الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}[الذاريات:1] {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا}[الذاريات:2] {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}[الذاريات:3] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[الذاريات:4] {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}[الذاريات:5] {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}[الذاريات:6] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7] {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:8] {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:11] {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12] {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13] {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14]، هذه الآيات مقدمة سورة الذاريات؛ وهي من القرآن المكي، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الأقسام المتتابعة، قال -جل وعلا- {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}[الذاريات:1] {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا}[الذاريات:2] {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}[الذاريات:3] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[الذاريات:4]، ثم أتى بالمُقسَم عليه فقال {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}[الذاريات:5] {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}[الذاريات:6]، الذاريات هي الرياح؛ تذروا ما تذروا، ومما تذروه أنها تجمع بخار الماء والمطر وتحمله إلى آفاق الجو العليا؛ المكان الذي تسير في السُّحُب، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}[الذاريات:1] {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا}[الذاريات:2]، تحمل بعد ذلك هذه الرياح عندما تذروا وتجمع السحاب، {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ........}[فاطر:9].
{فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا}[الذاريات:2]، الماء، تحمل الريح هذه السُّحُب المُحمَّلة بملايين الملايين من أطنان الماء، هذا الماء الذي يجري أنهارًا في الأرض أصله كله كان في السماء؛ تحمله السُّحُب، وتسير به في جنبات الأرض؛ من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، وتسير به بهذه المئات وآلاف الكيلومترات تحمله وتنقله من مكان إلى مكان؛ من فوق المحيطات وتسير به في كل الإتجاهات، {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا}[الذاريات:2] {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}[الذاريات:3]، تجري بسهولة ويُسر، جري السحابة أيسر أنواع الجري، انظر اليُسر في دفع هذه الرياح لهذه السُّحُب وهي تحمل هذه الأوزان الهائلة جدًا من الماء؛ وتسير به في يُسر دون أن تقفل طريقًا، وتسد أبوابًا، وتهدم مساكن، وتزعج إزعاجًا، ولكنها تسير في غاية السهولة واليُسر فوق رؤوس الناس بما في هذا من المنافع العظيمة؛ يستظلون بهذه الظُلَّة من المياه ومن السحاب المُظِل لهم، وتنتقل فوق رؤوسهم ويستبشرون بمرورها؛ وعبورها، وسقوط المطر بعد ذلك، انظر اليُسر الذي يسَّره الله -تبارك وتعالى- في هذا؛ وأنها في مكان تبتعد فيه عن الأرض، ليست قريبة من الأرض فإذا سارت تُزعِجهم؛ وتقفل طرقهم، وتسد عليهم منافذهم... لا، بل في هذا المكان المناسب تمامًا لحياة الناس، وكذلك أجمل وأبهى وأحلى منظر وأنسب مكان تسير فيه، {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا}[الذاريات:3].
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[الذاريات:4]، قسَّم الله -تبارك وتعالى- بهذه الرياح في جريانها وحملها لهذه المياه ...، هذه تُقسِّم أمر الله -تبارك وتعالى- في المطر بأن يكون هنا في هذا المكان؛ وهذا في هذا المكان، وهذا في هذا المكان، وبكل مقدار من المقادير، كما قال -تبارك وتعالى- في المطر {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الفرقان:50]، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ}، صرَّف الله -تبارك وتعالى- المطر على هذه الأرض تصريف من عنده -سبحانه وتعالى-، ولكن ما ازداد كثير من الناس بهذا إلى كفورًا بالله -تبارك وتعالى-، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}[الذاريات:4]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا الخلْق العظيم؛ يُعظِّم هذا الخلْق، وتعظيم هذا الخلْق من تعظيم خالقه -سبحانه وتعالى-؛ فعظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-، فالذي خلَقَ هذا العظيم يجعل الريح تسير في هذا الاتجاه وتحمل هذه الأثقال، ثم توزِّع وتنشر رحمة الله -تبارك وتعالى- بالمطر بهذا التوزيع؛ بهذه الخريطة العظيمة لتوزيع الأمطار على ظهر هذه الأرض، انظر هذا الفعل الإلهي العظيم؛ المُتقَن، المُحكَم، الذي كله رحمة بعباده -سبحانه وتعالى-، هذا دليل عظمة الرب؛ وقدرته، ورحمته، وإحسانه على خلْقِه -سبحانه وتعالى-، فالله يُعظِّم نفسه أنه خالق ذلك، يُقسِم بهذا والقسَم تعظيم؛ تعظيم للمُقسَم به وأن هذا أمر عظيم، وتعظيم للمُقسِم لأنه خالق هذا -سبحانه وتعالى-، وكذلك تعظيم للمُقسَم عليه؛ فإن الله عندما يحلف ويُقسِم يُعظِّم هذا الأمر الذي يُقسِم عليه ويُبين تأكيده -سبحانه وتعالى-، الله في غنى عن القسَم لكنه يسوق هذا رحمة بعباده -سبحانه وتعالى- لعلهم أن يؤمنوا.
عندما يُقسِم الله -تبارك وتعالى- على هذا الأمر العظيم المُتحقق يُقسِم عليه بهذه الأقسام؛ فيقول -جل وعلا- {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}[الذاريات:5]، إنما؛ إن الذي توعَدونه أيها الناس، لصادق؛ بالتأكيد، انظر كيف أكَّد الله هذا الأمر بكل هذه المؤكِّدات؛ بهذه الأقسام العظيمة، وبإن، وباللام الداخلة على خبر إن، لصادق؛ أمر صادق، والله هو الذي يقوله -سبحانه وتعالى-، كيف لا يكون صِدق والله الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- هو الذي يخبر به؟ والذي توعَدونه أيها الناس من البعث؛ والنشور، والحساب، والجنة، والنار، هذا الذي يعِدكم الله -تبارك وتعالى- به أمر صادق لا يمكن أن يتخلَّف؛ لابد كائن، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}[الذاريات:6]، الدين؛ الجزاء، لواقع؛ حتمًا سيقع، كل جزاء الخلْق لابد أن يقع على الصغير والكبير؛ كلٌ لابد أن يلقى جزائه، ما في واحد يُفلِت، لن يُفلِت أحد بل كلٌ سيُجازى، المؤمن سيأخذ جزائه وافيًا ولو فعل ذرَّة واحدة من الخير لن تضيع له؛ سيأخذها، وكذلك الكافر سيأخذ جزائه وافيًا؛ لن يُخلِف الله -تبارك وتعالى- ذرَّة من الشر مما عملها مكتوبة، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ........}[آل عمران:30]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، فالدين؛ المجازاة، واقع لكل أحد؛ للمؤمنين الصادقين، وللكافر الجاحدين على كل شيء؛ لو هي غمزة، لو هي لمزة، لو هي، لو هي، لو هي ...، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}[الذاريات:6]، انظر هذه الأقسام من الله -تبارك وتعالى- وانظر المُقسَم عليه.
ثم أقسام أخرى، قال -جل وعلا- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7] {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:8]، والسماء؛ يُقسِم الله -تبارك وتعالى-، ذات الحُبُك؛ حبكة، محبوكة، مبنية بناء عظيم ومُجمَّلة ومُزيَّنة بهذه الزينة العظيمة، الحُبُك؛ الجمال، زيَّنها الله -تبارك وتعالى- كأنها عِقد محبوك؛ مُنتظم، انظر بهاء السماء نهارًا بهذه الشمس المضيئة؛ وجمالها ليلًا بهذه النجوم المُرصَّعة، وانظر بنائها المتين؛ لا فيه تشقق، ولا فيه تهاوي، بل هي في غاية الإحكام وغاية القوة والشدة، فهذه يُقسم الله -تبارك وتعالى- بالسماء؛ قال {........ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7]، قال أهل العِلم بالتفسير الحُبُك؛ الجمال، والبهاء، والمتانة، والنسيج، كأنها نسيج محبوك قد أُحكِمَ كل خيط فيه، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7]، قال -جل وعلا- {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:8]، إنكم؛ قسَم من الله -عز وجل- وتأكيد، إنكم أيها الكافر المُكذِّبون لفي قول مختلف؛ مُضاد بعضه لبعض، قولهم بأن النبي ساحر؛ أنه كاهن، أنه مجنون، المجنون غير الساحر غير الكاهن، غير الكذاب، هذا غير هذا، غير هذا، غير هذا ...، في بعث؛ لا مش هيكون بعث، فأقوالهم متضادة؛ متعارضة، مختلفة، يهدم بعضها بعضًا، وهم في هذا القول وهم في هذا الشِقاق لا يهتدون في دينهم وفي طريقهم إلى هُدى وإلى بصيرة، وإنما هم يعني الكفار في قول مختلف.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9]، يؤفك عنه؛ الإفك هو القلب، والكذب؛ كلام مأفوك، والإنسان الذي افترى الكذب إإتوفِك وكأنه قُلِبَ على رأسه؛ ما يرى الحق، فالذي أوفِك بمعنى أنه افترى الكذب وانقلب على رأسه خلاص؛ الذي يسير على رأسه ايش لون يفهم، لن يعرف الحق، فهذا يظل في عماه وفي انتكاسته على هذا النحو؛ أنه ما في بعث، ما في نشور، النبي كذَّاب، فيظل في هذا، {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9]، وقول الله هذا أمر عظيم جدًا، يعني يُقلَب ويأتفِك عن الحق من أفِك اللي هو المأفوك هذا الذي قد انقلب؛ وأصبحت رأسه مكان قدميه وقدمه مكان رأسه، {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9]، ثم قال -جل وعلا- {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10]، هذا في صيغة الدعاء ولكنه من الله حُكم؛ حُكم من الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10]، القتل معروف، الخرَّاصون جمع خرَّاص، والخرص هو القول بالظن والتخمين، وهؤلاء جعلوا عقائدهم ظنًا وتخمينًا، ما الذي عند المشركين من العقائد؟ قولهم بأن الله تزوَّج من الجِن وولِدَ له الملائكة؛ وأنه لا بعث، ولا نشور، كل هذه أقوال قالوها بالخرص والتخمين، ما الذي عند النصارى في ادِّعائهم بأن عيسى ابن الله؟ الخرص؛ والتخمين، والظن، والكذب على الله، وكل الذين عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- ما عبدوا؛ الشمس إلهة، والأصنام آلهة، والأنهار آلهة، والريح، كل الذين جعلوا لهم آلهة من دون الله -تبارك وتعالى-؛ وعبدوها من دون الله، وقالوا هذا طريق، أو كذَّبوا البعث، أو كذَّبوا النشور، ماذا عندهم؟ ما الذي عندهم من العِلم؟ ما عندهم أي شيء من العِلم، الخرص، التخمين، الظن، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10]، الظانون؛ المُكذِّبون، الذين يبنون عقائدهم على مجرد الظن والتخمين وليس على عِلم؛ ولا على هُدى، ولا على سلطان، ولا على بينة من الله -تبارك وتعالى-.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:11]، الذين هم في غمرة عن الحق ساهون، يعني الحق يأتيهم لكنه مغمور كالذي يعيش تحت المحيط؛ واحد مغمور بالماء، الكلام فوق الأرض وهو تحتها مغمور؛ من أين يسمع؟ غمرة، عقولهم مُغطَّاة، ما يسمعوا شيء من الحق، ساهون؛ ساهي، لاهي، فشبَّههم الله -تبارك وتعالى- وجعل حالهم كحال المغمور؛ قد غطاه الماء فلا يسمع ما يُقال فوقه، وكذلك الساهي الذي سهى عقله وابتعد فمهما قيل لا يسمع، {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10]، فهم في خرص؛ هم في غمرة، هم ساهون، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:11] {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12]، يسألون سؤال ليس للاستفهام؛ سؤال للاستبعاد، وللاستكبار، وللتكذيب، {........ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12]، متى يوم القيامة؟ بعيدًا يكون هذا، يعني كيف يكون يوم الدين عندهم؟ يوم الدين؛ يوم الجزاء، وأننا نُبعَث من قبورنا ونرجع مرة ثانية وقد هرِمنا؛ وقد ضللنا في الأرض، هذا أمر لا يمكن أن يكون، {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12]، مستبعدينه، مُحيلين وقوعه؛ أنه لا يمكن أن يقع، {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12]، قال -جل وعلا- {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، انظر الجواب لاستهزائهم؛ ولاستبعادهم، ولاستنكارهم، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، هذا يوم الدين الذي يُكذِّبون به هو اليوم الذي فيه يُفتَنون على النار، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، يُحرَقون، العرب تقول فتنت الذهب إذ أدخلته في النار، وفتنته يعني أحرقته بالنار حتى ينصهر؛ فيتميز الذهب الخالص من الشوائب، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، يُحرَقون، ومنه قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، وفتنوهم؛ ألقوهم في النار، اللي هم أصحاب الأخدود، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، يُحرَقون.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14]، يُقال لهم ذوقوا فتنتكم؛ ذوقوا عذابكم، الحرق هذا ذوقوه، والذوق ليس باللسان فقط وإنما ذوقوه بكل كيانكم، فيذوقوا العذاب بكل ذرَّة في كيانهم؛ جِلده الذي يحترق، النار التي تطلع على الأفئدة، الله -تبارك وتعالى- يقول {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6] {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7]، ويقول النبي -صل الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر «بشِّر الكانزين برُضف يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من ناغض كتفه؛ ويوضع على ناغض كتفه»، ناغض الكتف اللي هو لوح العظم المُتحرِّك خلف الكتف؛ في الظهر، «يوضع على ناغض كتفه حتى يخرج من ثديه»، ثم الماء الحار الذي يشربه فيشوى به وجهه؛ ويُصَب من فوق رؤوسه، والمقامع التي يُقمَع بها على رأسه، فالغم والعذاب من كل مكان، ذوقوا؛ ذوقوها بكل أحساسيكم وبكل كيانكم، ذوقوا فتنتكم؛ حرقكم، {........ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14]، هذا العذاب الذي كنتم به تستعجلون، المُكذِّبين؛ وين هو؟ هاته، كانوا يقولون للنبي هات العذاب هذا؛ عجِّل لنا هذا العذاب، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:16] {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، كان أبو جهل يقول الزقُّوم هذا تمر يثرب بالزُبد، هذا هو الزقُّوم الذي يُخوِّفنا منه الرسول، فهؤلاء لمَّا يشوفوا العذاب ويوضَعوا في النار الله يقول لهم {........ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14]، هذا العذاب المُشاهَد الذي تذوقونه الآن وأنتم بكامل النظر؛ وبكامل الحس، وبكامل السمع، بتشوفوا كل شيء، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}، فهذه الله يقول لهم {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14]، هذا العذاب الذي أنتم فيه الآن هو الذي كنتم تستعجلون مجيئه وأنتم في الدنيا؛ في حال من التكذيب، والأستهزاء، والسخرية، انظر هذه الحقائق؛ الله -تبارك وتعالى- يخبر بها قسَمًا، يُقسِم -سبحانه وتعالى- بأن هذا أمر كائن، والله غني أن يُقسِم -سبحانه وتعالى- ليؤكِّد المعنى الذي يُريد للناس، ولكن هذا خطاب رحمة منه -سبحانه وتعالى-، فعندما يُقسِم الله -سبحانه وتعالى- على هذا الحقائق اللي هي كائنة؛ لابد أن تكون، لكن الله -تبارك وتعالى- يُقسِم عليها هنا لأن القرآن هذا خطاب رحمة من الله -تبارك وتعالى- بعباده؛ حتى يُذكِّرهم، ولا يترك لهم مجال ليشكوا في أمره ووعده ووعيده -سبحانه وتعالى-، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}[الذاريات:7] {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:8] {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}[الذاريات:11] {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:12] {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13] {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}[الذاريات:14].
ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هذا بالنسبة لهؤلاء المُكذِّبين، ثم بعد هذا يذكر الله -تبارك وتعالى- ما أعده لعباده المؤمنين، قال -جل وعلا- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الذاريات:15]، هذي الصفحة المقابلة، دول الأخرين، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ}، المتقين جمع مُتقي، والمُتقي هو الخائف من الله -تبارك وتعالى-؛ الذي جعل حماية بينه وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-، اتقى عذاب الله بأن آمن به وأطاعه، لا يمكن للإنسان أن يكون تقي من الله إلا إذا جعل لنفسه حماية، ولا يكون العبد مُحتميًا من عذاب الله -تبارك وتعالى- إلا بالإيمان بالله؛ والبُعد عما يُسخِطه -سبحانه وتعالى-، وأن يؤمن به، وأن يسير في الطريق الذي أمره به، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ........}[الذاريات:15]، بساتين، {وَعُيُونٍ}، من كل أنواع العيون؛ عيون من ماء، بساتين ناضرة وهذه العيون الجارية، {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}، من كل الخيرات، والإنعام، والإكرام، آخذينه يعني راضين به ومُستمتعين به، {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ}، والله -سبحانه وتعالى- سيؤتيهم ما يشتهون؛ وما يدَّعون، وما يطلبون، وكذلك ما أخفاه لهم مما لا يخطر ببالهم، كذلك أنهم آخذيه يعني أن هذا حق سيكون، ثم هم سيأخذونه ليستمتعوا بكل ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، ما في شيء مُستغنى عنه أو متروك بل هم آخذون ما آتاهم ربهم، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}[الذاريات:16]، يعني هذا تعليل لِما أكرمهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الإكرام، قال {........ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}[الذاريات:16]، كان هؤلاء المتقون من أهل الإحسان؛ يعني أدوا عملهم حسنًا، مُحسنين.
ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- من صنوف إحسانهم، قال {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18] {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات:19]، هذا إحسان هؤلاء، هذه صور إحسان هؤلاء المُحسنين؛ الذين أدوا عملهم حسنًا، وأدوا الأعمال الحسنة التي يُحبها الله -تبارك وتعالى-، إنهم كانوا؛ أي هؤلاء المؤمنين المتقين، قبل ذلك؛ قبل يوم القيامة هذا الذي أُدخِلوا فيه الجنة، {مُحْسِنِينَ} {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17]، كانوا؛ في الدنيا، {........ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17]، الهجوع اللي هو السكون؛ والراحة، والنوم، قليل يعني وقت قليل من الليل الذي يهجعونه، إذن الكثير من الليل يقومونه لله -تبارك وتعالى-، يعني أكثر أوقاتهم في الليل قيامًا لله -تبارك وتعالى-، كما أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2]، قُم الليل إلى الصلاة إلا قليلًا للهجوع، {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3]، نصفه صلي، {........ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}، على النصف، {........ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل:4]، وهكذا كان يقوم النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكان يقوم أصحابه، وقال -صلوات الله والسلام عليه- «خير القيام قيام داود؛ كان يقوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه»، وهذا إذا السدس مع النصف يصيروا ثلثين، فكان يُقسِّم الليل قسمين؛ قسم القيام يجعله في أول الليل وآخر الليل حتى يجعل وقت للسَحَر، وقِسم النوم يجعله في وسط الليل، يقوم نصف الليل وينام ثلثه؛ ينام الثلث، ثم يقوم سدسه ليكون السُدس مع النصف الأول يكون ثلثين وينام ثلث؛ فيكون هذا خير قيام، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- في قيامه من الليل يقوم من كل الأوقات، كما تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- ما شئت أن تجده قائمًا وجدته؛ وما شئت أن تجده نائمًا وجدته، يعني كان يقوم من أول الليل؛ ومن نصف الليل، ومن آخر الليل، فكان -صلوات الله والسلام عليه- يقوم من الليل؛ من كل آنائه وأطرافه -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك كان أصحاب النبي والصالحون من عباد هذه الأمة؛ الذين يُثني الله عليهم هذا الثناء فيقول إنهم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17]، وقت قليل الذي جعلوه لهجوعهم وراحتهم، والوقت الأكثر جعلوه لصلاتهم بين يدي ربهم -سبحانه وتعالى-، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17].
{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18]، إذن هم يقظة في الأسحار، وقت السَحَر هو آخر جزء من الليل قبل الفجر؛ وهذا أشرف الأوقات، أشرف الأوقات؛ وأعلاها، وأحسنها، وأسكنها للصلاة، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا سُئِلَ عن أفضل الصلاة فقال «جزء الليل الآخر»، فجزء الليل الآخر هي الأسحار؛ هي أفضل وأشرف أوقات الصلاة، وهذا الوقت جعله أهل الإيمان للصلاة والاستغفار، وذلك أنهم قاموا الليل حتى أتى وقت السَحَر فاستغفروا ربهم -سبحانه وتعالى-، كما في قول الله -تبارك وتعالى- في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65]، فقاموا الليل واستغفروا وطلبوا من الله -تبارك وتعالى- أن يُنجيهم من عذاب النار في آخر الصلاة؛ عند وقت السَحَر، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18]، يستغفرون؛ يطلبون مغفرة الله -تبارك وتعالى-، ومغفرة الله يعني أن يُسامِحهم الله في ذنوبهم؛ وأن يمحوا عنهم سيئاتهم -سبحانه وتعالى-.
انظر هذا الفعل الجميل والإحسان الجميل لهؤلاء، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الذاريات:18] {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات:19]، في أموالهم حق يعني ثابت، في حق أحقه الله -تبارك وتعالى- وهو الزكاة، حق يعني واجب ثابت، وفي حق هم أحقوه في أنفسهم كما نذروه على أنفسهم أو فعلوه بأنفسهم، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات:19]، للسائل الذي يسأل؛ من فقير أو مُحتاج يسأل، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- له جزء من الزكاة كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ ........}[التوبة:60]، والفقير عادة يسأل كما في قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ليس المسكين بهذا الذي ترده التمرة والتمرتان؛ واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين رجل لا يجد غنىً يُغنيه؛ ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه»، فالمسكين فقير لكن لا يسأل، والفقير محتاج ولكنه يسأل، فهذا السائل الفقير؛ في أموال هؤلاء حق لهم، حق أحقه الله -تبارك وتعالى- وكذلك هم يُراعون هذا الحق ويُخرجون من أنفسهم، {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، المحروم؛ مَن حُرِمَ ماله، إما بآفة؛ كأن يكون صاحب مال ثم جائته آفة فأخذته، أو أنه يعمل وقد يكون قادر على الكسب لكنه محروم؛ يعني لا يجد وسيلة ليكسب بها فيُحرَم جزاء كسبه، فإما بآفة أو بمقادير أو بفعل ناس مثلًا حرموه وأخذوا ماله، فهذا كل مَن حُرِمَ ماله بسبب من الأسباب وليس عنده مال فهذا كذلك له حق عند هؤلاء، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات:19]، والله هنا قال في أموالهم؛ نسب المال إليهم، والحال أن المال كله مال الله -تبارك وتعالى-، لكن في ذِكر هذا دليل على أن هذا عطاؤهم؛ إخراجهم من هذه الأموال لله -تبارك وتعالى-، فهذا إحسانهم؛ فهذا إحسان هؤلاء، وصَفَهم الله -تبارك وتعالى- بالإحسان في الصلاة؛ وخاصة في صلاة الليل، وكذلك في إنفاق أموالهم في هذه الأبواب، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[الذاريات:19].
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من هؤلاء، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.