه وتعالى-، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40]، إنما بالأمر الإلهي؛ بمجرد الأمر الإلهي، فالله لا يُتعِبه خلْق -سبحانه وتعالى-، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38].

ثم قال -جل وعلا- {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، حبس النفس، الصبر هو حبس النفس عن المكروه، يعني هذا إرشاد من الله وتوجيه لرسوله -صل الله عليه وسلم- أن يصبر على ما يقولون؛ ما يقوله هؤلاء الكفار، والكفار يقولون مقالات عظيمة مما تشُق على النفس؛ تكذيبهم للبعث وللنشور، وأنه لن يكون، وأن الله لن يفعل هذا، وما يقولون من الشرك بالله -تبارك وتعالى-؛ عبادتهم للملائكة، عبادتهم للأوثان والأصنام، كذلك ما يقولونه للرسول؛ أنت كذَّاب، أنت كاهن، أنت ساحر، أنت أتيت لك نيَّة ولك مقصد في هذا الأمر، كلام في غاية الشدة تحمُّله على النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ تكذيبه، وتكذيب الله -تبارك وتعالى-، والمعاندة، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، على الذي يقولوه هؤلاء المجرمون الأفَّاكون، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39]، توجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله بالصبر على مقالات الكفر التي يقولونها، وتوجيه له إلى اللَّجء إلى الله -تبارك وتعالى- وعبادة الله -تبارك وتعالى-، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، التسبيح والحمْد مع بعض؛ سبِّح حال كونك مُتلبِّسًا بحمْد الله -تبارك وتعالى-، الحمْد؛ إثبات المحامد لله -تبارك وتعالى-، الله يُحمَد لذاته؛ لصفاته، لأفعاله، لإنعامه، لإفضاله -سبحانه وتعالى-، كل أعماله خير، كل قضائه خير -سبحانه وتعالى-، وكل صفاته حُسنى وكل أسمائه حُسنى -سبحانه وتعالى-، ثم يُسبَّح؛ يُنزَّه عن كل نقص -سبحانه وتعالى-، عن كل نقص فإنه لا يأتيه نقص -سبحانه وتعالى-، فهو {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}، لا ينام، لا يسهوا، لا يغفل، لا يظلم -سبحانه وتعالى-، وكذلك مُنزَّه عن الشريك؛ والنِد، والمثيل، والنظير، تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يكون له مُشابه؛ نظير، نِد يُنادده؛ يُعانده... لا، بل كل خلْقِه تحت أمره وقهره -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، ملائكته {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، سماواته وعرشه وكرسيه {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا ........}[الشورى:5].

فكل خلْقِه يخافه؛ مُسلم له، خائف منه، مُسلم له طوعًا أو كرهًا، إما بطائع؛ إسلام أهل الإيمان وإسلام الملائكة، وإما رغمًا عنه؛ بالكره، اللي هو إسلام الكافر، فالكافر مُسلم لله -تبارك وتعالى- رغمًا عنه، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ........}[آل عمران:83]، مُسلم له يعني مُنقاد لأمره؛ ما يقدر يفعل شيء، كله بأمر الله، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}[عبس:18] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:19] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}[عبس:20] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22]، فكل أحواله إنما هي بالأمر الكوني القهري له؛ لله -تبارك وتعالى-، يُخلَق رغمًا عنه؛ ويتكوَّن في بطن أمه، ويُيسِّر له الله –تبارك وتعالى- السبيل ليخرج من بطن أمه، ويشب ويكبر، ثم بعد ذلك يبلغ ما كتب الله له من العُمر، ثم يقبره الله -تبارك وتعالى-؛ يحكم عليه بالموت ويوضَع في القبر، يضعه أعز الناس عنده، الذي يقبر الإنسان يكون أحيانًا أعز الناس عنده؛ أبنائه، إخوانه، أهله، زوجته هي التي تضعه في هذا الصندوق وتُغلِقه عليه؛ وتقفله بالتراب عليه، وأصدقائه يحثون عليه التراب، {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21]، وهذا القبر الكريم، والقبر قد يكون أشر من هذا؛ يُلقى إلقاء، ويتناثر لحمه في كل مكان، ويأخذ كل مَن يأخذ قطعة من لحمه؛ طير يأخذ لحمه، أسماك تأخذ لحمه، الريح تذروا فيها، يُقبِره {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}[عبس:22] {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}[عبس:23]، فالله -تبارك وتعالى- هو القاهر فوق عباده -سبحانه وتعال-، وهو الذي أسلم له كل خلْقِه؛ كل خلْق الله -تبارك وتعالى- مُسلم له، فالتسبيح بحمْد الله –تبارك وتعالى- قال {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، سبِّح بحمْده؛ نزِّه عن كل ما لا يليق به، يُنزَّه عن الولد؛ النِد، الشريك، النظير، المعاند، وسبِّح بحمْدِه أنه هو الرب الإله؛ الرحمن، الرحيم، الغفور، الودود، السميع، الذي له الأسماء الحُسنى -سبحانه وتعالى-.

{........ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39]، وقتان من أشرف أوقات النهار والليل؛ فيها تغيير، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}، الشمس آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وقبل طلوعها؛ عندما ينفجر النور، يذهب ظلام الليل ويأتي نور النهار؛ آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وقد شرَعَ الله -تبارك وتعالى- لنا فيها صلاة وهي صلاة الفجر؛ من أشرف الصلوات، ومن أعلاها في هذا الوقت العظيم الذي تتبدَّل فيه آيات الله -تبارك وتعالى-؛ يتغير هذا المنظر الكلي للأرض، انظر هذا جيش الظلام ينسحب ويأتي جيش النور؛ فهذا مجال تذكُّر الله -تبارك وتعالى-، اللهم إن هذا إدبار ليلك وإقبال النهار؛ هذا إقبال النهار وهذا إدبار الليل، الليل له والنهار لله؛ آية من آيات الله –تبارك وتعالى-، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}، والشمس آية، عندما تطلع الشمس؛ آية عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى-، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، صلاة العصر أيضًا شرَعها الله -تبارك وتعالى- في هذا الوقت، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ إدبار النهار، إقبال الليل، يُقبِل الليل للنفس التي تعبت في النهار حتى ترتاح، آية من آيات الله في سكونه؛ في بروده، في برودته، ذهب النهار الذي وقت الشغل والعمل؛ آية من آيات الله -تبارك وتعالى- {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، غروب الشمس، وقد شرَعَ الله -تبارك وتعالى- لنا هاتين الصلاتين العظيمتين؛ أعظم صلاتين من الصلوات الخمس، وفيهما يقول النبي «مَن صلى البردين دخل الجنة»، البردين؛ العصر والفجر، وقال «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم؛ كيف تركتم عبادي؟ يقولون يا رب أتيناهم وهم يُصلون وتركناهم وهم يُصلون»، شهادة عظيمة من الملائكة لأهل الصلاة؛ لِمَن يُحافظوا على صلاة الفجرة وصلاة العصر، يقولوا نحن يا رب جئناهم وهم في الصلاة وتركناهم وهم في الصلاة، فهذه تكون شهادة لهم؛ لِمَن حضر صلاة العصر وصلاة الصبح، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «جنتان من ذهب آنيتهما والتي فيهما»، وهي مبنية من الذهب، «وما بين القوم»، الذين يسكنون في هذه الجنة؛ في هذه المدينة العظيمة مدينة الجنة، مدنها وقصورها وأوانيها اللي كلها من الذهب، «ما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن»، إذا رفع الله -تبارك وتعالى- رداء الكبرياء عن وجهه رأوا ربهم -سبحانه وتعالى-، أي نعيم! أي سمو! أي رِفعة هذا!.

ثم يقول النبي «فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، هذا الطريق إلى هذه المنزلة؛ إلى أن تكون في جنة الذهب هذه، التي هي آنيتها من ذهب «آنيتهما وما فيهما»، والقوم فقط ليس بينهم وبين رؤية ربهم -سبحانه وتعالى- إلى رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن، «فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، {........ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39]، انظر توجيه الله -تبارك وتعالى- لرسوله؛ هذا العِز، وهذا التمكين، وهذه السعادة، اترك هؤلاء المجرمين؛ اترك هؤلاء، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق:40]، سبِّحه من الليل، ومن الليل الله -تبارك وتعالى- شرَعَ لنا صلاتين؛ صلاة المغرب التي هي في أول الليل، وصلاة العشاء التي بعد مُضي جزء من الليل أو مجيء سواد الليل، والنبي كان يُصلي في أول وقتها -صلوات الله والسلام عليه-، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق:40]، سبِّح ربك كذلك أدبار السجود؛ بعد السجود، يعني بعد الصلوات، وكان النبي شرَّع لنا الذِّكر بعد الصلوات -صلوات الله عليه وسلم-، أن يقول العبد سبحانه الله، الحمد لله، الله أكبر، ثلاثًا وثلاثين؛ أي تسعًا وتسعين، ثم يقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له المُلك، وله الحمْد، وهو على كل شيء قدير، وقال النبي «مَن قال هذه في دبُر كل صلاة غُفِرَت ذنوبه وإن كانت مثل ذبد البحر»، {........ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}[ق:39] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}[ق:40].

{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}[ق:41] {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:42]، {وَاسْتَمِعْ}، أمر الله -تبارك وتعالى-، {........ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}[ق:41]، قُل لهم هذا وأخبرهم بهذا؛ أن المُنادي سيُنادي من مكان قريب، اسمعوا النداء هذا، إنه نعم سيُنادي من السماء؛ إسرافيل ينفخ في الصور، لكن خلاص؛ يسمع الصيحة وكأنها في أُذُنه، {........ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}[ق:41] {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ........}[ق:42]، الصيحة الثانية هذه؛ صيحة الملَك، بالحق؛ بالحق الثابت، يوم القيامة حق أن هذا وقت القيام؛ قوموا، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13] {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، زجرة واحدة؛ الملَك يصيح فيهم صيحة، فإذا هم؛ إذا الفجائية، هم يعني الناس من قبورهم بالساهرة؛ بوجه الأرض، {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}[ق:42]، هذا اليوم هو يوم الخروج؛ الخروج من القبور للقاء الله -تبارك وتعالى-، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ}.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}[ق:43]، إخبار فيه تذكير عظيم من الله -تبارك وتعالى- لعباده، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، نحن؛ تأكيد للضمير بتأكيد أخر حتى يُعلَم أن هذا إلى الله وحده ليس إلى غيره -سبحانه وتعالى-، إنَّا نحن؛ الله، {نُحْيِي وَنُمِيتُ}، نُحيي الخلْق؛ كل هذه الأحياء الذين أحياهم الله -تبارك وتعالى-، حياة الخلْق كلهم الله هو الذي أحياهم، والله يقول {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}، ما كنتم شيء، {........ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:28]، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ........}[ق:43]، الذي يُميت هو الله -تبارك وتعالى-، ويموت كل ميت رغمًا عنه؛ رغمًا عن أنفه يموت، {وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}، إلينا؛ لا إلى غيرنا، المصير؛ رجوع العباد، يعني مصير العباد ورجوعهم في النهاية إلى الله -تبارك وتعالى- لا إلى غيره، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، إياب الخلْق ورجوع الخلْق إلى الله -تبارك وتعالى-؛ وحسابهم على الله -جل وعلا- لا إلى غيره، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}[ق:43].

{يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}[ق:44]، يوم تشقق؛ تتشقق الأرض، عنهم؛ عن هؤلاء الموتى الذين كانوا في بطنها، سِراعًا يعني في غاية السرعة، بمجرد النفخ في الصور إذا الأرض تنشق وإذا هم خارجون منها مكتملون؛ مبنيون، جاهزون، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}[ق:44]، هذا الحشر الذي يستبعده الكفار ويرون أنه أمر بعيد؛ لا يمكن أن يكون، الله يقول علينا؛ على الله -سبحانه وتعالى-، يسير؛ سهل، ما فيه أي صعوبة على الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13] {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40]، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:79] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}[يس:80] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}[يس:81] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82]، إنما أمره يعني شأن الله -تبارك وتعالى- أنه إذا أراد شيئًا أن يقول له كُن فيكون، فلا يُتعِبه؛ ولا يُكرِثه، ولا يشق عليه -سبحانه وتعالى- فعل أمر ما، فإخراج كل الموتى من قبورهم أمر يسير على الله -تبارك وتعالى-؛ سهل، زجرة واحدة؛ نفخة واحدة من الصور، بأمر الله -تبارك وتعالى- يكون ما أراده الله -تبارك وتعالى- وما شاء، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}[ق:44].

ثم قال -جل وعلا- {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}، فلا تبتئس، هذا تطمين للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبيان أن كل ما يقولونه من الإجرام؛ والكفر، والعناد، وسب الرسول، وتكذيبه، كله عند الله -تبارك وتعالى-؛ والله أعلم به -سبحانه وتعالى-، وذلك أن النبي قد يعلم من مقالاتهم ما يسمعه وما يُنقَل إليه، لكن ما يُسِرونه وما يقولونه بينهم ولا يعلمه النبي، الله أعلم بكل أقوالهم -سبحانه وتعالى-، يعني كل ما يقوله هؤلاء المجرمون من التكذيب؛ والعناد، والتهديد، والوعيد، وما يُدبِّرونه للنبي، كله عند الله -تبارك وتعالى-، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ}، وهذا يجعل النبي يُسلِّم أمره لله -تبارك وتعالى- وأن شأن هؤلاء أعدائه؛ شأنهم عند الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، أنت لم يُرسِلك الله -تبارك وتعالى- جبَّار عليهم، الجبار اللي هو القاهر؛ القائم بالأمر، الذي يُلجئهم إلجاءً إلى ما يُريد؛ ويجبرهم بالأمر، ويُنفِّذ إرادته فيهم كما يشاء، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، ما أرسلك الله -تبارك وتعالى- جبار، كما قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية:22] {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}[الغاشية:23] {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ}[الغاشية:24]، وقال له {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}، فالله لم يوكِّل الرسول على الناس ليتولَّى هو شئونهم؛ ليُحاسِبهم في الدنيا والآخرة على أعمالهم، أو يجبرهم على الطاعة، بل هذا الأمر كله إلى الله -تبارك وتعالى-، بل هدايتهم وضلالهم إنما هو إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، فالهُدى والضلال كله إلى الله -تبارك وتعالى-، كذلك عقوبتهم على فعلهم عند الله -تبارك وتعالى-، حسابهم في الدنيا والآخرة إنما إلى الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}[الأنعام:58]، فحتى حساب العقوبة ما هو بيدي النبي -صل الله عليه وسلم-، وكل الأنبياء لم تكن عقوبة أقوامهم بأيديهم وإنما هي بيد الرب -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، مَن تُجبِرهم وتُلجئهم وتقهرهم على الطاعة جبرًا... لا، أنت فقط مُبلِّغ لهم، الله أرسل رُسُله مُبلِّغين ومُنذِرين؛ إن عليك إلا البلاغ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ}.

{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، إذن ما مهمتك؟ {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}، ذكِّر بالقرآن هذا المُنزَل؛ والقرآن نزل للذِّكرى، {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}، وذلك أن هذا الذي يستفيد بالذِّكر وإن كان هذا القرآن ذِكرى للعالمين كلهم، لكن لا يستفيد به إلا مَن يخاف وعيد الله -تبارك وتعالى-؛ فهذا هو الذي يتذكَّر، وهو الذي تُفيده الذِّكرى، وأما الأخرون فإنهم لا يُفيدهم هذا، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}، حصر الله -تبارك وتعالى- الذِّكرى في مَن يخاف الوعيد؛ أن هذا الذي سيتذكَّر، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}[الأعلى:10]، فالذي يخشى الله هو الذي سيتذكر، {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}[الأعلى:11] {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى:12]، فالأشقى الذي كتب له الله النار فإنه لا يستفيد بهذا القرآن، فهذا القرآن هدىً وشفاء لأهل الهداية؛ لِمَن هداهم الله -تبارك وتعالى-، وأما أهل الضلال فهو عليهم عمه، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}، وقد قام النبي -صل الله عليه وسلم- تذكيرًا بهذا القرآن العظيم المُذكِّر؛ الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- ذِكرى وعِظة للعالمين، قام به النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ كان يخطب به، يتكلم به، وقد مضى في حديث أم هشام -رضي الله تعالى عنه- تقول أنا حفظت سورة ق من فم النبي -صل الله عليه وسلم-؛ كان يخطب بها كل جمعة -صلوات الله والسلام عليه-، سورة ق هي أول المُفصَّل، وكان السلف -رضوان الله عليهم- يُقسِّمون القرآن؛ أوراد القرآن، أحزاب القرآن، يعني سبعة على حسب الأسبوع، الثلاث سور الأوَل؛ البقرة، والنساء، وآل عمران، وخمس بعدها، وسبع، وتسع، وإحدى عشر، وثلاثة عشر، والجزء المُفصَّل اللي هو هذا الذي يبدأ بسورة ق وينتهي بسورة الناس، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من عباده الصالحين المؤمنين.

استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.